بحث هذه المدونة الإلكترونية

إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

السبت، 25 يوليو 2015

حبيبة العلوي: "الثقافة الجزائرية بحاجة إلى تنشيط يبعدها عن الدهاليز"-حاورها كامل الشيرازي



حبيبة العلوي: "الثقافة الجزائرية بحاجة إلى تنشيط يبعدها عن الدهاليز"


حاورها كامل الشيرازي


 تؤكد المثقفة والأكاديمية الجزائرية البارزة "حبيبة العلوي" حاجة الثقافة في بلادها إلى تنشيط وإضافات نوعية تبعدها عن الدهاليز الرسمية وشكليات المهرجاناتية والكرنفالية.
وفي حديث خاص بـ"إيلاف"، تقول عرّابة مبادرة "حوار في الثقافة الجزائرية"، أنّ النشر بنوعيه الورقي والالكتروني صارا توأمين سياميين، لا يمكن فصلهما أو تهميش أحدهما لحساب الآخر.
• أطلقتم مبادرة "حوار في الثقافة الجزائرية" في محاولة لتغيير راهن المشهد المحلي، كيف يمكن بناء ثقافة نابضة في ظلّ الهزال الذي يعتري البلد؟
- لا يمكن لهذه الخطوة أن تفعّل أي حراك ثقافي من شأنه أن يسهم في بناء ثقافة جزائريّة نابضة، إن لم يلتف حولها فاعلون حقيقيّون يؤمنون بفكرة التطوّع الثقافي كفرض عين وحالة يقتضيها واقع ثقافي جزائري هزيل كما تفضلتكم.
فريق "حوار في الثقافة الجزائريّة" وليد حاجة ماسّة إلى منطق جديد من التنشيط الثقافي البعيد عن دهاليز المؤسسة الثقافيّة الرسميّة.
         أطلِقت هذه المبادرة قبل عام في شكل فريق على شبكة التواصل الاجتماعيّة "فايسبوك"، أيامها لم يكن للأخير كل هذه الشهرة العربية التي اغتنمها من ثورات الشعوب وسقوط الأنظمة الهرمة، لكني كنت مؤمنة بأنّ لهذه الشبكة الخطيرة دور حاسم في التواصل العربي خاصّة؛ نظرا لافتقار العرب إلى وسائل اتصال وإعلام مفتوحة وحرّة وغير موجّهة.
وكان نداءنا الأساس موجّه إلى كلّ مهتمّ بالثقافة الجزائريّة: راهنها، آفاقها، أزماتها، خصوصيّتها، وإلى كل منزعج من الركود الذي يعرفه المشهد الثقافي الجزائري، ومن حالة: اللاتواصل التي تجعل من النشاط الثقافي على قلّته في الجزائر، مبتورا من الجمهور، إذ لا يحضره عادة إلاّ بعض المنتمين إلى الوسط الثقافي الضيق من إعلاميين وبعض الوجوه المكرّرة.
نعيش حالة خطيرة من القطيعة بين الجمهور الواسع والفعالية الثقافية المبرمجة، فالجماهير لا تسمع عادة بمواعيد هذه النشاطات، وثمة نقص فادح في الإعلام والاشهار الثقافيين، اللذين يقحمان الجمهور في حالة ثقافيّة يوميّة تجعله يبرمج أيامه وأسابيعه وعطله بمنطق يجعل من الفسحة الثقافيّة مفردته اليوميّة تماما كالتسوّق أو ممارسة الرياضة، أو تتبّع المسلسلات التركيّة ومباريات الدوري الإسباني.
وعليه، "حوار في الثقافة الجزائرية" يسعى إلى تعويض هذا النقص بإرساء تقليد يجعل من كل عضو في الفريق إعلاميّا ينشر الخبر الثقافي الذي يصادفه في وسائل الإعلام ، في حيّه، في مدينته، في جامعته، في جمعيته... ليُعلم ويفيد كل الأعضاء، الذين بدورهم يمكنهم تمرير الأخبار في شكل من العدوى الثقافية.
كذلك، صفحة الفريق مفتوحة لكل النقاشات الثقافية التي تشغل بال الأعضاء بأي لغة يجيدونها سواء العربية أو الفرنسية أو الأمازيغية؛ ذلك أنّ الهدف الأساس لهذا الفريق هو نبذ الصراعات الوهميّة التي عطّلت الفعل الثقافي الجزائري لعهود والدفع به إلى انفتاح يسهّل طرح القضايا الأكثر إشكاليّة في الجزائر، للشروع في مساءلتها في شكل حوار مشترك هدفه النهائي الوصول إلى أجوبة ممكنة.
يتطلّع الفريق أيضا إلى الترويج للثقافة الجزائرية بكل تنوّعها وثرائها، هذه الثقافة التي تعيش في الواقع حالة من العزلة والحصار، فهي في النهاية ثقافة مجهولة على الصعيدين العربي والعالمي، بل ومتهمة في كثير من المناسبات بالفقر أو التبعيّة للمستعمر أو البدائيّة حتى؛ مثل هذه الأفكار المسبقة لم تكن لتجد مسوّغا لإطلاقها لولا حالة البؤس الترويجي للثقافة عندنا، إذ لا يكفي مطلقا أن نمثل ثقافة بلد في حجم الجزائر بمجموعة أسماء ووجوه نمطية مكرّرة وفي كثير من الأحيان مفروضة من جهات خارجيّة أصلا.
ينتظرنا عمل شاق اسمه: صناعة المشهد الثقافي، المشهد الذي يرضينا ونرتضي تمثيله لنا.
عليّ أن أعترف أن طموح هذا الفريق كبير ...وإمكاناته وطريقة اشتغاله تبقى متواضعة جدّا بالنظر لما يسعى إليه، ثم أن اعتماده في شكل أولي على الفايسبوك كوسيلة اتصال يبقى مثيرا للتساؤل:.هل علينا أن نحل كل مشاكلنا "الوجوديّة" بوسائل غيرنا؟! 
• لطالما نادى متابعون بإحياء الثقافة وابتعاث الحياة الإبداعية في الجزائر عبر ترسيخ صناعة ثقافية شاملة ومستدامة، إلى أي يمكن تجسيد هذا التصور؟
- يمكن جدًا تجسيد هذا الحلم المشترك بشرط انخراط جميع الفاعلين في هذا المشروع ، ولا يمكن أن يتسنّى للمؤسسة الثقافيّة الرسميّة أن تلبّي هذا المطمح، حتى وإن حرصت، طبعا السياسة الثقافيّة العامّة لها الدور الحاسم أو القاصم لأي مشهد وواقع ثقافي بأي بلد، لكن في النهاية إذا لم تتوحد جميع الجهود في سبيل خدمة تصورّ ما، فإنّ أي سياسة سيكون مآلها الكساد والفشل.
الثقافة فعل وممارسة يوميّة، تتعلق بكل فرد من المجتمع، عندما يقتنع ابن باب الوادي أو الحراش أو المدنيّة أو الكاليتوس أو الحمري أو السويقة وغير ها من أحياء الجزائر العميقة، بأنه معني تماما بالفعل الثقافي وصناعته مثله مثل أي مسؤول ثقافي بالبلد، هناك فقط يمكن أن نحرّك المشهد تحريكا حقيقيّا عاكسا لعمق الثقافة الجزائرية نابعا منها ونابضا بحقيقتها، متواصلا مع شارع يفترض أن يكون المعني الأول بأي حراك ثقافي.
أما إذا بقي الفعل الثقافي مقتصرا على خرائط طريق رسمية مهرجاناتيّة ومناسباتيّة في العادة، فسيبقى يعيش محنة العزلة والانغلاق والنمطية والركود، لأنه ببساطة لا يعتمد على مبدأ التواصل والحوار مع المجتمع، إنما يكتفي ويرتضي تواجدا ديكوراتيا هزيلا.
• هل هناك أزمة نخب في الجزائر، وما صحة انعزالها عن السياق العام؟
- لا توجد في الواقع أزمة نخبة في الجزائر، إنما الأزمة حسب تصوّري  تكمن في تصوّرنا وتحديدنا لماهيّة النخبة، عندما نعتبر جزافا أنّ مجموعة ما من "المثقفين" و"الإطارات" و"الجامعيين" تمثل نخبة بلد ما، من منطلق هشّ يستند بالأساس إلى انتماءاتها الأيديولوجيّة أو درجاتها العلميّة أو ترتيبها في السلم الوظيفي، دونما أدنى اعتبار لانتاجيّة تصل إلى واقع مجتمعها أو ابداعيّة تخدم هموم هذا الأخير وحاجاته، وحواريّة تعتمد لغة سلسة يمكنها بفعاليّة إيصال خطاب هذه النخبة إلى الشارع تماما كما تتمكّن من ترجمة خطاب هذا الشارع ونداءاته في لغة تصل إلى مراكز القرار.
مثل هذا النمط من النخبة لا أقول بانعدامه في الجزائر، إنما أنا على قناعة تامّة أنه مغيّب تماما ومنذ زمن بعيد، مغيبّ بتشتّته، ولأجل هذا يمكننا الجزم أنّ الجزائر لديها طاقات، لكن لم نتوصّل بعد إلى صناعة نخبة حقيقّيّة وفاعلة وذات سلطة، مادامت هذه الطاقات متناثرة بين المهاجر الخارجيّة والمنافي الداخليّة.
ربما الغربة التي تعانيها الطاقات الإبداعية الجزائريّة في الداخل هي أقسى من تلك الغربة التي تقهر الطاقات والأدمغة الجزائريّة المهجّرة، كلاهما في النهاية مهدور، الفرق الوحيد أنّ أحدهما يهدر إبداعه لصالح الآخر، والآخر ينحر إبداعه في داخله.
كيف نطالب نخبة غير موجودة بأن تلتحم بسياق لا يعترف بها أصلا، ولا تسعى إلى  التعرّف إليه، وهي مازالت تعيش قوقعة وتشرذم، أما عن عزلة "النخبة" المفروضة جزافا على مجتمع يبعد عنها بأميال من المحن، فذلك لسنا بالحاجة إلى إطناب الحديث فهي حالة جدّ مبرّرة ومنطقية !!
• هل هناك رفض من الشارع الجزائري لنوع معين من الثقافة؟  
- أعتقد أنّ الشارع الجزائري، من أصدق الشوارع العربيّة وأوضحها، هو شارع لا يجامل البتة وإن رفضك فإنّك تماما تستحق أن ترفض، من حيث أنّك لم تنجح في إقناعه بأنّك تمثّله ببساطة، لا يمكن أن نفرض على مجتمع ما نسق ثقافة تدّعي أنّها تشبهه وهي تعبّر بلغات لا يستسيغها ولا يقبلها ولا يتفاعل معها.
رجل الشارع اليوم يردّد كثير هذه الجملة:"واش من ثقافة عندنا..ثقافة الشطيح والرديح!!" (الرقص وهزّ البطون)، يمكننا أن نتأمل هذه الجملة بكلّ ما فيها من إقصاء وقسوة ووحشة.
في الوهلة الأولى قد يتهيأ لنا أنّ الجزائري لا يعتبر الرقص مثلا معطى ثقافيا، فهو يحتقر الثقافة التي تجعل الرقص مثلا صورة بالغة لها، لكن لو تأمّلنا مليّا في عميق هذا الخطاب نكتشف بأنّ لا علاقة له باحتقار الرقص قيميّا، إنما هو ردّ جد قاس على نسق من الثقافة يجعل من الكرنفاليّة المزمنة غطاء للفشل، بما أن الرقص في النهاية مفردة ليست ثقافيّة فقط وإنما حياتيّة مجتمعيّة يمارسها الجزائريون في مناسباتهم الأكثر حميميّة.
جمل قاسية كهذه لا تدلّ على رفض المبدأ وإنما رفض الطريقة، هو رفض إذن جدّ مبرّر و ذو بعد احتجاجي صارخ على سياسة ثقافيّة مائعة مهرجاناتية وجدّ سطحيّة لا ينظر إليها في الشارع المغلوب على أمره إلاّ على أنّها إهدار للمال العام الذي كان يمكن أن يطعمهم من جوع ويؤمّنهم من خوف!!!
هذا هو الالتباس الذي يتعيّن الاشتغال الجدّي على رفعه من مخيال الشارع، وهي مهمّة يفترض أن يتشاطر أعباؤها كلّ من المؤسسة الثقافيّة الرسميّة وجميع فاعلي الثقافة. 
• الأزمة الثقافية الغير مُعلنة في الجزائر، هل هي ناجمة عن أزمة هوية أم مرجعيات وماذا عن تراجع المقروئية؟
- الأزمة ثقافيّة بالأساس، لا تتعلّق بأزمة هويّة أو مرجعية؛ كل هذه الشعارات واليافطات التي تتستّر على أصل الداء بالنسبة لي مغلوطة  ومموّهة، الجزائري كان يعرف جيّدا معالم هويّته وإلى أي مرجعيّة يستند أيام الاحتلال الفرنسي، كان يعرف تماما أنه جزائري والآخر هو الآخر، عرف كيف يحافظ على أناه على علاّت هذه الأنا، وتشوّهاتها الحضاريّة.
غداة الاستقلال أقحم فجأة في معارك وهميّة كأزمتي الهويّة واللغة والتباس المرجعية، لتغييب المشروع الثقافي الذي كان يفترض أن يكون أساس الدولة الجزائريّة المستقلة، كانت هناك خيارات اقتصاديّة واجتماعيّة ضروريّة ومشروعة، غير أنّها لم تشفع بمعالم واضحة لمشروع ثقافي جزائري يقينا الانهيارات السهلة والفادحة.
بالنسبة لتراجع المقروئيّة، لا أحد يجزم أنّ الجزائري اليوم لا يقرأ، حتّى نمط القراءة اليوم تغيّر، والأزمة عالميّة، تتعلّق بالأساس بوسائل الإعلام الجديدة التي تفرض تقاليد حياتيّة جديدة، تفرض عليك خاصّة وإن كنت من بلدان العالم الثالث أن تبقى لمدة أطول أمام جهاز الكمبيوتر الموصول بشبكة النت التي تقول الحقيقة الأخرى التي لن يقولها الإعلام الحكومي مثلا، وأمام التلفزيون لأنه يريك  العالم الذي لن تطاله أحلامك.
عندما نُفكّر في حلّ هذه المعضلات بخلق بدائل حقيقيّة عن هذه الفضاءات الافتراضيّة المدهشة، عندها فقط يمكن أن نحاسب هذا القارئ الافتراضي. 
الواقع الجزائري صار يطالب بالكتاب في السنوات الأخيرة، ثمة حاجة متزايدة للقراءة عن الذات، عن التاريخ، عن تفاصيل الحياة اليوميّة وكيفية تجاوز حرجها، هذا عدا اهتماماته العلمية والأكاديمية، صحيح أنّنا نفتقد إلى تقاليد صحيّة للقراءة، لكن مادامت الحاجة موجودة وملحة، فعلى السوق أن تنفتح أكثر، وعلى الكتّاب أن يخرجوا من أسر الكتابات النمطية، لتصير الكتابة نقلا لتجربة حياة وليس حتما إبرازا لعبقرية.
وعلى الدولة أن تدعم هذا الانفتاح السلس الذي يضمن إقامة جسور تواصلية بين القارئ والكتاب؛ الضامن الوحيد لإنعاش القراءة، وثمة جهود يجب أن تبذل، تتشاطر أعباءها الدولة وسوق النشر والكتّاب والأسرة الثقافية ومن ثمّ القارئ بوصفه عضوا في مجتمع جزائري عليه أن يتحرّك في هذا المسار العام انطلاقا من الأسرة كنواة حاضنة لمشروع قارئ.
• ما موقفكم من السياسة الثقافية المنتهجة في الجزائر، وكيف تتصورون أفق المسألة الثقافيّة هناك؟ 
- من موقع الملاحظة والمهتمة، أقول أنّ ثمة جهود بُذلت فعلا على مستوى الحفاظ على الآثار، وبعث فضاءات ثقافية هُشّمت في عشرية الإرهاب، وإقامة مهرجانات أعادت الجزائر إلى الساحة الثقافية العربية والعالمية.
ثمة وعي بأنّ للثقافة دور ترويجي للصحّة السياسيّة للبلد وهذا جيّد، من شأنه أن ينشّط المشهد الثقافي الجزائري الذي جرى تثبيطه لعشريّة كاملة، لكن التوقف عند الاحتفالية، لا يبشرّ بحلول عميقة تجد أثرها في البنية الاجتماعية للجزائر.
جزائريو اليوم يحتاجون إلى فضاءات حرّة يمارسون فيها التفكير بصوت عال؛ ولأجل ذلك علينا بفتح المجال لمبادرات مبتكرة، كصالونات الثقافة والفكر والمسارح الخاصّة، وقاعات السينما المنفتحة على الفن السابع وليس فقط سلسلة هاري بوتر..!، وجعل هذه الفضاءات تتكاثر كمحلات الفاست فود والكراكيب الصينيّة، هذا الانفتاح سيخدم الدولة ويتعين عليها دعمه لأنه كفيل بخلق بدائل حقيقيّة ـ غير افتراضيةـ وآمنة لحوار جزائري  يستند إلى فضاءات جزائرية خالصة من شبهات التآمر والدسّ.
• هل تؤيدون الطرح القائل بوجود انفصام بين الكتابة التقليدية والكتابة الحداثية في الجزائر، أليس الأصح هو فصام حاصل بين جيلين؟
- الكتابة حالة فرديّة، والجزائري لا يقرأ فقط للجزائري، أكيد ثمّة مرجعيات وطنية لكن من قال أنّ جيلنا مثلا هو الذي يمثل المعاصرة وجيل كاتب ياسين تقليدي، هذا هراء، الإبداعيّة حالة قد توجد في أي زمن تماما كما التقليد، يبقى أنّ ثمة استمراريّة تفرضها علينا الجغرافيا الواحدة وبالتالي الهمّ المشترك، وثمّة قطائع حتميّة تفرض على المبدع الحقيقي الامعان في الإبداع والتميّز والتساؤل المزمن.

• ما مقاربتكم للواقع الإبداعي في الوطن العربي وسط المساجلات بين ثقافة الورق والالكترون؟
- الكتابة الرقمية مشروع لابد منه، يفرضه العصر، بلغاته وفضاءاته الجديدة، جزائريا مازلنا متخلفين عن هذا الركب لدينا تجربة "عصام حمود" في التدوين التي نجحت، كما تجارب عربيّة أخرى إلى المرور من مرحلة النشر عبر النت، من خلال مدونته "حمود ستوديو" إلى مرحلة النشر الورقي في شكل كتاب حمل اسم "عامين اثنين".
لكن يبقى استغلال النت كفضاء، مقتصرا بحسب علمي على التدوين ونشر نصوص تقليدية ـ خطيّة يعني: مقالات، شعر، نثر في مواقع ثقافية متخصصة أو عامة، نظرا لانفتاح النت وإجرائيته وتيسره بالمقارنة وتعقيدات وسائط النشر التقليدي الورقي.
معنى هذا أنّنا لم نطوّر تجربة كتابة رقمية؛ كصنعة جديدة تعتمد وسائط الكترونية وسمعية بصريّة لإثراء النص اللغوي وتحويله إلى نص رقمي، لدينا تجربة رائدة في الأردن للروائي محمد سناجلة، لكنها تبقى تجربة لم تتجاوز مرحلة التجريب أو التمرين على نمط جديد من الإبداع الحي والتفاعلي.
مازال أمامنا الكثير لبذله ليس على مستوى الإبداع فقط، وإنما على المستوى القانوني والحقوقي، وأدعو عبر "إيلاف" ديوان حقوق المؤلف بالجزائر، ومن خلاله كل هيئات حقوق التأليف العربية إلى الانفتاح على هذا الفضاء الجديد بالتأصيل لقوانين تحمي المؤلفين والناشرين عبر هذه الوسائط الالكترونية.
لم تعد لنا خيارات، فالزمن سيحمل لنا تحديات كثيرة، علينا استباقها بأطر قانونية تحمي الإبداع العربي ولا تبقيه حكرا على فضاءات النشر التقليديّة خوفا وحذرا من السرقات والقرصنة.
النشر بنوعيه الورقي والالكتروني صارا توأمين سياميين، لا يمكن فصلهما أو تهميش أحدهما لحساب الآخر، لذا وجب التفكير في حلول سريعة وجيّدة، حتى لا تبقى هناك قطيعة بين الحركة الإبداعية والمؤسسة الثقافية التي يفترض أنها راعية لها.

• ما الكيفية لإيصال ثقافتنا نحن كعرب بزخمها وتشاكيلها إلى الغرب؟
- عندما نجيد إيصالها لذواتنا ودواخلنا الهشّة، سيتيسّر علينا أمر الغرب، ثقوا أنّ الغرب حاليّا يعرف عن ثقافتنا أكثر مما نعرف بكثير، وهو يفوتنا في اهتمامه بها بمراحل؛ ذلك أنّه على قناعة تامّة بقيمة أن تمتلك دراية جيّدة بثقافة الآخر.

في الادب الروسي المعاصر حوار مع الكاتب الروسي يوري ماملييف- كريستينا روتكيرخ ترجمة د. تحسين رزاق عزيز



في الادب الروسي المعاصر
حوار مع الكاتب الروسي يوري ماملييف


كريستينا روتكيرخ

  ترجمة د. تحسين رزاق عزيز

 
ولد يوري فيتاليفيج ماملييف في 11 كانون الأول عام 1931 في موسكو في عائلة استاذ بالطب النفسي، قتل أثناء الإرهاب الستاليني. انهى في عام 1956 الدراسة في معهد تقنية الغابات في موسكو، ثم صار يدرس الرياضيات في المدارس المسائية، و انشغل الى جانب ذلك بممارسة الابداع الادبي و الفسلفة الهندية و الفلسفة الباطنية و الغيبيّة.
كتب للفترة من عام 1953 الى 1973 مئات القصص القصيرة، و روايتين و الكثير من الابحاث الفلسفية و الاشعار. لكن لم يتم طبع كل هذه النتاجات. انتشرت نصوص مؤلفاته عن طريق الاستنساخ باليد و كاسيتات التسجيل التي تحمل قراءة لنصوص كتاباته. نظم ماملييف منذ عام 1958 في شقته في زقاق يوجينسكي حلقة سرية للفلسفة الباطنية سماها ((التصوّف الجنسي)).
غادر ماملييف الاتحاد السوفيتي في عام 1974. و عاش في الولايات المتحدة الامريكية للفترة من عام 1975 حتى عام 1983 حيث كان يُدَّرس الادب الروسي في جامعة كورنيليا في مدينة اتاكا.
تردد اسم ماملييف لأول مرة في عام 1975 في مجلتي ((الموجة الثالثة)) و ((المجلة الجديدة)) و بعدها صدرت له في دورية م. شيمياكين ((أبولون 77)) تشكيلة مختارة من قصصه.بعد اصدار المجموعة الامريكية لنثر ماملييف ((The sky Above Hell)) (1980) التي تحمل اسم احدى قصصه ((سماء فوق الجحيم)) تم قبول الكاتب عضواً في نادي القلم. انتقل في عام 1983 الى باريس حيث استمربتدريس الادب و اللغة الروسية في معهد باريس للغات و الحضارت الشرقية و في مركز ميدون لدراسة اللغة الروسية و الادب.
نال في الفترة التي قضاها في المهجر شهرة عالمية. حيث صَدَرت نتاجاته باللغات الروسية والانكليزية و الفرنسية والالمانية وغيرها ...

بدء منذ عام 1989 ينشر نتاجاته في بلاده. تمت في 1991 اعادة الجنسية الروسية ليوري ماملييف، و عاد في نفس السنة الى روسيا.
للكاتب مشاركات كثيرة في المؤتمرات الدولية و يلقي المحاضرات في مختلف الجامعات و له برامج اذاعية و تلفزيونية .
لكن يضل اهتمامه الرئيسس منصباً على نشاطه في الادب و الفلسفة. فهو يقوم بتدريس الفلسفة الهندّية في جامعة موسكو الحكومية و بنشر اعمالاً في مجلّة ((قضايا الفلسفة)) و نشرية ((Unio mistica)). يوري ماملييف حائز على جائزة اندري بيلي (1991) و جائزة بوشكين العالمية التي أسسسها صندوق الفريد توبفير بمشاركة نادي – القلم الدولي (1993).

---------------

* يوري فيتاليفيج انت اليوم احد اشهر الكتاب الجادين في موسكو، كتبك تصدر و يعاد طبعها و تتحدث في مختلف محطات الاذاعة و التلفزيون في كل مكان. فكيف كان الامر في الستينات عندما كنت تعيش في زقاق يوجينسكي؟

- كانت تلك فترة وجود السلطة السوفيتية، فمن الطبيعي، ان نتاجات مثل نتاجاتي لا يمكن نشرها، رغم انها كانت تخلو من كل ما هو سياسيي، لكن علم الجمال في الاتحاد السوفيتي كان محدداً برؤية واحدة للواقعية الاشتراكية لدرجة ان كل دار نشر سوفيتية كانت تهرب من نتاجاتي. كان في زقاق يوجينسكي في ذلك الوقت احد مراكز ما يسمى بالثقافة غير الرسمية في روسيا. كانت تجتمع هناك مختلف الشخصيات – بما فيهم مخالفوا الرأي السياسيون من امثال فلاديمير بوكوفسكي و الرسام المعروف – اناتولي زفيريف و الاكسندر خاريتونوف و الشعراء، مثل غوبانوف و هو شاعر موهوب بصورة غير اعتيادية. اضافة الى مختلف افراد المجتمع. كانت حلقة فلسفية ادبية تركز حولها الكثير من الشباب. و قد انطلقت انا من هذه الحلقة بالذات. انحصر نشاطها في ان اقوم بقراءة قصصي و نقوم بمناقشتها، و كنا نلتقي ليس في زقاق يوجينسكي فقط، اذ كانت توجد في موسكو عدة مراكز اخرى ازدهرت فيها الثقافة غير الرسمية. و انحصر نشاطها بالاساس بالقراءات و معارض الرسامين.

* لو تأملنا في الماضي كيف ترى دورك في تلك الايام؟

- أنذاك لم نكن نستغرق بالتفكير بالمستقبل على وجه خاص لأنه كان غير واضح المعالم اي انه كان مرتبطاً بالاحداث و كنت ببساطة ارى نفسي أقوم بدور احد مؤسسي الثقافة الروسية الجديدة، غير الخاضعة للرقابة. و بما ان الظروف كانت انذاك لا تسمح لنا بأن نأمل بنشر اعمالنا فالرقابة كانت غير موجودة على اعمالنا. و لم ترفع الرقابة السوفيتية فحسب. بل حتى الرقابة الداخلية، اي كانت حالة من الحرية المطلقة لم يجري الكلام خلالها عن اي تصحيح – لقد كنا احراراً تماماً في كل شيء و خاصة كنا نعوض وجود الاستبداد الذي يخيم فوق رؤوسنا بالحرية الكاملة في التعبير و في مناقشة مختلف المسائل و القضايا. و اني اعتقد ان في تلك الفترة لم يجرؤ أحد على نشر مثل هذه الاشياء حتى في الولايات المتحدة.

*ألم تكونوا تخافون؟

- لم نكن نخاف، اولاً لأن كل هؤلاء الناس كانوا يعرفون بعضهم البعض الاخر جيداً – كانت الحلقة ضيقة. ثانياً بما انهم لم يسمحوا لنا بالنشر في تلك الفترة و لا بأقامة المعارض للفانين فأنهم لم يتابعوا ما كنا نعمل في الداخل – كانوا يعرفوا ان هذا الامر لابد منه. الملاحقة كانت بالاساس للمعارضيين السياسيين المباشرين – من امثال سولجنيتسين او بوكوفسكي.

* روايتك ((المتسكعون)) هي اكثر اعمالك شهرة و حزناً. ما مقدار تصويرها لتلك الفترة من حياتك؟

- تم تأليف هذه الرواية في تلك الفترة بالذات، و قد ساعد غياب كل انواع الرقابة، بما في ذلك الرقابة الداخلية على تكوين هذه الرواية، التي عالجت اكثر القضايا المؤلمة للحياة البشرية، التي عادة ما يتهرب الانسان من الحديث عنها. الحقيقة ان التعبير لم يكن حرفياً – لأنها كانت رواية فنية و ليس عملاً وثائقياً. لكن كانت توجد فيها نماذج اصلية. و تم عرض المواقف في الرواية بصورة فنية، و كما هو الحال في الادب فقد تم ذلك بصورة حادة اي ان هذه المشاكل كانت موجودة بالفعل لكنها لم تكن موجودة بهذا الشكل المكشوف الشاذ المفضوح كما هو في هذه الرواية. و كان وقعها قوياً لان كل شيء فيها تم تضخيمه و تم تسليط الضوء على كل الجوانب المعتمة.

* اقتبس لك هذا القول:(( يذكر معارف ماملييف في الستينات انه كان لا يختلف عن ابطاله. فالخوف من الموت و الادمان على المشروبات الكحولية، و شكل الحياة البوهيمي و تأرجح الابداع قد اضعفت اعصاب الكاتب. و انه كان يصور ابطاله الفضيعين من واقع حياته)).

- هذه، طبعاً حقيقة، و لكنها حقيقة سطحية جداً و ناقصة. لأنه أولاً، اعذريني، عمّا يقول كاتب المقالة، ففي تلك الفترة كانت روسيا كلها مدمنة على الكحول و نحن لم نختلف عن الاخرين في هذا المجال. ثانياً، في ما يخص ضعف اعصابي، فهذا غير صحيح البتة: فالكاتب عندما يؤلف نتاجاً ادبياً، على العكس، هو يقوى روحياً – و يحدث له التنفيس الروحي المعروف في علم الجمال. و لهذا فعندما تصف الشر ذلك لا يعني انك منغمس فيه بل انت تتطهر منه. اذن فذلك لم يكن ضعفاً في الاعصاب لا من جانبي و لا من جانب الاخرين.

* أنت نفسك قلت في احدى المرات ان: ((هذه الروايات قد ألفتها في قبو عميق في موسكو و كتبتها في جو من اليأس عندما كانت مل الامال تبدوخائبة بما في ذلك الايمان بالخلود...)).

- نعم، بكل تأكيد. هذا وصف فعلي دقيق لذلك الوضع، و الكاتب بطبيعة الحال لا يشبه ابطاله ابداً بصورة كاملة اي ان الكاتب دائماً ما يسمو فوق ابطاله و الاّ افأنَّه لا يستطيع ان يخلقهم لو كان حاله مثلهم. على الاقل كانت توجد في حياتي العملية غربة من نوع خاص: فربما اني كنت هاديء بعض الشيء أو متحمساً أحياناً و لكني مراقباً لما يجري، أي أني كنت في حالة دراسة و بحث – و الفن كان عندي يؤدي، على الاغلب، دور الادراك، ادراك لهذه الاعماق غير الاعتيادية للنفس البشرية. و هذا هو نهج دوستويفسكي بالذات.

* أنك تصوّر في ((المتسكعون)) العالم و كأنه جحيم و الناس مسوخ. فالكثير من ابطالك الشاذين اما قتلة مرعبون او ساديون بشعون. مفهوم بلا شك ان هناك اشكال مختلفة لأستيعاب ابطال نتاجاتك الادبية فهل شعرت مرة، باعتبارك مؤلف، بالتقزز من ابطالك؟

- نعم، و لكن ليس التقزز ... و الغالب ان هذا لا يقتصر على ((المتسكعين)) فقط بل يشمل كذلك القصص الاخرى، انا كما قلتي انت، على مستوى مباشر اعتيادي ربما كنت اشعر بالفزع مما كتبت. هذا في الحالة الاعتيادية ة لكني افهم انهم، كما يقال، قرابين يضحي بهم عادة الاديب عندما يعمل بالفن.

* فهل يعني هذا انك كنت تكتب نصوصك في وضعٍ خاص؟

- بكل تأكيد لم يحدث ذلك مطلقاً! و لم تشمل هذه الحالة اي إدمان ما على المخدّرات او الكحول. اعتقد انه لا يمكن في هذه الحالة تأليف شيء ما. كلا، انها كانت حالة قريبة من التأمل. إذ أني متخصص بالأمور الهندية، ثم اني مدرس الفلسفة الهندية و دائماً ما كنت مهتماً بالشرق. لم تكن المسألة سوى حالة رايت فيها هذه الزوايا الغريبة و غير الاعتيادية للنفس البشرية التي لم تكن اعتيادية. لهذا فاني قد دخلت في هذه الحالة ثم خرجت منها.


* عندما تكتب، هل تستغرق في هذه الحالة عدة ساعات؟

- نعم، تقريباً. في البداية كان صعباً الدخول في هذه الحالة ثم صار طبيعياً. و كنت استغرق فيها ساعتين او ثلاثة ساعات. عادة لا استمر في الكتابة اكثر من ثلاث ساعات. ثم اكون قد خرجت منها بشكل ما و لكن فيما بعد كان سهلاً الدخول في هذه الحالة، لأنها كانت طبيعية بالنسبة لي.

* لماذا تلزم نفسك بعرض مختلف انواع الشر الاكثر وحشية و ضلامية؟ الدمار لديك ذو طابع فلسفي و ميتافيزيقي، اليس كذلك؟

- نعم، بكل تأكيد. و لكن يجب القول ان رواياتي الاخيرة ((الزمن الضال)) و ((العالم و القهقهة)) و الرواية الاخيرة ((الاخر)) تعتبر مغايرة لـ (المتسكعين)) ان ((الزمن الضال)) بمضمونها الفلسفي و بفلسفة ما بين السطور فيها هي جواب على التساؤلات التي طرحت بصورة حادة في ((المتسكعين)). هناك فيها النور و الامل و فيها الايمان. اما تلك الحقبة المدمرّة فكانت ضرورية. هل تعرفين ان هذا يذكرني بطقوس الاستهلال عندما تكون مجبراً في البداية على الانغماس بالصورة السلبية للعالم و بحالته السلبية و من ثم تستطيع الخروج من هناك الى الامل و النور و الصفاء و هذا الطريق للوصول للنوراعتيادي في الشرق.

* هل ترى امكانية اعتبار رواياتك ((المتسكعون)) و ((الزمن الضال)) و ((العالم و القهقهة)) ثلاثية؟

- ربما و نعم، من الناحية الفلسفية. رغم ان رواية ((الزمن الضال)) كتبتها في روسيا اما ((المتسكعون)) ففي الاتحاد السوفيتي. و لكن بلا شك يوجد خيط يمكن ان يربط بينها و ربما تبدو ثلاثية تجري فيها الاجابة المتدرجة على تلك المتاهات التي تمت الاشارة لها في ((المتسكعين)). و كما قال الكاتب امريكي المعروف جيم ماكونكي ما معناه ان كتاب ((المتسكعين)) قاتل بهزله لكن محتواه غيبياً.

* يبدو لي انه في هذا العالم الخيالي المضحك الغريب ((للمتسكعين)) تحمل كل شخصية في ذاتها تقريباً سؤالاً مفرداً – وحيداً: هو ما هي حدود ما بعد الموت؟

- نعم، ما هي حدود ما بعد الموت؟ و لكن هناك توجد ايضاً حالة مهمة اخرى، اذا تحدثنا عن المضمون الفلسفي الا و هي الاحساس بالعالم كوهم. و كما كتب الامريكان عن فيدور سومنوف، هذاالشخص يقتل لأنه يبحث عن الخلود. مفهوم انه كان يرى هذا العالم وهماً و كان يصلي من اجل، ارواح من قتلهم هو بنفسه.

- لديك ايضاً رواية ((واقعية)) هي ((المناورة المسكوفية)). فكم هي وثائقية؟

- انها رواية واقعية تماماً. و هي وثائقية لدرجة كافية و لكن رغم ذلك هي نتاج ادبي. و فيها بالذات تم وصف حالة يوجينسكي و الصالونات الثقافية الاخرى في موسكو. و الشخصية الفنية الوحيدة هي شخصية البطل الرئيسي الكسندر تريبيتوف – و ما هي الاّ تركيز للبحث الروحي كله الذي كان يجري هناك. و الشخصيات فيها هي نماذج حقيقية و هذا الشي واضح كل الوضوح.

* كيف كانت فترة شبابك السوفيتية؟

- كان شبابي، بشكل او اخر، عادياً للانتليجنتسيا السوفيتية في ذلك الزمان: والدي كان مختصاً بعلم النفس و امي خريجة كلية الجغرافيا، جامعة موسكو. عشنا، حسب المعايير السوفيتية ، بصورة جيدة نسبياً في الثلاثينات، و لكن والدي أُعتُقِل لأسباب سياسية (حسب المادة 58 التي على ضوءها زجوا بالسجون كل ذوي المعتقدات اللاسوفيتية). و قامت والدتي بتربيتي اثناء الحرب و بعدها، و طبعاً كان الوضع صعباً. و لكن كانت تساعد والدتي اختها التي كانت بروفسورة مختصة بالامراض النسائية، و زوجها جوروف اسحاق سولومونوفج الذي كان كذلك بروفسوراً جراحاً و مخدراً. هذه هي العائلة التي ساعدتنا و ساعدت والدتي على تربيتي.

* كان والدك في تلك الاثناء في معسكرات الاعتقال؟

- نعم، والدي توفي في تلك المعسكرات. هكذا كان الحال.

* قلت ان والدك كان مختصاً بالطب النفسي و اقاربك كذلك اطباء. فهل اثر ذلك بشكل ما على ابداعك و عليك باعتبارك كاتباً؟

- نعم، يمكن القول، ان ذلك كان له تأثير لأن اقاربنا و اصدقاء عائلتنا الاخرون كانوا ايضاً اطباء و اطباء نفسانين. و عرفت من خلالهم الكثير من الحالات غير الاعتيادية، التي وصفتها فيما بعد في ((المتسكعون))، بما في ذلك الولد، الذي كان يصنع الحساء من جمسه. اي اني عرفت العلاج النفسي من كتب والدي، و لكني لم اكن مهتماً بالجنون الفعلي، اي مجالات الشيزوفرينيا و الكآبة بحد ذاتها. لأن هذه الحالات هي امراض واضحة للعيان فلم اهتم بها. و لكن التي اثارت اهتمامي هي تلك الحالات التي لا يكون فيها الانسان مريضاً بمعنى الكلمة بل على حافة المرض كما يقال. اي الحالات النفسية التي يكون فيها الفرد على الحد بين الصحة و الجنون لان هؤلاء الافراد بالذات لا يخافون و لا يستطيعون ان يخفوا ما يخفيه الانسان الاعتيادي.

* هل توجد بعض نتاجات الادب السوفيتي التي مازالت تمثل لك اهمية ملحة؟

- انت تعرفين ماذا يعني مصطلح الادب ((السوفيتي)). فلو اخذنا على سبيل المثال بولغاكوف و بلاتونوف الذين عاشوا في الحقبة السوفيتية لرأينا انهم في الواقع كتاب روس من روسيا لأنهم تربوّا في فترة ما قبل الثورة. و ان ابداعهم هو اسمترار حقيقي للكلاسيكية الروسية. او نأخذ ادب العشرينيات مثلاً ((بيلنياك)) انه تماماً غير سوفيتي. و حتى الكسي تولستوي و غوركي، كلهم كانوا استمرار لكلاسيكية الادب الروسي. الادب السوفيتي بمعناه الحرفي بدأ بعد الحرب عندما غادر هذا الجيل الحياة، و ربما هنا لم يظهر ما يثير اهتمامي في الادب السوفيتي. القضية الاخرى هو ظهور نتاجات الادب غير الرسمي في هذه الفترة مثل اشعار غوبانوف و ادب برودسكي و سولجنتسين. و ظهر كذلك، و لازال يعجبني، فينيتشكا يروفيف بملحمتهِ الخالدة التي يسميها الفرنسيون ((الياذة الادمان الروسي)). و تعرفت على يروفييف شخصياً و كان قريباً من حلقتنا في يوجينسكي. قرأت هذا الكتاب مستنسخاً باليد عن طريق اصدقائه المقربين، اثار هذا الكتاب انذاك انطباعاً عميقاً و محركاً للعواطف.

* كيف بدأت الكتابة؟

- كان عندي ميل واضح للادب و الفلسفة و قد لاحظ المدرسون ذلك في المدرسة. و لدينا في المدرسة مدرس الفيزياء يفغيني رودولفوفيج و هو شخص ذو اطلاع موسوعي من جيل ما قبل الثورة القديم. لم يتمكن من التدريس في المعاهد العليا السوفيتية بسبب اصوله فأخذ يدرَّس عندنا رغم انه كان يعرف الفيزياء بصورة فريدة. و هو شخص مثقف. و نصحني قائلاً: ((يورا لا تذهب، بأي حال من الاحوال، للدراسة في المعاهد الانسانية، اولاً لأن التقديم لها بسيط. و السبب الثاني، ان الادب دائماً هو بحر مجهول، الافضل لك ان تحصل على اختصاص معيين تستطيع ان تأكل خبزك منه...)). اقاربي كذلك نصحوني ان لا اجازف بالتقديم الى معهد للدراسات الانسانية لا سيما ان والدي كان معتقلاً. فكان لا يفرق عندي التقدم الى اي معهد فني فدخلت معهد تقنية الغابات. هذا ما حدث. و الحق اني مُنِحْتُ عند انهاء الدراسة في المعهد شهادة مهندس، لأني درست في كلية زراعة الغابات حيث كنّا ندرس كذلك الرياضيات و الفيزياء. و هذه الشهادة منحتني الحق بتدريس الرياضيات لأن القانون السوفيتي كان يسمح للمهندس ان يُدَرَّس في المدرسة الثانوية الفيزياء و الرياضيات.

* كيف عشت في زقاق يوجينسكي و قمت بتدريس الرياضيات، هل تعرضّت للملاحقة؟

- الحقيقة كان الجميع تحت المراقبة، و هذا طبيعاً. فلجميعنا اهل الفن غير الرسمي (من كَتَبَ او عرض لوحاته) نظمَّت ملفات غير رسمية. و كانوا يجمعون المعلومات عن مثل هؤلاء الاشخاص بما في ذلك من كان يشاهد هذه المعارض اي جرت عمليات استجواب. حدثني فيما بعد من تم استجوابه انهم كانوا دائماً يسألونهم عنّي: من هو و ما هي نتاجاته و غيرها من الاسئلة، لكن لم يجري استجوابي لأنهم كما قالت لي احد قرّائي انهم لم يتمكنوا حسب كلامهم ان ((يفهموا، من هذا هذا الشخص و لماذا يكتب مثل هذه النتاجات؟ لا توجد في نتاجاته سياسة. نحن نعتقل الاشخاص عندما يكون عندهم شيء ملموس: عندما نعرف ماهية الشخص و نعرف بماذا نواجهه)). و لهذا كان رد فعلهم بهذا الشكل.

* لماذا اتخذت قراراً بمغادرة البلاد عام 1974؟ و كيف تركوك تغادر؟

- تركوني لسبب بسيط: هو ان في تلك الفترة كان يوجد موقف غير علني يسمح لما يسمون بمخالفي الرأي بمغادرة البلاد سوية مع المهاجرين اليهود. و كان ذلك متنفساً بسيطاً لم يشمل فقط المخالفين السياسيين مثل سولجنيتسين و ماكسيموف و سينيافسكي بل حتى كل الكتاب المنشقين و الرسامين الانعزاليين الذين نظمت لهم اضابير في الاجهزة الامنية و كانوا مشهورين في الاوساط الفنية غير الرسمية. و بهذا الطريقة كان يمكن مغادرة البلاد. و لو جاءهم شخص غريب غير معروف لهم فسوف لن يتعرّض الاّ
لبعض المضايقة. و قد غادر في الواقع رسامون من امثال شيمياكين و اصدقائي تسلكوف و اوسكار رابين. هم رسامون فحسب لم يكونوا سياسيين ابداً. و لكن تم السماح بالمغادرة لكل من اطلق عليهم ذوي الافكار المغايرة بالفن. كان يمكن المغادرة لهؤلاء بل يستحب ذلك لهم.


* اذن العملية كانت بسيطة و لكن القرار، ربما كان صعباً ؟

- نعم، العملية كانت سهلة لأنهم كانوا يحاولون التخلص منا. و القرار كان صعباً طبعاً. فكرنا في البداية ان نعيش في الاتحاد السوفيتي و ننشر في الغرب، و لكن في تلك الفترة ظهر قانون يعتبر نقل مخطوطات الثقافة غير الرسمية الى الغرب، دون علم الهيأت الرسمية جريمة جنائية. رغم ان هذا القانون لم ينفذ بكل حذافيره. لكني و زوجتي، بعد صدور هذا القانون، رأينا ان الامر تجاوز حدّه لأن الكاتب يجب ان ينشر اعماله اثناء حياته. و لهذا السبب تمت مغادرة الكثير من الكتاب و الفنانين للاتحاد السوفيتي في تلك الفترة.

* يبدو ان النقاد يخافون نتاجاتك، و بدلاً من دخول عالم الكوابيس هذا، نراهم يلمزونك بمختلف الالقاب مثل: اللاعقلاني السوداوي، و اللامفهوم، السريالي... و اليوم انت نفسك تقول انك تنتسب الى الواقعية الغيبية. فهل هذا اتجاه جديد في الادب الروسي؟

- نعم، هذا اتجاه جديد تماماً في الادب الروسي. و قد اسست ذلك على مستوى فلسفي في كتابي ((قدر الوجود)) في الفصل الاخير ((غيبية الفن)). تكمن المسألة في ان عناصر الغيب، اي ما وراء حدود العالم المرأي تدخل في الحديث الواقعي بالذات، بأدق معاني هذه الكلمة. هذا يرتبط بحدس الكاتب و بمعرفته بالتقاليد الروحية، و بمعتقداته الشخصية او بعقائده. و لكن هذا يستثني الخيال. لأن المسألة كلها تكمن في ان هذا مبني على معارف معيَّنة تراكمت عند البشر عن هذا المجال بهذا الجانب و عن حدس الكاتب الشخصي. و كان الاحداث تجري على الجانبين كليهما – هنا و هناك. هذا مبدء الواقعية الغيبية. لكن لا تجري الاحداث في عالم الغيب بالمعنى الحرفي بل من هناك يجب ان تأتي رؤى – ما و شعاع – ما ... الخ.



* كتب احد النقاد: ((يبدو لي ان ظاهرة ماملييف الاستثنائية ستبقى تعذب اهل الادب لسنوات طوال. طبعاً لا يجرؤ احد على تناول مثل هذه المادة غير المفهومة)). فهل توجد مقالات نقدية لنتاجاتك قد اثارت اعجابك؟ او هل غالباً ما تشعر انهم لا يفهونك؟

- كلا، كلا. انهم يفهمون بصورة ممتازة و لكن، ربما، لا يفهمون للنهاية لأنه كماقلت انت ان في نتاجاتي عدة مستويات. و لكن الان صارت تكتب رسائل ماجستير، كما سمعت، في الغرب. و قد ارسلت لي احدى الفتيات من ألمانيا اطروحة رائعة، و كذلك من أيطاليا من جامعة فينيسيا. ان النقد العام في الصحف متنوع فربما يكون عاطفياً جداً او يحاول التغلغل في اعماق المادة. النقاد الآن كثيرون. و عندي اضابير كاملة باللغات الفرنسية و الألمانية و الانكليزية و الايطالية و الروسية. و لكن ليس فيها فطنة علمية للامر. انه نقد عاطفي و حتى انه احياناً يستند بصورة كبيرة على احاديثي الصحفية التي احاول فيها بطريقة ما توضيح نتاجاتي. حيث تصبح مفهمومة على مستوى ما معيّن. لدي الكثير من القراء من بين الشباب الذين يتعصبون لي (و لا اخاف ان اقول هذه الكلمة). و يحبون نتاجاتي و يتأثرون بها و تحدث لهم بعد قرائتها تأثيرات مختلفة: مثلاً اراد شخصان روسيان موسيقيان يقيمان في برلين في التسعينات ان ينهيا حياتهما بالانتحار. و قد قاما بالتناوب بقراءة رواية ((المتسكعون)) في ليلة واحدة (حصلا على الكتاب بالصدفة)). و قد ترك الكتاب لديهم انطباعاً بحيث قالا: ((سوف لن نقوم بالانتحار لأن الحياة خيالية و رائعة لدرجة لا نريد معها الموت)) اي ان هذه الرواية الكئيبة تركت تأثيراً عكسياً – التنفيس بالفن. و سمعت ان هذا يحدث في الكثير من الحالات. و قد يثير النفور، طبعاً، عند البعض حيث يقولون: ((انا لا استطيع قراءة هذا – لأنه سيدمرني)). و البعض الاخر يقولون: ((نعم، هذا فعلاً شيء ضلامي لكنه معمول بهذا الشكل لكي تقوم قوة الفن نفسها بأحداث التأثير الطيب)). اما غيرهم، كما هو حال الموسيقيين، سيقولون: ((كلا، أن هناك في العمق يوجد ما يجبر الانسان على العيش)). فعلاً ان الحب للوجود فيها قوي جداً. لماذا هم يبحثون عن الخلود؟ لأنهم يريدون ان يعشون بصورة ابدية. و هذا ليس ما يدمر الحياة: انه اليأس، لكنه يمثل كذلك بحثاً ما عن الحياة الابدية. تكمن في اساسه الرغبة بالعيش و تمني الخلود.

* تدور احداث رواياتك، دائماً، بأماكن مهجورة و غريبة في اطراف موسكو في المراحيض او اماكين تجيع النفايات – في اوساط المُهَمَّشين. ربما لا توجد الآن في ضواحي موسكو مثل هذه الاماكن؟

- كانت هذه الاماكن موجودة في الاتحاد السوفيتي. بينما روايتي الجديدة ((الاخر)) تصف الروسي الجديد و بيته الفخم. ابطالي صاروا يعيشون في وضع غير مهمّش بل على العكس في غنى. هذا الحال الاول. اما الحال الثاني – هو اني في ((الزمن الضال)) و ((العالم و القهقهة)) لم اتناول اهمال هذه الاماكن بل تناولت موضوع عزلتها. فهذه البيوت ربما تكون ملائمة لكنها منعزلة. و مثل هذه الاماكن موجودة حتى الآن: فقد يوجد بيت منعزل في مكان ما، مثلاً، في اطراف المنازل الصيفية ... قرب مناطق تجميع النفايات...

* انها بيئة شاذة – كما في الاحلام، شيء ما سوريالي...

- نعم، انها بيئة شاذة نوعاً ما. فلو قرأت بعض ذكريات الجنود الألمان الذين وقعوا في الاسر في روسيا في الحرب العالمية الثانية لعرفت ان كل هذا الوضع السوفيتي كان بالنسبة لهم يبدو كابوساً اثناء النوم او منظراً سريالياً. حيث ان الكثير مما هو سريالي من وجهة النظر العامة يبدو في روسيا واقعياً.

- تجري في ((المتسكعين)) و في بعض قصصك القصيرة مقابلات مهمة لأشخاص من السوقة مع ممثلي الانتليجينتسيا (الطبقة المثقفة).

* نعم، مثل هذه اللقاأت موجودة و تحدث الى الآن. و يتم في روايتي الجديدة (الاخر)) وصف مثل هذا اللقاء. و حتى الآن تجري مثل هذه اللقاأت عندما تلتقي بعض العناصر المهمّشة في الحانات او في بعض الاماكن الاخرى مع الانتليجينتسيا. و بعض هذه اللقاءات طريفة جداً رغم اني لا اعني بالسوقة المجرمين او المتحجرين، كما يقال عندنا، بل من هم على الحافة. لماذا هذه اللقاأت مهمة للانتلجينتسيا ؟ و لماذا اولئك يهتمون بالفن ؟ لأنهم غالباً ما يكونون متقاربين من بعضهم. فأما ان يكون الناس البسطاء (السوقة) غير اعتياديين تماماً – لأن روسيا ليس فيها فرقاً اجتماعياً كما هو الحال في الغرب. فربما يكون شخص روحاني جداً في الحضيض الاجتماعي. فقد تحدثت في احدى المرات مع شاب بسيط عسكري شارك في الكثير من النقاط الساخنة. و كان شخصاً بسيطاًاعتيادياً. و سألته ((كيف استطعت ان تبقى حياً هناك؟)) اجانبي ((لقد قرأت اعمال بلاتونوف)). و قد دُهِشْتُ لذلك.

* لقد كتبت خلال فترة حياتك الكثر من القصص، ربما، المئات من القصص. فمن اين تستمد مواضيع قصصك؟

- قد يكون مضمون القصص مروي، لكن ليس من الصحف، و كان دوستويفسكي يأخذ احياناً مواضيع حتى من الصحف، كما تعرفين. و ربما تكون حكاية من شخص ما في لقاء عابر...

- وهكذا يبدأ الموضوع؟

* هذا فقط يعطي حافز للكتابة. فلو اخذنا قصة ((العالم الكبير)) التي يلقي بها شاب بنفسه من الطابق الخامس الى الاسفل نتيجة جدال. فكيف تولدت هذه الفكرة؟ كنت انذاك اعمل مدرساً في مدرسة الشباب العامل (هكذاكانوا يسمون مدارس اليافعين الذين لم يكملوا الثانوية بسبب إلتحاقهم بالعمل). دخلت الصف في احدى المرات و لاحظت غياب احد التلاميذ و سألت الشباب عن سبب غيابه. فذكروا لي الحادثة التي جرت له! حيث انه تناول الكحول مع احد الاشخاص و تراهن على ان يلقي بنفسه من الطابق العلوي ففعل ذلك و كان مرتدياً المعطف. و تكسر حتى الموت و طبعاً دُهِشْتُ جداً و كذلك زملاؤه. و فكرت هل كان هو مجنوناً؟ لكنه لم يترك عندنا انطباع بالجنون. و هكذا على اساس هذه الحادثة و تفسيرها كتبت قصة ((العالم الكبير)). و رغم اني لم اغير موضوع و مضمون الحكاية لكنّي تناولت في الكتابة الجوانب الباطنية النفسية و السايكولوجية و الغيبية لهذه الحادثة الغريبة.

* أرى ان القصص القصيرة بالذات تعرض بصورة رائعة التغيرات في ابداعك: فماملييف الشاب هو دائماً هزلي و عنيف، بينما ماملييف الناضج هو جدي و اكثر حزناً. فكيف تتصور انت هذا التطور؟

- الحقيقة ان البداية كانت كما يجب، فقد بدأت بقصص الحياة اليومية. و قدمت في الطبعة الألمانية لقصصي الكثير من الاشياء المبكرة لأنها مرحة و هزلية. و بعد ظهور الانطباعات الجدية- الفلسفة و لقضايا العميقة - تغيّر الامر تماماً. لكن النتاجات الاخيرة خاصة تلك التي يضمُّها كتاب (الآخر)) يدخل فيها مبدء كاتارسيس (التنفيس بالفن) بصورة اكثر و صارت فيها استنارة عقلية. و يمكن ان تقول بعبارة ابسط ان الكثير من الحالات و ان كانت مبنية على اساس القصص المتشائمة لكن النور فيها واضح للعيان. مثلاً الكتاب الجديد يحتوي على مجموعة قصص تبدأ بقصة ((أمسية فكر)). الموضوع مأخوذ من الحياة اليومية: يدخل قاتل و سارق الى شقة معتقداً ان اصحابها غير موجودين. لكنه يُخطيء حيث يعثر في الشقة على شخصين في منتصف العمر، في الاربعين من عمرهما. يظهر انهما ضعيفان. فيقوم بقتلهما كلاهما الرجل و المرأة. و كان يضن ان لديهما ثروة: نقود و ذهب. المهم انه قتهلهما. لكن القضية تكمن في خروج طفل عمره خمس سنوات بعد ذلك من الغرفة الأخرى. و جرى ذلك قبيل عيد الفصح. خرج الطفل و لم يفهم شيئاً، لأنه لم يسمع اي شيء، لأن القاتل نفذ جريمته بسرعة و بهدوء. خرج الطفل و قال للّص: ((قام المسيح)). أحدث ذلك تأثيراً مرعباً على القاتل بحيث فقد وعيه. و لا اعرف ماذا جرى له بعد ذلك. لقد قصوا عليّ هذه الحكاية، لعله تم اعتقاله فيما بعد لكني استمريت بالقصة بحيث ينجو القاتل على كل حال و في النهاية يلتقي بذلك الطفل الذي قال له: ((قام المسيح)).

* كيف تمثلت لك عودتك الى الوطن من المهجر؟

- لقد كنا نعيش في نفس الوقت في فرنسا. عندما جاء غورباتشوف الى السلطة و بدأ البريسترويكا و من ثم جاء يلتسن، اعتذروا منّا نحن المنشقين و قالوا لنا أننا نستطيع العيش حيث ما أردنا في فرنسا، في ألمانيا، في امريكا و لكن نستطيع ان نعيش كذلك في روسيا. لقد كانت العودة مذهلة للجميع، طبعاً، لأنه في تلك الفترة جميع الناس تقريباً الذين عاشرتهم بمافيهم الاقارب كانوا احياءاً. بأستثناء البعض، الذين من بينهم الشاعر غوبانوف. و تحدث لك صعقة، طبعاً، عندما تشاهد، بعد خمسة عشر عاماً، الناس الذين قضيت معهم سوية الكثير من الوقت. و كذلك زوجتي كانت مندهشة لأن والدتها عاشت هنا. و كان كل شيء على ما يرام – و صار اللقاء جديداً. بينما شاهدنا على المستوى الاجتماعي ان البلد أصبح شيئاً أخراً: فقد كان في ذلك الوقت كل شيء يغلي حيث كانت تجري المظاهرات و اللقاات و غيرها. أما في الستينات فكانت اغلب الانتليجينتسيا سوفيتية و تخدم السلطة السوفيتة. الجميع حتى باسترناك كتب عن ستالين ناهيك عن الكتاب السوفيت الرسميين. و فجأة شاهدنا كل شيء قد تغيَّر: صارت الانتليجينتسيا تشبه الفئة الضيقة للانتليجينتسيا في الستينات بنفورها من الشيوعية. الموقف تغيَّر تماماً.

* انت اليوم كاتب لك محبيك و تعتبر زعيماً لمدرسة الواقعية الغيبية التي تحدثت عنها أنفاً. حتى انه يوجد ((نادي الواقعية الغيبية)) التابع لدار الادباء المركزية. فما هو العامل المشترك لدى اعضاء هذا النادي؟

- يعتبر سرغي سيبيرتسيف مؤسس كل هذا. يضم هذا النادي كتاباً مشهورين في روسيا مثل اناتولي كيم و فلاديمير ماكانين و اخرين.
قال كتاب جُدُد بما فيهم اولياسلافنيكوفا اذا ما وجد شيء جديد يغني القصة الواقعية فأنهم على استعدا للانضمام لهذا النادي لأنهم يريدون تطويره. اي انهم لا يريدون ان يبقوا هذا الاتجاه و هذه النزعة على حالها و هم يسعون الى الانظمام اليّ و الوقوف تحت رايتي. لكن الاهم في هذا انهم شباب. و كلهم اسماء معروفة و هم كتاب رائعون يعبرون عن الحالة الغيبية بصورة قوية جداً و مباشرة. و قد صدر عن دار النشر (أكات)) مجموعة قصص لكتاب شباب ذوي الاتجاه الغيبي. و هناك مجموعة اخرى يجري الاعداد لنشرها. إن قرائي و مُحبّي نتاجاتي هم بالاساس الشباب.

* لكن لديك ايضاً وريث في الادب و هو في العمر اكبر من الشباب قليلاً. انه فلاديمير سوروكين.

- ان حالة فلاديمير سوروكين لها خصوصيتها فهو لحد الآن لم ينظم الى حركتنا. هو نفسه يقول انه يعتبرنفسه تلميذي. لكنه يبقى مستقلاً و نتاجاته هي ادب له خصوصيته.

* لقد أعيدت لك الجنسية الروسية في عام 1991 و حصلت في عام 2000 على جائزة بوشكين المشهورة. فكيف تقيّم استيطانك و عملك في روسيا اليوم؟

- إنا اعمل بصورة اعتيادية و لكن الادب دائماً مرتبط بحالة دراماتيكية معينة. فنحن دائماً ما نتواجد في اوربا بما في ذلك فرنسا و ألمانيا. و انا أعتقد أن زماننا هو زمن التوحد و التقارب و لكنّهُ دراماتيكياً بما فيه الكفاية




غالب المسعودي - سَئِفتُ ولم أصبأ

قصص قصيرة جدا-عادل كامل







الفن البدائي في عصرنا- عدنان المبارك



الفن البدائي في عصرنا


عدنان المبارك
ترتبط كلمة ( بدائي ) بأنشطة المجتمعات التي لم تنتم بعد إلى حضارة معينة من الحضارات السائدة سواء في الماضي أم الحاضر. وعامة صارت هذه الكلمة من نتاجات نزعة المركزية الأوربية ولكي يتوسع معناها ويشمل الكثير من الحضارات غير الأوربية. كذلك ينبغي طرح هذه المسألة على أصعدة عدة بينها السياسي والسوسيولوجي أي مستوى المعرفة في هذا المجتمع وذلك عن الفنون الأخرى. كذلك يتعلق الأمر بالعادات الألسنية ، أي إستخدام كلمات تعود الى حقب أخرى. وغالبما تعني كلمة بدائي في المنطقة الغربية وغيرها ، التخلف بشتى أبعاده مما يكون إنعكاسا لحالة الإستعلاء التي تتميز بها الحضارة التقنية المعاصرة . فمعلوم أن هذه الكلمة لاتصلح تماما لأيجاز منجزات ثقافية تجمعت خلال قرون طويلة. ففي كل ثقافة من الثقافات التي يذكرها علماء الإناسة لا نجد السطحية أوالفقر المضموني أوالشكلي وحتى لدى الأقوام التي تعتبر الأكثر تخلفا وقربا من ثقافات العصرين الحجريين القديم والحديث المعتمدة على الصيد وجمع القوت. فغالبما نلقى أبنية رمزية غنية وفنا قادرا ، بكل متانة ، على التعبير عن أحوال التفكير والعلاقات المعقدة بين الأنسان ووسطه أو بينه والمجهول. كما نلمس هنا طاقة متدفقة للتعبير عن شتى الأنظمة التفكيرية والأخرى الحياتية. كما نلمس تفوق الفلسفة على التكنولوجيا. ونصل هنا نقطة بالغة الأهمية : إن هذه المجتمعات تعتبر بدائية بسبب إستخدامها تكنولوجيا بسيطة والقليل من الأدوات. كذلك معلوم أن كلمة ( بدائي ) هي من مصطلحات حقبة نظرية التطور الدارونية وغيرها. فعلماء الأنثروبولوجيا حاولوا , آنذاك , إيضاح واقع تنوع البشرية الثقافي. وفي ذلك العصر، عصر الاكتشافات الكبرى ، كان صدمة عنيفة للأوربي وجودُ أحوال التباين في ثقافات المجتمعات الأخرى. مثلا كانت قبلها ، في القرن السادس عشر ، قائمة النقاشات والخلافات حول هل أن الهنود الحمر بشر أم لا. ولم يضع حداً لها إلا أحد القرارات البابوية ..
من ناحية كان الفلاسفة والكتاب والرحّالات ورجال البعثات الدينية قد أكدوا على أحوال التباين هذه. وفي القرن السابع عشر كتب فيكو Vico أن الإختلافات بين البشر سببها تأخر جزء من البشرية وإرتداده، في حين أن فلاسفة القرن التالي أمثال جان – جاك روسو خلقوا صورة رومانسية للهمجي النبيل وضربوا بذلك مثلا على المساواة كفكرة من أفكار الثورة المقبلة. وفي القرن التاسع عشر تصبح المجتمعات البدائية موضوع التحليل العلمي. ووفق نظرية التطور وصل الأنسان بصورة تدريجية الى الإكتشافات الأساسية كصنع الأدوات من الحجر وإشعال النار وإكتشاف القوس والعجلة والمحراث أو حين خلق المؤسسات الأجتماعية الرئيسية وغيرها. ومن هذه الإكتشافات تطورت ثقافة البشرية - من الأشكال البسيطةالى الأخرىالمعقدة. فالتطوريعني التنوع. وعند أستخدام معياربساطةالأدوات والمؤسسات الإجتماعية والعقائد تمَّ تحديد معايير تطور المجتمعات. وكان أكثرها شيوعا معيارهنري مورغان في كتابه المعروف ( المجتمع القديم Ancient Sosiety ) من عام 1877 والذي تكون وفقه المجتمعات غير الأوربية صورة لحياة أسلاف البشرية والتي تمثل وفق نظرية الإرتقاء شتى مراحل التطور. وكان كل طور سابق أقل تنوعاً. إلا أن المجموعة البشرية تملك صفات أساسية معينة وهي شمولية تخص الكل. وهكذا فكلمة ( بدائي) يمكن أن تكون مفهومة كشيء أساسي ، جوهري ، أصلي خرجت منه عبرقوانين التطورتلك الصفات. كما أن هذا الشكل كان بداية الأشكال الأخرى الأكثر تطورا. ومعلوم أن صفات مثل ( بدائي ) أو ( أولي ) صارت مفاهيما أساسية لنظرية تطورالثقافة. وحتى عندما تقدمت المعرفة عن المجتمعات غيرالأوربية في العقد الأول من القرن العشرين لم تنمح هذه التصورات والمفاهيم .
لقد دللت الأبحاث الأنثروبولوجية والأثنولوجية على أن مجتمعات القارات الأخرى والتي لا تعرف الكتابة وبقيت منذ زمن الكولونيالية بعيدة عن عمليات التصنيع ، تتميز ببنية معقدة وتنظيم بالغ السعة سواء في الميدان الإقتصادي أم العلاقات الإجتماعية أم المنطقتين الدينية والفنية. ولقد بيّن ليفي- ستروس أن الإنسان لم يقم لغاية الثورة العلمية – التقننية الا بتطوير تلك المخترعات التي جاء بها العصر الحجري الحديث. فكل فكرة جديدة هي تطوير منطقي لما كان قائما. وهكذا يجد هذا العالِم أن لافرق جوهريا بين عالم مجتمعات ماقبل الصناعة والأخرى الصناعية. وعلى أساس الكثير من الأبحاث تبين أن هناك حلولا متنوعة ومتباينة للغاية قد أخذت بها شتى المجموعات البشرية ، وخصّت الطبيعة والمجهول والموقف من البشرالآخرين. كذلك فنظرية التطورالتي وضع عليها علم اليوم الكثير من علامات الأستفهام ، لا تكفي لإيضاح تلك الحلول رغم أنها ُتقبل كنظرية ، لاغير، تفسر ، الى جانب النظريات الأخرى ، الإتجاه العام لتطورالبشرية. لقد نهضت نظريات ذات طابع تفصيلي تخص أبعادا معينة من حياة الأنسان ، إرتبطت بها مصطلحات خاصة أيضا. فالمجتمعات موضع البحث والفحص بدأت تسمى بما قبل الصناعية والبسيطة وماقبل الكتابة والقبلية ، ومقابلها كانت الأخرى الصناعية والمرّكبة التي تستخدم تقنية الكتابة.
وبرأي روبرت ردفيلدRedfield تتميز المجتمعات البدائية ببضع صفات دائمة وهي أنها مجتمعات ليست بالكبيرة ومتجانسة ثقافيا ولا تستخدم الكتابة في عمليات الإتصال ولم تطور التخصصات المهنية في حقول الأنتاج والحياة المهني، ولدرجة معينة تكون مجتمعات منعزلة ، وفي كل الأحوال مقاومة للتأثيرات الخارجية. وكل هذه الصفات تؤثر على طابع فنونها التي تكون وسيطة هامة للإتصال بحكم إنعدام وسيطة الكتابة. لذلك فعليها أن تكون ذات طابع حاسم وحدّي. ومن هنا فالأمانة أزاء النموذج الأصلي والمبدأهي أهم بكثيرمن إنفعالات الفنان الذي عليه أن لا يعبر في عمله عن ذاته بل عن الأسطورة والمضمون الإجتماعي ومبدأ العمل والنشاط.
وبقي مؤرخو الفن الأوربيون لفترة طويلة يبدأون عملهم بفحص شكل العمل الفني وليس مجتمعه. وهناك تيارات كثيرة في هذا الحقل لم تستفد لأمد طويل من التخصصات الأخرى وفي مقدمتها الأنثروبولوجيا الأجتماعية. ونتج عن ذلك الكثير من المقولات الخاطئة عن الفن البدائي الذي هو بدائي لأنه فن مجتمع بدائي بدل القول أنه فن آخر لاتتوفر فيه صفات الأساليب الغربية لماقبل ثورات الفن الحديث بالطبع ، بل أخرى كالبساطة الرفيعة للشكل وطرح الأفكار ذي الطابع التركيبي والآخذ بالرمز.

وفيما يتعلق بالفنون الأفريقية الراهنة فهي قد إمتلكت طريق تطور يعود الى آلاف السنين أي أنها مرتبطة بشكل ما ، بالنشاط الفني لإنسان الكهوف والثقافات الأركيولوجية القديمة التي إكتشفت آثارها في هذه القارة. وفن ماقبل التأريخ المتمثل بالصوروالمحفورات الصخرية غالبما نلقاه في شمال القارة وجنوبها وفي مناطق قبائل البوشمين. ومعظمها يعود الى العصر الحجري الحديث. والى الحقبة نفسها تعود المكتشفات السيراميكية والمنحوتات الحجرية الصغيرة والفخارية. وتلك الصور والمحفورات شبيهة بالأخرى لدى قبائل البوشمين من مطلع القرن التاسع عشر.
وتنبع النزعة المحافظة في الفن الأفريقي من قواعد المحاكاة الدقيقة والتي هي الشرط الأساسي في الخلق. ويجد النحاتون أن الإستنساخ الدقيق للنموذج هو أصعب بكثير من الخلق الحرّ ، كما أنهم لا يعتبرون أن الحد من ملكة الإبتكار لديهم هو أمر سيء أو عبودي. وهو شيء طبيعي أن يرفض مثل هذا الفن الشكل الفني الجديد أو تقبله ببالغ الصعوبة. ويعود السبب الى أن للفن دور السحر، والفنان مقيّد بشروط محددة في عمله. مثلا عليه أن يمنح ، بكل دقة ، قناع هذا الإله سماتٍ معينة.
ورغم الفوارق الجوهرية في فنون مختلف القبائل ثمة أحوال شبه كثيرة تسمح ، من جهة ، بتمييز مناطق لأساليبها الرئيسية ، ومن ناحية أخرى بتشخيص السمات الفنية الأساسية والمميزة. وعامة هناك أربع مناطق لهذه الأساليب وهي الساحل الغربي من السنغال الى النيجر، وحوض الكونغو الذي يعّد فنه الأكثرخشونة ، ثم سهوب الكاميرون المتميزة بعمارتها الخشبية النصبية وبضمنها المعمارالمتطور للداخل . والأسلوب الأخير يعود الى منطقة البحيرات الكبرى في أفريقيا الشرقية التي تعد من أغنى مناطق القارة في فنون النحت الا أنها تتميز أيضا بفنونها التزيينية ذات الأنتشار الواسع. وفي الواقع يكون هذا التقسيم ذا طابع عمومي . وهناك عدد من علماء الأثنوغرافيا يميز ثلا ثة أساليب ولايذكر هنا أفريقيا الشرقية.
تتمثل الفنون الأفريقية بفنون النحت ثم التصوير ، لكن جزئيا، وبعدها الصناعات الفنية. وبالطبع لانلقى السمات الرئيسية بذات الشدة في كل مكان وأقصد الواقعية والثبات والتشويه وتبسيط الشكل. فالواقعية تعتمد على إعادة الخلق الأمينة لصفات النموذج مع مراعاة ملامح الوجه والتشويهات الجسدية. ومن أجل تشكيل الصفات الفردية يـؤخذ بعين الإعتبار أمورعدة بينها تسريحة الشعر وغطاء الرأس أو حالة الأسنان مثلا. وعادة تعتبر بورتريهات أمينة صور رؤوس الأعداء القتلى ، مثلأ أقنعة قبائل ماكونده وماويا والتي تعير بالغ الإهتمام للصفات الفردية التي تتمثل أحيانا في البنية الجسدية المتميزة أوأحدى العاهات. كذلك أصبح ما يميز النحت الأفريقي التأكيد على جنس الشخصية المنحوتة ومنحها الصفة الرمزية الدائمة. وهذا النحت يتميز باللاحركة أوالجمود الذي ُيفسَّر، وليس بعجز الفنان بالطبع , بل يكون الغرض هنا تقديم حالة ثبات الإنسان الميت أو الروح أضافة الى منطقية اللاحركة في هذا العمل الفني. فكل حركة بادئة لابد أن تستمر وبذلك يصعب مسكها كاملة. كذلك فمسألة الثبات تتصل بأخرى هي مسك حالة التماثل symmetry . فاللاتماثل أمر نادر في الفن الأفريقي. كما أن اللاحركة يترتب عليها إنعدام التعبير( مثلا الإبتسامة). وهذا أمر منطقي أيضا. فتقديم حالات التعبير هو تعبير عن حركة العضلات أيضا. ومن المعلوم أن في هذا الفن تشويها بالغا للتناسب الطبيعي للجسم. فالنحات يبرز الرأس ويكبره ويطيل الجسم ويقصر الأطراف. وهذا كله يتم تحت تاثيرعقائد معينة. فالرأس يعتبر مركز الحياة لذلك يتم التأكيد عليه من خلال التضخيم . وأحدى قبائل الكونغو تفسر ذلك بأن دماغ الرجل أكبر من دماغ المرأة مرتين. كما أن الدافع الى تشويه النِسب هو الرغبة في التعبير عن القوة الفيزيقية البالغة لدى الإنسان. ومن هنا فاللاتناسب في هذه الحالة لا يسبب نفور المتلقي بل إعجابه الذي يفوق الإعجاب بالفن الذي يعبر عن حالات التناسب الطبيعي .
وفي فنون الزينة الأفريقية نلمس السعي الى خلق أكبر حالات الإنسجام بين الشكل والخطوط الجميلة . ويتم ذلك من خلال التعبير الفني المتواضع والبساطة والنمذجة الأسلوبية الكبيرة . وفي الواقع يكون الخلق الفني الأفريقيي بالغ الغنى ونحن نراه في كل قطاعات الحياة . وفي فنون التشكيل تستخدم مختلف المواد والتقنيات وفي مقدمتها النحت الخشبي والصياغة المعدنية و يعتبرالخشب المادة الأكثر شيوعا . فمنه يصنع معظم النتاجات المكرسة للعبادة كالأقنعة والمنحوتات مثل شخوص الأسلاف إضافة الى شتى أنواع أدوات الأستعمال اليومي التي ُتطلى بأصباغ متنوعة أو تتعرض لعملية الحرق الجزئي . وتقنية صبّ المعادن اللينة بلغت ذروتها في ثقافة بنين القديمة. ولاحاجة الى القول بأن هذا الفن مرتبط بأوثق رباط بالعقائد الدينية. وأصوله تعود الى طقوس السحر السرّية والعبادات القبلية. والوظيفة السحرية تخص ، على السواء ، الأقنعة والمنحوتات والمواد الأخرى ذات الأشكال البشرية والحيوانية أيضا. وتملك الأقنعة أهمية خاصة . ومعروف الدور الذي قامت به في المجتمعات القديمة. وهنا يمكن تمييزأربعة أنواع وهي الأقنعة التي تمثل تجسيدا للكائنات ذات القوة التي تفوق القوة البشرية ، مثلا صور الأسلاف. وهناك الأقنعة التي يكون الغرض منها أثارة مشاعر الخوف ، والأخرى ( الرسمية ) التي يستخدمها القضاة ثم أقنعة اللهو والتي يرتديها الشباب عادة. ومعلوم أن المهمة الرئيسية للقناع إخفاء الوجه الحقيقي للإنسان وتحويله الى معبود أو روح البطل الذي يكون القناع بورتريته. ويؤمن الإنسان الحامل للقناع بأنه يكسب القوى الكامنة فيه ، الحيوانية والكونية والسحرية ، ويصبح عن حق مليئا بالقوة والرهبة والقدرة بالمقارنة مع الآخرين ذوي الوجوه العارية. وعامة يكون دور الأقنعة بالغ الأهمية. فهي تستخدم في الإحتفالات الخاصة ببلوغ سن الرشد وفي الأنشطة السحرية لغرض إنزال المطر أو ضمان محصول وافر. كما نجدها في مراسيم الدفن أو عند تنصيب سلطة جديدة أو حين الإحتفاء الرسمي بالأصدقاء من القرية المجاورة. كذلك يعالج الرقص بالأقنعة المرضى وعقر المراة . وإرتداء الأقنعة هو إمتياز خاص بالرجال الا أن النساء يرتدين الأقنعة في بعض قبائل أفريقيا الغربية.
ويحتل النحت التشخيصي المكان الطليعي في فن أفريقيا . ونجد له أربع هيئات هي للمعبودين وشخوص الأسلاف والأطفال التوائم عادة والبورتريهات . فالمعبود أو الفتيش هو شخص يكون معبودا من خلال حقيقة وجوده ذاتها. وأكثر الفتيشات خطرا ما كان مغروزا بالمسامير. وكل مسمار قد يحرر قوى الخير أو الشر. وحين يدق الساحر المسمار يحصل الإنتقام من العدو أو موته. ومن هنا القول الشائع ( لتحل منيتي اذا كنت مسؤولا عن مرض أو موت أحد من الناس ) . وعامة تتقمص الفتيشات هيئات حيوانية. فلدى الإنسان البدائي يكون الحيوان رمزا للقوة والرهبة . وتملك المنحوتات الممثلة للأسلاف أهمية تعبيرية. ومهمتها حماية اقرباء الميت أو الزوج الغائب أو رب البيت. ويتمثل الأسلاف بالنساء الحوامل خاصة. ولهذا تفسيره الإجتماعي والعرفي . فكل أم في أفريقيا تكون مبجلة بشكل خاص إذا كان عدد أطفالها كبيرا. فحينها تكون رمزا للسعادة ومدعاة للفخر في حين أن العقر هو أكبر عار قد يلحق بالمرأة. ومنحوتات التوائم التى نجدها في بعض القبائل بعد موت أحد أفرادها تعامل كما لو أنها أطفال أحياء. وللبورتريها ت طابع دنيوي تقليدي . فهي إما للمتعة أو لتخليد ذكرى شخص ُمقدَّر في القبيلة. وتعتبر أبرز البورتريهات ألأفريقية تلك التي تصور ملوك قبيلة باكوبا الكونغولية الجالسين بصمت وعيونهم شبه مغمضة. وكل منحوتة تحمل في الجهة الأمامية من قاعدتها عنصرا رمزيا مرتبطا بشخص أحد الحكام أو يذكر بشيء يميز فترة حكمه. وليس هناك في الفن الأفريقي من حدود أو تقسيم للفن الى واحد كبيرعظيم متسام وآخرعملي . وكل قول عن فن ديني أو ( بلاطي ) وآخر مرتبط بالحرف الفنية هو مجازي. فعناصر الزينة التي نلقاها في أقنعة العبادة ومنحوتات الأسلاف هي نفسها في أدوات الإستخدام اليومي. وقد يملك العنصر التزييني أكثر من معنى . مثلا قوائم الكراسي المنحوتة على شكل هيئات بشرية أو حيوانية تكون تصويرا مجازيا لبلاط الملك أو ترمز الى ثرائه ومنعته وسلطته المطلقة على رعاياه. والكؤوس التي هي على شكل الرؤوس البشرية انما هي بورتريهات للأعداء القتلى وتعتبر تجميعا للقوة العدوة . أما الشخوص التي تزين الأمشاط أو دبابيس الشعر الخشبية فهي تضمن لحاملها الحب السعيد وإنجاب الأطفال. كذلك فللموتيف الحيواني الذي نلقاه في أعمال الزينة طابع رمزي أيضا : الأفعى والسمندل يرمزان الى راعي الولادة والخصب في حين أن العنكبوت يرمز الى تكريم الموتى ، والسلحفاة الى الخلود ,،والفيل الى القوة التي لا تحدّ. والملاحظ أن الموتيف الهندسي هو ذو طابع رمزي أيضا ويملك رباطا وثيقا بالسحر.

وفيما يتعلق بفنون أستراليا التي هي في الواقع قارة معزولة عن التأثيرات الخارجية نجد أن طابعها متجانس. ومنذ العصر الحجري الحديث الى غاية القرن الثامن عشر أي قرن وصول الأوربيين كان الفن ظاهرة تخص السكان الأصليين بنطاق يشمل التصوير والنحت في الصخور والآخر المنفصل كذلك التصوير الجداري والنقوش الجلدية والرسوم الطقوسية على الرمل وتزيين مواد الأستخدام اليومي والأخرى المخصصة للعبادة. وأكثر المواضيع المطروقة نجدها في الموتيف التشخيصي أو النماذج الهندسية التجريدية . وفي مواد الإستخدام اليومي كالدروع والبوميرانغ والرماح ينفذ الفنان رسوم الحيوانات والبشر بكل دقة وعناية وبإحساس واقعي شديد. وغالبما نجد علامات رمزية بأشكال اللولب أو الدائرة أو المستطيل أو المتعرجات. وكلها تعبر عن الأساطير القبلية التي يناط بتفسيرها وفك رموزها أفراد معينون.
وفي جزر المحيط الهاديء يتميزالفن بكثرة الأساليب. فكل مجموعة من الجزر، وأحيانا كل جزيرة من الأرخبيل تملك أسلوبها المتميز. وتسمح سمات معينة في فن المحيط بالقيام بنوع من التصنيف الذي تكون أهميته مجازية بالدرجة الرئيسية كمنسّق للآساليب في نظام معين. وإذا إفترضنا أن هذه الأساليب الفنية لا تختلف فيما بينها بالصفات الشكلية فقط بل الأصل والتأريخ يمكننا تمييز ستة أنواع . أولها الأسلوب القديم archaic الذي هو محروم من أية اشكال متبلورة ودائمة كما أنه ليس أسلوبا متميزا. فنحن نلقاه في فنون الحضارات الأخرى. والثاني هو الأسلوب ( اللولبي ) الذى كان أول أسلوب مميز لمنطقة المحيط. ونجده في أعمال تنفر من الخطوط المستقيمة وتفضل الأقواس والخطوط المنحنية . والأسلوب الثالث أتفق على تسميته ب( المنقاري ). و سمّي هكذا بسبب إطالة شكل الأنف لكي يصل السرّة أوأسفل البطن. وتندر فيه الخطوط المستقيمة أيضا. والصفة المميزة أيضا هي إنحراف العينين. وغالبما يرتبط هذا الأسلوب بصورة الفيل الذي يرمز الى ( غينيش ) رب الحكمة في الهند. وعبادة هذا الرب نقلها المهاجرون الهنود الى الساحل الشمالي لغينينا الجديدة التي لم تعرف الفيلة ولذلك أستبدلت بهيئات الطيور. وبعدها يأتي الأسلوب ( التكعيبي ) من غينيا الجديدة أيضا. وهو يتميز بالشكل التكعيبي للرأس والشفتين العريضتين والخط الشاقولي للحنك كذلك جلسة القرفصاء للشخص المركزي الذي يمسك في المقدمة منحوتة أصغر. وهناك إفتراضات بأن أصل هذا الأسلوب ينحدر من أندونسييا. وخامس الأساليب هوأسلوب تامي نسبة الى جزيرة تامي. ويتميز بالشكل الموشوري للرأس المرتكز بعمق على الكتفين. ويستخدم هنا عنصر التأطير بالمثلثات المنحوتة أحيانا ، والموتيف المتكررهو التهام الأفعى أو التمساح للإنسان. ويتميز الأسلوب السادس - أسلوب ملانغان Malanggan بالمهارة التقنية وعدم التركيز على موتيف رئيسي بل الإبتكار في كل الإتجاهات. وتقرّبه كثرة عناصر الزينة من الفن الهندي.
أكيد أن هذا التصنيف خاضع لتأثيرات موجات الهجرة في الفترة ما بين الألف الثالث والقرن الخامس قبل الميلاد . وأكبر شهادة على تقدم التقاليد الفنية هي الأواني الحجرية والمنحوتات والبقايا المعمارية بشكل ممرات وشرفات وقواعد صخرية وشوارع مرصوفة بالحجارة. ولغاية اليوم لم تحل ألغاز أنقاض الأحياء القديمة والقبوروالتماثيل الصخرية الضخمة في جزيرة الكريسماس. ورغم تعدد الأساليب هناك صفة مشتركة لفنون منطقة المحيط وهي تلك الصلة الوثيقة بالمعتقدات والطقوس. فعبادة الأسلاف المتجذرة عميقا وطقوس التجمعات السرية كذلك الإحتفالات ببلوغ سن الرشد تكون كلها بمثابة حوافز بالغة القوة في الخلق الفني. والمظهر المميز لإرتباط الفنونالتشكيلية بالعقائد والطقوس يتمثل بالمنحوتات التي هي بمثابة بورتريهات للأسلاف أوتصوّر للقادة والأبطال. وتعتبرالقبيلة مثل هذه المنحوتات المكان الذي تجتمع فيه أرواح الموتى وأنها خير راع للبيت والمجتمع القبلي. ومن أشهر الأعمال الفنية نجد المنحوتات التزيينية من زلنده الجديدة والمسماة تيكي Tiki ومنحوتات ملانغان التي هي مزج باهر للهيئات البشرية والحيوانية إضافة الى الأشكال الرمزية التي تستخدم أثناء الطقوس الخاصة بتكريم الموتى. كما نجد تلك التماثيل الصغيرة التي تمثل أبطالا خرافيين قادمين من المجهول ، وهي ترتبط بفكرة الزعامة وعبادة القمر. وعدا النحت التشخيصي تكون الأقنعة من أبرز أعمال فن المحيط . وهي تستخدم عادة في الإحتفالات ببلوغ سن الرشد أو في طقوس الدفن. ومن يحمل القناع يسعى الى أن يغير نفسه ويجلب أرواح الأسلاف التي تقوم بأداء دراما أسطورية والتذكير بالنواهي والفروض. وهناك عدة أنواع لهذه الأقنعة وأكثرها شيوعا أقنعة الدفن المتميزة بغنى ألوانها. وهناك أقنعة تاتانوا Tatanuaوهي بشكل خوذ تستخدم في الرقصات ذات الطابع الإيروسي أو الغرض منها إنزال المطرأو الإخصاب. كذلك هناك الأقنعة الخشبية الصغيرة من غينيا الجديدة ، ولها مفعول التعويذة التي تطرد الشر ويحملها الرجل في كيس مضفور على رقبته. وفي المواد الفنية المستخدمة في الحياة اليومية نجد رموزا تعبرعن الإيمان بتبعية عالم الأحياء لعالم الموتى . وعامة يرمز الطائر في فنون المحيط الهاديء إلى الروح. وُينحَت عادة في مقدمة القارب. أما السمندل فيرمز الى الإخصاب وإنبعاث الحياة لذلك نلقاه على الأسلحة والدروع .
إن فنون المحيط الهاديء ظاهرة غيرإعتيادية بفضل فرادتها المفرطة التي جاءت نتيجة العزلة التي إنتهت مع قدوم الأوربيين في القرن الثامن عشر.
وفيما يخص فن أمريكا نجده يخلق الإنطباع بأنه بانوراما عريضة للأساليب. فتنوع المواد والطاقات الفنية من الأمور التي تميّز هذا الفن عن غيره. وخلافا لفن المحيط الهاديء مثلا يخلق فن الأمريكتين كلا متماسكا. وهذا التجانس متأت وليس فقط من نزعة المحافظة لدى الهنود الحمر بل له مصدره في حقيقة أن إتصالات هذا الفن بالمفاهيم الغربية كانت قصيرة وغير مباشرة . وبدون أن نستثني التأثيرات العابرة للحضارات الآسيوية المتقدمة عليّ القول إن أكبر تأثير على الفن الأمريكي ألقته فنون المكسيك وبيرو. وبالرغم من هذا تبقى الفنون المحلية وليس التأثيرات الخارجية ، جوهرهذا الفن. ويتفق الباحثون بأن بداياته تعود الى القرن الخامس عشر قبل الميلاد ، لكن بمعزل عن الإستمرارية التي تميّز الفنون البدائية كلها فقد مرت عليها طيلة القرون التحولات والتبدلات.
وهناك قبائل في أمريكا تخصصت في فنون معينة ، بعضها في النحت وأخرى في الغرافيك وصناعات الخوص أو النسيج أو الفخار أو صياغة المعادن. ومستوى التنفيذ يمثل جميع مراحل التطور : من البدائية الصرفة الى أعلى درجات المهارة والصنعة. وقد يكون أبرز مثال هنا تلك الأعمدة المسماة بالطوطمية و البالغ إرتفاعها أكثر من عشرة أمتار. و هي تتكون من سلسلة رسوم تمثل أشخاصا جالسين في صف شاقولي يمثلون شخصيات أسطورية للقبيلة. والدافع الى خلق هذه المنحوتات كان ، عادة ً ، سرد أسطورة تؤثر فيها الحيوانات الخرافية على مسيرة العالم والحياة البشرية. كذلك هناك أغراض أخرى وهي تدوين الأحداث الإجتماعية. كما كانت تعتبر مكانا لحفظ مخلفات أفراد القبيلة البارزين. وأجمل الأعمدة من صنع هنود هيدا من منطقتي آلاسكا وكولومبيا . أما المنحوتات الصغيرة فتصنع لضمان رضا الأرواح ، و هي ، عادة ، تمثل الأسلاف وتكون ملكا للأفراد الذين يعاملونها كتعاويذ تمنحهم القوة . والطرز الأخرى من النحت هي لعب الأطفال بهيئاتها الخرافية التي تميز ثقافة الهنود الحمر. أما الأقنعة فهي غير شائعة في فن أمريكا. وعامة تعد الفنون التزيينية أبرز فنون أمريكا . فالأقوام التي تقطن غرب المكسيك كانت معزولة عن تأثيرات الثقافات الكبيرة ، وقدعرفت بالصناعات السيراميكية التي تصور الحياة اليومية. أما المنحوتات فتتميز بالفنتازيا التي تكشف عن دينامية حياة هذه الأقوام. واذا خص الأمر الفن الغرافيكي فلقد تطور بشكل خاص بين هنود السهوب في امريكا الجنوبية.


بعض المصادر الرئيسية :
- R. Redfield, The Little Community ,Chicago, 1955.
- R. Benedict , An Anthropologist Work , Boston,1959.
-The Mind of Primitive Man ,New York, 1911.
- Primitive art , Cambridge , 1927.
- A. Radcliffe – Brown ,Structure and Function in Primitive Society ,London ,1965.

الجمعة، 24 يوليو 2015

عبد الحكيم قاسم في برلين: أدب الرسائل في ثقافة لا تعرف الخصوصيات؟-سمير جريس



عبد الحكيم قاسم في برلين:
أدب الرسائل في ثقافة لا تعرف الخصوصيات؟

سمير جريس


هل الثقافة العربية ثقافة "حجب وستر"، ولهذا تخلو من الاعترافات ومن الخصوصيات؟ هذا ما يذهب إليه محمد شعير في كتابه الصادر حديثاً والذي يضم رسائل القاص عبد الحكيم قاسم التي أرسلها من برلين خلال إقامته التي امتدت 11 عاماً.

ماذا كان عبد الحكيم قاسم سيقول لو امتد به العمر حتى اليوم؟ تُرى، كيف سيكون رأيه في التطورات السياسية التي تشهدها مصر الآن؟ كان الكاتب سيتحمس بالتأكيد للثورة، وربما كان سينشط داخل حزب من الأحزاب، والأكيد أنه كان سيواصل هجومه على فساد أهل الحكم وأهل الثقافة، مثلما تعود أن يشن هجومه العنيف على الآخرين، حتى على أقرب أصدقائه المقربين من الأدباء والمفكرين. عندما عاد القاص عبد الحكيم قاسم من ألمانيا إلى مصر في منتصف الثمانينات من القرن العشرين قرر خوض معترك السياسة، وانضم إلى حزب التجمع اليساري، ورشح نفسه لانتخابات مجلس الشعب. كانت تجربة أليمة قد توحي بأن على الكاتب المبدع أن يبتعد عن المعترك السياسي المباشر. لم يتحمل جسد الكاتب جراح المعركة الانتخابية، فخرج مصاباً بالشلل، وقضى سنواته الأخيرة طريح الفراش إلى أن توفي في عام 1990 عن خمسة وخمسين عاماً.
  كتاب محمد شعير الصادر حديثاً عن دار ميريت المصرية بعنوان "كتابات نوبة الحراسة" يُعيد تسليط الضوء على هذا الأديب الذي غمرت أعماله النسيان إلى حد كبير، كما يسلط الضوء على "أدب الرسائل" شبه الغائب في الثقافة العربية. ورغم أن عبد الحكيم قاسم أبدع عدداً من الأعمال الكبرى في الأدب المصري المعاصر، أبرزها روايته "أيام الإنسان السبعة" و"محاولة للخروج" و"المهدي"، إلا أنه كان يشعر خلال حياته أنه لم ينل حقه، ربما لبعده عن مصر وغربته في ألمانيا التي سافر إليها في عام 1974 للمشاركة في ندوة أدبية، غير أن المقام امتد به هناك 11 عاماً، عاشها في برلين المنقسمة آنذاك إلى شطرين، غربي وشرقي.
في برلين شرع قاسم في الإعداد لأطروحة الدكتوراه عن الأدب المصري، وتحديداً عن جيله، "جيل الستينات"، ذلك الجيل المتمرد على قواعد الكتابة الكلاسيكية وعلى دور "الآباء" مثل نجيب محفوظ وتوفيق الحكيم. كان قاسم يود أن يكتب أطروحة عن معاناة جيله وعن تفرده الإبداعي، أطروحة نقدية عن إبداع إدوار الخراط وإبراهيم أصلان وصنع الله إبراهيم وجمال الغيطاني وسعيد الكفراوي. لكن قاسم كان مبدعاً وليس أكاديمياً. مرت السنوات، وأخذته مشاغل الحياة في برلين، وضاع وقته في اللهاث وراء "لقمة العيش" حيث اضطر إلى العمل حارساً ليلاً لكي ينفق على عائلته، إلى أن عاد خالي الوفاض إلى مصر في عام 1985.
قاسم في برلين: من محبة إلى كراهية
 "صوتك يملأ سمعي، ووجودك يزحم وجداني، وأنت لا زلت أنت، طاقة لا تنفذ، رقيق كطفل، طيب كأم، شديد الذكاء، شديد الدهاء، مبدئي بلا لحظة مساومة": هذا ما كتبه عبد الحكيم قاسم إلى القاص الكبير سعيد الكفراوي في مارس (آذار) 1984. "أنا وعبد الحكيم قاسم ننتمي إلى الكتّاب الفلاحين، أولاد القرى"، يقول الكفراوي متذكراً علاقته مع المبدع الكبير، ويضيف في الحديث الذي خص به دويتشه فيله: "عبد الحكيم عاش القرية المصرية بكل أبعادها، وكان في جيل الستينات من أبرز كتابه. أما نجيب محفوظ، رحمه الله، فكان ينظر إلى إبداع عبد الحكيم باعتباره إبداعا متميزا." (للاستماع إلى الحديث كاملاً اضغط على الرابط أسفل المقالة!)
سافر عبد الحكيم قاسم إلى برلين كان قد كتب روايته الشهيرة "أيام الإنسان السبعة" في عام 1969، وبعدها صمت إبداعياً عدة سنوات وانهمك في الحياة البرلينية. ولكن، كيف كان لقاء عبد الحكيم قاسم بالغرب وبالثقافة الألمانية؟ هل كان حلقة في سلسلة "الصدام بين الشرق والغرب"، أم كان حافزاً للكاتب على المزيد من الإبداع والانفتاح على ثقافات العالم؟ على هذا السؤال يجيب محمد شعير قائلاً: "أعتقد أن تلك الفترة كانت دافعاً كبيراً له، وهو يحكي في رسائله عن الحفلات الموسيقية والعروض المسرحية التي كان يذهب إليها وكيف اتسع أفقه عبر لقاء مدينة مثل برلين." ويضيف شعير في حديثه إلى دويتشه فيله: "ولكن أعتقد أيضاً أن عبد الحكيم قاسم أحس أن الغرب سحقه. في البداية كانت علاقة قاسم بالغرب محبة غير مشروطة، غير أنها تحولت إلى كراهية غير مشروطة." ويرجع شعير ذلك إلى تكوين قاسم "الأصولي"، أما سعيد الكفراوي فيرجع ذلك إلى شدة اعتزاز قاسم بنفسه وعمله، وشعوره أن برلين لم تقدره حق قدره.
ويؤكد الكفراوي أن "عبد الحكيم قاسم استفاد كثيرا في رحلته الألمانية". غير أنه "شعر خلال وجوده في ألمانيا بالإهانة نظراً إلى طبيعة المهن التي عمل بها. عمل حارساً ليلياً، وأحس بأنه في مكان لا يقدر موهبته ولا يقدر إبداعه. وبالتالي عندما عاد إلى مصر وجدناه شخصاً مختلفاً." عاد عبد الحكيم قاسم متمسكاً بثقافته العربية التراثية، بل أعلن أنه يعتزم إعادة كتابة أشهر رواياته، "أيام الإنسان السبعة"، كي "ينقيها" من الكلمات المصرية العامية. لم يستطع قاسم – هكذا يؤكد شعير في مقدمته للكتاب – أن يتوافق بعد عودته مع التغيرات الاجتماعية والسياسية التي حدثت في فترة غيابه، لذا "لم يستطع العودة مرة أخرى".
إذا بليتم فاستتروا
 

ورغم أن الأدب العالمي يعرف رسائل شهيرة، مثل رسائل دستويفسكي، أو رسائل رامبو وريلكه ويوسا، أما رسالة كافكا إلى والده فتمثل حجر الأساس في فهم أدب كافكا. غير أن الثقافة العربية تكاد تخلو من هذا الجنس الأدبي. لماذا؟ هذا شيء يرجعه محمد شعير إلى المناخ الثقافي العربي الذي لا يسمح للإنسان بأن يقول دائماً ما يريد، بل يفرض عليه أن يكون له حديثان: حديث للعلن وحديث للخاصة. ويستطرد محمد شعير في حديثه إلى دويتشه فيله قائلاً: "ربما يرجع ذلك أيضاً إلى غياب ثقافة الاعتراف في العالم العربي، وهو أمر ربما يرجع إلى أن الاعتراف في الغرب المسيحي من الأسرار الكنسية، بينما الثقافة العربية هي ثقافة حجب وستر."
 عندما أصدر المفكر المصري لويس عوض كتابه "أوراق العمر" أثار عاصفة من الاستياء لدى أفراد عائلته ومنهم الأكاديمي المعروف رمسيس عوض. تحدث لويس عوض في "أوراق عمره" بكل صراحة عن عائلته، عن أبيه العاشق للنبيذ الأحمر، عن أخته المختلة عقلياً، وعن اعتناق أخته الأخرى الإسلام لكي تتزوج من شاب مسلم، كما يتحدث عن أخيه الأكاديمي ويصف إنجازه العلمي بالمتوسط. أحكام صريحة صارمة وصادمة أصدرها المفكر الكبير على أفراد عائلته، فكانت النتيجة معارضة عائلته الشديدة لإعادة طبع الكتاب بعد نفاده وبعد وفاة صاحبه.
ويذكر شعير في "كتابات نوبة الحراسة" أن الثقافة العربية لا تزال، ربما، "أسيرة النظرة التقليدية لمفهوم الكتابة بأشكالها المحدود (رواية، قصة، قصيدة)، بينما لا تعطي مساحة للأعمال الأخرى مثل الرسائل التي تعتبرها هامشية". هناك مرات قليلة في الأدب المصري حاول فيها الكتّاب تجاوز الثالوث المحرم، الدين والجنس والسياسة، أما النتيجة فكانت تعرضهم لعواصف من النقد والهجوم؛ ويضيف أن مؤسسة الأزهر لم تغفر حتى اليوم لطه حسين نقده اللاذع لشيوخ الأزهر في سيرته الجميلة "الأيام"، كما لم يغفر كثيرون لنجيب محفوظ "اعترافاته" لرجاء النقاش عن حياة الصعلكة التي عاشها في شبابه. هذه الأسباب تجعل "أدب الرسائل" أمراً نادراً في الثقافة العربية، رغم وجود استثناءات قليلة، مثل رسائل جبران لمي زيادة، ومراسلات محمود درويش مع سميح القاسم ومحمد برادة مع محمد شكري. وكل هذا يجعل القارئ العربي يقبل على قراءة رسائل عبد الحكيم قاسم بشغف كبير، ومتعة حقيقية.


مروان القادم من يلد-عدنان المبارك

 
مروان القادم من يلد



- كل انسان مثل القمر. له جانبه الثاني الذي لايريه لأيّ أحد. مارك توين


عدنان المبارك
أمر غريب. نحن اثنان في قارب كبير يشق ، برتابة، مياه شط العرب. واحدنا لا يعرف الآخر. كان أبيض البشرة وأشولا. أكيد أنه ليس من هنا. سألته فيما اذا كان يتكلم العربية أواحدى لهجاتها. ضحك بخفوت وهز رأسه بالإيجاب. في الأخير فتح فمه :
- أنا من يلد.جئت للتجارة.
كانت لهجته مضحكة : عربية من الموصل وكردية.، و لربما من قومية أخرى أيضا.
لم أقل شيئا رغم أن سؤالا دار في رأسي : ماهذه التجارة التي تريد ممارستها هنا بعد أن قضت الحرب الأخيرة على كل شيء يصلح للتجارة. ساد الصمت عدا ضجيج الماكنة والمويجات المسموعة بالكاد. أنا لا أعرف الكثير عن يلده هذه . لذا وجدت أن سؤالي عنها طبيعي. أجاب : - لا أعرف من أين أبدأ. بلدة صغيرة فيها عرب وأكراد ويزيديه وتركمان و آشور حتى أني لا أعرف من أنا. الكل شطّار وعمليون أيضا ، هل تعرف بأنهم وجدوا مسّرات مشتركة وحتى أن أحدهم وعلى الأكثر كردي خلق لغة جديدة مشتركة. عمدة البلدة سخر في البداية من الفكرة الا انها تراجع وأعتبرها تجربة ثمينة تعود بكثير من المنافع و( أوه ، لتكن خاصة بنا ، لكن لامانع اذا قلّدونا...).
لباسه لا يختلف عن اللباس الشائع : سروال وسترة وكوفيه على الرأس. عيناه خضراوان حرمتا من البريق ، كما حدست ، بفعل الاثنين : الحاضر والماضي القريب. ربما كان جنديا في حربنا الأخيرة. قدّرت عمره بأربعين سنة. كل شيء فيه يدل على الهدوء والخلق القويم. وهذا يشجعني على عقد محادثة طيبة معه. اذن سألته من جديد فيما اذا كان متزوجا وعنده أطفال : - أربعة أطفال. اثنان يواصلان الدراسة في جامعة الموصل. و الباقيان صغيران لم يذهبا الى المدرسة بعد. كلهم قرة عيني وعين الأم. أقول لك يا أخي لا أحد ينسينا هموم الدنيا مثل الأطفال. لدي حقل وأعمل في البناء وتصليح الأنابيب أيضا. الحمد له ، فالعمل يسد احتياجاتنا. وأنت يا أخي ؟
عليّ ب( صقل ) الجواب والا هل سيفهمني اذا قلت بأني كاتب متقاعد انتهى به الأمر الى فقدان الثقة بكثير من البشر والأحوال. وجدت أنه من باب الايضاح لابد من أن أتكلم عن مآسينا الأخيرة بشكل خاص لكني تراجعت وأكتفيت بكلمتين ( كاتب متقاعد ). وكي لا يأتيني سؤال آخر اضفت بأني أرمل ولي ابنان أحدهما محامي والثاني طبيب . شعرت بأن نظراته اليّ قد تغيّرت. ندمت على أني لم أكذب كثيرا كأن أقول بأني أرمل وكفى ، أما كلمة ( كاتب ) فهي فضفاضة. وقد تعني موظفا في احدى دوائر الدولة. الرجل لا يدخن ، فقد رفض شاكرا السيجارة التي قدمتها له ثم قال :
- كنت مدخنا نهما في اثناء الحرب لكني قررت الكف عن هذه العادة الرذيلة خاصة حين أخبرني الطبيب أن رئتي ضعيفتان.
توقف عن الكلام وراح كل واحد منا ينظر الى بساتين النخيل الذي صار هزيلا نصف ميت منذ الحرب. لا أعرف من أين جاءتني الرغبة في مواصلة الكلام .
قلت :
- انظر ! هذا البستان الذي عبرناه قبل قليل. في بيته ولدت أمي .
لابد من أن أوضح كيف التقينا نحن الاثنين في هذا القارب. كانت مصادفة بحتة. هو يريد الذهاب الى المشاوير المشهورة بصنع السبح والبسط ، أما أنا فأردت التمتع بسفرة نهرية في منطقة منحدرنا التي صارت الآن أخرى : كئيبة ، مسحوقة ، تنظر الى كل شيء بعداء وريبة. الرجل اسمه مروان. قاربنا بخاري وسائقه لا يلتفت الينا. ضجيج الماكنة ليس بالعالي لكنه أعلى بالطبع ، من ضجيج المويجات. لا أعرف ماهذه الماكنة ذات الضجيج الناعم. كل البساتين التي مررنا بها ليست تلك التي عرفتها صغيرا. ( يمّه هاي الحرب ما بقّت شيء ). كلمات الأم والجدّة التي كانت تتكرر كل يوم تقريبا. مررنا بنهر صغير كان على ضفتيه يلطم رجال يضربون بالأسواط المعدنية ظهورهم التي غطتها الدماء. منظر غريب في منطقة هذا النهر. مروان وكما يبدو أتعبه الحديث معي. صار يفضل الصمت ومراقبة الضفة العراقية بعين يقظة. التفت السائق الينا وقال مشيرا بيده المعروقة الى البساتين القريبة ( هايه المشاوير ). تأهب مروان الى القفز من القارب. لا أعرف كيف مرقت برأسي فكرة زيارة هذه القرية. أخبرت السائق برغبتي. أوضح لي أن العودة ليست بالسهلة وعليّ أن أخرج الى الشارع العام وأنتظر من ينقلني الى احدى الجهتين : الى قريتنا الكبيرة أو الى المدينة. قلت له : طيّب ، سأجازف.
أعترف بأن حالتي النفسية منذ مساء الأمس حرجة. فقد رحل اثنان من المقربين اليّ. الأول كاتب كلبيّ من الطراز اليوناني وكنت قد صادقته منذ عهد الملوكية ، وآخر من روسيا ، قرأت له بالمصادفة قصصا ورواية تنتمي كلها الى ذلك الصنف الذي أعتبر نفسي ، ومن دون أيّ أعلان وتبجح ، منتميا اليه. المشاوير ، المشاوير . مكان له تأريخ معيّن لكني لا أتذكره. عدت الى مروان. أسأله :
- سيّد مروان ! أظن أن الشاعر مسعود محمد من أبناء بلدتكم. هل لايزال موجودا أم أختفى مع العهد السابق ؟ { سكت قليلا ثم قال بصوته الخافت :
- اختفى ومعه رشاشته التي لم تكن تفارقه ليل نهار. أخي نعمان ! نزل علينا وليس منذ اليوم غضب سبحانه وتعالى. يروح واحد ويجي الثاني. ولا أعرف من هو أسوأ الجميع .هذا كلام طويل. أندم أحيانا على أني تركت التدخين ...
أراد أن يتكلم عن أشياء أخرى. ربما سيطرح بعض همومه في أثناء ذهابنا الى المشاوير. كانت الساعة قد اقتربت من الثالثة ، والطقس خريفي غير مؤذ كما يقال. سوق صغيرة فيها دكاكين لايتجاوز عددها العشرة. كان مروان قلقا بعض الشيء. سألني اذا كنت سأقف في الشارع العام بانتظار سيارة تقلني الى البصرة. اجبته بأني سأشرب الشاي أولا في هذه المقهى. رفض دعوتي وودعني بالقول : موفق أخي ، مع السلامة. كان الشاي طازجا والرواد قليلون. جلست على تخت بالقرب من رجلين انحنى أحدهما عليّ وسألني فيما اذا كان مروان من معارفي. أجبته بالنفي. سعل قبل أن يقول : - أنا أتذكره وأكيد أنه لا يتذكرني. الفضل لذاكرتي القوية التي هي مضرب الأمثال في المشاوير.
أخبرني الرجل بأنه كان جنديا لكن من فصيل آخر غير فصيل مروان. ساروا من الفاو الى بيوتهم في المشاوير وغيرها. قال أيضا : - أنتبهت الى أن مروان اختفى في ذاك البستان ( أشار بيده الى بستان ليس بالبعيد ) ، وها هو اليوم يتوجه الى هناك أيضا. مسألة كلها ألغاز، فماذا يفعل انسان غريب في بستان لمرتين في حياته. تذكرت بأنه كان يحمل كيسا ليس بالصغير حمله طوال الطريق بين الفاو والشاورية وتوجه معه الى البستان. كان القصف مستمرا وخشي الجميع أن يصل الموت الى قريتنا أيضا لكن رغم ذلك توجه مروان الى البستان الذي لايبعد كثيراعن الحدود النهرية. ربما أراد قضاء حاجته ، حينها واليوم أيضا ؟ بعد حوالي الساعة عاد مروان الى السوق وهو يحمل كيسا ليس بالصغير. وكان ذلك الرجل ذو الذاكرة القوية قد ترك المقهى على عجل. أشرت اليه بأن يجلس معي . قبل الدعوة. رغم اعتدال درجة الحرارة كان العرق ينضح من جبينه. قد يكون الكيس ثقيلا. أخبرته بحديثي مع ذي الذاكرة القوية. قال بما معناه انه لا يتذكر أي شيء عن ذهابه الى البستان في المرة الأولى. سألته فيما اذا اشترى سبحا وبسطا أجاب مشيرا الى الكيس :
- هذه هي . بالقرب من المقهى كان ، بالفعل ، دكان لبيع السبح والأبسطة لكن مروان لم يكن هناك.


أستر بارك – تموز / يوليو 2015

الخميس، 23 يوليو 2015

مجسمات-عادل كامل













في النحت العراقي الحديث منعم فرات .. أسئلة النحات ومشفراته-عادل كامل




في النحت العراقي الحديث
منعم فرات .. أسئلة النحات ومشفراته


عادل كامل

إشارة

هل للبدائية ـ في عصر الموجة الثالثة ، (1) قدرة تسمح لحضورها ألا يكون شاذا ً، ورمزا ً للتخلف، أو الاستهجان: مكانة بجوار آخر نزعات ما بعد الحداثة، وما بعد الفن، التي بدورها راحت تفتقد تأثيرها الطليعي، كي تندمج مع تراكم منجزات الحداثة، وباقي التيارات غير الأوربية، كالتي لم تتخل عن أنساقها المشفرة باليات تقاوم ذوبانها، ومحوها...؟
بحرمان القارئ (2) من فعل التخيل، وهو فعل القراءة بوصفها تعنى ببناء النص بالدرجة الأولى، فان الإجابات ستنغلق، وكأننا نعمل داخل بنية مستقلة، أو منغلقة، وهو ما تؤديه المنظومات الأحادية، غير القابلة للنمو، بوصفها مقدسة أو أبدية.
والبدائية (3)ـ بهذا المفهوم ـ ليست مضادة للاستحداث، بوصفها تنتمي إلى عالم (السلع) ـ في السوق الحر أو ضمن حرية السوق تحديدا ً ـ بل لأنها لم تتخل عن أسئلة مازالت تخص حضور يقاوم الاندثار....، فهي تنحاز إلى عملية دمج معقدة بين الأسئلة والإجابات، إن لم تكن غير مضطرة للدخول في انساق التمويه. فالفنان البدائي يمتلك معرفة حدسية، فطرية، قبلية، حاملة لخبرة بعمر زمن الفن/ الإنسان، ولهذا فإنها ليست معرفة معزولة عن الإنسان إزاء تاريخه، وإزاء قدره....؛ تعبير يمتلك لغة غير مشذبة، مصنعة، ملفقة، ومغايرة تماما ً للفنون ـ كخطاب ـ تستحدثه السلطة، مثلما يؤدي الفن دور الساند، المرافق، وأحيانا ً الصانع لها. فالبدائي يتوخى الحفاظ على (عدالة) يأمل أن يكون لها وجود خارج السائد، وغير قمعية، وقائمة على الوهم، والخداع. لأن فعله النقدي ـ ضمنا ً ـ يتوحد بعذرية التعبير، وأحيانا ً بسماجته، صدقة المباشر، الوقح، وربما القبيح، لأنه لا يتوخى الأناقة، وتقنياتها، في عالم البضائع، والمنافسة. فهو فن يهدم المألوف، لأنه يكسر المرآة، ويعمل على تخريب الذوق السائد. فالبدائي طليق، وفوضاه مقبولة لأنها معادية لأي شكل من أشكال العادات الوثنية، بل، جذريا ً، يوحد لاشعوره بالتحرر والانعتاق لقول كل ما يستحق القراءة. قراءة تجعل الأسئلة بمصاف الضرورة، بدل التكرار، والكف عن مغامرة الحفر في الأعماق المجهولة، السحيقة. فهو نباش، يقودنا إلى عالمه المظلم، بل والى الظلمات نفسها، من اجل إنارة تجعل الفن أداه حياة، بمعزل عن العبادة، والمحرمات.
ومنعم فرات، ليس من اختراع (عادل كامل) ـ كما قال سالم الدباغ بعد نشر كتيب حول فنه ـ وليس من اختراع د. أكرم فاضل ـ مع إن له الفضل والثناء برعاية الفنان منعم وتشجيعه وتقديمه أيضا ً ـ بل هو من اختراع منعم فرات نفسه. (4) انه شبيه بأعظم شعراء العراق في القرن العشرين، الملا عبود الكرخي، الذي لم يمدح طاغية، ويعظم من يستحق المعاقبة، فكلاهما امتلك مشروع نقد الرداءة، فكلاهما امتلك مشروع نقد الرداءة، إن كانت مرئية، ا تجريدا ً على صعيد الأفكار.
وعمليا ً لولا انتباه عدد من نقاد أوربا لفنه، لكنا دفناه، ومحونا أثره، وهو في المهد. فالأرض التي ولد فيها، ومنذ ألف عام، لم تدع، ولم تسمح، للإبداع الحضاري أن يتقدم خطوة واحدة إلى الأمام...، إن لم تكافح حد الاستماتة في الوأد، والدفن.(5) مما سمح له أن يكتم في مصغراته الثمينة كل العويل الذي مكث مدفونا ً تحت الأرض، أو في المتاحف...؛ عويل يذهب صداه ابعد من آذان مجتمع يحتفي بشعار: من رحم الأم إلى مدافن الأرض! فمن سيصغي إلى أصوات تماثيل منعم فرات....؟ هل تصغي لها أجيال منشغلة بالاستنساخ، لغة تحاكي الحداثة، وتقلدها بعماء، وتكرر أنساقها، وأشكالها، في مجتمعات مازالت تستورد غذاءها اليومي، الضروري، من غير خجل، أو حياء، بل وتتباهى باستهلاك موارد أوجدتها المصادفة(النفط)، ما أن تنضب حتى تعود هذه المجتمعات إلى ما قبل الزراعة، وكأنها وجدت للغياب، والمحو.
منعم فرات، بفنه، لا ينتج نماذجه للاستهلاك ـ مع انه كان يبيع التمثال بعشرة دولارات! ـ بل يرتقي بها إلى مصاف محاكاة عمليات صناعة: الأسئلة ـ والخلق. فهو ـ كما ذكر الأستاذ شاكر حسن في مقال له: زنديق! ـ مع إن استأذنا شاكر حسن أدرك عبقريته، وجعل منها علامة. إلا أن منعم فرات، في فنه، يدحض الزندقة، والإيمان الزائف، وكل أيديولوجية للخداع، لأنه ضد الأقنعة، والرياء، مثلما عمل على هدم غياب العدل. ففي فنه تكمن البدائية التي نجدها في أعظم تجارب الحداثات، وما بعدها، منذ غويا، وهنري روسو، وجوجان، وماتس، وصولا ً إلى النزعات المضادة للفن. ولعل الاختلاف في فهم التقنية لا يدمر (الصدق) بل يسمح له أن يشكل لغة محصنة بفرادتها ـ وبشعريتها، وربما بمثاليتها؛ لأن الأخيرة لا يدحضها المفهوم المادي للتاريخ، كما ذكر ماركس عندما لم يلغ الميتافيزيقا عن السلعة، بل تتيح المثالية حرية عنيدة وحقيقية إزاء الاغتصاب، وفي مواجهة باسلة ضد أشكال العنف، والقمع، وسلب الحقوق. فهل ثمة نبل، بل وجمال، نجده في المستحدث، إن فرّغ من تتبع مناطقه النائية...؟ في الوقت نفسه نجد منعم فرات اشتغل كي يستعيد إنسانيته، ليجد في الفن ملاذه، حتى وهو يدرك ـ وبألم عميق ـ كم تمتد الظلمات به ابعد مما بدا له ضوءا ً...، لأن البدائية لا تراهن...، لأنها لا تقامر...، كي تخسر، ذلك لأنها تذهب ابعد من الربح، ومن تمويهات الحضارة، وقشورها.


1 ـ إشارة لكتاب توفلر [ الموجة الثالثة] بعد كتابه [صدمة المستقبل] حيث قسم الحضارة إلى ثلاث حقب: زراعية ـ وصناعية ـ وثالثة تتمثل فيها الموجة الثالثة، ويقصد بها ما بعد الرأسمالية، والماركسية، مع حفريات تسمح للماضي أن يمتد، أما معرقلا ً أم باعثا ً على الامتداد، والتطور.
2 ـ لم يعد كاتب النص إلا من الماضي، فالمعرفة التذوقية/ الجمالية/ والنقدية هي من صنع المتلقي، ليس في التحليل، أو التأويل، بل في النص ممتدا ً، وليس مدفونا ً، أو بحكم الغائب. فما ندوّنه ليس بوصفه تلقينات، أو مواعظ ، بل علامات لإنبات علامات، تغذي أو تدحض، تحذف أو تضيف، تكمل أو تهدم، وهي مهمة القارئ كفاعل، وصانع، وليس تكرارا ً وفق منهاج الوعظ، والتلقين.
3 ـ يرى الأستاذ عدنان المبارك:
ترتبط كلمة ( بدائي ) بأنشطة المجتمعات التي لم تنتم بعد إلى حضارة معينة من الحضارات السائدة سواء في الماضي أم الحاضر. وعامة صارت هذه الكلمة من نتاجات نزعة المركزية الأوربية ولكي يتوسع معناها ويشمل الكثير من الحضارات غير الأوربية. كذلك ينبغي طرح هذه المسألة على أصعدة عدة بينها السياسي والسوسيولوجي أي مستوى المعرفة في هذا المجتمع وذلك عن الفنون الأخرى. كذلك يتعلق الأمر بالعادات الألسنية ، أي استخدام كلمات تعود إلى حقب أخرى. وغالبما تعني كلمة بدائي في المنطقة الغربية وغيرها ، التخلف بشتى أبعاده مما يكون انعكاسا لحالة الاستعلاء التي تتميز بها الحضارة التقنية المعاصرة . [الفن البدائي في عصرنا] موقع القصة العراقية.
4 ـ بعد صدور كتابي حول منعم فرات، عن دائرة الفنون التشكيلية/2013 اتصل بي حفيده، وطلب مني أن أتدخل للحصول على حقوق جده، قائلا ً انه أهمل ولم يحصل على ما يناسب مكانته الإبداعية. فقلت مع نفسي: وهل حصلت على حقوقي...؟ لكن منعم فرات ذهب ابعد من الاستجداء، والمطالبة بما هو زائل، لقد نقش اسمه مع كبار المبدعين، في بلد ما أن يخرج من محنة، إلا ليدخل في اشد منها وعورة.
5 ـ اختراع يدخل في بناء الحضارة الإنسانية، فمخترع مثل (ادسون) وحده لديه أكثر من ألف اختراع، فيما لا نجد لدينا سوى توارث النكبات، جيل اثر آخر، وغير البكاء على الأطلال، واجتثاث العقول، وسحق الحريات، والدخول في أوهام النصر، والكرامة.


• ما قبل ـ وما بعد : التدوين


هل نفترض إن مجسمات منعم فرات ( 1900 ـ 1972) تنقلنا إلى زمن التحول من عصر الصيد إلى عصر تأسيس القرى البكر، وضمنا ً، عصر الزراعة.. والانتماء إلى المكان..أم .. على العكس من هذه القراءة المفترضة، تمتلك موقفها النقدي لعصر تلاشى فيه دور الفرد ـ الجماعة ـ داخل ممرات ودروب كافكوية يمكن أن تسمى بعصر نهاية الحداثة ـ وبدء ـ مشروعات ما بعد التاريخ، أو، تطبيقات العولمة بأشكالها التجريبية، وبثمارها التي مازالت لا تخفي جذور عصر الصيد ـ الزراعة ـ والاستيطان في أشكاله الجنينية ..أم .. ثالثا ً : إن هذه المجسمات ـ الاستغاثات في ذرى تأملاتها المكتومة ـ تبقى تحمل عمل أنظمة مقاومة للقطيعة..أم .. رابعا ً : ليست نظرية العبث، واللعب، واللهو، أو النشاط وقد اكتسب خاصية التخصص، لها مغزاها في قراءة دوافع الصياغات، لغة للاتصال، أو موقفا ً لا يكف يعلن عن ( سخطه) إزاء التحولات، وإشكاليات التكيف.. وأخيرا ً، في تجنب الإفصاح عن معنى ما للانغلاق .. ؟
هذه ليست أسئلة ..مع أن المتلقي، والكاتب نموذجا ً، لا يتجنب دكتاتورية الحكم، وإنما هي مساحة ـ فجوة ـ للانشغال بما تم تنفيذه، قهرا ً أو خلاصا ً أو اختيارا ً، حتى يبدو انه، هو، الذي يذكرنا ـ ككائنات خارج التقسيمات القسرية للتنازع ـ بان النحت ـ وكل فن جاوره ـ يحثنا على هذه الممارسة: إن جذور التدشينات البكر، ليست سارة، وإنها مازالت تشتغل، وربما تؤثر، في عمل أنظمة ما بعد كل حداثة ـ في عصر الاقتصاد الحر: العشوائي بنظام بالغ الأحكام ـ وتسمح للمتلقي العثور على حنين لخطابات تمتلك أكثر من فعل ورد فعل تجاه مصائر الحياة، والممتلكات الحضارية، معا ً.
لنتوقف عند:
[1] ما قبل ـ المغارة :
لنتساءل: ما الذي دفع ذلك الكائن إلى إنجاز دماه الطينية: المنحوتات الخالصة، وليست الفخارية .. المنتمية إلى عصر الصيد: الكائن المشرد، ولكن، بفعل الصيد، سيشكل آليات جمع (قواه) ومشروع رأسماله ـ وفكرة حفظ ذلك الجهد ـ في المكان ـ الكهف..؟ إن عصر الاقتصاد العشوائي، المحكوم بالكفاح اليومي الخاص بالضرورات، ربما، عند لحظات أو ساعات اللاعمل، ولدّ بذرة ( الحدث) التي تمثلت، ضمناً، بالقطيعة عن عناصر التكوين: ذلك الفراغ بين الجسد والفضاء الذي لا يمتلك إجابات، بل، دوافع الخوف، الذعر، وحتمية الدفاع ولدّت هذا المسار. فليس ثمة مودة بين الكائن وعالمه، بأي شكل ما من الأشكال، حيث، نفترض إن تلك الدمى، ـ والغريب أنها تكاد تكون من صنع أكثر الذهنيات حداثة ومعاصرة ـ كانت تمتلك ( سرـ جسر ) العلاقة بين الكائن ومكوناته. فهي مازالت، على صعيد الخامة، جزءا ً من الطبيعة، مثلما، هي، على صعيد التعبير، تخصها، مثلما، إلى حد ما، تخص الجماعة، والذات. فالمجسمات، في هذا الاحتمال، يمكن أن تشكل أقدم نواة لرأسمال ذلك الكائن البري: رمز قوته.. وضمناً، خطابه الملغز، والمشفر، وغير القابل للانغلاق.
ومنعم فرات، لو أعدناه إلى العصر الحجري القديم، ووضعت منحوتاته مع تلك الدمى، لمنحنا فرصة انه تمسك بموضوعات الجسد ـ الوجه. فهو سينفصل عن الغريزة باتجاه الحواس: العين والفم والأصابع والأنف والإذن.. حيث الفزع سيبقى يشتغل مع الجميع ـ ولكنه لن يغادر رصد التجمع / التكتل ـ وأهداف التعبير. فمنحوتاته تبقى تعمل ككتلة. فيما كانت منحوتات عصر الصيد، في الغالب، فردية: دمى بأثداء مترهلة وبطون كبيرة وأفخاذ مكتنزة. فهي تخص مخاوف حفظ النوع، وليس جمالياته، مع أنها ستشكل نموذجا ً لحداثات عصرنا. بيد أن منحوتات فرات تنتظم بوعي سيقطع صلته بالأنظمة العفوية.. فهو يركب، ويوزع، إضافة إلى القصد. فالنحات ينحت في عصر ما بعد الكتابة.. وليس في عصر الأصوات ـ الإشارات. لكنه سيبقى ( كتأويل) يحافظ على أصوات ذلك العصر: أصوات لا تتحول إلى صمت، بل، تمكث داخل كتله حد الاندماج. فالمنحوتات تتكلم بصمت أصواتها. ومغزى هذه (الإشارة) تنقلنا إلى: حداثات تجاور آثار عصور عشوائية جمع الغذاء، وتمركزه، في مغارات القرى البكر.

[2] المغارات:

ليست فترة زمانية قصيرة قضاها إنسان الصيد كي يتعلم فن الإنبات؛ فهي فترة تماثل فن تعلم السيطرة على النار(الطاقة). إنها فترة غذت ذاكرته بمعلومات أفضت به للانتقال من العشوائية الى بعض معالم التنظيم :اكتشاف مبدأ السببية. لقد خزن الكثير من أذى الليل والعواصف والفزع من الموت. فكان الاستيطان، لا ينفصل عن عصر الزراعة. ولن نسمح للكلمات بالذهاب خارج (شعرية) هذه الرحلة. فالإنسان لم يتشبث بالوجود طوعا ً، أو قهرا ً: لقد انشغل ـ بينهما ـ كي يكوّن أقدم عاداته: السكن. والسكن، ضمنا ً، محاولة لطرد شبح فترة الصيد ـ التشرد. أعمال منعم فرات، تحكي دوافعها: اكتشاف المكان، والتمهيد لمحاكاته وتطويره. فالنحت ، عندهن يحكي هذا الجانب: المكان ـ الرحم ـ وضمنا ً رؤية العالم الفسيح، واستذكار تصادماته وقسوته. فالموضوع غدا جمعّيا ً: إن كائناته تتكدس، تتداخل، وتتجمع في اطارالمغارة ـ الرحم. فالأخير، ذكرى لا واعية لمفهوم الإنبات ـ الخصب. فالفنان لا يمتلك أسئلة، بل عمل بنظام أملاه عليه لاوعيه السحيق. فهو (سوريالي) قبل أن تنتظم باليات الحفر في اللاشعور. لكن سورياليته عملت ابعد من ذلك: إنها لامست أقدم وجود للخصب والموت: آليات الإنبات ومقاومة الفناء. فكانت جدران المغارات تسمح له باستعادة جدران الرحم؛ المكان الذي لا يطارد فيه الكائن أو يفترس أو يقتل ويرمى ـ كنفاية ـ فوق الزبل. وسيكرر النحات هذا المفهوم: الحماية. إن الكهف الذي غدا انتقالة من الرحم إلى القرية، سيغدو جدارا ً صلدا ً للذاكرة، وسيترك النحات آليات تحرره من الخوف تعمل بحدود موضوعات الالفة؛ الهرب من الفضاء، والبحث عن أسرار السكينة في مظاهرها الواقعية. فالنحات لا يتفلسف، بل سمح لذاكرته ان تتداخل بخامات الحجر، كي تظهر قدرتها على المقاومة. فهو جعل النحت ـ كالكهف ومثل القرية ـ المكان الجدير بالعناية.

[3] تضاد :

ثمة، في حداثات أوربا، القرن التاسع عشر، ارتدادات تجانست مع خطاب التحديث الذي زامن نشاطات علماء الانثرولوبوجية : عودة إلى الأصول (بل إلى المحركات) .. فنشأت فنون مغايرة لعصر ازدهار مآزق الرأسمالية، مضادة للصخب الصناعي، وتهديدات انقراض منجزات الأرض. بمعنى: فنون مضادة لحياة المدن الكبرى؛ وعودة إلى حضارات تم التعرف عليها توا ً: فنون العصور الحجرية ـ والبدائية. وفنون عصور فجر التدوين.. إلى جانب دراسة أجناس مازالت تكرر أنماط الحياة الأولى؛ حياة الإنسان في تدشيناته المبكرة للمعرفة. فهل أنجز منعم فرات ( في ذروة إنجازات جيل الرواد التحديثية عند جواد سليم وفائق حسن وخالد الرحال ) كرد فعل لتجارب لم تخف تأثرها بأنظمة فنية أوربية ـ وغربية..؟
لا تشير المعلومات الوثائقية أن الفنان فرات كان يحفل بتجارب الرواد، أو يعيرها أدنى أهمية. بيد أن سؤالا ً آخر نتوقف عنده: لماذا اختار منعم فرات فن النحت.. ومن ثم أن يكرس حياته كلها له..؟ إن فرات واكب، في الحياة، تحولات البلاد، بعد الحرب العالمية الأولى، فتعلم القراءة والكتابة خارج المدارس الرسمية، وعمل في مهن مختلفة بصفته عاملا ً.. وليس ثمة إجابة .. ولكنه مارس فن النحت مبكرا ً إلى جانب الكتابة. فتذكر ابنته انه ألف أكثر من ثلاثين كتابا ً .. حمل احدها عنوان ( العاجزون في الأرض).. كما كان مطاردا ً من السلطات لأنه نحت شخصيات وطنية ومنهم السيد عبد المحسن السعدون ـ رئيس الوزراء المنتحر احتجاجا ً على سياسة الإنكليز الظالمة ـ .. وفي مرة أخرى أحيل إلى المحكمة بتهمة (النحت) لكن القاضي أطلق سراحه.. الخ
هذا المسار يوضح أن فرات ـ الذي اختار لقبه الفني احتراما لحضارة العراق بدل لقب العائلة ومنتقدا ً الطائفية ! ـ كان يمتلك ذهنية كتابية إلى جانب حاسة سمع بالغة الرهافة .. فلم يكن (فطرياً) أو عمل لمحض الكسب. لأنه طالما تألم ـ بحسب كلماته ـ بسبب الظلم والقسوة حتى انه كان يسال الخالق لماذا تذبح الحيوانات الأليفة وتترك الحيوانات الشرسة..؟ فلا يقارن بهنري روسو مثلا ً.. ولكنه ينبهنا ـ في رؤيته وفي فنه ـ انه كان يمتلك وعيا ً بما يعمل. فالنحت ـ ثقافيا ً أو معرفيا ً ـ يغاير الساق الشفوي، إلى جانب الكتابة التي مارسها، لكنه، كنحات، كان يشتغل بالحدس ـ ويتعلم بالخبرة ـ إن فنه محمّلا ً برؤية نقدية حد (الاحتجاج) . فلقد اختار النحت ـ كأسلوب ـ يماثل اختيار الكتابة.. موظفا ً المعنى بأسلوب يرجعنا إلى الأصول العراقية القديمة للنحت والتي تم الكشف عنها حديثا ً. فمنعم فرات كان قد استقى الساق، بالدرجة الأولى، من (حداثات) الخطابات القديمة، كما فعل رواد أوربا في إغفال تاريخ خمسة قرون من التقاليد الرسمية, بيد انه لم يستند إلى مبدأ المحاكاة، والاستنساخ، أو الإضافة. بل، على العكس، كان يستلهم المضامين والأشكال ويعيد دمجها بصياغة لا تسمح لآليات الحرفة والثقافة من تدمير تلك الأسرار الكامنة في التعبير. انه عمل أن يكون هو ذاته قبل أن يكون إضافة لتراثه القديم، مع انه خرج منه، بتحرير عمله من الصناعة ومن التكرار. فأي سياق هذا الذي منحه تجاوزا ً للحرفة ـ والمعرفة ـ تحت مفهوم ( البدائية ـ الفطرية ) كي يغدو علامة خاصة في الحداثة الوطنية ـ المعاصرة..؟
بدءا ً، لا تنفصل نماذجه النحتية عن الإيحاء بانتمائها إلى عصور البرية ـ الصيد .. ولا عن عصور تكوّن القرية ـ الزراعة والتدجين وعقد علاقة مع النار ـ إلى جانب : عصر النحت بوظائفه الموازية للتجمعات المدينية البدائية ـ المبكرة. إن موضوعاته المختلفة، بطابعها الحيوي، لا تكرر ثيمة واحدة. فقد نحت الوجوه والطيور ومختلف الحيوانات، إلى الكائنات الخرافية، والموضوعات ذات الطابع العائلي، الاجتماعين والإنساني...الخ توضح مدى تفهمه للمنجز النحتي العراقي القديم.. وصولا ً إلى إطلاعه على الفخاريات الشعبية. ففنه لا يقارن، بالفنون الفطرية، بل سيبقى مقيدا ً بإرث النحت العراقي وعلاماته ورموزه وأشكاله وتشفيراته أيضا ً. وسيشكل هذا البعد، في مجسماته، لغة مزدوجة ـ وتركيبية: اختيار الأشكال بصفتها علامات توصيل.. إلى جانب بحثه في المعاني الأبعد : تحرير المنطق المباشر والدخول في إشكاليات تكوّن الأسئلة. فالفنان، العنيد كهنري روسو، لا يمتلك إلا كلمات (أيوب) السومري أمام الإله، بعد أن نزلت به النازلات: المشكلة، أيها الإله، ليست مشكلتي! وسيجد النحات، في النحت، لغة أن تبقى اقل تعرضا ًللاندثار؛ لغة دلالة ابعد من سياقها البدائي، وأعمق من استعراض تاريخ الشراسة، والافتراس.

[4] ما ـ بعد ـ التدوين:

في هذا السياق، تخضع تجارب فرات، وما ماثلها، تحت تسمية: الفنون البدائية. بيد أن إعادة دراسة النصوص النحتية، بمسوياتها التنفيذية، ومضامينها، ومشفراتها، ستنقلنا إلى تيار يجد في الذين لم يدرسوا الفنون أصالة تغيّبها الدراسة، والاحتراف، والمعرفة. إن (نيتشه) وحده عارض هذا الافتراض، بحجة أن الفن سيبقى كالسر الكامن في السر، يحمل شرارة الانبثاق. وفرات، عمليا ً، لا علاقة له بالخبرة، والمعرفة، إلا في حدود من علمّ نفسه بنفسه، لفترة تمتد إلى أكثر من نصف قرن. بيد انه تعّلم، أن لا يقع ضحية الانغلاق: ضحية صياغة ما لا يتلآم مع شخصيته.. فقد جعل فنه، حداثوياً، وان لا يتخلى من الذهاب بعيدا ًفي المعالجة: إن فنه الضاج بالعويل، يتخلى عن الإفصاح. فالمعنى لا يتحدد بالعنوان أو بالموضوع أو بالأشكال. فالنحت، وفي أية حقبة من الحقب، ذاته، شكّل لغة بين الكائن والآخر، وبينه وبين ذاته العليا أو الخفية. انه علامة اتصال تتجاوز الآخر، وتتجاوز الذات في حوارها الداخلي. فثمة ( ميتافيزيقا ) لا تغادر مفهوم انبثاقها بعواملها كافة، ومنها، تلك التي تبقى تنتج وجودها ميتافيزيقيا ً. لكن مصطلح (نحت) عنده، ليس نصبا ً تذكاريا ً، أو منجزا ً للاستذكار ـ كما ذكر هيدغر بصدد فن النحت ـ وليس علامة مدينية، أو رمزا ً للنصر ..الخ انه، كما نشأ، قبل عصر الزراعة ـ ومعها ـ مكث يحمل قطيعته ـ مع ـ عناصره البكر. فهو خامة انصهرت بمكوناتها مجموعة عوامل في مقدمتها تلك التي مكثت لا تقبل المحو. إن منعم فرات، بوعي ما بعد ـ تدويني، يتمسك بسلوك (مثالي) تجاه قضايا الظلم والعدالة. فالنحت، هنا، بحث إشكالي قبل أن يصبح (علامة) اتصال: فالأشكال تسمح لمضامينها بمغادرة حدودها. إنها ـ واستذكارا ً للمعري؛ فيلسوف الموت ـ تحاول مغادرة الجسد. فثمة ما يماثل (الطيف) أو حبيبات الزمن ، أو لا متناهيات الذرة ـ يمكث عاملا ً: يغادر، كقراءة تستند إلى باثات الخامة، وما مكث فيها من كيان النحات، كانسان عمل برهافة جعلته يدوّن، نحتا ً، خفقان أسرار خلاياه كافة.


• مقارنة: البدائية


البدائية، يذكر كيركغور، ليست موهبة أصيلة، بل يجب أن تكتسب. ومع أن تحديد المصطلح، يتضمن تعقيدات متعددة، بل مبهمة، مثلما لدى المتلقي، فان تعريفا ً أخيرا ً يبقى عنيدا ً. لكن الإشكالية ليست تاريخية، كالإشارة إلى كائن بدائي، في عشيرة تعود إلى ما قبل العصر ألتدويني، أو إلى عصر مازال القوم يعيشون فيه بعيدا ً عن الحضارة، وتقنياتها. فالبدائيون متوحشون وشرسون، وهم، في الغالب، يؤسسون طقوس الصيد، وشعائر الافتراس، لا للطرائد، بل للنوع البشري نفسه. هل هؤلاء القوم (بدائيون) أم (متوحشون) .. كي نغادر هذا التصّور، ونتعرف على مفهوم: أصالة..أو تدشينات مبكرة للإبداع..؟ نلاحظ أن الرؤية (البدائية) لا يمكن سحبها على الأقوام البدائية، مع أنها ـ تلك الأقوام ـ أنتجت معظم النماذج الفنية، كتماثيل الآلهة الأم ـ عشتار؟
إن نماذج منعم فرات، لا يمكن أن توضع إلا في زمنها. وهي فترة تحولات اختتمت برحيله بحادث دهس، وكان الثالث. ولكن ما المقصود بـ (تحولات) ؟ هل لأنه عاش نهاية العهد العثماني.. ومن ثم .. الحرب العالمية الأولى .. والاحتلال البريطاني.. الذي ولدّ لديه رؤية عميقة للظلم..أم لأنه مكث يجد في الفن قدرة ما لتوازنه الشخصي، وقدرة تجعل من منحوتاته علامات مشاكسة؛ غاضبة، أو : نقدية..أم أن (التحولات) ـ وهي سمة جدلية لا تختلف إلا في الدرجة ـ منحته فرصة اختيار وبناء تجاربه بانسجام مع رؤيته لقوانين الوجود، وانعكاسها على مصائر البشر، والكائنات الحية الأخرى..؟
إن الصمت المتراكم، داخل نصوصه النحتية، وحده يمتلك قدرة النطق. انه صمت يخفي عويله. ويمكن لكل قراءة، إن لم تلتفت لهذه الإشارة، الذهاب إلى تأويل آخر: كالاعتراف بمناورة عدم البوح. مع أن منعم فرات، كما اعلم، هو الفنان الوحيد الذي أحيل إلى المحكمة بتهمة ممارسة النحت.. فضلا ً عن الدلالات السياسية المتكررة والمقترنة بإعماله الفنية. فأية(بدائية) أو(وحشية) بإمكانها أن تكون بديلا ً عن بدائية ـ توخّت عنده ـ : الذهاب عميقا ً في عصور سحيقة، ضمن نصوص الحاضر..؟ أم لأن منعم فرات، في الأسلوب، لم يختر نموذجا ً من التجارب الشائعة أو التقليدية.. ومكث يعمل بحرية استثنائية خارج هذه التقاليد.. اختار فرات، في النهاية، تقنيات يصعب حتى تقليدها.. فقد كان استنساخ أعمال الرواد، أمرا ً لا يثير الشبهات، ويمر. ولكن إذا ما تم محاكاة أعماله،بنسبة متقدمة، فعلى الآخر أن يمتلك شخصيته بالكامل. وهنا تصدمنا الصعوبة. فأعماله سهلة الاستنساخ، بحسب المنهج والأسلوب والموضوعات، ولكنها ستبقى من صنع أخر، وليست أصيلة.
إن بدائيته، في هذا السياق، تمتلك وعيا ً مرهفا ً ليس باختيار الموضوعات فحسب، وإنما في تنفيذها. فليست ثمة مهارة أكاديمية أو حديثة تقارن بأعمال أساتذة النحت، ولكن ثمة مهارة، كالتي عند هنرى روسو أو ....ـ : إن لم يذهب فرات أعمق في استنطاق الخامة، وليس أشكالها حسب: مهارة مثيرة للجدل. فأعماله النحتية لم تنجز للتزيين. والفنان لم يفكر في ذلك مع انه كان قد احترف النحت، ولم يصغها كنصب أو علامات لأحداث سياسية.. فلم يفكر بجماليات تتوازن مع هذه الأهداف. بل على العكس، ترك يده تعمل بفكر غير مقيد. فهو، غالبا ً، عالج كائناته بخيال لم يضع فاصلا ًبين الواقعي والخرافي..أو بين الأجناس. فانشغاله بالتعبير سمح للموضوعات أن تأخذ مداها في تحرير الوعي، والذهاب حيث الأزمنة تتداخل، وتندمج، كي تبلغ حقيقتها في (المجسم): النحت.
فالبدائية، هنا، ليست رؤية تبسيطية أو ساذجة، أو فطرية، أو غريزية، أو تلقائية، أو عفوية ...الخ وإنما هي، مع أنها لم تتخل عن هذا الجسر، مع الإشكاليات المعالجة، رؤية تركيبية تجعل الموضوعات المعالجة تحت الأضواء: مجسمة ومرئية بما تمتلكه من استحالات في الإجابة. فثمة شك يتجاوز الدهشة أو الفزع أو الخوف نحو (القلق) بمعناه الانطلوجي. ولكنه (القلق) الذي يتميز بيقين لم يفكك بعد، والا، لكان المنجز قد بلغ درجة الصفر أو انعدام المغامرة أصلا ً. فالنحات يتمسك بالعمل الإجرائي، في حدود موضوعات التنازع، والتآكل، كشكل من أشكال الأنظمة البيولوجية ـ السائدة. وستمثل تجارب النحات الحياتية مظهرا ً متصلا ً بتجاربه الفنية، كتذمره العنيد ضد الظلم، الذي استحال إلى موضوعات تذهب حيث الموضوعات المعالجة، لا تتحول إلى محض(إعلان) أو(موعظة) أو تتبنى وجهة نظر منغلقة وأخيرة. إن هذا الاختيار غير المقيد، لن يصبح مطلقا ً، بل مقيدا ً بموضوعات الحياة ذاتها: بخرافات دمجت أشكالها في دوامة التنازع والتناحر حد الفناء. إن هذا البعد (الموضوعي) لا الذاتي، في تفسير مشهد الكائنات عبر الحقب والأزمنة، لم يلغ فردية، وتشخيصية النحات، بل عززها بالتنفيذ: خمسون سنة من الاحتراف، ولكن الاحتراف الذي ضمن له ان يكون فنه مضادا ً للسلطة، مع ان الأخيرة، بحد ذاتها تمتلك مزايا ملغزات الصانع. بمعنى انه ثابر في الحفاظ على دوافعه في المعالجة ـ وفي اختيار الموضوعات، ولم يكن فنه، في هذا السياق، تعبيرا ً جمعيا ً، وإنما كانت ذاته قد تبلورت بسماتها الواعية ـ وهي تتقصى تدشيناتها في الأزمنة السحيقة. فالذات تمثلت بوعي ـ يمكن مقارنته برواد الحداثات وهم يتقمصون أشكال الماضي أو موضوعاته، أو وهم ـ كمنعم فرات ـ يتقاطعون مع مفاهيم حضارية قائمة على التراكم، أو على التدمير. لأن ذاته، حتى النهاية، لم تقنط من الذهاب عميقا ً في تفحص المحركات ـ وأشكالها: ذلك الكائن الهارب، والمذعور، أو الباحث عن سكينة داخل جدران المغارات، أو المهدد بالرحيل الجمعي، وصولا ً إلى فوبيا مثيرة لأسئلة ـ آنية. إن نماذج النحات لا تسحبنا إلى موضوعات اندرست أو عفي عليها الزمن، وإنما تبقى تستمد (لغتها) من أساليب حملت سمات خاصة، وفي الوقت نفسهن تواجه عالمها برؤية تاريخية غير تكرارية. فهو لا ينتمي إلى قبيلة ما قبل كتابية، أو مغلقة، أو خارج التاريخ، بل ينتمي لعصر الثورات الكبرى كغزو الفضاء وتعقيدات الحرب الباردة. فوعي النحات لم يكن قائما ً على(الدهشة) والأسئلة وغياب منطق تحليل جدلية الأسباب.. بل كان، كما في الوثائق التي تركها والمتوفرة، متقدما ص قي رؤيته النقدية للظلم البشري. فقد كان لا يؤجل الرد في قضايا تخص المعتقد بل وحتى الثوابت كالأسباب التي سمحت باصطياد الحيوانات الأليفة وترك المتوحشة او القوية.. واختياره للنحت بما يتمتع به من قوة في التعبير على خلاف الرسم.. ونقده للظلم الاجتماعي وطبائع البشر. إلا ان الأستاذ شاكر حسن، بعد ان ترف عليه وأجرى مقابلة معه ، يراه منغلقا ً. يقول : ـ " وهكذا يبدو منعم فرات.. كائنا ً متناقضا .. فهو يحاول ان يخفي نواياه ولكن بصورة مفضوحة.. انه لكي يكمّل شروط العمل الفني كإبداع يحاول أن يصل به إلى حد استحالته.. وهذه هي عين الصيغة الفطرية له كما يبدو." كي يضيف ـ " ويستأنف حبه لعزلته ضمن منهج كوني يوضحه في استخدامه لمفردات حياتية تجمع ما بين الإنسان والحيوان وربما النبات.." فالفنان لا يتناقض حتى عندما يدلي بشهادات متناقضة، أو هكذا تبدو للوهلة الأولى.. ذلك لأنه حرص بالحفاظ على عالمه الداخلي، وحصّنه، مكتفيا ً بجعل (النحت ـ الحجر) صندوقا ً اسود أو بيتا ً للأسرار، بدل الانشغال بما هو ضار أو غير نافع على حد تعبيره. هكذا يكتب الأستاذ شاكر حسن ـ " حينما تعرفت بمنعم فرات لأول مرة لم أكن لأتوسم فيه أية عبقرية. كان يبدو إنسانا ً اعتياديا ً كمزارع، أو عامل وليس كمثقف" إنها شهادة بالغة الوفاء لنحات كان قد حدس ـ بخبرة يومية دقيقة ـ مغزى التراكم ـ والتزامن ـ لقضايا إشكالية في جوهرها.. وإن مهمته، كفنان، تبقى في حدود مهمته الإنسانية، وليس الوعظية، مع انه، في مناسبات مختلفة، لم يكن سلبيا ً في اختيار وسائل الدفاع عن الظلم الذي كان يتعرض إليه. بيد أننا لا ندرسه بصفته كاتبا ً، وإنما لا يمكن إغفال كلماته المختزلة و(العامية) والمشفرة في دراسة عالمه الفني. فالنحت غدا خطابا ً لا يتاح للفنان الفطري التقليدي ـ الذي لا يتمتع بسيرة تعليمية أو معرفية ـ إلا ان يحيلها إلى إشكاليات احتواها وتمثلها وجسدها فن النحت. إنني لا أقول انه كان يزيح القشرة، كما قال مايكل انجيلو، كي يحرر نماذجه القابعة داخل الكتلة، بل كان يحرر ذاته، بالدرجة الأولى: فقد كان النحت يمتلك استحالة إبعاده من الخطاب البشري، مثلما كان يجد فيه توازنا ً نفسيا ً وحرفة حافظ فيها ان يبقى كائنا ً يقاوم الهزيمة. فبدل ان يبقى مزارعا ً أو عامل بناء، فلسف خاماته وتصوراته بضرب من الرهافة، بدل التواري. وراح يكّون سكنه و(سكينته) في أقدم معمار: الكهف كذاكرة اخفت مصيرها ـ وتركته ـ يمتد إلى كل حاضر يتجدد بعمل نبضات مكوناته البكر: انه فن صياغة علامات تتجاوز عصور الصيد ، والزراعة، ومدن الحداثات الشفافة ـ وعولمة الابادة ـ كعلامة مركبة ـ بتزامن إشكالياتها ـ خارج منطق البدائي أو الساذج، أو الفطري، أو اللاتاريخي..الخ تمتلك، بلغة قرن من الحداثات الأوربية ( منذ هنري روسو وغوغان وماتيس وبيكاسو ..) ولكن، بلغة قرون من مهارات الشعوب كافة، إدارة القفل، لا للدخول، بل لاستحالة الاعتراف بالهزيمة. إن منعم فرات، في هذا الدرس، يسمح بإثارة نقد يوسع قراءاتنا التأويلية للأثر، خاصة، بما يتضمنه من إشكاليات لا تسمح للبدائي، حتى في منتصف القرن العشرين، ان يقترحها كي تمتلك هذا العناد في الاقتراب من ملغزاتها: عمليات الزوال التي كفت ان تكون خارج ذاكرتنا ـ الحضارية، أو الجمالية!

• ما بعد ـ وما قبل

إن مفهوم (التزامن ـ التراكم) ـ والتزامن : الحدث الذي يجمع أحداثا ً تحدث بعيدا ً عن العشوائية( المصادفة).. والتزامن الذي يفضي إلى نهايات متجاورة ... الخ تدفع بالذات لإخفاء تعرضها المتواصل للهتك، ومحاولة عنيدة للعثور على توازن يتخطى السلوك المعتدل. إن ظهور تجارب منعم فرات( مع عدد آخر من المولعين بهذا المنحى في التعبير في النحت العراقي) لا يمثل قفا النحت الحديث، أو معادله، أو الوجه المقلوب له، بل ضميره. فإذا كانت هناك تجارب: جواد سليم /خالد الرحال/ محمد غني حكمت/ إسماعيل فتاح/محمد الحسني/ عيدان الشيخلي/ طالب مكي/ صالح القره غولي/مقبل جرجيس/ اتحاد كريم/ سهيل الهنداوي/ عبد الجبار البناء/ ناطق الالوسي/ عبد الجبار ألنعيمي/ صادق ربيه/ عبد الرحيم الوكيل/ عبد الرحمن الكيلاني ..الخ فان منعم فرات لم يغامر ، في اختيار أسلوب يرتد إلى عصور سحيقة، ولا أن يحاكي أو يتمم ، أو أن يتباهى بحداثات أشكال، أو إقامة أنصاب تذكارية، أو واقعية..الخ بل اختط لنفسه منحى تداخلت فيه (النصوص) كي يصهرها، ضمن كتله الحجرية، وقد كفت أن تكون إلا ذاتها: هذا الذي تتواصل داخله رؤية الذي يقبع في الداخل. وكان من الصعب أن يتحدث الفنان بأسلوب خال ٍ من التشفير. قال لشاكر حسن، ردا ً على سؤال يخص رؤيته الفنية
: ـ " اهجس واحد يشاورني" !
وتحديدا ً، عند تفكيك عبارة بهذا الوضوح، ستحيلنا، كما في تجارب رواد الحداثات للتحليل، إلى ضرب من القهر النفسي. لكن هذا ليس بدافع التشخيص، وهدم الحداثة ت أو هدم البدائية الحداثوية معاً، كمرض، وإنما تساميا ً، وتطهرا ً، ضمن تحول الكائنات إلى شرعية السوق، والى ضرب من الحريات القسرية. إن منعم فرات، سيذكرنا بتجارب ليست نادرة، لفان كوخ أو جوجان، أو هنري روسو: انه لم يكن أصما ً، بل محاورا ً، وبالدرجة الأولى: مصغيا ً. فالأزمنة القابعة في منحوتاته لا تمثل لحظة تزامن مجموعة أزمنة فحسب، بل عويلها. وإذا كان قد قال لشاكر حسن " أنا الوحيد في الفن " إشارة اعتداد، فان مغزاها يمثل منطق( حداثوية البدائل) ؛ أي على العكس من : جعل الفن للاستهلاك أو الدعاية ، فقد كان، هنا، يجد من يرشده، يشاوره، ويهمس في أعماقه. فتلك، في التحليل غير التقليدي لآليات عمل الشعور، يوضح، مدى رهافة قدرته على الإصغاء: الأصوات النائية لكافة الحيوات التي عاشت وغادرت ولم تجد إلا أن تقاوم لا معناها. فالنحات مكث يكوّن مشروعه الشخصي تارة يدوّن، أي ينحت، وتارة أخرى: يصغي لكائناته وحيواناته المتداخلة الأجناس.. فهو لم يمتلك إلا أن يراقب ذاته، والآخر، في منجز تتجمع فيه مجموعة الأصوات، والتصورات، والاعتراضات. فهو لم ينتج أعماله الفنية للتسلية، أو للانتصار، ولم ينجزها من اجل هزيمة الآخر، وإنما سمح لنا بمشاهدة هذا العرض الدرامي، وقد كان من (المهارة) أن كرس حياته لتمثل هذا الذي كان متوازنا ً بين الأزمنة، والتصدعات، بعد أن دمج في مشروع (النحت) أزمنة لم تعد مرئية، وأخرى، تتلمس خصائصها برؤية لها : ـ " ناس تقفز على ناس. أنا لا أعمل شيئا ً مفردا ً بل عدة أشياء. هذا قافز على هذا. هذا قائل هذا. هذا صاعد على هذا"
إن دلالة هذه الكلمات، وقد تضمنت رؤية صريحة لمفهوم الإشكالية ـ الصراع، لا تحسم إلا في النحت حاضرا ً. فالنحات لا يقلد ولا يستنسخ، وإنما ترك مشروع الابتكار ـ أو حتى ـ التحديث ـ منسجما ً ورهافته إزاء استحالة العثور على غاية، إلا باستحالة قبول الوقائع الشائعة، وقد فحصها بمنطق شعبي غاضب، لا يخلو من الدحض، والسخرية، والتندر. فهو، على سبيل المثال، لم يجد سكنا ً يسكنه: شكلا ً أو إناء أو حدودا ً يختارها،كما سيفعل غالبية الباحثين عن (شقق) متشابهة، ومعدة سلفا ً ، بل سيشيد مأواه،شكلا ً ومضمونا ً باستخدام أدواته: أصابعه وعقله وحواسه الأخرى. فهو يمتد مع الإشكالية، ولا يرتد إلى عصور سابقة.. بل سمح للحاضر، عند المقارنة، أن يحمل الذي لم يندثر: الكلبية والشراسة واحتقار التهذيب. فعبقرية منعم فرات ليست بدائية، أو لا كتابية، أو عذراء. إنها، على العكس، سلسلة ألغام. فهو حدق طويلا ً في عصر تبلور تحديثات مستعارة، جاءت مع الاحتلال، والغزو، والهيمنة الخارجية. لأن أشكال التحديث، ومضامينها، كلاهما، لم يولدا بفعل التراكم، ولا بفعل الجهد المنطقي الطويل له، بل، بفعل النقل أو الاستنساخ. والنحات لم يعر هذا الأسلوب إلا إهمالا ً، بعد أن اختار، كما فعل أسلافه، في أكد، وقبلهم في سومر، شرعّية البناء. فالنص الفني، كالبيت، تصوير للداخل في حدود علاماته الخارجية. فإذا كان الطائر، كما قال باشلار ـ بلغة شعرية نادرة وعذبة وسحرية ـ يبني بيته بنبضات قلبه، مانحا ً العش، من الخارج، أسرار القلب! فان (بدائية) منعم فرات لا تنفصل عن مفهوم: الإنشاء، أو البناء. انه لخّص مأزق المشاهدة، ولم يبررها بثوابت عادات شائعة وراسخة. انه فعل ذلك حد جعل كيانه مشروعا ً فنيا ً.. وعند المقارنة، سنجد نحاتا ً عظيما ً كجواد سليم، لا يغادر هذا المسار. فقد ضحى الأخير، وهو يصارع المرض، بحياته من اجل حياة وجدت مأواها في الفن ـ النحت بالدرجة الأولى. ومثال فرات، في الإنبات، يسمح بإعادة اكتشافات ثرة: إن العصور القديمة، لم تغب. إنها قد تختفي، لكنها، تثب. فماذا وقد رآها حاضرة على أمامه : ـ " هذا قافز على هذا .. هذا قاتل هذا.. هذا صاعد على هذا.." كي لا يحجبها، بحجاب التحديث، والاستعارات، وإنما صاغها بتفرد شكل منعطف الابتكار: المغامرة ... والذهاب بعيدا ً في مشروع ـ وشرعية ـ التعبير النحتي، لا بصفته ينتسب إلى حاضر مقحم، بل إلى أقدم مهارات الأصابع، مع عصر نشوء الزراعة ـ والمنازل، وهي تتبنى علامات كدها بين الميلاد والموت.

شهادات

د. أكرم فاضل ..اللقاء الأول


["كان ينحت في البيت وينحت في دروب المحلة وينحت في المقاهي. وكان ابنه احمد يسأله: "ماذا تعمل يا أبتي من منحوتات هذه؟" فيجيبه منعم فرات:" إن هناك إنسانا ًيبحث عني وابحث عنه، واراه يهيم في عالم الغيب من حيث لا يراني. ويوم يقع بصره علي ّسيبرهن للناس على عظمة أبيك" .. وخلال هذه الفترة نحت رأس جورج الخامس ورأس فيصل الأول ورأس عبد المحسن السعدون وباع هذه الرؤوس بأبخس الأثمان. "
وعن لقاءه بالنحات يذكر:
" رايته ظهيرة إحدى الجمع عام 1960 واقفا ً بين البنك المركزي ومصرف الرافدين وبيده تمثال طير صغير أجنبي ملون. دنوت منه بتلهف وسألته عنت سعر المنحوتة فأجابني بان سعرها متروك للسائل فنقدته مائتان وخمسين فلسا ً وأعطيته بطاقتي الشخصية." متابعا ً:
" هذا هو الأعرابي العملاق ماثل أمامي، أسأله عن سره فيخبرني انه طالع مجلات فتية فقالت له نفسه:" انك قادر على نحت أمثال ما رأيت" فيحاول... يزور المتحف العراقي مرة مستوحيا ً فينحت بعد الزيارة ما تلهمه مخيلته غير مقلد شيئا ً.. فإذا بمديرية المتحف تقيم عليه دعوى جزائية موضوعها التزوير، وإذا بحاكم الجزاء عبد العزيز الخياط الذكي الفؤاد يرد الدعوى ويزجر ممثل الدائرة.فأسأله عن نشأته فيخبرني ان مسقط رأسه محلة الشيخ علي، وأن أهله كانوا من ملاكي الأراضي الموسرين. وكان أبوه شيخ الطرف، بحيث لا يدنو احد من داره إلا غداه أو عشاه، لأنه ابن عشائر، لأنه جبوري...اسمه نعيم بربوت وادي، لكنه أطلق على نفسه اسم "منعم فرات" باعتباره الاسم الفني. لم تسجل أراضي الأسرة بصورة قانونية في العهد العثماني، فاغتنم هذه الثغرة احد الشطار وانتزعها من أيدي أصحابها بعد الاحتلال.. فأقاموا عليه دعاوى خسروها... وتثور ثائرة نعيم الشاب فيرسل إلى المغتصب رسالة يرسم فيها خنجرا ً، فيقيم المهدد بالخنجر الدعوى، ويدخل نعيم السجن ليقضي فيه سنة. يعود
بعدها إلى داره ليظل سنة تحت مراقبة الشرطة. وكان قبل اغتصاب أراضي ذويه يعمل فلاحا ً فيها.. ويدور به الزمان وهو يزاول شراء الأغنام وبيعها، وفي إحدى السنين تلجئه الحاجة العاتية إلى الاشتغال عاملا ً في معامل العينة.."
ويدور الحوار التالي بين أكرم فاضل ومنعم فرات:
* لا اصدق ان مواهبك تقف عند طيور أجنبية..إنني لست بموجهك، وإنما كل ما أريده منك ان تكون أنت نفسك. فأجابني:" إن راسي يعج بالسعالي والغيلان والأفاعي والعفاريت والطناطل" فاقترحت عليه ان تعمل يداه وفق تعليمات رأسه"]

* كتاب [منعم فرات ـ نحات فطري] وزارة الإعلام/ السلسلة الفنية ـ رقم (27)1974


شهادات ـ 2

ألبرتو جاتيني.. منحوتات فرات تتكلم اللغة العربية


[ " "منعم فرات، وهو النحات العراقي، اختار بمفرده طريقه الذي يقوده نحو غاياته الفنية: هذا الاختيار انبثق من أعماق نفسه الأصيلة. وأول عمل قام به هو رفضه لأي شكل ولأي تأثير أوروبي، سواء كان ذلك في التكنيك أو في الشكل الظاهري، ففضل في عمله الفني الرجوع أدراجه، مستوحيا ًالماضي بكل ما فيه من جلال.
فنان مثل منعم فرات شيء نادر لا يمكن العثور عليه في كل زمان ومكان، ذلك لأنه جعل أعماله الفنية تتكلم بلغة قديمة، بل ابعد من القدم نفسه، اذا صح التعبير. ولنقلها بصراحة ان أعماله الفنية أخذت تتكلم لغة عربية، واعني ان هذه الأعمال أخذت تتكلم وتستحضر ذلك الماضي الموغل في القدم، حين كان الساميون يجوبون الصحارى المجدية، وفي أذهانهم تلك المياه المتدفقة في وادي الرافدين، وكيف استطاعوا ان يلحقوا تلك الأحلام وينشئوا حضارات متعاقبة اقل ما يقال عنها أنها زاهية وشامخة لا تطالها يد الدهر أبدا ً، وبالرغم من ان التقاليد الموروثة منذ القدم لا تجيز إظهار الأشكال البشرية وغيرها بواسطة الرسم والنحت، فان فرات تحدى كل هذه الفترة الطويلة ليبدأ من النقطة التي توقف عندها ذلك الجمود."]

شهادات ـ 3


منعم فرات نحات القصص والأساطير التي لم نصلها بعد


قال النحات العراقي محمد غني حكمت، عن فنه، وعنه:

[ "إن شخوص منعم فرات، تتحدث عن قصص وأساطير تعيش في عالم لم نصل بعد إليه, ولكم تمنياه! .. فليس منا من رأى إنسانا ً برأس حيواني أو حيوانا ً برأس إنساني.
إن مخلوقات عالمه تتراكم بشكل عجيب، وتنبت على أجزاء من أجسامها مخلوقات أخرى ليست من جنسها، تعيش في صراع صامت.. في وحدانية وانفرادية، كئيبة حتى الأعماق، ولكنها رغم كل ذلك تفكر في اللانهائي، وتعيش في قعر الصمت الموحش: إنها تمثل ذلك الاضطراب والقلق الذي يغرق فيه عالمنا، وهذا ما يريد الفنان تحقيقه بشكل لا إرادي، ليشبع رغبتنا في تأمل صوره العجيبة التي يخلقها بأزميله الصغير" ]

محمد غني حكمت/ نحات وعضو جماعة بغداد للفن الحديث

شهادات ـ 4

ارمان آبيل .. هذا الأعرابي الذي صنع نفسه بنفسه


[ " لقد قلت آنفا ً كلمة عن منعم فرات، هذا الفنان الأعرابي، هذا الفنان الشعبي الذي اعتمد على نفسه وعلى نفسه وحدها فمارس فنه على هذا الصخر الجميل الذي تزخر به تربة بلاده، فانغمس منذ مطلع شبابه في نحت ما يريد التعبير عنه، وذلك باستخدامه للكتل الحجرية مشذبا ً صاقلا ً أكثر من كونه ناحتا ً، فابرز صورا ً للنساء والرجال، وأطلع شخوصا ً للحيوانات وهي مزيج عجيب في كل حركة من حركاتها مما ينغمس فيه سكان القرى من اضطراب في حياتهم اليومية.
إن المادة حين تلامسها يده، تستحيل إلى تعبير مباشر، يمكن القول عنها أنها تغدو في حكم المنتهية منذ تخطيطها الأول، لأنه من البداية، يجعلنا نستطيع التكهن بالتفاصيل التعبيرية. " ويضيف:
" لقد كنت في غاية الحبور لدى مصافحتي يد منعم فرات، وفي أوج السعادة حين تهنئته وعند سماعه وهو في قمة التواضع، يجيبني بحماس ظاهر مبديا ً اعترافه بالجميل لأولئك الذين بعد ان جاؤا به إلى الوزارة، أتاحوا له فرصة متابعة أعماله وهو متحرر من ربقة الحاجة."]
المستشرق البلجيكي ارمان آبيل

شهادات ـ 5

منعم فرات لشاكر حسن:
خلو الإنسان على حاله

يذكر الأستاذ شاكر حسن، في حواره النادر، مع منعم فرات، انه حينما تعرف عليه للمرة الأولى، لم يكن يتوسم فيه العبقرية، متابعا ً " كان يبدو إنسانا ً اعتياديا ً كمزارع، أو عامل وليس كمثقف، وكان ذلك الانطباع سرعان ما تحول لديه إلى نوع من الاعتراف المكتوم بقيمة (العمل الفني دونما فنان). أو ما يمكن ان يسمى بسادة مبدأ (التاريخ بلا أسماء). إذ ان مان يدور بخلدي وقت إذن كان هو لدى صدق ظهور الانسجام بمظهره، متواضعا ً، أكثر من سواه.."
ويذكر شاكر حسن:
" ثم حينما سنحت لي الفرصة بعد ذلك في التحدث إليه بهدف الكتابة، بل الاستزادة في الكتابة عن فنه، وجدت نفسي في موقف جديد إذ تحتم علي ّ ان أصحح بعض ماكونته عنه ..."
فيتحدث منعم فرات إلى شاكر حسن:
ـ" انتميت إلى الجيش العثماني في الحرب العظمى، ولم اشترك بها، امتهنت الزراعة في الوشاش وكنت استطيع مطالعة المجلات تزوجت ولي ولد كاسب، " ويتابع فرات:
ـ " اعرف نفسي إنسان مخلوق ولا عبره ..يدخلني بسرداب ما بيه دراج.. لم أسافر خارج بغداد لسوى الاعظمية والكاظمية لم اسمع قصة لم اسمع حكاية " ويقول متابعا ً:
ـ" الحكايات ؟ أنا لا أقراها ولا القصص أني لا أتذوقها" فيقول شاكر حسن:
ـ " ولكني عرفت بعد ذلك منه انه كان يؤلف الحكايات وانه يحفظ الشعر وانه يسافر، سافر على الأقل مع الجيش العثماني (في السفر بر) لقد كان إذن يبني هكذا منفاه الذاتي تحصنه أو (موته الروحي) الذي كان كما يبدو يستمرأه بشغف بما يلهيه عن التفكير بحياته الدنيوية " يقول منعم فرات:
ـ " تعجبني أصوات الطيور البلابل والبيبي متو والديك يسمع ديج العرش اذا صاح الغراب فقولوا خيرا ً فان الخير كامن في جنح الغراب " متابعا ً:
ـ " لا تعجبني الأغاني. أجمل شيء الحيوان.. خلو الإنسان على حاله.."
ـ " أنا مومطيرجي. كل شيء لا تحصل منّه على (أذية) غير لائق بالكراهية والمؤذي من الواجب ان لا تجنيه" " البعير هو الحيوان الذي يعجبني لكن النحلة هي سيدة الشجر كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تأتي أكلها كل حين وبعد ذلك الأشجار الحمضية كالبرتقال والأعناب والتين ثم كل ما هو نبات اخضر "الخضر الياس" ثم نجده يبلغ في جدوله البياني الكوني هذا مبلغ الجمادات:
ـ " أنا أحب من الأحجار ما هو نافع. مرمر فرش الموصلي.. الحجر الأزرق والأبيض ألشكري النباتي" " فيدوّن شاكر حسن انطباعه:
ـ " آه ما أجمل نعوتك لعالم مخلوقاتك يا منعم فرات! وما أجمل تلك الصخور الجرداء ذات الأشكال البلورية في تصورك! إنها كنزك الذي تستطيع ان تباهي به الآخرين أمام الخليقة جمعاء إنها حجرك الثمين وماسك ولؤلؤك في آن واحد"
ويختتم حواره معه على النحو التالي:
• هل قتلت أحدا ً..؟ هل اختصمت، هل ذبحت دجاجة ؟
ـ صمت.
* هل تعرف السباحة..؟
ـ أنا تبدور لا اغرق.
* هل تعبد الله..؟
ـ أنا مذهب سز، دين سز!
*هل ...؟
ـ لم ارسم شيئا ً لأن النحت أقوى. لم العب القمار."]
* شاكر حسن. مجلة الرواق/ وزارة الثقافة والأعلام ـ بغداد ـ العدد13 العام 1982


شهادات ـ 6

منحوتات منعم فرات وارتباطها بالموروث الشعبي

حسين الهلالي

منعم فرات بعفويته وجرأته وانتصاره على الحجارة الصلدة استطاع ان يخرج بقامته ووضوحه إلى هذا العالم الذي يفتش عن كل ما هو جديد ويقول للجميع ها أنا ذا اطرح أسلوبي العراقي المتفرد والمتجذر والمنحدر من صلب المبدعين الأوائل في سومر واكد وآشور، اولئك الفنانون المجهولون الذين اظهروا اسم العراق بأعمالهم التي تتحدث عن الأوائل في التاريخ الطويل.
منعم فرات هو ابن شعراء سومر، دنجركامو، وابن انخيدوانا الشاعرة الكاهنة الأكدية، هو ابن يحيى بن محمود الواسطي ورسومه التي عبرت عن عصره، هو ابن عصره الذي سار متخفيا ومختفيا في ظل المبدعين ،جواد سليم، فائق حسن، خالد الرحال، محمد غني حكمت وظهر صامتا تحيط به منحوتاته التي تتحدث كوميديا الإنسان في عصره وهي شامخة متزنة، أظهره إلى دائرة النور الراحل الدكتور أكرم فاضل، حاملا همومه وأسرار أسلوبه الذي لا يمت بصلة الأساليب الأخرى وحتى السومرية لكن إصراره إصرار سومري وشخصياته من عالم سحري فطري مرجعياتها في ذاكرته التي تمتد وتتوغل في موروث الشعب العراقي منذ طفولته التي عاشها في القرية وسمع الحكاية وشاهد مأساة الفرد هناك حتى شبابه وكهولته التي تداخلت مع موروث المدينة وتعاشقت مع مفرداتها اليومية إذن هذه هي مقومات منحوتاته، وعلى الرغم من فطريتها وبدائيتها إلا أنها تعيش عالمها الخاص معبرة بصمت عن الأحداث التي ورثتها من هذا الشعب العراقي ، في جلستها تصغي إلى الآخر بوجه بشوش على الرغم من ثقل هموم الدنيا التي تحملها، هذه الهموم التي ورثتها من الشعب العراقي، الآتية من ظلم استعماري وإقطاعي ونظام تعسفي عميل، هي صامتة وتنتظر لتنفجر بقوة ضد ظلم هؤلاء، والصبر والأناة والتصرف باتزان هو سمة من سمات الشعب العراقي موروثة وموغلة بالقدم.والقطعة الفريدة من تمثال آخر متراصة في كل جوانبها الدائرية ولا تعيي اي مجال لاختراقها وفك مفاتيحها وهي مأخوذة من المثل القائل (حط ظهرك على ظهر أخوك ونام).أما التمثال الثاني هو جلسة الحكيم وتقاطر الناس عليه للاحتكام عنده، هو ذلك الوجه الورع المملوء حكمة ودراية وصبر، هو جوديا وحمورابي وسرجون الاكدي هم رجال العراق الحكماء الذي خلدوا في التاريخ القديم وهذا التمثال اتكاءه على موروث من التاريخ ولكن لو رجعنا إلى منعم فرات والى دراسة قسمات وجهه وتأملنا صمته الطويل وتأملنا منحوتاته نجده هو ضمن هذا السكون وعدم البوح بأشياء وأسرار كامنة في نفسه جاءت من انعكاسات المجتمع الذي يعيش فيه.لا يعلم بفناني العالم وسعيهم إلى ما هو جديد ويجاد أساليب خاصة بهم تقوض الفن الكلاسيكي وكل ما هو تقليدي رتيب فهم منذ عصر النهضة إلى الآن يسعون إلى الحداثة في الفن، فظهور منحوتات هنري مور بتجاويفها وانطراحها هو خروج عن المألوف وعن تقاليد النحت الإيطالي في عصر النهضة هذه التقاليد التي تلزم الفنان بتطبيقها وتماثيل جاكومتي واستطالتها الملفتة للنظر والتي تنشد التحرر من كل القيود المفروضة.
وهي نفس الرؤى والعفوية التي عبر عنها منعم فرات في منحوتاته وأسلوبه الخاص الجديد، وهذه المنحوتات اربكت الفنانين العراقيين عندما انتبهوا لها بل أدهشت فناني العالم والنقاد عندما عرضت في الخارج لأنها قدمت قيمة كبيرة في الفن الفطري السائد في العالم.

شهادات ـ 7
(منعم فرات) ولغة الصخر: الحجر التعليم

علي النجار
من أشهر فناني العراق الفطريين، وأوضحهم أسلوبا تتمثل في منحوتاته سمات بلاد الرافدين الفنية التنقيبية المعروفة عبر حقبها المتعددة. اختار كما أسلافه السومريين والآشوريين مادة الصخر مجالا لإنتاج منحوتاته. ولهذا الاختيار عوامل عديدة منها توفر هذه المادة وسهولة حصوله عليها. ولمألوفة المنحوتات الأثرية في عموم العراق. سواء ما متوفر منها في متحف الآثار العراقي الحديث النشأة وقتها، أو في المواقع الأثرية العديدة التي تغطي مساحة رقعة هذا البلد الجغرافية. وإذا ما عرفنا بان منعم جرب النحت على الحجر وأنجز رأس إنسان واستهوى هذا العمل منذ عامه الثامن عشر ( في عام 1918). في تلك الحقبة الزمنية التي كان فيها العراق يفتقد حتى إلى التعليم الابتدائي إلا ما ندر، وكانت الكتاتيب التي تحفظ القران هي السائدة في أزقة بغداد وبقية المدن، كما كان الخطاب القرآني وملالي الخطب الدينية وقراء ومستطلعي الحظ والتنجيم ( فتاحي الفال) لهم النصيب الأوفر من حصة الثقافة الشعبية السائدة. ولم تكن ثقافة فناننا إلا بعضا من هذا التحصيل المعرفي الشعبي. وان كان يتماها وشقه الديني المحاذي لمنطقة التصوف المحلي. فقد كان الخطاب الديني والتراث العربي بشقيه ألمديني واللا مديني (الريفي والبدوي) يسيطر على ذاكرته. ولم يكن نتاجه ببعيد عن كل ذلك، بل كان تفسيرا لواقع أو مخيال ورموز ذلك التراث مترشحا عبر غربال تفاصيل هذه الثقافة الشعبية لبداية القرن التاريخي. وما منحوتاته بمجملها إلا تمثيلا لمحنة وجدانه ورهافة أحاسيسه.
(الأحجار منذورة لي)، هذا ما كان يردده (منعم فرات) دوما. وللنذر أصل سحري بالمعنى المجازي. والسحر الذي يسلطه منعم على أعماله ذات الهيئات المركبة هو خليط من مركبات ذهنية ذات مرجعية تاريخية واجتماعية عاش أزمنتها، هو المتلبس سحرا غابرا و المتسربل أخلاقية فروسية عربية نادرة، وكما دونته ابنته لاحقا ( عاش ومات وحيد منعزل فريد ومؤمن بالله وبملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر لا يحسد أحدا ويكره التزييف (الزيف) والحيلة والغش والفتنة قليل الكلام والضحك يخاطب الله في كل وقت لماذا ذبح هذه الحيوانات الأسيرة الضعيفة ولم لا تحلل ذبح الحيوانات المفترسة، يكره الحرب ويقول لماذا تزهق الأرواح لولا الطامعون لا يشرب الخمر ولا يلعب القمار (1)) وما يهمنا من مقتطف هذه السيرة على أهميته هو ما ورد فيها من مفهوم أنسنة الحيوان وبقية المخلوقات، الذي تمثل على أوضح ما يكون في معظم منحوتاته أو احفوراته. بما ان أعماله النحتية منفذة بواسطة الحفر والكشط والحز وبما يوازي تعرية سطوحها من زوائدها التي تغلف أو تطمر رؤيته المشهدية لمجاميع كائناته الإنسية والحيوانية. أو اختلاطاتهما معا في نسيج واحد، أجسادا وملامح متبادلة أو متكافئة الأدوار أو الأداء الأسطوري. بما ان الأسطورة هي عنده فروسية أخلاقية، حاضرة هنا في شقيها الواقعي والخيالي. وان كانت المنحوتات الأثرية العراقية مغرقة بتفاصيل مثقفة (وعيها الزمني وإغراضها الدينية والدنيوية (2)) فان اختلاف أعمال منعم عنها يكمن في عمق الإفصاح عن فطرته وهو الذي صان سجية هذه الفطرة طوال دروب عمره. وعن ابنته مرة أخرى (أرسلت الوزارة ـ تقصد وزارة الثقافة العراقية وفي وقت متأخر) منعم إلى طبيب العيون يفحصه ويسأله فقال للطبيب أنا لست طيارا ولا مدفعيا. أنا نحات والحجر قريب مني (إلي) أنت طبب نفسك وخرج).
ربما للأحلام دور مهم في إخراج منحوتاته. فان كانت الفطرة حلما سكن الذات الإنسانية يوتوبيا منذ الأزل. فإنها كذلك خاضعة للضمور أو الظهور، ربما بسبب من محفزات ظرفية. وان كان في الإمكان تجسيدها، فإنها تجسدت في أعمال هذا النحات الفريد. فكل منحوتة مستقلة من منحوتاته تمثل حلما سكنه في لحظة ما.
وان كان قد عاش حياته الحلمية نذرا مستحيلا. فان سحر هذه الأحلام سوف يكون شاخصا كما هو سحر الدمى السومرية. وان جازت المقارنة بينهما فهي جائزة بحدود مبثوث نواياها الحلمية الأسطورية وبملامحها الرافدينية وبمحركات حاضنتها الطينية. وما الاختلاف إلا في حدود نوايا الفنان. وان كانت منحوتات منعم تندرج ضمن مساحة الفن الفطري، فإنها شـأن أعمال سكان استراليا الأصليين (الأبرجينيز) تبقى محافظة على خصائص تفردها بدلالاتها السحرية وبمحمولات تفاصيل كائناتها المؤنسنة، كما أنها تشكل استثناءا بين بقية أعمال الفنانين الفطريين العراقيين لوضوح خطوطها الأسلوبية رغم صغر أحجامها و ميزة كتلها النصبية الواضحة.
مع استثنائنا للرسوم العراقية الفطرية التي أخذت منحا مغايرا عن عموم الرسوم الفطرية العربية. كونها، وخاصة في منطقتي الفرات الأوسط والجنوب، تميزت بالاشتغال على تشخيص الرموز الدينية، وعلى الرسوم التمثيلية لوقائع تاريخية دينية أيضا، وبتأثيرات مشرقية فارسية، ومغربية عربية (جغرافيا). كما الاختلاف في أحجام هذه الرسومات والتي تقارب مساحات اليافطات الإعلانية، سواء مثلت حدثا مفردا أو سلسلة أحداث متعاقبة. ولكثرة تكرار تفاصيلها واستعادتها، فإنها شكلت حدثا فولكلوريا شعبيا واضح المعالم وقابلا للاستنساخ إلى ما لا نهاية. كما ان معظمها ابتعد عن الأداء ألمسندي للوحة الرسم. لذلك بقي النتاج النحتي الفطري هو الأبرز في هذا المجال في العراق. مع استثناءات نادرة. ربما يرجع سبب انحسار أو شيوع نمط الرسوم الفطرية العربية المتقاربة الخصائص في العراق، هو اكتفاء الذاكرة الجمعية العراقية بهذا الأداء النحتي والرسم الديني المشرقي. وان تكن لم تختلف بشكل مطلق عن بعض النماذج الملحمية لبلاد الشام ومصر على سبيل المثال. لكنها تبقى متفردة في إخراجها ونواياها الثقافية ومرجعيتها التاريخية الخاصة.
* فنان تشكيلي وناقد

منعم فرات في سطور

ولد الفنان منعم بربوت وادي المعروف في الوسط الفني بـ (منعم فرات) في بغداد محلة الشيخ علي في جانب الكرخ عام 1900.
تعلم القراءة والكتابة وحفظ القران الكريم بواسطة الكتاتيب وأول عمله مزارعا في أرضه وكان يفكر في النحت فذهب وجاء بصخرة و أدوات إلى المزرعة وبدأ ينحت فحولها إلى رأس إنسان فهنأ نفسه واستمر على النحت وكان عمره 18 سنة وظل يواصل العمل وينحت.
هذا الفنان القروي الفنان الشعبي الذي أعتمد على نفسه وعلى نفسه وحدها فعالج فنه على الصخر الجميل الذي تزخر به تربة بلاده فأنهمك منذ مطلع شبابه في نحت مايريد التعبير عنه وذالك بأستعماله الكتل الحجرية وتمليسه لها اكثر من كونه ينحتها فابرز صور للنساء والرجال وكذالك صور للحيوانات وهي مزيج عجيب فجمع في كل حركة من حركاتها مايقوم به في الحياة اليومية سكان القرى والأرياف.
كذلك ألف أكثر من ثلاثون كتابا منها ((ايهل الراقد)) ، ((العاجزون في الأرض)) و ((اللؤلؤة والصراع العنيد)).
حصل منعم فرات على الجائزة الاولى بدرجة ممتازة في المهرجان الدولي الثالث للفنون الفطرية الذي أقيم بمدينة (براتسلافا) في جيكو سلوفاكيا بداية شهر ايلول عام 1972 وشارك فيه (55) فناناً.
كتب عنه الناقد الايطالي ((البرتو جاتيني)) " منعم فرات اختار بمفرده طريقة الذي يقوده نحو غاياته الفنية ، هذا الاختيار انبثق من أعماق نفسه الأصيلة ، وأول عمل قام به هو رفضه لأي شكل ولأي تأثير أوروبي ، سواء كان ذلك في التكنيك أو في الشكل الظاهري ، ففضل في عمله الفني الرجوع أدراجه ، مستوحيا الماضي بكل ما فيه من جلال ، وان فنان مثل منعم فرات شيء نادر لا يمكن العثور عليه في كل زمان ومكان ، ذلك لأنه جعل أعماله الفنية تتكلم بلغة قديمة ، بل ابعد من القدم نفسه ، إذا صح التعبير ، ولنقلها بصراحة إن أعماله الفنية أخذت تتكلم لغة عربية ، أي إن هذه الأعمال أخذت تتكلم وتستحضر ذلك الماضي الموغل في القدم ، حين كان الساميون يجوبون الصحارى المجدبة ، وفي أذهانهم تلك المياه المتدفقة في وادي الرافدين ، وكيف استطاعوا أن يحققوا تلك الأحلام اقل ما يقال عنها إنها زاهية وشامخة لا تطالها يد الدهر أبدا ، لذا يمكننا القول بان منعم شبيه ببيكاسو وبراك ديران وماتيس ، أولئك الذين فتحوا الطريق أمام التجديد في الفن الأوروبي فنهضوا بهذه المهمة باكتشافهم الفن الزنجي والاوقيانوسي واستخلاص النتائج من ذلك ".
وقال عنه النحات محمد غني حكمت " إن أعمال منعم فرات أصبحت وستصبح أمثولة لأكثر من فنان عراقي ، ذلك لان أعماله الخاصة ، وأسلوبه في تصوراته برمتها لا تتصل بمدرسة فنية معينة ، ولا تشتبك بجذور من مؤثرات خارجية ، أنها خلاصة ملاحظة عامة للمنظورات وتعبيرات مبهمة لأحاسيس وأخيلة عن الحيوان والإنسان في حبهما وفرحهما .. في غضبهما ورضاهما .. في أحلامهما وأمانيهما ، إن شخوص منعم فرات ، تتحدث عن قصص وأساطير تعيش في عالم لم نصل بعد إليه .. ولكم تمنيناه ! .. فليس منا من رأى أنسانا برأس حيواني أو حيوانا برأس إنساني ، إن مخلوقات عالمه تتراكم بشكل عجيب ، وتنبت على أجزاء من أجسامها مخلوقات أخرى ليست من جنسها ، تعيش في صراع صامت .. في وحدانية وانفرادية ، كئيبة حتى الأعماق ، ولكنها رغم كل ذلك تفكر في اللانهائي ، وتعيش في قعر الصمت الموحش ، إنها تمثل ذلك الاضطراب والقلق الذي يغرق فيه عالمنا ، وهذا ما يريد الفنان تحقيقه بشكل لا إرادي ، ليشبع رغبتنا في تأمل صوره العجيبة التي يخلقها بأزميله الصغير ".

__________________________________
منعم فرات بعفويته وجرأته وانتصاره على الحجارة الصلدة استطاع أن يخرج بقامته ووضوحه إلى هذا العالم الذي يفتش عن كل ما هو جديد ويقول للجميع ها أنا ذا اطرح أسلوبي العراقي المتفرد والمتجذر والمنحدر من صلب المبدعين الأوائل ، في سومر وأكد وآشور ، أولائك الفنانون المجهولون الذين اظهروا اسم العراق بأعمالهم التي تتحدث عن الأوائل في التاريخ الطويل ، أظهره إلى دائرة النور الراحل الدكتور أكرم فاضل ، حاملا همومه وأسرار أسلوبه الذي لا يمت بصلة إلى الأساليب الأخرى وحتى السومرية لكن إصراره إصرار سومري وشخصياته من عالم سحري فطري مرجعياتها في ذاكرته التي تمتد وتتوغل في موروث الشعب العراقي منذ طفولته التي عاشها في القرية وسمع الحكاية وشاهد مأساة الفرد هناك حتى شبابه وكهولته التي تداخلت مع موروث المدينة وتعاشقت مع مفرداتها اليومية إذن هذه هي مقومات منحوتاته ، وعلى الرغم من فطريتها وبدائيتها إلا إنها تعيش عالمها الخاص معبرة بصمت عن الأحداث التي ورثتها من هذا الشعب العراقي ، في جلستها تصغي إلى الآخر بوجه بشوش على الرغم من ثقل هموم الدنيا التي تحملها ، هذه الهموم التي ورثتها من الشعب العراقي ، الآتية من ظلم استعماري عثماني وظلم استعماري انكليزي وظلم إقطاعي مسنود من نظام تعسفي عميل ، هي صامتة وتنتظر لتنفجر بقوة ضد ظلم هؤلاء ، والصبر والأناة والتصرف باتزان هو سمة من سمات الشعب العراقي موروثة وموغلة بالقدم والقطعة الفريدة من تمثال آخر متراصة في كل جوانبها الدائرية ولا تعطي أي مجال لاختراقها وفك مفاتيحها وهي مأخوذة من المثل القائل (حط ظهرك على ظهر أخوك ونام) أما التمثال الثاني هو جلسة الحكيم وتقاطر الناس عليه للاحتكام ، وهذه المنحوتات أربكت الفنانين العراقيين عندما انتبهوا لها بل أدهشت فناني العالم والنقاد عندما عرضت في الخارج من كونها قدمت قيمة كبيرة في الفن الفطري السائد في العالم.
أصبح منعم فرات عضوا عاملا في نقابة الفنانين العراقيين بتاريخ 7-1-1971 أحيل إلى التقاعد في الثامن من آب عام 1972، كانت أحالته على التقاعد فاجعة إنسان مرهف الشعور ومرهق الجسد قذفت به سيارة مجهولة على رصيف مهمل في أحد شوارع بغداد فوجد ميتا وبموته انتهت حياة الفنان الفطري منعم فرات الذي تعامل مع الحجر بكل الحب والإبداع وجسد في فنه الطبع والصنعة على حد سواء.
Az4445363@gmail.com