بحث هذه المدونة الإلكترونية

إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الخميس، 19 مايو 2016

معرض لورنس العرب: سقوط الأسطورة-الدكتور فيرنر بلوخ ترجمة: عماد مبارك غانم



معرض لورنس العرب:
سقوط الأسطورة


الدكتور فيرنر بلوخ
ترجمة: عماد مبارك غانم


يُحتفى في أوروبا بلورنس العرب دائماً على أنه عبقرية أوروبية، برزت بأجلى صورها في من منطقة الشرق الأوسط وأعادت كتابة تاريخ هذه المنطقة. معرض في مدينة أولدنبورغ يريد إظهار الجوانب الحقيقية لأسطورة لورنس العرب. فيرنر بلوخ يسلط الضوء على أهم جوانب هذا المعرض.


يقول لورنس: "بشكل عام أفضل الكذب على الحقائق، وخصوصاً إذا ما تعلق الأمر بي شخصياً". كان أحد أكثر الأفلام نجاحاً في أوانه، ففي عام 1962 عرضت دور السينما الشرقية "لورنس العرب". وأدى الدور الرئيس في هذا الفيلم بيتر أوتول إلى جانب عمر الشريف وأنطوني كوين وأليك غينيس، وكان هؤلاء أكثر الممثلين نجاحاً وأفضلهم في أوانهم. وبهذا أصبح "لورنس العرب" مشهوراً على حين غرة، ولم يستطع أي فيلم آخر عرض الصحراء في دور السينما بهذه الصور الجميلة الساحرة. ويعلل الفيلم أسطورة بطل، طالما كان في الواقع موضع جدل وطالما جوبه بالازدراء. إن الفيلم خلد توماس إدوارد لورنس الحقيقي، الذي يتذبذب بين الخجل الشخصي وجنون العظمة.

أسطورة ذاتية

يعد لورنس بلا شك أحد المفكرين الذي برز في زمانه، وولد في أكسفورد عام 1888 وأصبح مستشرقاً وجندياً وعالماً في مجال الآثار ومن ثم كاتباً، كان يكتشف نفسه من جديد كل مرة، كما يفعل نجوم الموسيقى اليوم، ويخلق أسطورته الذاتية. وحتى العنوان المثير لشيء من الارستقراطية "لورنس العرب" يعود إليه، فبعد عودته من الحرب العالمية الأولى قام لورنس بجولة في أوروبا مصطحباً معه شرائح العرض المكلفة.



يعد لورنس بلا شك أحد المفكرين الذي برز في زمانه، وولد في أكسفورد عام 1888 وأصبح مستشرقاً وجندياً وعالماً في مجال الآثار ومن ثم كاتباً وكتب مذكراته "أعمدة الحكمة السبعة"، لكنه بقي على الرغم من ذلك أحد الظواهر الإشكالية. ويقول لورنس في كتابه: "بشكل عام أفضل الكذب على الحقائق، وخصوصاً إذا ما تعلق الأمر بي شخصياً". فكيف يمكن التعامل مع مثل هذا الشخص الذي لا يأبه للحقائق التاريخية؟ وهذا السؤال بالتحديد يُطرح الآن في مدينة أولدنبورغ، حيث يتم تنظيم أول معرض في القارة الأوروبية عن لورنس بعنوان "تطور الأسطورة" حتى شهر آذار/ مارس من العام المقبل.

تحف ضد الحقيقة

ويرى أمين المعرض ديتليف هوفمان أن تعامل لورنس الإشكالي مع الحقيقة ليس من الأمور السيئة. ويضيف هوفمان قائلاً: "كان هذا الأمر أحد ميوله إلى إعادة رواية الأحداث بشكل جديد. وليس الكاتب الأيرلندي جورج برنارد شو وحده، بل آخرون أيضاً، كانوا على قناعة تامة في أنه يتعامل مع المعارف والتجارب المعاشة بشكل شعري كما يفعل الممثل والشاعر. ولم يعدون هذا بالكذب على الإطلاق، بل كتجسيد متألق. وهكذا تنشأ الأساطير".

وربما يكون هذا الأمر صحيحاً، لكنه يبدو في الوقت نفسه أيضاً على جانب كبير من السذاجة. فهل ما زال ممكناً اليوم عرض لورنس متطابقاً مع الواقع والانسحار بشكل صبياني تقريبي بمغامراته؟ أم يجب تأمل الممثل والمحتال لورنس عن كثب والنظر إلى دوره الإشكالي للغاية في العلاقات الأوربية العربية من زاوية جديدة؟

وبينما يشعر أمين المعرض هوفمان بكل هذه التحف التي يمكن أن تقدم معرضاً بيوغرافياً، يتخذ مدير مشروع معرض لورنس السوري الأصل منعم فانزا، موقفاً مغايراً. وبحسب فانزا، الذي يدير متحف أولدنبورغ، فإن المعرض ليس من شانه أن يقدم أسطورة جديدة أو يعيد إحياء أسطورة قديمة. ويضيف فانزا بالقول: "وهنا يتمثل هدفي. أريد أن أجعل من لورنس خلفية لعرض تاريخ منطقة الشرق الأوسط".

عرض تعبدي سيري

"أريد أن أجعل من لورنس خلفية لعرض تاريخ منطقة الشرق الأوسط"

ويبدو أنه قد وقع جدل كبير بين أمين المعرض هوفمان ومدير المشروع فانزا، وهذا ما بدا واضحاً في المؤتمر الصحفي. إن المعرض يعد عرضاً تعبدياً سيرياً، وهو يحمل بشكل واضح بصمات أمينه هوفمان، الذي يمارس نوعاً من كتابة سير القديسين بشكل يطغى عليه الحماس ويخلو من النقد. إذ يبدأ المعرض بعدد لا يحصى من الصور المرسومة على الجداريات الكبيرة، والتي يغطي بعضها الجدار بأكمله، ومن ثم يتصفح الزائر محطات حياة لورنس: لوحات وبعض الأسلحة وكرسي لورنس البطل المغطى بالصوف ودراجة من طراز الدراجة التي قتل عليها لورنس عام 1935 نتيجة لحادث سير. لكن لا يتم إيضاح أي شيء من جوانب حياة لورنس، ويتبقى هذه الجوانب من دون دلالة تُذكر.

إن هذا العرض التربوي الساذج، الذي كان لهوفمان أن لا يتحمل عناءه، لا يعلل "الأسطورة" المحاكة حول لورنس بأي حال من الأحوال، على الرغم من وجود الكثير من الجوانب التي يمكن تقديمها. إذ أن لورنس كان مشتركاً بالفعل في نشوء الشرق الأوسط، حتى وإن كان دوره في ذلك أكثر تواضعاً مما يُشاع. كان للورنس دور في الثورة العربية، حين انتفضوا على الأتراك. لكن لورنس لا يعد اليوم في العالم العربي سوى خائن وكشخص قام بتأجيج حنق العرب على الغرب.

حين دفع لورنس العرب إلى القيام بثورتهم على الأتراك، كان على معرفة تامة من أن بريطانيا وفرنسا قد اقتسمت فيما بينها منطقة الشرق الأوسط منذ زمن طويل وفق اتفاقية سايكس بيكو عام 1917. إذ تم استغلال العرب، الذين باتوا يعتبرون لورنس جاسوساً وخائناً. إن العديد من المؤرخين العرب نقبوا عن وجهة النظر هذه في السنوات الماضية مقدمين ما يثبتها من حجج. وفي معرض أولدبورغ لا يتم التطرق إلى شيء من هذا الجانب أيضاً، وهذه خسارة حقاً، فمعرض التاريخ الإنساني والطبيعي في أولدنبورغ بإدارة منعم الفانزا حقق شهرة في السنوات الأخيرة من خلال معارضه الدولية التي تتناول علاقة الشرق بالغرب.



الفيلم المصري "ميكروفون": "ميكروفون"....... صوت الشباب ومرآة الواقع- إيريت نايدهاردت ترجمة: عماد مبارك غانم




الفيلم المصري "ميكروفون":
"ميكروفون"....... صوت الشباب ومرآة الواقع


إيريت نايدهاردت
ترجمة: عماد مبارك غانم


حصد الفيلم المصري "ميكروفون" الذي يركز على الشباب وهمومهم وإهمال الجانب الرسمي لهم عددا كبيرا من الجوائز السينمائية. كما نجح الفيلم في نقل صورة مجتمع ينبض بالحياة عبر الشاشة، مشكلا علامة فارقة في السينما المصرية، كما يرى عدد من النقاد. إيريت نايدهاردت تستعرض قصة هذا الفيلم وخلفيات الإشكاليات التي يتناولها.



"أردت أن أنتج فيلماً درامياً، يقوم على رحلة عبر الأزقة والشوارع الكبيرة وأسطح بنايات المدينة" في الأرض الرخوة تمتد الجذور القوية، ويخرج منها ميكروفون فوق العشب الأخضر. وتحت السماء الزرقاء ينتصب هذا الميكروفون ويدعو للحديث من خلاله. ولا يحتاج المرء سوى أن ينحني قليلاً، لكن السماء لا تظهر حتى الآن بعداً، فالأرضية تأخذ أغلب المكان في الصورة. بهذا يمكن وصف الملصق الذي أعده أحمد عبد الله لفيلمه الجديد "ميكروفون"، الذي عُرض في مصر عام 2010.

ولاقى جمهور مهرجان القاهرة الدولي للسينما، الذي جرى في كانون الأول/ ديسمبر 2010 العرض الأول لهذا الفيلم باهتمام كبير، بعد أن كان عُرض الفيلم في العديد من المهرجانات الدولية، ونال الكثير من الإعجاب فيها. ونال الفيلم الجائزة الرئيسية في مهرجان تونس، وفي القاهرة نال جائزة أفضل فيلم عربي، ولم يستطع الحصول على تكريم أكبر في ضوء الضوابط الدولية للمهرجان.

ديناميكية جديدة

وينتمي الفيلم إلى مجموعة من النتاجات المصرية الجديدة، التي قدمت مصر من جديد بصورة أقوى على أنها بلد إنتاج سينمائي، والتي توثق ميدانياً ديناميكية جديدة في الوقت ذاته. يروي فيلم "ميكروفون" قصة خالد (خالد أبو النجا)، الذي يعود إلى موطنه في الإسكندرية بعد بعض السنوات التي قضاها مغترباً في الخارج. وبعد وقت قصير يلاحظ أنه لا يستطيع استئناف حياته السابقة في هذه المدينة بسهولة.

صديقته السابقة هدير (أدت دورها منة شلبي)، التي طالما رغب في أن يكسبها من جديد، على وشك أن تترك البلد، كما أن علاقته بأبيه (قام بدوره محمود اللوزي) باتت في وضع لا يمكن إصلاحه. وهكذا يهيم خالد على وجهه في شوارع المدينة ويكتشف تدريجياً ثقافة فرعية غير مستقرة، فيقرر مساعدة الفانيين والفنانات الشباب من خلال علاقاته القديمة وإمكانياته المحدودة، وبإتاحة الفرص للظهور وتوفير غرف للتدريب. وفي هذه الأثناء يتعرف على سلمى (تقوم بدورها يسرى اللوزي) ومجدي (يؤدي الدور أحمد مجدي)، وهما طالبان يقومان بتصوير مشروع تخرجهما، وهو فيلم عن الحياة السرية في الإسكندرية. ويظهر المخرج المصري يسري نصر الله نفسه (الذي أخرج فيلم المدينة) بدور استاذ يدرس مادة أخلاقيات الفيلم الوثائقي.

من زاوية فنية


يركز الفيلم على هموم الشباب والصراع بين فكرة البقاء في الوطن أو الرحيل عنه. كان ينبغي أن يكون فيلم "ميكروفون" نفسه فيلماً وثائقياً في الأصل: فخلال إحدى الإجازات الصيفية في الإسكندرية انتبه أحمد عبد الله إلى الكثير من الكتابات المنتشرة على جدران الأماكن العامة، وبالأخص رسومات وكتابات فنانة شابة تبلغ من العمر 18 عاماً، يلتقيها في النهاية عن طريق بعض الأصدقاء. وتقوه هذه الفنانة الشابة بتعريفه مجدداً ببعض الفرق وعلى متزلجي الشوارع على الألواح البلاستيكية وعلى الكثير من الناشطين الذين ينتمون جميعاً إلى الكواليس البديلة لمدينة الإسكندرية.

انفتح أمام المخرج عبد الله فضاء، كان مجهولاً بالنسبة إليه حتى ذلك الوقت، فأراد توثيقه. وناقش الفكرة مع الممثلين الذين يمكن أن يقوموا بدور في هذا الفيلم، وقرر في نهاية المطاف أن يقوم إضفاء لمسة من الخيال على مادة الفيلم. وعن هذا يقول المخرج المصري: "أردت أن أنتج فيلماً درامياً، يقوم على رحلة عبر الأزقة والشوارع الكبيرة وأسطح بنايات المدينة، والذي تقوم فيه الشخصية الرئيسية خالد باصطحاب المشاهدين عبر مختلف المحطات، التي تتكون من أشخاص وثقافات فرعية ونتاج فني خلاق. وكل هذه العناصر موجودة في المدينة، لكنها عادة ما تكون مخفية بالنسبة إلينا. وتقوم هذه الرحلة على قصص حقيقية لهؤلاء الفنانين، وهذه القصص تُروى من وجهة نظرهم".

ثقافات الإسكندرية الفرعية


الفيلم يعبر عن طموحات طبقة متوسطة جديدة غير متوافقة مع سياسة الدولة ولا كذلك مع الرؤية الدينية المتصاعدة. وكل شخصيات هذه الثقافة الفرعية تقوم بنفسها بأداء دورها في الفيلم، كما أنها عمقت من أدوارها بالتعاون مع مخرج الفيلم أحمد عبد الله. وحتى إن كان الخيار قد وقع على تقديم مجموعة صغيرة نسبياً من شخصيات هذه الكواليس، من بينها فرقة الهيب هوب Y-Crew وفرقة الهيفي ميتل النسائية Mascara، وثنائي الغرافيتي آية ورجب والمتزلج ياسين،فإن تقديم "الكواليس الخفية" يطيل من الثلث الأخير من الفيلم بشكل متزايد.

لكن على الرغم من ذلك فإن فيلم "ميكروفون" يكشف النقاب على نوع من السحر: فخالد أبو النجا، الذي يؤدي دور الشخصية المتخيلة خالد، يعتبر في مصر نجماً من نجوم الأفلام البوليسية المهيمنة على دور العرض. إن خالد ويسرى اللوزي ومنة شلبي يجسدون جميعاً أحلاماً. الحلم، الذي يقود فيه خالد الجمهور في فيلم "ميكروفون"، يمثل واقعاً: حفلة موسيقية في الشارع أُقيمت خصيصاً للفيلم، أستوديو تسجيل متنقل في سيارة فولكسفاغن "خنفساء" مركونة عند الشاطئ، شباب يتزلجون على ألواحهم عبر الشوارع والساحات العامة أو على الجدران الأسمنتية بشجاعة ومرح، كل هذه تقدم العون نحو مزيد من الحياة.

عن هذا يقول عبد الله: "قررت أن أقدم فيلماً مستقلاً بميزانية منخفضة وبطاقم لا يتعدى الثمانية أشخاص. اخترت كاميرا، لم تُستخدم في تصوير مثل هذا النوع من الأفلام من قبل مطلقاً، كاميرا تصوير فوتوغرافي يمكنها أن تصوير مقاطع فيديو، ما منحنا مزية التصوير في الشارع من دون أن يلحظ أحد ذلك، وبذلك تمكنا من تصوير الحياة اليومية في المدينة في تلك الأماكن التي لا يتاح لنا ذلك فيها إن كنا مجهزين بتجهيزات كبيرة".

"ميكروفون للجميع!"

وليست طريقة العمل هذه وحدها، والتي لم تكن لأزمة من الناحية المادية، كما قال المخرج في مقابلة مع هيئة الإذاعة البريطانية، بل وكذلك طاقم الفيلم كانا ذا طبيعة احتجاجية: فالكثير من صانعي الأفلام سئموا النزعة التجارية والتهرب من الواقع، وأخذوا يحثون على تناول الواقع في مصر وعلى كسر حالة الجمود والإحباط المنتشر منذ سنوات طويلة في الطبقة الوسطى الآخذة بالتلاشي. وبشكل متزايد بدأت تُصنع أفلام، لم تعد مبيعات شبكات التذاكر تسد نفقات إنتاجها، والتي لا يوجد لها دعم حكومي، على النقيض من أوروبا.

كما أن العديد من صانعي الأفلام الذين ليس لهم شهرة كبيرة أخذوا ينتجون أفلاماً مستقلة. المصور الحربي السابق إبراهيم البطوط نجح بعد صراعات محتدمة في تقديم عمل فني، في إيجاد سينما تعرض فيلمه الشمس عام 2008 وأن يثبت في مدينة جل دور العرض فيها تعرض أفلاماً تجارية فحسب، أن يوجد جمهور أيضاً يحب مشاهدة أفلاماً تجريبية. في حديث إلى جمهور فيلم "ميكروفون" أشار المنتج محمد حفظي إلى هؤلاء الزملاء و"عملهم المهم"، ما يظهر اهتماماً جاداً بإجراء نقاش حول هامش من الطرق الحركية الجديدة. وحتى الشعار "ميكروفون للجميع!" الذي أطلقه فريق العمل في الفيلم كان معقولاً بشكل يبعث على الارتياح والذي قوبل بتصفيق الجمهور الحار، وبشكل خاص بعد تزوير الانتخابات البرلمانية الماضية في مصر بشكل كبير.




أربع دورات/ خورخه لويس بورخيس (الأرجنتين)- ت : عدنان المبارك

 أربع دورات/ خورخه لويس بورخيس (الأرجنتين)


 ت : عدنان المبارك
لربما لم يكن هوميروس كأول الشعراء من روى هذه القصة.


الروايات هي أربع. اﻷولى، وهي اﻷقدم، تتكلم عن مدينة محصّنة، محاصرة يدافع عنها ناس شجعان. المدافعون يعرفون أن قتالهم ﻻ فائدة من ورائه وأن المدينة ستكون ضحية النار والسيف، وأحد أشهر الغزاة - آخيل - يعرف بأن الموت سيكون قدره قبل أن يأتي النصر. مع مرور القرون تراكمت عناصر السحر. قيل إن هيلين الطروادية التي مات من أجلها المحاربون، كانت ظلا بالكاد وغيمة جمال. قيل إن الحصان الكبير الذي اختفى في داخله الفارغ اليونانيون، كان وهما أيضا. لربما لم يكن هوميروس كأول الشعراء من روى هذه القصة. في الذاكرة تهيم الكلمات التي أبقاها أحدهم من القرن الرابع عشر بعد رحيله:
the borgh brittened and brent to brondes and askes.
دانتي غابرييل روزيتي "1" رأى في مخيلته أن مصير طروادة قد ختم في اللحظة التي عشق باريس هيلين فيها، و ييتس يختار لحظة التحام ليدا بالبجعة التي كانت ربّا "2".  الرواية الأخرى المرتبطة باﻷولى تقول عن العودة. إنها قصة يوليسيس الذي هام عشر سنوات في بحار خطرة، وضاع في جزيرة السحر، وهو يعود اﻵن إلى مدينته إيتاكا، إنها قصة آ لهة الشمال الذين يرون بعد دمار اﻷرض كيف تبرز هي من البحر، خضراء ﻻمعة، ويعثرون على بيادق الشطرنج المبعثرة على العشب: إنها آثار لعبهم.
والرواية الثالثة تتكلم عن البحث. باﻹمكان ملاحظة صيغ معينة من شكل الرواية السابقة. (جازون ) وجزّة الصوف الذهبي "3"، ثلاثون طيرا للفارسي فريد الدين العطار، عبرت الجبال والبحار كي تنظر في وجه ربّه ( سيمورغ ) "4" وترى أن (سيمورغ هو كل واحد منها ومجتمعة أيضا ). في الماضي كانت كل جهوده تتوّج بالنهاية السعيدة. أحدهم سرق، في الأخير، التفاحة الذهبية المحرّمة، وآخر
استحق، في اﻷخير، أن يغنم ( غرال ) "5". أما اليوم فالبحث محكوم عليه بالفشل. القبطان ( آهاب ) "6" يعثر على الحوت، إﻻ أن الحوت يقضي عليه، و أبطال هنري جيمس أو كافكا ليس بمكنتهم إﻻ انتظار الهزيمة. إننا في غاية الشجاعة و اﻹيمان لدرجة أن النهاية السعيدة "7" صارت مفخرة التكنوقراطية . نحن قادرون على اﻹيمان بالجحيم، لكننا ﻻنقدر على اﻹيمان بالسماء.
والرواية اﻷخيرة تتكلم عن قربان الرب. في فريغيا يجرح ( آتيس ) نفسه ويقتلها "8" ، و( أودين ) "9" يقدّم ضحية ل( أودين ) - بنفسه ولنفسه - ويبقى لتسع ليال كاملة معلقا على الشجرة جريحا بالرمح، المسيح يصلبه الرومان.
الروايات هي أربع. و عبر ما تبقى لنا من الزمن سنحوّلها وننسجها من جديد.


ــــــــــــــــــــــــــــــــ
إحاﻻت المترجم :

"1" الشاعر والمصور اﻹنجليزي المعروف (1828 - 1882 ) . كان من أصل إيطالي ، أحد  مؤسسي
جمعية (ما قبل الروفائيليين) وكان من عشاق أساطير القرون الوسطى مما إنعكس في أعماله التشكيلية وشعره.
"2" وفق الميثولوجيا اليونانية كانت ليدا زوجة تينداريوس ملك سبارطة ، وقد رآها كبير اﻵلهة زيوس عندما كانت تستحم وعشقها. في الأخير غنمها عندما تقمص هيئة بجعة.
"3" تقول اﻷسطورة اليونانية إن جازون ابن ملك تساليا يولكوس قاد حملة للحصول على ( الصوف الذهبي) للخروف الذي قيل وفق اﻷسطورة إنه يملك قدرات سحرية.
"4" ويسمى أيضا سيينا مورغا، وهو الطير اﻷسطوري في الميثولوجيا اﻹيرانية. وكان الطير أمّا بالتبني ل( زال ) الذي سمّي بالذهبي: زاله زار، وقد ربّاه سيمورغ . كما كان أبا لرستم أشهر بطل في الأساطير اﻹيرانية.
"5" هي آنية ( العشاء الأخير ). وفي أساطير القرون الوسطى كان فرسان المائدة المستديرة للملك آرثر يبحثون عن هذا الكأس الذي شرب منه المسيح.
"6" المقصود بطل رواية هرمان ملفيل ( موبي دك ).
"7" جاءت في النص بالإنجليزية :happy end .
"8" فريغيا هو اسم مقاطعة في اليونان القديمة هي اليوم في تركيا، وكانت دولة مستقلة في القرن الثامن قبل الميلاد. وآتيس أحد أبطالها اﻷسطوريين.
"9" أحد كبار الآلهة في الميثولوجيا اﻹسكندنافية . وكان إله الحرب والنصر والقتلى في المعارك، والشعر والحكمة والزراعة ( البذار خاصة )، كما كان يعتبر الساحر الأكبر.


في النحت العراقي الحديث يحيى جواد تدشينات صاغت حداثتها-عادل كامل











في النحت العراقي الحديث



يحيى جواد
 تدشينات صاغت حداثتها



عادل كامل
[1]   مدخل عام: النار والرماد
   ربما لأن (الإنسان) هو الكائن الوحيد المعني بترك اثر دال، ليس على إخفاقاته، أو على أوهام انتصاراته، بل على ديمومة هذا الانشغال، المتضمن دينامية مضادة للسكينة، ولكن بالحفاظ على بعث (المحو) من مدافنه النائية. فهو يعمل ليس كي يدوم، رغم انه أول من صاغ افتراضا ً للمدن الفاضلة، وأسس كيانات باذخة للجنات، والخلود، بل كي يدل أثره على ديمومة مشروع لم ـ ولن ـ يكتمل إلا عبر لعبة الغياب والحضور، مادام هذا الكائن لا يمتلك إلا مخفيات دوافعه، تحت ذرائع المجد، واحتفالات العبور..! صحيح، هو: حيوان ناطق، ولكنه سيعمل على تحويل الأصوات إلى إشارات، والى حروف، كي يحافظ على مرور ـ وربما عبور ـ  من الماضي الأبعد، فالأبعد السحيق، نحو المستقبل المفتوح، الذي ليس هو إلا هذا الماضي وقد تم تأجيله، بإحكام، حد استحالة تقويضه، أو إزالته، أو هدمه حد المحو.
   خطرت هذه الومضات ببالي وأنا أعيد قراءة الأسماء التي ظهرت خلال عقود الثلاثينات والأربعينات والخمسينات من القرن الماضي، في العراق، بلاد ما بين النهرين، وهي التي كونت مفهوما ً أو مصطلحا ً حمل عنوان: الرواد.
إنما راحت تتكون لدي ّ العوامل التي كونت النهضة الحديثة ـ قياسا ً بقرون طويلة كادت بغداد فيها تغيب عن التاريخ ولا تترك إلا آثارا ً مبعثرة، أو مجموعة من الإطلال، والمدافن، وبعض البساتين! فالأسماء، في الحقول الإبداعية: الاجتماعية، العلمية، الرياضية، القانونية، القضائية، الطبية، المعمارية، الأدبية، الفنية، بل وحتى السياسية ...الخ حملت شارة الريادة ليس بحكم الزمن، بل لأنها أسهمت بتحد ينتسب إلى التجديد ـ وليس بمعنى الفرية أو البدعة ـ مما منحها ـ اليوم وبعد أكثر من سبعة عقود ـ تقديرا ً يتناسب مع موجات الهدم، حد التخريب المبرمج، لكل منجز حمل سمة: العلم، الثقافة، والابتكار.
    ولكن المشكلة التي ستواجه الباحث ـ في قراءة هذا الانجاز الكبير ـ أن الكثير من الآثار، والأسماء، والتجارب، وعلاماتها، تعرضت للضياع، والتشتت، حد استحالة إعادة قراءتها على النحو المتكامل، والموضوعي، بحدود تاريخها، وما رسخته من تحديات.(1)
     ومع إن الفترة الزمنية ليست ببعيدة...، إلا أن إعادة رؤيتها بأدوات (أكثر حداثة) يجعلها تنتسب إلى أزمنة ما قبل الطوفان، مما يقلل ـ أو يزيد ـ منها، ولكن لن يشوش حقيقة إنها منجزات حملت إجابات تجعل مفهوم الإبداع مقترنا ً بعوامل الأعمار ـ  وليس بعوامل الهدم، والتخريب. فقد أنتجت مجموعة من العلامات غير المكررة، للسائد، وليست مستنسخة عن التجارب العالمية، تمام الاستنساخ، مما يميزها بأنها لم تتحول إلى (اثر) مندرس، بل إلى اثر علينا التنقيب عنه، وتسليط الإنارة المناسبة عليه.
     ففي مجال الثقافة/ الفنون، كمجالات الهندسة، القانون، الطب، الصناعات الأولية ...الخ، نالت بعض الأسماء موقعها في الذاكرة التاريخية، لكن البعض منها، لأسباب بحاجة للقراءة، تعرضت للإهمال، عمدا ً، أو من غير قصد، لدرجة إن الحديث عنها سيبدو افتراضيا ً ـ أو من صنع الخيال ـ  لأن مؤشر البحث (جوجل) يصدمنا بهذه الحقيقة (2)، مثلما تصدمنا المراجع الأخرى، مما يجعل الحديث عن بعضها، شبيه بالحديث عن علامة غائبة بين الميت وشاخصه، فلا الأخير يدل على الراحل، ولا الراحل لديه ما يدل عليه!
    هل قلت شيئا ً قريبا ً يعّرف سمة من سمات إبداعنا، رغم إن بغداد، بعد استقلالها عن الإمبراطورية العثمانية، كانت تتستر على زمنها الباذخ، في عصر الرشيد، والمأمون، وإلا هل كان من الصعب على المؤسسات/ الجمعيات/ النقابات، منظمات المجتمع المدني ...الخ،  خلال العقود الماضية، أن تؤرخ لهؤلاء الرواد جهودهم بما بذلوه ببناء بيئة معرفية جمعية، ربما ستشكل عاملا ً لأية نهضة تحافظ على هويتها ـ وسط عشوائيات التخريب، من التلف، النهب، والزوال؟(3)


 


[2] الاستديو ـ المحترف
     لا نمتلك معلومات دقيقة أدت بيحيى جواد، قبل أن يكمل عقده الثاني، لاختيار فنون متعددة، من النحت إلى الرسم، ومن الخط العربي إلى الترجمة، ومن الزخرفة إلى السرد، ولكننا نعرف انه أسس (ستديو)  يمارس فيه هذه الفنون، ويقدم نفسه نموذجا ً لجيل لا يمتلك إلا أن يكون تجريبيا ً.
    على ان حافزا ً (ما) سيبقى محركا ً لهذه الاختيارات...، من غير محفزات الحداثة، وهو يمارسها في أربعينيات القرن الماضي، وفي الوقت نفسه، لا معنى لها لو لم يكن يمتلك وعيا ً يسمح له ان يكون (مغامرا ً) و (تجريبيا ً)، كي يحقق ما كان يهدف إلى تحقيقه. فقد تكون العلاقة بين الرسم والخط والزخرفة (كما لدلا نيازي مصطفى)، أو بين النحت والرسم والموسيقا (كما لدى جواد سليم)، أو بين الرسم والشعر والترجمة والقصة (كما لدى جبرا إبراهيم جبرا)، أو بين الفن والمجتمع (كما لدى محمود صبري) أو بين التنظير والرسم (كما لدى شاكر حسن آل سعيد)...الخ، التي بلورت ملامح عدد من تجارب رواد ذلك الجيل الذهبي، إلا ان يحيى جواد، سيمارس، كموهوب، تجاربه بوصفها نسقا ً متكاملا ً، مستندا ً إلى التعددية، والانفتاح، والكف عن الجنس الأحادي، أو غلق الأسلوب، بالاستناد إلى تقاليد مألوفة، شائعة، ومنح التجربة (الفنية) مجالا ً أوسع تتمثل فيه الدينامية، والمغامرة، في حدود فترة حديثة، غير مسبوقة بريادات راسخة أو تامة...، إلا أن يحيى جواد، سيمارس (التعددية) في مسعى للخروج نحو (العالم)، رغم إدراكه أن وسطه الثقافي، مازال بكرا ً، ونخبويا ً، بل محدودا ً...
    فكيف نعيد قراءة مشروعه البكر: "الاستديو... المحترف..." بمعنى "المختبر" وليس بمعنى "الدكان" التجاري...؟
   لأن يحيى جواد، برهافته، لم يكن يجهل انه مازال يعيش في زمن: من أدركته حرفة الأدب ـ أي المهنة التي تؤدي بصاحبها إلى القاع ـ اقتصاديا ً ـ  ونفسيا ً...، ولكنه راح يعمل بالهاجس الفني والجمالي، بالدرجة الأولى، وليس بالمكاسب المحتملة، أو حتى بإشباع الرغبات ...، متمسكا ً بأكثر الوسائل حداثة، وفي الوقت نفسه: بأكثرها ً: قدما ً.
   فالورشة ترجعنا إلى عصر الكهوف ـ أي عصر  الآلهة الأم، حيث (المكان) غدا شرطا ً مغايرا ً لعصر البرية،  والغابة، ففي الكهف تجمعت أكثر الخبرات والتقنيات والمهارات التي أسست صفحات التاريخ المبكرة...، بمعنى ان الفنان ـ الذي لم تتح له فرصة إكمال دراسته في أوربا، راح يعلم نفسه بنفسه، بشروط دالة على موهبة مميزة بالبحث، والتنقيب، والاستحداث. فالاستديو سيتحول إلى: معهد، والى مدرسة، والى مشغل، والى متحف، والى ملتقى للإبداع ـ والمبدعين.





   ففي هذا المشغل سيمارس: الخط، الزخرفة، الرسم، النحت، التصميم، ليس لتلبية طلبات الزبائن حسب، بل للعمل على بلورة رؤية (نقدية) متعددة، وغير منغلقة، متشعبة ومتنوعة وليست أحادية. ففي تجاربه الفنية ثمة معرفة لا يمكن مقارنتها إلا بروح جيل تبنى شروط: التحديث. ولكن يحيى جواد راح يعمل وكأنه عاش في عدد من عواصم الحداثة الكبرى...، وإلا كيف استخلص، في هذه التجارب المتنوعة، ان منح الفن لغته الكلية، العابرة لأحادية الجنس الفني الواحد، وقائمة على نسق الخطاب العالمي، من غير إهمال الحفاظ على هويته، ليس كمجموعة علامات، إشارات، بل بوصفها تمتلك روح التحدي،والمغامرة، بمنح الفن: موقفه الفلسفي، الإنساني، الرمزي، والجمالي أخيرا ً.
     كانت أحلام الفتى الموهوب قد اقترنت بإكمال برنامجه، في هذه الحقول، المتنوعة، والمتعددة، برؤية سابقة لظهور جماعات (المجددين) و (الرؤيا الجديدة) و (الواقعية الحديثة) بعشرين سنة، ولكن عام (1967) لم يكن ذروة الإخفاق بالهزيمة، على الصعيد العربي العام، بل لقد أصيب يحيى جواد بمرض عضال أبعده عن العمل في (الاستديو)، لكنه لم يتخل عن تكملة ما كان قد تجذر في مشروعه المعرفي (الأدبي/ الفني). فقد كان يعمل بالهاجس ذاته الذي بلوره الكاتب مؤيد شكري الراوي، بعد عشرين سنة تماما ً: " ان الزمن الحالي يلح جذريا ً ليكون الإنسان نفسه، وينظر إلى وسائله بحرية واحترام؛ يهدمها ويعيد بنائها  تحت شروطه الخاصة. لا احد يفرض على الفنان شرطه القبلي. وليس ثمة وسائل محددة وقسرية تضعه على طريق معينة. إن الفنان يبدع داخل ملابساته الخاصة ويبدع عندما يحل أزمته بحرية وبجرأة دون ان يكون ظلا ً للآخرين وللقوالب"(4)
     ففي العام (1948) يقوم بترجمة عن الانكليزية مقالا ً حول الرسام (فرنسيسكو بورس) نشر في مجلة الأسبوع البغدادية...، وكان، قبل عامين، قد نشر قصة قصيرة بعنوان (أحياء وأموات) في جريدة الكرخ. وفي العام 1956 شارك في معرض (نادي المنصور) بلوحة واحدة بعنوان (دراسة)، وفي 1958 ـ 1059، نشر مجموعة أقاصيص قصيرة في مجلة "المثقف العراقية" ...الخ
    إلا ان المؤسسات (الثقافية/ الفنية) الرسمية أو الشعبية، ستهمل هذه التجربة، باستثناءات نادرة..، حتى ان اسمه ـ مجرد ذكر الاسم ـ لا يرد، في دليل الفنانين التشكيلين العراقيين لعام 1984، كما غابت أعماله، وتوارت، وكأن مشروعه ـ كواحد من الرواد ـ لم يكن سوى صدى لأصوات لا وجود لها...، قسوة بالغة، لم يعامل بها يحيى جواد وحده، بل هناك المئات من المبدعين، وهم، في الأخير، كانوا لبنات ببناء جيل مازال دعامة لمقاومة موجات التدمير المتلاحقة.(5)





[3] بقلم محمد الجزائري
       في العام 1977، التقى الكاتب محمد الجزائري، الفنان يحيى جواد، وقدمه بأسلوب يحفر في مخفيات عالمه الأدبي، الفني، وقبلهما، عالمه: الإنساني. فصدمة المرض لم تهزم الفنان، بل منحته واحدة من أكثر سمات الشخصية العراقية تجذرا ً: البسالة ـ بل الفداء.
   كانت تدور برأس الكاتب محمد الجزائري أسئلة لا تحصى، إنما كان أولها: كيف يفكر يحيى جواد بالهزيمة؟
أجاب الفنان:
ـ" بدأت روايتي بكلمة بسيطة هي أن أساس قوتي هي نقطة الهزيمة" نقطة الهزيمة كانت المثار لمذاق التحدي (أو: الطاقة) لإنسان كان يتعامل مع بؤرة القمة: ماذا بعد الشلل، ماذا بعد السرطان؟
يقول الجزائري: كان يجرحه سؤال عتيق مترسب في قاع نفسه.." عشت فترة ممارسة فنية بوجهها السطحي ـ يقول استخدام الفن كحرفة. وجوبهت في وقتها، من اقرب الناس وأشدهم ثقة بابتسامة الشك إن لم اقل السخرية: وهذه الابتسامة الساخرة كانت مثار منطلقي الأول. وكانت بؤرة العتمة، أو نقطة الهزيمة هب مثار منطلقي الجديد ..." ويروي يحيى الحكاية: " تساءلت مع نفسي: ترى إن كانت لدي الأصالة أو القدرة الإبداعية كقدرة تحسس الخلق فلتطرح، إذن، على البساط التطبيقي... ولأطرح ما أحس بع فعلا ً بعيدا ً عن الفخر واللمز، وابتسامات السخرية والهزيمة ـ وبدأت أتعلم الأبجدية من جديد... فالشلل افقدني القدرة على تحريك أعصابي ولأني لم أكن املك القدرة حتى على الإمساك بالقلم، وليس المغامرة بعمل فني...، بدأت بالإمساك بالقلم وتعلم الأبجدية (الألف باء) وأنهيت من الأبجدية بعد سنتين... وتتويجا ً لذلك، أنتجت أول قصة قصيرة بعد شللي وهي (الطوطم) ونشرتها في مجلة (ألف باء) عام 1969، وبعد هذا التجاوز والاقتناع بان طاقة المقاومة والتحدي قد عثرت عليها أو من الممكن أن تكون نواة موجودة في الداخل، بدأت الخطوة الأولى الوحي الحقيقي...؟
   ومن خلال هذا الإحساس بالقدرة على المقاومة والتواصل، انفجرت الطموحات من منطقة الحلم إلى ارض الواقع فانتصر يحيى جواد على شلله في كتابة قصة قصيرة فما المانع أن يكون الانتصار على شيء أكثر صلابة ويتطلب جهدا ً أعظم...؟
والسؤال هنا: هناك شفرة وليس قلما ً وفي الشفرة ما يستطيع أن يبدع بها أفكاره على الخشب... لذلك امسك بالأزميل وبدأ مغامرة جديدة. يقول الفنان:
ـ" ممكن أن تصبح حالة قدرية فرضت في غفلة عن الإرادة، حتى وجد الإنسان نفسه عائما ً في الدوامة القدرية.. ولكن كيف يمكن الخروج من هذه الدوامة والإمساك بمنفذ.. ولم لا يجرب؟ إذ ليست هناك خسارة أفدح من الخسارة الراهنة والشاملة جسديا ً. وبدأت التجربة الصعبة: انتهت إلى ومضات أمل صغيرة في البدء ثم صارت فعلا ً إحساس المعاناة بالموضوع أو بالقضية التي ستطرح في العمل الفني المتعايش في الذهن.فشلت بالإمساك بالمطرقة لأنني لا املك القدرة على الإمساك بأصابع يدي اليمنى الميتة. فتوصلت بعد جهد، إلى اكتشاف مطرقة خشبية ربطتها على أصابعي بحزام من الجلد وبدأت اعمل ... ونجحت"
   لكن الجزائري يستهل كلامه ـ حول النحت ـ لدي يحيى جواد:
ـ" في الغرفة المعلقة قبالة نخلة (البرحي) المثمرة كان القناع المرمري الأسود يعلن عن نفسه بوضوح: انه يحمل تاريخ العام 1941. لكنه أمسى أول عمل نحتي ليحيى. فاول تمثال نحته على المرمر (نحت نصفي بارز) كان الثور المجنح.
" هناك فرق بين طبيعة الموضوع وطبيعة المادة.. فمادة الخشب شديدة الحساسية في التعبير وهي تختلف عن قيمتها على مادة المرمر... والخشب بالنسبة لي ولوضعي الحالي أكثر صعوبة... واختياري له كمادة أتعامل معها في النحت فرضتها حالتي وذلك لخفة وزنه ولسهولة وضعه على ساقي لثناء العمل إنني لم اختر الخشب لخواص تعبيرية معينة إذ إنني ارغب العمل بالمرمر واشتاق إليه ولكن العائق الوحيد هو ثقل الكتلة وقدرتي الجسدية على تحريك المرمر والتغلب على معالجته وصياغته .. ولكن قد أجد وسلة ما أتغلب بهما على هذه المشكلة... وقد انجح](6)


[4] عبد الرزاق عبد الواحد: كلمة وفاء
     مع أن بعض (الأسماء) تلقى شهرة، لا أقول لا تستحقها حسب، بل أقول إنها تصبح مثالا ً لديمومة كل ما يتقاطع مع: الإبداع/ الابتكار، حتى تتحول هذه الأسماء إلى نموذج للرداءة ـ بوصفها علامة أو قدوة أو رمزا ً ـ فيما نجد بعض الأسماء التي تمتلك: المهارة، الموهبة، الرهافة، المغامرة، والقدرات على التجديد، تلقى الإغفال، والإهمال، حد المحو، وكأن ثمة قوة ما (غامضة) لا تقهر تعمل عمل: العملة الرديئة في طرد الجيدة منها.
   ففي كلمة وفاء، كتبها الشاعر عبد الرزاق عبد الواحد، لمناسبة تكريم يحيى جواد، تلقي الضوء على جوانب من حياة المبدع، وإبداعه، فجاء في فاتحة الكلمة:
ـ "  لقد عرف الناس يحيى جواد نحاتا ً منذ أواخر الأربعينات وبداية الخمسينيات يوم لم يكن غير جواد سليم خارج الوطن وخالد الرحال مدرسا ً في معهد الفنون الجميلة مع أساتذة آخرين."
متابعا ًبتسليط الضوء على الصعوبات التي واجهت يحيى جواد:
ـ " ولأنه ظل ممزقا ً بين ما هو عليه وبين ما يمكن أن يكون.. بين طاقته الكبيرة ولقمة العيش التي لم تمنحه وقتا ً للإنتاج فقد خلص من تمزقه بداء مخيف ... لقد كانت تنتابه نوبات جنونية من الرفض لواقعه ... يعرف أصدقاؤه انه في احدي الليالي رسم كل جدران غرفته وهو نائم وحين استيقظ صباحا ً وقف مبهوتا ً أمام جرأة وحيوية تلك الخطوط التي تكاد تلامس السقف حائرا ً كيف صعد إلى هذا الارتفاع على طللة وكرسي وحافظ على ثبات يده وتوازنه... يومها كان حال يحيى تسوء ... وكنا ـ نحن أصدقاءه المقربين ـ نعرف قسوة معاناته وخطورتها.. حتى لاحت عليه بوادر دائه القاتل... وتعاونا جميعا ً على دفع يحيى دفعا ً إلى السفر ...وفي صوفيا أجريت له واحدة من اخطر العمليات الجراحية استؤصل فيها قسم كبير من نخاعه ألشوكي ... وخرج يحيى من المستشفى مشلول اليد اليمنى... نصف مشلول اليد اليسرى .. مشلول احد الساقين ... وانتهى يحيى جواد النحات الرسام الخطاط قعيدا ً في دار أخيه"
لكن هذا لم ينهي حياته، يقول عبد الرزاق عبد الواحد:
ـ " كان (يحيى) يضحك وهو يحدثني عن طريقة عمله... يربط قطعة خشب في راحته اليمنى.. ذلك إن كفه عاجزة عن الإمساك بشيء ـ فتقوم يده اليمنى بمجموعها مقام المطرقة، بينما يمسك الأزميل بيسراه ... ثم يحتضن كتلة الخشب بعد ذلك بجسمه جميعا ً ليجري اللمسات الأخيرة بيده اليسرى الأقل عطبا ً."
  حتى أن الشاعر الكبير، يدوّن، في هذه الكلمة:
ـ " لك مني أيها الصديق، أيها الرجل.. تحية حب وانحناءة إجلال، أضع فيها شفتي على يدك المشلولة المبدعة" (7)







[5] النحت: ديمومة اللغز
    هل انشغل يحيى جواد بالأشكال، على حساب المعاني، أم انشغل بالمعاني على حساب الأشكال، أم انشغل بدمجهما ـ ككل من يرى المتضادات/ الثنائيات، بنية قائمة على غاية ابعد منهما ـ ليس للتوقف عند (التعبير)، أو عند (الحرفة) ـ كمهارة شخصية أدرك إنها ليست الغاية وحدها، بل عليها أن تمثل حزمة انساق متنوعة، من الحرف إلى الكلمة، ومن السطح إلى المجسم، ومن الواقعي إلى الرمز، حيث تنبني خلاصة ما آلت إليه (الحداثات) التي كان يرى يحيى جواد أطيافها، ولم يعشها، كما حصل لدى الرواد: أكرم شكري، فائق حسن، جواد سليم، ألدروبي…الخ، كي يسمح لتجربته ببلورة الأسئلة ذات الطابع الفلسفي العميق، أو الصحيح…، في حقبة مبكرة أسست تدشيناتها المبكرة للتيارات الحديثة، في العراق…، في شتى المجالات، ومنها فن النحت، للإجابة على أسئلة ـ هي في الأصل ـ المحرك غير المباشر لقلقه، وديناميته، وتطلعه  بنسج نصوص لا تظهر كي تختفي، عبر الاستهلاك، بل لتحفر في: لغز الديمومة ـ والزوال.
    فالعقود المبكرة التي عاشها، كانت قاحلة، وخالية إلا من مغامرات التدشين، لشاب كان خياله أداته للمعرفة، فلم يتلق دروسه في روما، أو باريس، أو لندن، بل علم نفسه بنفسه، في مدينة مازالت تستعيد بعضا ً من ماضيها، عندما كانت، في يوم ما، عاصمة للدنيا. إن هذا الإحساس وحده سيمنحه قدرة أن لا يتوقف عن استخدام الأدوات (المعرفية/ الجمالية)، ودمجها، أو صهرها، عبر انشغالات (الحداثة) وما بعدها…
   ولعله ـ هو ـ أول من أدرك عمق المأزق، والمسافة، والحدود، بين (أوربا) وهي تمتد نحو العالم، وبين بلدان لم تستطع مغادرة واقعها المرير، وهي المسافة بين المبتكر والمقلد..، بين المستهلك والمنتج…، بين المفكر والآخر المنفذ…الخ، كي يصدم بعقبة المرض، مرضه هو.
    ومع ذلك فانه ـ في العام 1977 ـ مكث منشغلا ً بالبعد الفلسفي للفن، لأن: : سقوط الإنسان في مأزق التحولات الفكرية، وأحيانا ً تغيرات مواقع الأشياء، ابتداء بالنظريات وانتهاء ً بالعلم والأرقام، تدفع الإنسان إلى أن يكون ميالا ً إلى التأمل . وفي حالة نزوع إلى البحث عن ماهية المطلق…"
    فإحساس يحيى جواد بمرارة التحديات: العامة،  والخاصة، لم تمنعه من مواصلة (الحفر) في (الزمن)…، وقد لا يكون لهذا جدوى إزاء المطلق، إنما راح بالإرادة ذاتها التي كان يراها كامنة في (الإبداع)، يعمل على تحقيق ذاته، في الأقل،  في نصوصه الفنية، أو السردية.
    ففي نحت  بارز على المرمر يرجع إلى فترة مبكرة جدا ً، يختار يدا ً تحفر في صخرة، في ارض قاحلة، صلبة، يد مكبلة بالحبال، لكنها تسمح للتعبير أن يرتقي إلى الرمز، لا ليمثل معاناته فقط، بل موضوعا ً لمدينته، حضارته، إزاء المصير. إن اختيار المرمر، قبل أن يصاب بالشلل، يسمح بقراءة أقدم المجسمات التي ظهرت فوق الأرض، في وادي الرافدين، بلده. وفي مجسم آخر،مغاير لحدة التعبير، نفذه بالخشب، يظهر مفارقة الحاضر بالماضي الطوطمي، حيث الخلفية تتشكل من علامات لمنحوتات بدائية، ترمز لحالة (النكوص)، والأمل معا ً..، وفي نص فني آخر منحوت بالخشب، يصور هيكلا ً لإنسان يحدق في المجهول، ملخصا ً محنة الإنسان الوجودية.
    ولأن يحيى جواد سيتحدث عن (خيبة برومثيوس) بعد أن حصل على (النار) رمزا ً للمطلق أو للحقيقة أو للعلم أو للحلم..، فإنه سيكتشف أن عملها هو الكشف عن الظلمات …، إلا إنها ستدله على مداها الأبعد…، في  الكشف عن المناطق الغامضة، وغير المكتشفة، والنائية.
    إلا أن مرارة (الخيبة) أو إحساسه بباطل الوجود، وربما لا جدواه، وقد عاش يحيى جواد فترة ازدهار (الوجودية) إلى جانب ازدهار (الماركسية) عبر العالم، لم يختر الصمت، أو الخلاص بالتأمل، بل ستبدأ، كما كتب الأستاذ محمد الجزائري:
ـ " رحلة يحيى جواد ثانية بالأصابع الثلاثة باليقظة الدائمة وبالإرادة التي تظهر بؤرة "العتمة" ونظرات الشك، ومذاق الهزيمة " وقد يتحطم الإنسان لكنه لن يهزم" كما قال همنغواي.
    وكأن يحيى جواد الذي نحت اليد وهي تحفر في الصخر، في شبابه، ستلخص برنامجه حتى النهاية، ملخصا ً مقولة "لاوتسي": اختر الخطوة الصحية" كي يحافظ على الفن، منذ ظهوره، ليس بإعادة الأسئلة، أو بتنويع علامات الإجابة أو أشكالها، بل بالإصغاء ـ حد الرهافة ـ للتعبير عن الموضوعات الكامنة ابعد من التعبير، وليس في إطاره، أو في مخفياته حسب.
    فالنحت يغدو شبيها ً بالمدينة، لا يكملها، ولا يوجد فيها،  فحسب، بل يصبح هو المدينة، أو مصنعا ً  لديمومة فعل (الفكر) الذي هو خلاصة: العمل ـ والتحديات. فقد جعل من منحوتاته القليلة ـ وأنا اجهل مصيرها، كما اجهل مصائر الكثير من إبداعات هذا الجيل ـ (نارا ً) لا تبدد الظلمات، بل تعمل معها بالبحث عن أغوار مازالت بانتظار ريادات، لا تنتهي بريادة أخيرة، أو تتوقف عندها، إلا للبدء برحلة تماثل لغز (إنانا) وهو لغز: الحياة، وما ما لا يمكن قهره فيها.

[6] المرأة: المقدس واقعيا ً
  إذا كان مشروع جواد سليم، لم يكتمل، إلا ببلورة خلاصة أصبحت قائمة، رغم رحيله المبكر، بـ: نصب الحرية...، وإذا كان خالد الرحال، قد نسج ـ كأسلافه القدماء في وادي الرافدين ـ دور (المحترف/ الصانع الأمهر) في صياغة النص النحتي، وإذا كان محمد غني حكمت قد أعاد للأساطير وحدتها بالموروث الشعبي، عبر الفعل السحري للسرد، وغوايته، وإذا كان إسماعيل فتاح قد حاك من أقنعة (الحداثة) مسرحا ً للصراع، بين الحب والموت، وثمة تجارب رائدة أخرى مكثت في الظل، لأنها لم تستعر دور حراس المعابد وأسوار المدن، الثيران المجنحة،  وملاحم النصر، وصيد الأسود، لدى الأسلاف....، فان القاسم المشترك الجامع لهذه التجارب، ليس (التحديث) أو محاكاة (الحداثة) الأوربية، وأشكالها حسب، بل الحنين إلى عصر الأم الكبرى. العصر الذي خلف متحفا ً مكونا ً من علامات الآلهة الأم، بوصفها صانعة للأسرار، وديمومتها أيضا ً.
     ولعل لا وعي يحيى جواد قد وجد في رؤيته الواعية منهجا ً تعلمه بالخبرة، والتدريب، والتشذيب، فلم يختر، من الأجناس التي مارسها، الشعر، لأن الأخير، عمليا ً، يتقاطع مع قراءة الواقع بتحليل الأسباب ونتائجها، فلم يجد في المرأة، إلا نموذجه المستعاد، تارة، والمستحدث، تارة أخرى، مشروعا ً لنقد غياب (العدالة)، اجتماعيا ً وسياسيا ً، بمنح المرأة ريادتها كصانعة للحياة، وليس تابعة ـ أجيرة ـ مبعدة قسرا ً، وجسدا ً للاستمتاع، لها.
     فاختياره للقصة منحه قدرة موضوعية على المراقبة، والترجمة ساعدته على معرفة ثقافات الآخر، علومه، وتقنياته، كيف تقدم، وانتقل إلى عصر التنمية، بوصفها شرطا ً للتحرر، وكان للتصميم موقعه في البناء بما يتطلبه من معرفة بالعناصر وإعادة صياغتها بخيرة نظرية، فيما استخلص من دراسته، وممارسته، للخط/ الكتابة، حتمية الانتقال من الأصوات إلى التدوين، والى التراكم، وهو الدرس المستخلص من الزخرفة كعلم إلى الهندسة والحساب، فيما كان النحت يمثل أقدم حقيقة لتجمع الإبعاد، الروافد، بتضافر دلالاتها الواقعية، والرمزية، معا ً.
   ولم يخض الفنان مغامرة الاتكاء على السحري، في اختيار الشعر، بوصفه ظاهرة صوتية تتقاطع مع عالم قائم على الإنتاج ـ الاستهلاك...، بل وجد في السرد، والبناء، والتحليل اختيارا ً لرؤية واقعية محورة فيها الكثير من التشذيب، الحذف، والإضافات، بما تتضمنه من أبعاد رمزية ـ وجمالية.
    فعند إعادة تأمل النماذج الأكثر شهرة لدى رواد النحت الحديث في العراق، سيشكل نموذج (الأمومة) و (المرأة) عامة، مدخلا ً لقراءة  رؤاهم، وخصائصها الأسلوبية...، فالأم ـ المرأة ـ والطفولة، عملت على هدم المألوف لسيادة عصر (الأحادية الذكورة) نحو عصر: التنمية ـ بوصف الإنتاج هو القانون الأول الذي أسسته المرأة كي يقترن بالتحرر ـ وبالحرية، بعيدا ً عن التطرف أو الجنسانية.
    فثمة إشارة للكاتب محمد الجزائري لها مغزاها:
"  من الملاحظة الأولى يتبين إن موضوعات يحيى جواد تحتوي الكائن، والأغلب، في الإنسان، والأخص: المرأة.." متابعا ً: " وفي كل الحالات نجد التأمل، وما تنطوي عليه الحالات من فلسفة أو موقف فلسفي من العالم في "خيبة برميثيوس" أو "خيبة سارق النار" في "الخليقة" أو "ادم وحواء" في رصد الالتحام الجنسي الأول للخليقة أو في خروج ادم من طفولته البيولوجية وهو يقف على العتبة الأولى من منطقة الجنس أو في "دون كيشوت" أو في  عشتار وثور السماء "المستمدة من ملحمة "جلجامش" أو في الموقف غير (الناصع جدا ً) من المرأة ...."(8)





   فسيجد يحيى جواد عقله، وحواسه، وجسده، ستعمل على صياغة نموذجه للام، الأم الكبرى، بعد أن فقدت قداستها، ولم تعد آلهة كبرى، ولكنها مازالت هي المصنع الذي  لا ينتج الحياة فحسب، بل يتوخى صناعة حياة متوازنة بين شروطها التاريخية، ودلالتها الرمزية، الروحية.
    ففي نحت بارز (رليف) يملأ النحات الخلفية بمجموعة من الطواطم، وإن كانت تسحبنا إلى العصور البدائية، إلا إنها تلقي الضوء على أقنعة الإنسان الحديث، وما يتوارى داخله من أصداء، وارتدادات. فالأجنة، بمختلف إيحاءاتها، تفصح عن مقاربة عالجها بتلقائية، عفوية، تظهر مدى المعاناة التي تواجه الإنسان المعاصر، داخل اطر جنسانيته، أو العمل على تفكيكها، والتحرر منها.
     وفي تمثال مدور، من الخشب، تنتصب الأم (المعاصرة) بانسيابية الصعود من الأرض إلى الأعلى، فالجسد لا يكتم الإيحاء الموسيقي، حيث (الطفل) يلتصق عند المنتصف، بين الثقل، نحو الأسفل، والرشاقة، نحو  السماء، أو الفضاء.
    فالنحات ـ هنا ـ يرجعنا إلى بذرة الخلق التي شكل (الرحم) لغز المنتج لديمومة مكثت تحمل جدلها في مواجهة الاندثار. فالأم  ليست آلهة أسطورية، بل حرية بما تتضمنه من مقاومة للتابوات، التحريم ألقسري، وعصور العبودية، والحريم...، فالمرأة لم تعد ظلا ً، أو  عورة، أو سلعة تابعة لهرمية عصر (الذكر)، فها هي تنتصب، مثل شجرة تتوسط العلاقة الواقعية بين الجذور (الأرض)  وبين السماء.  فالنحات لم يخترها وثنا ً، أو طوطما ً، أو جمالا ً خالصا ً...، على العكس، انه يسرد الحكاية بروح الموسيقا، بما تتضمنه من معالجة جدلية للآلهة الأم، برشاقتها، وكأنها تؤدي طقسا ً، إنما ليس سحريا ً، قائما ً على الغواية، أو التمويه، بل شكلا ً مشذبا ً بعيدا ً عن موروثات (الغواية) و (الفتنة) و (الفسق) نحو: الجمالي ـ بالمعالجة اللا جسدية، الأكثر اختزالا ً، لكن من غير إفراط نحو التجريد، مما يجعل حضورها، معادلة لا تقصي الاستحداث والحفر في التاريخ السحيق، ولا ترجعنا إلى أزمنة التكوين من غير اشتغال يحافظ على مضمون الخصب، محركا ً لا مرئيا ً للأمومة، في عصر انعتاقها، وليس في عصر عبوديتها.

1 ـ لم يرد اسمه في الدليل الذي صدر لمناسبة انعقاد مؤتمر الفنانين التشكيليين العرب الأول ـ بغداد 20/24/1973، وهو من إعداد: جميل حمودي. ولم يرد اسمه أيضا ً في دليل الفنانين التشكيلين لعام 1974، وهو من إعداد سهيل سامي نادر.
2 ـ ثمة إشارة كتبها شكيب كاظم بعنوان:" محاولة للتعرف على فن يحيى جواد القصصي.. موهوب طوته الأيام سراعا " فنان متعدد القابليات والمواهب، فيقول الباحث:"  كنا ونحن نمر من أمام مرسمه في شارع صلاح الدين، المطل على محلة (الكريمات) الكرخية، قبل أن ينتقل إلى الصالحية، قريبا من الجسر، أيام الستينيات من القرن العشرين، تدهش لهذه اللوحات والخطوط والتماثيل، فهو رسام ونحات وخطاط وشاعر وقاص." ليقيمه قاصا ً: " نعم، فهو قاص جيد يقف إلى جانب خيرة قصاصينا العراقيين، لا بل هو رائد من رواد القصة القصيرة في العراق، إذ نشر أول قصة قصيرة له عام 1946 في جريدة (الكرخ) التي كان يصدرها في ذلك الوقت الشاعر الشعبي الملا عبود الكرخي، وعنوانها (أحياء وأموات)" صوت الآخر: http://www.sotakhr.com/2006/index.php?id=26999
3 ـ والغريب أن الفنان جواد الزبيدي، هو الآخر، لم يذكر اسم يحيى جواد بين الرسامين ولا بين النحاتين أيضا ً. انظر: [دليل الفنانين التشكيليين العراقيين] إعداد: جواد الزبيدي. وقد صدر الدليل لمناسبة مهرجان يوم الفن لعام: 1987 ـ نقابة الفنانين العراقيين ـ المركز العام.
4 ـ دليل معرض جماعة المجددين الثالث/ مركز جمعية الفنانين العراقيين/2/9/1967
5 ـ  دليل المعرض ألتكريمي للفنان يحيى جواد ـ دائرة الفنون التشكيلية/ قاعة الرشيد (1983) قاعة بغداد (1988) والدليل من إعداد الفنان: شوكت الربيعي.
6ـ المصدر نفسه.
7 ـ المصدر نفسه.
8 ـ المصدر نفسه.
14/5/2016
Az4445363@gmail.com

الثلاثاء، 17 مايو 2016

أختام*- عادل كامل




















أختام*

    عادل كامل


[14] خاتمة: حافات مائلة

     ليس بيسر يمكن تحديد ما اذا كانت رهافة إنسان ـ ما قبل ظهور بعض الخطوط وبعض الأشكال قبل مليوني سنة ـ اقل أو أكثر رهافة من إنسان بالكاد حمى ما تبقى من هويته كانسان في عالم (النمل)، وفي عالم محكوم باليات الانتهاك، والاندماج، وديمقراطية الصوت الواحد، في عصر ما بعد التقنيات الحديثة، وتشكل القرية الكونية؟
    فإذا كان النموذج البشري المبكر قد كافح بحماية جلده ورأسه وفمه وبصره وجسده بالكامل من أنياب ومخالب ونيران درجات حرارة منخفضة أو مرتفعة، ومن ريح، ومن ظلمة، وأصوات مدوية ...الخ فانا أجد أن عدد الايذاءات ـ والمخاوف ـ قد تضاعف بالنسبة ذاتها لتنوع وجود الأفاعي والعقارب والذئاب والديدان والحشرات والميكروبات والكلاب والجرذان والصراصير، إلى جانب الضباع البشرية، والى جانب تنوع الملوثات، وآلات التدمير، والرصد، والمراقبة، في مدن تحولت إلى علب معدة تسكنها كائنات غادرت رهافتها من اجل تجاهل أنها تمتلك عادات في الحس، وقيم في الأفكار الفلسفية، والأخلاقية، وقدرة على تمييز الجمالي عن عشوائيات السلع المعدة للاستهلاك. إنها قلب التقدم إلى الأمام نحو ظلمات تتجمد فيها الأوصال، ولتشذيب درجة محو الرهافات، وتحولها إلى منطق النمل: تدمير أية نملة تميل نحو درب مغاير لعمل أنظمتها المصممة بعناية.
     في عالم يجد الفنان رهافته مهددة في كل ثانية، لا من لدن زملاء وأشقاء وعابري سبيل، ولا من قبل كائنات بعيدة تغزوك لتنهب وتسحق وتلوث وتحرمك من بقايا إنسانية  ـ سبق لها ان تعرضت للتدمير ـ  فحسب، بل لان ثمة ما هو مشترك يضطرك ـ بالهاجس السحيق ذاته في مقاومة العقارب والظلمات والمخالب والأنياب ـ لاختراع دفاعات ـ مهما كانت سلبية او مائلة او فائضة أو غير متوقعة ـ للحفاظ  على جلدك وراسك وبصرك وجسدك دفاعا ً ضد غزو يومي وانتهاكات دتئمة بلا رحمة، وانذارات مباشرة او رمزية تاتيك عبر وسائل البص او الاتصال، فاغلق بحرص المنافذ، واعمل على هدم الجسور، للاحتماء بما اراه تحديقا ً خارح مدى المرايا، وبعيدا ً عن الاستجداء.  ففي الختم تضع اليد حكمة اشتغالات ملا يحصى من الخلايا بالنظام ذاته في مقاومة سفينة غارقة محملة بأضعاف أضعاف سفينة (نوح) السومري، التي نجت، لكن لتواصل انتظار نهاية الطوفان الذي مكث عاملا ً بلا تذمر! فالفنان ليس أعمى كي ينهمك ببيع كل ما ينهبه من الاخرين ومن المتاحف التي سبيت وسلبت ليمثل عدوا ً لا يقل ايذاء ً عن اعرج خسيس يتباهى بالرقص فوق حبال لا وجود لها، ولا تقل لدغاته عن نذل لم يكن يمتلك الا (نعلا ً)، وبرأس خال ٍ الا من الشتائم، والكلمات الجوف، ليحمل ـ فجأة ـ شارة تدحض نذالاته وخسته، ليغدو نموذجا ً للصاعدين الى الوهم.  انها ذرات روائح لم تنتجها سواحل ماضسنا السحيق فحسب، بل ذرات دفعت باستاذ كبير كشاكر حسن الى العزلة والموت خاتمة لرحلة مضطربة، ودفعت ـ قبله ـ جواد سليم ليشغلنا برهافات مكثت تمدنا بنبل إنسانية مازالت تمسك بلغز مقاومتها للرداءات. ذرات لها فعل شظايا قذائف كومت وطننا فوق أجسادنا، وملأت حياتنا بإشعاعات ستبقى تعمل على جعل الاحتضار ممتدا ً حيث الموت جعلنا ضيوفا ً عنده.
     ألا تكفي هذه الصدمات من جعل الرهافة تبحث عن خامات قريبة للتي وجدها سكان السواحل والمغارات من بناء أختام لها تحتمي بها من أثير الموت وقد تداخلت ومضات نبضات القلب، في ما بين إشعاعات الضوء من خطوط سود ليس مصدرها الشمس فحسب، بل الضمير ذاته وهو يغوينا بالبقاء على حافة الحياة...؟ ألا يبدو الأثر ـ هنا ـ منفصلا ً عن النص، من اجل الحفاظ على ملكية يراها تؤول بالبناء إلى مصيره نحو لاندثار، والزوال، بعد أن لم يعد يجد في الكلمات إلا حجابات، وأسوار عازلة، وجدران، ومعدات، وسواتر لا تفصل الناس عن مصيره بل عن موته أيضا ً، ليجد أصابعه تدوّن هذا الشبيه بما حفره إنسان البرية فوق عظام  وجدها بجواره نداءات غير موجهة إلى احد وقد تركها تسكن لا حافاتها وقد حدد حدودها بمجسمات خامات لا تمتلك إلا ما تمتلكه روحه من باثات في عالم ليس له ـ فيه ـ إلا عبوره بعد أن كفت اللغة حتى أن تكون جسرا ً أو قبرا ً..!
10/4/2011
 
* نهاية الختم الأول، وقد سبق أن نشر الختم السابع في "سومريننت".

الأحد، 15 مايو 2016

كرنفال الذاكرة.......... وصخب الألوان-نجاح المصري زهران

كرنفال الذاكرة.......... وصخب الألوان
نجاح المصري زهران
اليوم زارني أول المناخ
بريشة الدفء ، يدفع تأويلات الدائرة بارتواء ذراتي ، كنت أحاذي سطوع الأمس على
ظلال البيوت المسكونة بحبات الفلك . تحدثت قليلا مع جارتي
المثقفة برسوم الفنجان ،لكن النجم همس معترضا لتُـعدل خطط الأشباح عما رأته من استنشاق انسان ،
وقلت له أن هذه الصور
تسلقت القصيدة، مبحوحة بشظايا الأرض ودوار الشمس ،
واللغة المسكونة بنقاط البدايات لم تلق سوى وردة حممتها الشمس تركض خلف كلمات من زغب . وكنت كلما اعترض يغويني الضباب للسير في حفر حُفظت الأرواح بداخلها وتهيأ لي أن بعضها تثاءب من تجربة العتمة بخلايا النوم ، لأرى ما كشفته الحجارة من راحة الوجه المذاب بمزاج البقاء .
والآن وقد خُيل لي أن شجرة التين ابتلعت في عروقها مقهى كلما مرّ
عليها طير قدمت له بعضا من خمرتها المذابة بحباتها العسلية ، ازددتُ فضولا بين تلك
الحمامات البريّة التي تُسبح لله ولا تعلن للفضاء عملها الصغير في ملحمة السرّْ
المتواصل لشحذ القش للأعشاش . هناك حيث تركت الرياح سفح الجبل للعصافير الآمنة ولم تنتبه لقنص البندقية . ولم أفهم لمَ........ لم يهرب من ذعره بِرفعة العيش . ..؟
وما زلت أُقلب تلك الوسوسة لأشجار حاذت الينابيع ومرايا الماء في وقت لا يشيخ بمهلة الصبر .وتلك الفزاعة التي آوتها الأرصفة ولم تهتم لها الغيمة المدججة بأنخاب البرق . تراهن على اتكاء الأثير بسراديب الورق وما سمعته عن انشغال الندى بثياب الورد ومدار المجرات وما أهدت القصيدة في قبوها لحبات القمح من شبع وفطام .
ربما أسرفت قليلا في دهشة الأسماء على يديّ وما سعل الليل على ضفاف السؤال ، يبكي منحدرا بين ظلمات الإجابة ورمية النرد لقمة ذابت بملاحم الحاجة لدمع عزيز على النايات .
سلام عيك أيها العقل من دحرجة العصف بأثداء المدن ، سلام على النجمة بأعالي الحنين قبل الاستسلام وبعد الوجع .
سلام على ارتداد الدمن عثرات الألم ، سلام عليكِ أيتها الألعاب الطفولية بأفراح النور وساعاتك المنسية بالكِبَر.
عدت قليلا الى زقاق يديّ! فرأيت الألوان تُذاب بنسيان الماء في الانكسارات ، وذلك الحنين المشطوب بمنحدرات اصفرت به كيمياء المحاولة .وتلك الجمرة التي تلكأت
طير كهولتي ، تأرجح مع السلاحف المسالمة لكني لم أرزق بقرصة العاشق من الألوان .
عايشت كل أغاني الشغف في محار مصلوب بلعاب البحر، والأحلام التي أصدرت حفيف الفَراش قبل السقوط ، رفعت ذراتي القطنية لخفة وزنها وعصرتها على اللون الهارب الى البياض ، فلم أجد هناك أنسجة لأحاسيس اللعب ولا البرق المتعب من أعصابنا .
يسيل من لجاجة خاصرة لا تفقه الصبر .
آه أي ريح هذه في جعلتنا نحتسي انزلاقاتنا بفن الرسم ، مقعد على الفجر على
أزهار الشرفة في التلاشي ، على الساعة الخامسة الا ربع منسية على ينبوع مبتور
الارتواء للإشراق والتوق شر مستطاب بعقارب الذاكرة ترضع التكرار من زند الاشتعال لحظة تمد يدك نحو الشهب واللهاث سنَّ النهار إثر الشمس ، ليخط مياسم المصابيح
وخيل لي أن النهر تعجل الذهاب خوف الجلبة على دموعه فهناك امرأة تخرج من الرجوع الى كف الأمومة لترجما تهجئي الحبر بـأنفاس الأبدية ،
تهدهد ذبذبات السرير لطفلها
الانقلابية ، وتعلق بين جفنيه كل ألوان الحب ، والسرّ ونصف السمّر وقصة البوصلة
وحكايات لعبت بحروف الحلم والشفاء .جلست أراقب شرارة طائعة
تجمع النبض بالألوان
هناك شبح مررّ الدجى
للزجاج وراهن الشاعر على مكنونات صدره ،
لكنه تقهقر بأقصوصة
الأبواب والبقاء وأمسك بوهج الشعر ليعيد النوافذ من استعادة الغبار في منتصف البحر
واللون والرهان
هناك كنت
أهادن المنارات
والمنافي وزنزانات السجن والسجان، ولسان الأسطورة في الكرنفال
لتنضج الطحالب المريرة

بكرنفال الذاكرة وصخب الألوان .