بحث هذه المدونة الإلكترونية

إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الجمعة، 17 يونيو 2016

سومريات على ورق البردي

قصص ليست قصيرة جدا ً- عادل كامل

قصص ليست قصيرة جدا ً




عادل كامل
[1] عفن
   قالت الدودة التي أخرجت رأسها المدبب من عفن لحم الحمار الميت، منذ أسبوعين، تخاطب زميلتها، وهي تتنفس الهواء:
ـ ما أقساه، حتى إن رائحة الزنابق، لم تعد تحتمل، ولا رائحة الشمس!
  فقالت لها زميلتها:
ـ إن عطر لحم حمارنا الميت، لا يمكن استبداله حتى بهواء الفجر، فكيف وقد امتزجت به رائحة الورود، والنهار!
فقالت الأخرى بصوت حزين:
ـ ما هذا التشاؤم...؟
ـ حرت معك...!
   فقالت لها، وهي تعيد دفن رأسها وتخفيه، بصوت خفيض:
ـ  لو لم نستنشق هذا الهواء، ونتذوق مرارته، لما استسغنا عطر عفن لحم حمارنا المسكين!


[2] ابتلاء
    ابتلى الثور ببقرة لم يفلح بالخلاص منها، أو التواري عنها، كما لم يستطع أن يستدرجها، أو يرغمها، لتجد ثورا ً آخر سواه، على مدى سنين طويلة، لتتخلص منه، أو يتخلص منها، فاعتكف وحيدا ً منزويا ًفي ركن مهمل من أركان الزريبة، يطل على الصحراء، فهزل، حتى كاد المشرف على الزرائب، أن يرسله إلى المسلخ، أو يرسله طعاما ً للمفترسات، في المحمية، مرات ومرات، لولا تحوله إلى جلد لا توجد فيه إلا كومة عظام لا تصلح لشيء، فترك الثور، وفاء ً للأدوار التي  قام بها قبيل اقترانه، وزواجه، في أيام الفتوة، والشباب، وها هو الآن أصبح لا يصلح للحرث، ولا للرقص في السيرك، ولا لإخصاب الأبقار الأكثر فتنة، ورغبة بمواصلة الحياة...، فقد تحول ـ كما دار بباله ـ: إلى ظل متنقل حتى وإن لم يذهب ابعد من حدوده! فصار لا يلفت النظر، ولا هو نظر بأسف لحياته، مادامت ـ في النهاية ـ كأنها حبة رمل تحملها الريح في بيداء بلا حدود، لولا إن (الموت) شاهده، ذات مرة، في إحدى جولاته التفقدية، ودنا منه، بفضول، لم يخل من ريبة، ليراه يلوك علفا ً ثم يتقيأه، وينام، بمعدة خاوية، ليستيقظ، ويكرر العمل ذاته، من غير أن يدفع الطعام إلى معدته الجوفاء، فظنه اجتاز عتبة هوس الثيران بطلب المزيد من حياة معناها يأتي بعد زوالها، أو ربما يكون معناها عصيا ً على الفهم، أو من غير معنى بالمرة....، وانه يستدرجه كي يضع نهاية لأمر خاتمته شبيهة بمقدماته، حتى لو تكررت إلى ما لا يحصى من المرات.  لكن الثور الذي استنشق رائحة حضور (الموت)  لم يكترث له...، فان جاء أو لم يأت فالثور لم يستبعد حضوره حتى لو تستر بالغياب...، فكر مع نفسه، وهو يدور حول ما تبقى من جسده، كما تفعل ثيران النواعير، مظهرا ً أسى شفيف انه جرجر إلى المحمية، لطلعته، ومهاراته، جرا ً، وانه لم يرسل إلى الذبح، أو ليصبح طعاما ً للضواري، والمفترسات، لأسباب لم تعد تشغله، ولم تعد تقلقه، أو تعنيه.
      فاستغرب (الموت) أن يرى ثورا ً ربما كان يخفي لوعة ما تجاوزت قضاياه الشخصية، حتى ظنه كان يفكر...، أو ربما تكون حرفة التفكير قد أدركته....، لكن الثور راح يخط بحافره الحاد المتآكل إشارات فهم منها الآخر انه بريء من أية تهمة، أو ظن، وانه لم يتورط بارتكاب هفوة، أو إثما ً، أو معصية من المعاصي...، فهو ـ خاطب الموت من غير كلمات ـ ود لو عثر على ظل ومشى خلفه، أراح واستراح، ولكنه في الوقت نفسه طالما رغب أن لا يجد هذا الظل فلا يشغله، ولا ينشغل به...
فقرب الموت رأسه منه هامسا ً:
ـ كأنك تكتم لعنتك على الزمان؟
   هاج الثور، رغم هزاله، متضرعا ً:
ـ لا تورطني بما لم افعل...، فالعلف وفير، والهواء شفاف، والماء صاف...، والزمان خير زمان!
مسرعا ً في الدفاع عن نفسه:
ـ فحياتي شبيهة بهذا الماء الذي نزل مدرارا ً من السماء ثم يصعد إليها  بسلاسة ومن غير شوائب!
   صفن الموت قليلا ً، وسأله:
ـ ما ـ هي ـ مشكلتك إذا ً...؟
فقال بلا خوف أو حذر:
ـ  لقد ابتلت بقرة بثور أحمق!
فقال الموت:
ـ تقصد انك ابتليت ببقرة حمقاء؟
ـ ما أدراك....، وأنا لم أتقدم بشكوى، وما بحت لأحد بهذا السر، فقد كتمته بأشد الكتمانات كتمانا ً، حتى أنني دفنته قبل أن يكون له وجود! فصار هو والعدم سواء بسواء!
   رق قلب الموت، فقال له:
ـ سأخلصك منها، فتستريح!
فصرخ بصوت مبعثر:
ـ ماذا تفعل بها؟
ـ سأرسلها إلى المكان الذي لا عودة منه!
   تكّوم الثور قدامه، وهو يتمرغ، متضرعا ً:
ـ لا تفعل ذلك... سيدي، لا تفعل ذلك!
ـ سأخلصك منها، ومن حماقاتها أيضا ً..لتعاقب بما فعلت!
ـ لا تفعل هذا .. أرجوك... لا تفعل هذا...!
ـ وسأنزل فيها اشد العذاب الذي سببته لك ..
ـ أرجوك، سيدي، لا تفعل ... لا تفعل...
ـ وادعها تأتيك تطلب العفو... والمغفرة...، بل حتى اجعلها تستنجد برحمتك!
ـ أرجوك ... لا تفعل ... لا تفعل...
   فقرب الموت رأسه منه، وسأله باستغراب:
ـ ما ـ هو ـ سرك..أيها الثور الغريب...، حتى وكأنك صرت تشفق عليها؟
ـ ...
ـ بل وكأن قلبك مازال يكن لها الود...، أو كأنك مازلت مولعا ً بها؟
ـ ....
ـ أم إن لقلبك رحمة اجهل مداها...؟
ـ لا... لا يا سيدي...
صمت برهة، ثم أضاف الثور مرتبكا ً:
ـ أنا أخشى أن ترسلها إلى العالم الذي لا عودة منه، كي تجد من تنزل فيه الحماقات التي فعلتها بي...، فلا تخرج أبدا ً من العالم الذي لا عودة منه، فيمتلئ بالرزايا، والخطايا، والحماقات!
ـ ماذا تقصد؟
ـ اقصد... سيدي الموقر، إنها قد تجد من تغويه، ثم ترسله إلينا، أو ترسل عجولا ً يافعة، فتزدهر الحماقات في محميتنا الآمنة، مرة ثانية!
ـ لن تقدر...، مادمت أنا هو حارس بوابات الجحيم، والظلمات التي لا عودة منها!
ضحك الثور، متمرغا ً بالروث، فاقدا ً آخر قدرة له على الحركة، وعلى الكلام، إنما ردد من غير صوت، ومن غير كلمات:
ـ  لو كنت تمتلك هذه القدرة، وهذا الصدق، لكنت منعتها من مغادرة العالم الذي لا تزدهر فيه إلا الظلمات، والذي لا عوده منه أبدا ً؟
فقال له غاضبا ً:
ـ الآن....، سأدعك تبحث عني فلا تجدني، وتطلبني فلا تراني!
  أأنت بقرة، لكنه لم يقلها، بل قال متندرا ً، وبلا مبالاة:
ـ مرة ثانية، لم تكن صادقا ً، لا معي، ولا مع نفسك!
ـ ماذا قلت، أيها الثور الأحمق؟
ـ لأنك ـ يا سيدي ـ لا تمتلك إرادة إنزال العذاب في ّ والى الأبد!


[3] خلود
   وهو يراقبهم يفرون، يجتازون السواتر، والحدود، تسمر في عشه، مع انه كان يرى الإعصار يضرب أعالي الأشجار، ويسمع صوت الرعد مدويا ً، فيما سيول الطوفان قد اجتازت حافات الحديقة، وأغرقتها...
    عاد يتأملهم: يغيبون....، بعيدا ً عن العاصفة، والأمطار، فراح يقهقه، مع نفسه...، لأنه  كان قد أصبح وحيدا ً، فلم يجد من يعترض عليه...، أو يؤنبه، فقال مع لنفسه: حتى لو نجوا من الهلاك ... اليوم...، فهل سيحصلون على الخلود؟  ذلك لأنه طالما حثهم للقيام بأعمال تصد الأمواج، وتسيطر عليها، وببناء سواتر لا تقتلع الجدران، إنما...، وقد تخيل المشهد بجلاء، لم يجد أحدا ً يصغي إليه، لأنهم كانوا يمضون الوقت بالبحث على دروب تقودهم لنيل الخلود!

[4] عودة
   بعد أن عاد من سفره البعيد، إلى مدينته، استقبل بحفاوة، من لدن أحفاده، وأبناءه، وهو لم يرهم، بعد غياب امتد قرون طويلة، كما لم ير شيئا ً تغير في المدينة، فحزن، ولم يخبرهم بأسباب عودته. فسأله احدهم: هل أمضيت حياة سعيدة حقا ً بعيدا ً عنا...؟
فقال بصوت خفيض جدا ً:
ـ لا... لكنها كانت محتملة؟
فضحك احدهم وسأله:
ـ ولكن لماذا عدت...ـ ما دامت الحياة غير محتملة في مدينتنا...؟
ـ لم أجد مكانا ً يصلح للموت، أفضل من هذه المدينة...!

[5] شفافية
    قال لزميله، وهو يشاهد ـ عبر شاشة الحديقة العملاقة ـ ارتفاع نافورات من الوهج والشظايا، ممتزجة بأعمدة بيضاء من الدخان والغبار، ترتفع إلى الأعالي، لتبلغ حافات السماء:
ـ لم يعد هناك بشر، لا حيوان، ولا نبات، بإيجاز: لم تعد هناك مدينة، وهذا كل ما في الأمر!
فقال له بصوت هادئ:
ـ أنا لا أفكر بالمدينة، لا بناسها أو بحيواناتها أو بنباتها، وقد غابوا عن الوجود، بل أنا أفكر...
وصمت، فقال له الآخر:
ـ تكلم.
ـ أنا أفكر: من ذا سيمحو المدينة التي لم تشيد بعد، بنباتها وحيوانها وبشرها، فوق هذا البياض الشفاف؟

[6] رؤية
ـ لا تضحك ..، فلم يتركوا لنا دابة لم يغتصبوها، لم يتركوا حجرا ً فوق حجر، لم يتركوا ممرا ً لم يلوث، فما الذي يثيرك ويدعوك إلى القهقهة تارة، والى الهتاف تارة ثانية، والى الرقص طوال الوقت...؟
ـ سيدي...، انظر؟
ـ أنا لا أراك!
ـ كيف تتهمني بالباطل إذا ً...، وأنا لم اعد إلا حافات غبار تتناثر ذراته عبر الفراغات...؟
ـ ...
ـ والآن لماذا بدأت تنوح تارة،  وتبكي تارة ثانية، وأنت لا تقدر على كتمان أساك؟
ـ أين أنت...؟
ـ ألا تراني...؟
ـ لا..!
ـ إذا ً....، انظر إلى ما تبقى منك، انظر جيدا ً إلى ما تبقى مني، كي لا أراك، وكي لا تراني!

[7] أصداء
ـ سيدي...، لم يبق أحدا ً في الحديقة...، فالتصفية جرت بهدوء، من غير صخب، ومن غير عنف!
فسأل مساعده:
ـ  لكني مازلت اسمع عويلا ً يخرج من الحفر...، من الشقوق، ومن الآبار....
ـ لقد ردمت جميعا ً...، البيوت والمغارات والمرتفعات، وصارت جميعها مثل سطح ورقة بيضاء!
ـ ولكن ما الذي اسمعه...؟
ـ هذه، سيدي،  بقايا أحلام كائنات انقرضت قبل أن نباشر بالتحرير!
ـ انه يكاد يربك سكينتي!
ـ سيدي ...، هذه ـ هي ـ أصداء حروف كلماتك وأنت تنقش علاماتها فوق ما تم محوه!


[8] عمل
ـ ماذا تجيد، وأنت تتقدم للعمل في مؤسستنا..؟
ـ سيدي، صنع الجثث!
ـ وأنت؟
ـ توزيعها على الممرات، والدروب، والحدائق.
ـ وأنت؟
ـ  أنا أجيد إعادة رسم ملامحها، وإعادة نقشها، وحذف الزوائد منها، وإضافة إشارات تجعلها أكثر جاذبية، دهشة، ولفتا ً للنظر..
ـ وأنت؟
ـ سيدي، أنا اختصاصي هو: الشفافية!
ـ وأنت؟
ـ سيدي، أنا لم يتركوا لي عملا ً..، فانا أصبحت بعداد العاطلين عن العمل!
ـ ها، ها، أصغ إلي ّ: أنت ستقوم بالعمل الأخير...!
ـ هل أعيدها إلى الحياة؟
ـ لا ... يا أحمق، أنت ستقوم  بمحوها!


[9] أصل
ـ تعال  يا حمار...، ما هي مشكلتك؟
ـ سيدي، أنا لم اعد حمارا ً!
ـ آ ...، أيها الثور..
ـ ولم اعد ثورا ً أيضا ً...
ـ آ ...، أيها الدب، أيها السبع، أيها الخنزير، أيها الديناصور...، أيها المفكر....؟
ـ سيدي، أنا لم اعد اعرف إلى أي الفصائل انتمي!
ـ ها، ها، ها، فأنت إذا ً النموذج الذي كنا نعمل على استحداثه: أنت الآن خارج هذه الأنواع، خارج هذه الصنوف، فأنت لا مثيل لك، ولا شبيه!
ـ ولكني لم افعل شيئا ً، سيدي، فلماذا اقتل؟
ـ  ها أنت رجعت إلى أصلك، وصرت تبحث عن الأبدية!


[10] ثمن
   نظرت النعجة إلى قطيع الماشية، وقالت مع نفسها:
ـ كلي فالعشب وفير، تنفسي فالهواء عليل، ارتوي فالماء زلال...، واسمني ...، استعدادا ً للذبح!
   سمعها كلب الراعي، فقال لها:
ـ هذا أفضل من أن تفترسك أنياب الذئاب...، أو تفطسين في ارض لا ماء ولا عشب ولا هواء فيها!
فقالت له:
ـ تلك حكاية أخرى، سيدي...، فانا لا أتحدث عن أحوال الجحيم، بل عن الذين يدفعون ثمن ولادتهم في هذا الفردوس!

[11] الواجب!
    نظر الطير إلى زميله القابع داخل ثقب تحت الأرض، في الطريق العام، يسحق، تحت الأقدام، من غير أن يرفع رأسه خشية أن يصاب بالمزيد من الأذى.  فبعد أن مر قطيع الجاموس، تبعه فصيل الفيلة، من ثم مرت قطعان التيوس، والجمال، والخراف.
   شاهده يرفع رأسه قليلا ً لعل الدرب فرغ من مرور الدواب، والمواشي، والمفترسات، إلا انه سرعان ما استنشق رائحة عفن الخنازير يقترب، يدك الأرض بحوافره الحادة، دكا ً، فأخفى رأسه تحت الأرض، حتى كاد لا يكون مرئيا ً.
    انتظر...، وهو يراقب من موقعه في أعلى الشجرة..، ليدرك انه لا يمتلك أية قدرة على مد المساعدة لزميلة، أو إنقاذه، أو مساعدته على الطيران...، لأنه وجد قراره بالاختباء في ثقب عثر عليه في وسط الطريق، أمرا ً أنقذ حياته من الهلاك، والموت المؤكد....، فبعد أن مر قطيع الثيران، تبعه قطيع البرمائيات، بمختلف أنواعها، وصنوفها، جاء دور الزواحف العملاقة، تزحف، تتبعها الإبل ذات الرؤوس المركبة، بعدها كانت النمور تهرول راقصة، منتشية بالاستعراض....، من ثم مرت أفراس النهر، والضفادع المرقطة، والديناصورات البيضاء ....، حتى كاد يسمع أنين زميله يأتيه، ممتزجا ً بالأصوات، والغبار، والروائح النتنة، من غير أمل أن يتوقف زحف المواشي، والطيور العملاقة، ذات الأجنحة الفولاذية، تستعرض فرقها استعدادا ً لأداء الواجب.
     هو الآخر، في أعلى الشجرة، فزع لعدم قدرته على مد المساعدة، أو الاحتجاج، أو حتى التذمر، مكتفيا ً بدعاء صامت أن يخلو الدرب من مرور باقي الصنوف الزاحفة، كي يساعد زميله بالهرولة نحو الدغل، والاختباء في الأحراش، بعد أن فقد قدرته على الطيران.
     أخيرا ً ....، مرت السحالي، والزرافات، والقواقع الحلزونية، مشت خلفها الأبقار السمان، تدك الأرض، حتى ظنها تسحق رأسه، هو، فما الذي كان يحدث لزميله، الذي وجد نفسه تحت الأقدام...؟
     تنفس الصعداء...، فقد فرغ الدرب، ليرى زميله يرفع رأسه، بهدوء حذر، مبتعدا ً عن الثقب، متتبعا ً بخطوات ثابتة الآثار التي حفرت أثرها عميقا ً في الدرب.
ـ إلى أين...؟
   لا يعرف إن كان الآخر سمع صوته، أو كان قد اصدر صوتا ً أصلا ً...، فقد شاهده يغادر الثقب، ينتفض، ويرج جسده...، من ثم راح يتتبع خطى القطعان الزاحفة المتجهة صوب الساحة الكبرى، بانتظار أن لا يكون بعداد المتخاذلين، أو الهاربين عن أداء الواجب....!

[12] النصر
   مكث الغراب يراقب كيف انقسمت الجرذان إلى فصائل، تدمر بعضها البعض الآخر، حتى لم يعد يرى سوى أشلاء آلاف الجرذان متناثرة، وجثثها تغطي الأرض...، فسأل زميله، وهما يقفان في أعلى غصن إحدى الأشجار:
ـ ماذا تقول...؟
ـ ليس لدي ّ عقل يستطيع العثور على رد، أو إجابة صحيحة...
ـ ألا ترى انه الغباء؟
ـ ربما هو الجنون، أو فقدان العقل...
ـ ولكن هل يدفع الغباء، أو فقدان العقل، إلى الحرب...، أم هو ...
ـ أخبرتك أن عقلي غير قادر على معرفة الأسباب، ولا حتى معرفة الأسباب التي أدت إلى نشوب مثل هذه الصراعات، والمعممات، والحروب...، فأنت تتذكر كيف حصلت المعارك بين فصائل الأرانب، وانتهت بزوالها تماما ً، ثم وقعت حروب النمل مع النمل، وحروب الماعز السود، والخرفان البيضاء، أعقبتها صولات الضباع ضد الضباع، والبعوض ضد الماشية، والعبيد ضد العبيد، ثم معارك الفقراء ضد الفقراء، ومعارك أخرى لا تحصى....
ـ آ ....، كأنك تكتم علي ّ ما تعرفه...؟
ـ لو كنت اعرف، يا رفيقي، لكنت غادرت هذه الحديقة منذ زمن بعيد.....، بدل الاستمتاع بمراقبة مشاهد سفك الدماء، وتناثر أشلاء الأجساد...!
   تساءل بدهشة:
ـ غريب...، وأنا أيضا ً اشعر بلذّة غامضة في المراقبة..، حد الاستمتاع!
ـ أرجوك...، لا تدعنا نختلف!
ـ لم اقصد هذا ...، بل قصدت: إذا  لم يكن الغباء، أو غياب العقل، أو ...، فما ـ هي ـ الأسباب التي تدعوا إلى مثل هذه الأفعال الشنيعة: حيث النصر، في نهاية المطاف، لا يحرزه إلا الموت! وإلا ما هو مصير من نشأ وتكون في عفن المستنقعات، أتراه يغادر الوحل الذي ولد فيه...؟
ـ لابد من حكمة ما غابت عن عقلك، وغابت عن عقلي!
ـ دعنا ـ إذا ً ـ نبحث عنها!
ـ صديقي العزيز...، لو كان لدينا عقل...، كما قلت لك، ما كنا ننشغل بمراقبة أقسى الأفعال الخالية من العقل، ومن الرحمة، ومن الشرف!
ـ آه ...إذا ً .. دعنا نبحث عن بلاد خالية من الحروب القذرة!
ـ صديقي، عندما لم تحصل على السلام في حديقتك، فمن ذا يتبرع بمنحك هذا السلام من غير ثمن؟!
ـ ها أنت بدأت تفكر! أي مازالت تمتلك عقلا ً...؟
ـ هذا ليس عقلا ً، يا صديقي، هذا هو السبب الذي يدعوني لطردك!
ـ لن تقدر...، فانا هو الأحق بهذه الشجرة...
ـ أنا هو الأحق بها، فانا هو الأقوى..
    ولم يترك احدهما الآخر، إلا وهما يتمرغان فوق التراب، وقد اختلطت دمائهما بجوار جثث هامدة للجرذان.

[13] محنة
    اقترب الغزال من قفص البلبل؛ تأمله، وكاد لا يفتح فمه، إلا بعد أن قرأ في صمت الآخر، لوعة طالما شعر بها الغزال، وعذبته. فسأله:
ـ لم تعد تغرد...، يا صديقي؟
     لم يجب، إنما راح البلبل يتأمل الغزال بشرود. تساءل الغزال مع نفسه، بصوت مسموع:
ـ أكاد اعرف محنتك..، يا صديقي، فأنت أسير هذه القضبان، مثلي، داخل هذه الحظيرة، مع باقي الدواب، وباقي الماشية...
ضحك البلبل:
ـ لقد أمضيت حياتي أغرد...، فكانوا يبتهجون بما افعل، ويقولون:  يا للصوت العذب...، بينما كنت أنوح، وأتعذب، وأنا أطالب بالعودة إلى وطني في الغابة!
   ابتسم الغزال ولم يجب. فقال البلبل:
ـ اعرف ما دار برأسك، يا صديقي...، لقد قلت مع نفسك: وماذا افعل عندما لا تكون للقفص حافات؟
رد الغزال بأسى عميق:
ـ عندما كنت طليقا ً، في البرية، قبل  أن أقع في الأسر...، كنت منشغلا ً بالهرب من المفترسات، ومن الضواري، ومن البشر عديمي الرحمة....، والآن، هنا، أصبحت لا اعرف هل ابتهج أم أنوح...؟
 غرد البلبل فجأة، فقال الغزال:
ـ كأنك تقول: عندما تأتي الحرية..، لا تجد أحدا ً يرحب بها!
    كف البلبل عن التغريد، هامسا ً بلوعة:
ـ هل عرفت الآن لماذا لا أرحب بالحرية!
هز الغزال رأسه:
ـ لا افجع من هذه الفجيعة...، ليس لأننا أصبحنا نحلم بها، بل لأنها أصبحت، هي الأخرى،  لا وجود لها!
   فراح البلبل يغرد مرة أخرى. فقال له الغزال:
ـ  أنت تستطيع أن تنوح، وتولول، بصوتك هذا الشجي...، أما أنا فلا احد كلف نفسه وأصغى إلى صمتي!

[14] قضبان

    شاهد العصفور الصواريخ تسقط في الجانب الآخر من الحديقة، تاركة أزيزا ً حادا ً، فسأل حمامة كانت تقف بجواره شاردة الذهن وهي تجهل ما كان يحدث في الفجر:
ـ   أخبريني، أيتها الحمامة، ماذا فعلت الأشجار كي تُحرق بهذه الصواريخ...؟
ضحكت الحمامة:
ـ إنهم لا يقصدون حرق الأشجار، بل يقصدون الدواب، المواشي، البهائم، الزواحف، والقوارض التي في الحديقة!
صاح العصفور:
ـ  أنا أيضا ً لا يعنيني أمر تلك المخلوقات....، فلا أنا مسؤول عنها ولا هي مسولة عني،  أنا سألتك ماذا فعلت الأشجار كي تُحرق...؟ هل ارتكبت الخطيئة...؟
ـ آ ....، لا....، رغم إنها ليست بريئة تماما ً، إلا أن الأشياء لم توجد كي تبقى إلى الأبد...، فان لم تجد من يدمرها، ويرسلها إلى المجهول، ستدمر هي نفسها بنفسها وتغادر وكأنها برهنت أن حضورها وجد بالعبور!
   قرب العصفور رأسه كثيرا ً من الحمامة:
ـ كأن الأمر لا يعنيك أبدا ً!
ـ وماذا افعل....، ولهب نيران الحرائق سيحول حديقتنا إلى تل من الرماد..!
ـ يا للجنون...، حتى انك لم تفكري بالغضب، ولا الاحتجاج، ولا حتى بالهرب!
ـ آ ....، فكرت طويلا ً ....، ولكن ألا ترى إنني لا امتلك قدرة الطيران، فانا ـ مثلك ـ  أراقب وأتحدث من وراء القضبان!

[15] مرور
ـ الكل يولول، الكل ينوح...، على ما يحدث في هذه الغابة، إلا أنت ِ ؟
أجابت الحمامة بهدوء:
ـ  لا تتعجل، أيها العصفور، فبعد أن يكلوا من البكاء، ويتعبوا من العويل، يصمتون...، آنذاك يأتي دوري، ويأتي دورك أنت أيضا ً!
ـ آ ....، هذا يعني إن الكل إلى زوال، عدا المعضلة وحدها هي التي لا تهرم ولا تزول!
ـ من يدري..، من يعلم..، هل تولول النار أم تغرد، وهي تشتعل، أم أن صمت الرماد وحده يعرف كيف يكتم لوعته، ومباهجه، فلا يترك أثرا ً يخبرنا عما حصل له، أو ما حصل لنا، في نهاية المطاف! أم أن هناك لغزا ً ما بينهما لم يسمح لنا إلا برؤية هذا المرور...؟
6/6/2016

معايير القراءة لدى الجمهور العربي: لا أجوبة محددة-بروين حــبيب *

معايير القراءة لدى الجمهور العربي: لا أجوبة محددة
بروين حــبيب *



من بين أفضل 100 كتاب حسب نسبة قراء «الغود ريدرز»، عشر نساء فقط كن أكثر جذبا للقراء هن رضوى عاشور بكتبها «الطنطورية، وثلاثية غرناطة». لطيفة الزيات بروايتها «الباب المفتوح». شيرين هنائي بروايتها «صندوق الدمى». دينا ممدوح في «قصاصات أنثوية». منى ياسين في «خبايا نسائية». إليف شافاق التركية بروايتها «قواعد العشق الأربعون». السعودية أثير عبد الله النشمي بروايتها «أكثر مما ينبغي». سارة البدري بروايتها «فاكهة محرمة» وأخيرا أحلام مستغانمي بكتبها، «الثلاثية، ونسيان.كوم، والأسود يليق بك».
بقية الكتب كلها لرجال، تنوعت بين الرواية والسياسة والدين. والغريب أن أغلب الأسماء التي وردت في القائمة غير معروفة تماما، أو لنقل إنها خارج دائرة الإعلام، وخارج دائرة الجوائز العربية التي أطلقت في السنوات الأخيرة، والتي تثير جدلا دائما بعد إعلان نتائجها، فيما بعضها لكتاب رحلوا مثل، جبران خليل جبران الذي غادرنا منذ أكثر من ثمانين سنة، ولطيفة الزيات التي غادرتنا منذ تسعة عشر عاما… لكن المفاجأة أن تبقى ألف ليلة وليلة، رغم كل ما صادفته من محاكمات واتهامات صامدة في «قائمة المئة» وعمرها اليوم أكثر من ستة قرون… وتتصدر كليلة ودمنة قائمة الكتب القديمة الأكثر قراءة وعمرها ألفا سنة.
قد يقول البعض إن مقياس القراءة في العالم العربي ليس موقعا واحدا، ولكنه أيضا، ليس معرض الكتاب الذي يقام في العواصم العربية، وليس المقالات التي نكتبها حسب قراءاتنا، ولعلي أثق في الموقع أكثر، لأن من يتوجه إليه قارئ يبحث عن الكتاب مستندا إلى مجموع القراء الذين يمارسون القراءة باستمرار، من دون محفّز آخر غير رغبتهم في القراءة ومناقشة أفكارهم بين بعضهم بعضا.
ليس سيئا إذن أن نعتبر الرواية الفن الأدبي الأول الذي يفتن القارئ، وليس كتب الطبخ وتفسير الأحلام وقراءة الطالع، والكتب الدينية الصفراء، كما يُرَوِّج الإعلام عادة.
هناك شيء إذن يلوح في الأفق يقول، إن الفن الروائي بدأ يأخذ مكانة محترمة في العالم العربي، وإن فورة النتاج الروائي التي أنتجت الكثير من الرديء والسيئ وأفرزت أقلاما جيدة بدأت تهدأ، وبدأت الأعمال الأدبية تأخذ مسارا أكثر جدية.
من جهة أخرى بدا أن نسبة المقروئية في العالم العربي تتأثر بما يشاع عن بعض الروايات على أنها روايات لا أخلاقية، أو «أدبا فضائحيا»، كما يسميه البعض، إذ لا تظهر في «قائمة المئة»، أي رواية من الروايات التي أثارت جدلا أخلاقيا حولها… لا تظهر بتاتا. وهذا يعني أن ما يروجه الإعلام العربي على أن هذه الكتب هي الأكثر مبيعا، معلومة مغلوطة، قائمة على المقولة التي تقول» ضربني وبكى، سبقني واشتكى»، فالإعلام العربي لا يشجع على القراءة، بل يصطاد في الماء العكر أحيانا ويحارب القراءة من حيث لا يدري.
فطعن رواية سلفا قبل أن يتلقاها القارئ، يبدو لي جريمة لا تغتفر، صنعت أجيالا تعزف عن القراءة، لأن الأدب في نظرها مادّة مخالفة للشرائع والتقاليد والأعراف التي تربينا عليها.
لم ينهج الإعلام العربي «الثقافي» تحديدا، على تشجيع القراءة وفتح باب المناقشات الراقية التي تؤسس لتقاليد جديدة مغايرة لثقافة الإقصاء ومحاسبة الكاتب على ما كتب، فمادة الكاتب في النهاية هي الحياة، وواقعه الذي يحيط به وإن كانت مخيلته تنسج قصصا بشخصيات، تبدو لنا لا نعرفها، إلا أنها موجودة حولنا ونعايشها يوميا بأسماء مختلفة.
غلطة الإعلام، أنّه روّج لمقولة إن الأدب «سيئ» قبل أن يصبح الأدب مادة تُحَرّم في الحلقات الدينية، وفي خطب المساجد أحيانا، ما جعل جمهور القراء يذهب نحو الإساءة للأدب قبل قراءته.
«قائمة المئة» تكشف لنا أن الكُتّاب الأبعد عن دائرة الضوء، هم بخير أفضل من الذين سلط عليهم الضوء حدّ الاحتراق، يقبل عليهم القارئ بهدوء وتعقُّل وتبادل آراء، يناقش العمل الأدبي في حدّ ذاته، من دون تجريح الكاتب، أو القيام بإسقاطات أخلاقية تطال شخصياته، ثم تطاله هو شخصيا لينتهي مجرما يستحق القتل، أو الإقصاء بأي طريقة أخرى، أو إقلاقه وتشويش أفكاره وإرعابه وتخويفه، حتى ينعكس ذلك على نتاجه. بعضهم يقل نتاجه، والبعض الآخر يدخل رقيبا إلى رأسه ليمارس مهنة القص الذاتية لكل ما يكتبه، فينتج نصوصا عرجاء، تماما كالأفلام التي يلعب مقص الرقابة بمشاهدها فتصبح مشوهة وغير مقنعة.
في «قائمة المئة» أيضا، نكتشف أن الرجال سادة الرواية وسادة الكتب أيضا، وأن «الكذبة» التي يروج لها الإعلام على أن القارئ العربي يذهب مباشرة نحو الأسماء النسائية في الغالب ليست صحيحة، فقد توضّح أن من بين مئة كاتب، عشر كاتبات يُقرأن.
والسؤال المطروح هنا، هو لماذا كل هذه الحروب على المرأة الكاتبة، ما دام القارئ العربي يثق في «ذكورة الأدب» إن صح التعبير؟ لماذا هذا الترويج السيئ للنصوص النسائية على أنها نصوص تهتم بالجسد، وأنها تخدش الحياء؟ أليس الأدب الرجالي على مدى قرون يتغزل بجسد المرأة؟ ولا شيء غير جسد المرأة؟ ألا نملك موروثا هائلا من الشعر الغزلي الذي لم يهتم سوى بجسد المرأة، وكأنها لا تملك من كيانها غير هذا الجسد الفاني؟ حتى أنها فُصِّلت تفصيلا مثيرا للضحك أحيانا، وشبهت بأشياء من الطبيعة، بل وببعض الحيوانات أحيانا، وكأن الحيوان أكثر جمالا منها، فقاعدة المشبه والمشبه به تقول دوما إن المشبه به أقوى تأثيرا ويعطي ثقلا للمشبه.
عرفنا من خلال الشعر القديم أن المرأة الممتلئة الجسم مرغوبة أكثر، طويلة الشّعر، بيضاء البشرة، أو سمراء، حمراء الخدود، ذات عينين سوداوين كبيرتين..
نقرأ مثلا لزهير على سبيل المثال:
فأمّا ما فويق العقد منها …… فمن أدماء مرتعها الكلاء
وأمّا المقلتان فمن مهاة …… وللدرّ الملاحة والصفاء
وهذا يعني أن لون البشرة المحبب شبيه بلون الأرض، والعيون مثل عيون بقر الوحش..
أما الأعشى فيقول:
ظبية من ظباء وجرة أدماء …… تسف الكباث تحت الهدال
وهذا لا شيء أمام غزل امرؤ القيس الذي تجاوز فيه جرأة كل من يدعون الجرأة اليوم من شعراء وكتاب، لكن مع هذا يبقى الشعر الجاهلي، شعرا يقرر في المدارس، من الخليج إلى المحيط، ولا تعلن الحرب إلا على النتاج الجديد، الذي يطرح قضية من قضايا الساعة، ويناشد بمناقشتها وإيجاد حلول لها.
وعلى ذكر الشعر، فـ«قائمة المئة» لم تشمل الشعر، غابت القصيدة تماما عن قائمة من يقرأون، لم يذكر حتى اسم نزار قباني أو محمود درويش، أو سميح القاسم، أو أي شاعر آخر صنع نهضة الشعر في القرن الماضي… حتى أن أحد القرّاء علّق قائلا: «إن كانت هذه الكتب هي أفضل الكتب العربية، فأقيموا على العرب مأتماً وعويلا. ينطبق عليكم قول الشاعر :
أماتكم من قبل موتِكُم الجهل …… وجرّكم من خفة بكم النمل»
والآن هل لنا أن نكون إيجابيين لاستقبال سنة جديدة بنفس جديد، أم أننا سنظلُّ نطعن أنفسنا ككتاب والمجتمع بعدها لن يرحمنا جميعا، لأن يزج بالإعلامي والكاتب والشاعر وكل من له علاقة بالكتاب في كيس واحد…
كل سنة والكتاب بخير، كل سنة والقارئ العربي بخير…
وللحديث بقية إن شاء الله

* إعلامية وشاعرة من البحرين
( القدس العرب

تاريـخ سـردي لـربـاعـيـات الـخـيــام-*د. عبدالله إبراهيم




*د. عبدالله إبراهيم
تاريـخ سـردي لـربـاعـيـات الـخـيــام

بدأت رواية "سمرقند" لـ"أمين معلوف" بالجملة الآتية المعبّرة عن غرق رباعيات الخيّام: "في أعماق المحيط الأطلسيّ كتاب، وقصّته هي التي سأرويها". ذلك ما تفوّه به بنجامين لوساج، آخر مَنْ آل إليه أمر مخطوط الرباعيات. نسخة فريدة فقدت بغرق الباخرة "تيتانك" ليلة 14 إبريل/ نيسان1912 في عرض المحيط قبالة الأراضي الأميركيّة. أبدى مالك المخطوط حزنًا، وتأسّى لفقدان ذلك الأثر النفيس "مذّاك زاد تسربُل العالم بالدم والظلّ يومًا إثر يوم، وأصبحت الحياة لا تبتسم لي قطّ. وكان عليّ أن أبتعد عن الناس كيلا أصغي إلى غير صوت الذكرى، ولكي أداعب أملاً ساذجًا، رؤيا ملحّة: غدًا سيُعثر عليه. وإذا كان صندوقه المصنوع من الذهب يحميه، فسوف يبرز من الظلمات البحرّيّة، وقد اغتنى قَدَرُه بمغامرة جديدة، ولسوف تستطيع بعض الأصابع ملامسته وفتحه والإيغال فيه؛ وتتابع عيون مأسورة من هامش إلى هامش وقائع مغامرته، فتكشف الشاعرَ وأبياته الأولى وسكراته الأولى ومخاوفه الأولى وفرقة "الحشّاشين". ثم تتوقّف غير مصدَّقة أمام رسم بلون الرمل والزُمُرّد". هذا مدخل شائق لرواية كتبت عن مخطوط شعري نفيس.
لم يحمل المخطوط الغريق تاريخًا، ولم يوقّع عليه الشاعر، وتألّف من مجموع من الأوراق الصينيّة البيضاء بملمس الحرير، عددها أكثر من مائتين وخمسين ورقة متغضّنة يلفّها جلد خشن، ومدعم من جوانبه بشكل يشبه ذيل الطاوس، صنعه ورّاق يهوديّ بناء على طلب قاضي قضاة سمرقند أبي طاهر. لا توجد في المجموع الورقيّ قصائد، ولا رسوم، ولا تعليقات، ولا زخارف، بل صفحات خالية تنتظر منْ يكتب عليها. أهداه لعمر الخيام القاضي أبو طاهر، حينما جيء به مكبّلاً من طرف الجماعات الدينيّة المتشدّدة بتهمة الزندقة، كونه مشتغلاً بالكيمياء، وبدل أن يعاقبه القاضي صرف الغلاة عنه، وأبقاه وحيدًا معه، ثم قال له "احتفظ بهذا الكتاب. وفي كلّ مرّة يتشكّل فيها بيت من الشعر في خاطرك، ويقارب شفتيك ساعيًا للخروج، فاكبِتْه بلا تحفّظ، واكتبه في هذه الأوراق التي ستبقى طيّ الكتمان". لم يكن كتابًا، إذ لم يخطّ عليه شيء بعدُ ليكتسب هُويّته، ولكن ما أن أصبح بحوزة الخيّام حتى بدأ يتشكّل بوصفه كتابًا، فكلّ رباعيّة دوّنت على أوراقه المتغضّنة كانت ترسِّخ من تلك الهُويّة.

أخذ عمر الخيّام بوصيّة القاضي ما تبقى له من عُمْرٍ، فقد وضع أبو طاهر تحت تصرّفه مشروعًا لتدوين رباعيّاته، وطلب أن يدوّن فيه خطراته الشعريّة، وبذلك وهب الحياة لأكثر أسرار تاريخ الآداب استغلاقًا، ففي طيّات ذلك المخطوط تنامت الرباعيّات سنة بعد أخرى، ثم ظلّت مدفونة "مدة ثمانية قرون قبل أن يكتشف العالم شعر عمر الخيّام الرفيع، وقبل أن تبجَّل الرباعيّات على أنها أكثر الأعمال طرافة على مرّ الزمن". لم يحرّر القاضي المتهمَ، ولم يرمِه في المعتقل، إنّما وضعه في مقصورة خشبيّة فوق تلّة في بيته ليكتب فيها أشعاره، فطردت هذه الضيافة الغريبة النوم عن الخيّام، وظلّ ساهرًا يراقب المنضدة الواطئة، وعليها قلم ودواة ومصباح مطفأ، ثم الصفحات البيض المفتوحة بانتظار أن يضع عليها أولى رباعيّاته.

مرّ زمن قبل أن يدوّن الخيّام شيئًا في دفتر أبي طاهر. فقد شُغلت سمرقند بتهديدات السلاجقة، وأُلحق الخيّام في بلاط الخان "نصر" بفضل القاضي الذي عرض عليه رعايته، ثم اقتحمت حياته أرملة طروب تدعى "جهان"، فكانا يمضيان الليل معًا في مقصورة الخيّام. وحينما نجح الشاعر في نظم رباعيّتين، عرفت "جهان" بالأمر، وهي شاعرة أيضًا، فندّت عنها صيحة استنكار أشبه ما تكون بزفرة احتقار؛ وأنحت باللائمة على الشاعر؛ لأن الرباعيّات "فنّ أدبيّ ثانويّ خفيف، بل سوقيّ، يليق أكثر ما يليق بشعراء الأحياء الوضيعة"، فلا يجوز للخيّام نظم رباعيّات لا قيمة لها في تاريخ الأدب. ثم حذّرته أن يتحاشى إطلاع الخان على شيء ممّا كتب؛ فهو لا يقدّر هذا الضرب من الشعر، ولا يرعى أصحابه، وإذا ما جازف عمر ووضع الرباعيّات بين يديه، فلن يدعوه قطّ للجلوس معه على سرير الملك بوصفه شاعرًا ذا شأن. لم يخطر ببال الخيّام كلّ ذلك، إذ لم يتمرّس في أن يكون شاعرًا في بلاط أحد كما هو أمر "جهان"، فجاء ردّه عليها "ليس في نيّتي تقديم هذا الكتاب إلى أيٍّ كان، ولا أرجو أن أجني منه أيَّ ربح، ولا أملك شيئًا ممّا يطمح إليه شاعر من شعراء البلاط".
كان الخيّام عزوفًا عن طلب المجد من غير نفسه منذ بداية أمره، وقد شغل باكتشاف ذاته وباكتشاف العالم. لكنّ حدثًا جللاً انتزعه من تأمّلاته، وهو ظهور الوزير "نظام الملك" والداعية "حسن بن الصباح". الأوّل بوصفه حاكمًا حصيفًا، والثاني باعتباره قاتلاً محترفًا، وما لبث أن نشب النزاع بينهما على الرغم من عهد الصحبة الأبدية الذي اتفقا عليه في زمن الصبا. حدث ذلك في "أصفهان" حيث انتهى الأمر بالخيّام، فنتج عنه تغيير كامل في أسلوب حياته، إذ فقد حُماته الكبار في خضمّ الصراع الدمويّ على الحكم، فأصبح طريدًا يدوّن بين وقت ووقت، في هذه المدينة أو تلك، رباعيّة وأخرى على صفحات مخطوطته.

وكان أن أصبح أحد حرّاس نظام الملك، واسمه ورطان، مريدًا للخيام بعد مقتل مولاه، فلازمه ملازمة القرين مخلصًا على أمل أن يقوده الشاعر من حيث لا يقصد إلى قلعة حسن الصباح للانتقام منه، لأنه تسبّب في قتل سيّده، لكنّ مصاحبته للشاعر أحالته تابعًا مخلصًا، ثم شارحًا لرباعيّاته، وساردًا لسيرته في حواشٍ تركها على هامش المخطوط، فأصبح بذلك مؤرّخًا للرباعيّات التي كانت تنموّ بتطواف الخيّام في دار الإسلام، وكان معه حينما تلقّى الخيّام وهو في "مَرْوَ" دعوة من حسن الصباح ليقيم معه محميًّا في قلعة "ألَمُوت". وفي موقف ملتبس دفع ورطان حياته ثمنًا لحواشيه على رباعيّات مولاه. وانتهى الأمر باختطاف الكتاب والاحتفاظ به في القلعة، وذلك في محاولة لإغراء الخيّام بتعقّب رباعيّاته إلى حيث أصبحت. ماذا يفعل الشاعر وهو في منأى عن رباعيّاته؟ قرّر أنّه "لن يسعى أبدًا للاحتفاظ بأثر عن المستقبل، لا مستقبله هو، ولا مستقبل قصائده". فقفل عائدًا إلى "نيسابور" مسقط رأسه. وهنالك قرّر "التوقف عن الكتابة". حينما يمتنع شاعر مثله عن الكتابة ينبغي أن يموت، وكان كذلك، وهو يقرأ كتاب "الشفاء" لابن سينا. توفي في نيسابور عن أربع وثمانين سنة، وكان تنبأ قبل موته بعشرين عامًا أن قبره سوف يكون في "مكان تَنثر فيه ريح الصّبا الأزهار في كلّ ربيع". وبموته شقّ ديوانه طريقه للحياة، فقد وصل إلى قلعة "ألَمُوت" لكن حسن الصباح أبى أن يودعه في المكتبة الكبرى للقلعة، بل حفظه في منزله، "داخل مشكاة محفورة في الجدار ومحروسة بشبكة ثخينة من المعدن".

وحينما توفّي الحسن بن الصباح عن نحو تسعين عامًا، لم يجرؤ خليفته الإقامة في عرينه، ولم "يجسر على فتح الشبكة العجيبة" التي يقبع فيها المخطوط محبوسًا، ولجيل آخر لم يغامر أحد فيقترب إلى ملاذ الرباعيات، حتى ظهر أحد الأحفاد المتمرّدين على تعاليم الجدّ الكبير، فخرق قدسيّة المكان وانتزع المخطوط، ثم نفض الغبار عنه، وعكف في بيته يقرأ رباعيّاته، ويعيد القراءة، وبتأثير منها حرّر أتباعه من نواهي الشريعة، معلنًا يوم الخلاص من تركة المؤسّس الصباح، ثم أمر بإجلال المخطوط بوصفه كتابًا عظيمًا من كتب الحكمة، وعَهد إلى بعض الفنانين بزخرفته: برسوم بالزيت وزخارف وصندوق من الذهب المنقوش المرصّع بالحجارة الكريمة، بل إنّه أصدر أمره "بمنع نسْخه حفاظًا على فرادة النسخة التي أصبحت بحوزته".

آخر ما انتهى إليه أمر المخطوط أنّه حفظ في قلعة الحشّاشين، فصار محلّ تنازع، إذ كلّ يريد الاستئثار به، وحينما ترجم إلى اللغات الحديثة في القرن التاسع عشر، أصبح الموضوع الأثير في الثقافة العالميّة، فتتبّع الأصل رجل أميركيّ من أمّ فرنسيّة، يدعى "بنجامين عمر لوساج" وتمكن من الحصول عليه، وحينما حاز عليه كان مصيره الغرق، فلا يعيش كتاب استبطن ملذّات الشرق في سياق لا صلة له به.
_____
*الرياض


الخميس، 16 يونيو 2016

فرانسس بيكون عام 1977- ترجمة عبد الرحمن طهمازي وغسان فهمي







 
بيكون: معاناة الناس والفروق بينهم هي التي صنعت الفن العظيم وليست المساواتية


صفحة من الدليل
 
من أعماله
 
من أعماله
 
من أعماله
 
غلاف الكتالوغ
 
من أعماله
 
من أعماله

فرانسس بيكون عام 1977
 ترجمة عبد الرحمن طهمازي وغسان فهمي


 في السابع عشر من تشرين الثاني/ نوفمبر 2012، افتتح أكبر معرض للفنان البريطاني الراحل فرانسيس بيكون (1901- 1992)، في سيدني عاصمة استراليا، تحت عنوان "فرانسيس بيكون خمسة عقود".  وقد احتوى أضخم مجموعة من أعماله (لوحات، تخطيطات، صور فوتغرافية، دفاتر، سكيتشات... الخ). وسترافق المعرض محاضرات عديدة تتناول أعماله نقدا وتحليلا، ومناقشات بين الزائرين والمحاضرين، كما ستعرض أفلام وثائقية تتناول حياته ومقابلات معه، وقطع موسيقية مستوحاة من اعماله. عقود خمسة تتجاذبها نزوات بيكون نفسه من علاقات مِثلية وسهرات خمر وصداقات مع كبار مثقفي عصره. لقد زار باريس عام 1927، ورأى معرض بيكاسو، فقرر ان يكون رساما: "بيكاسو كان هو السبب لماذا أرسم، إنه صورة الأب الذي أعطاني رغبة في الرسم".
وبمناسبة هذا المعرض، ننشر ترجمة لحوار أجراه معه الناقد ديفيد سيلفستر في أيلول عام 1974. ونشره مع ثلاثة حوارات أخرى في كتاب. وقد قام بترجمة الحوار الزميل الشاعر عبدالرحمن طهمازي وغسان فهمي:
ديفيد سلفستر- وجدت عددا من الرسوم التي عملتها في السنوات الثلاثة او الاربعة الاخيرة –خصوصا رسوم العارية – تذكرني بانه لفترة من الزمن كنت تتحدث عن الرغبة في عمل منحوت. هل انت تعتقد ان التفكير حول عمل منحوت له اي تأثير على الطريقة التي كنت ترسم بها؟
فرانسس بيكون- نعم. ارى انه ممكن تماما. لانه ولسنوات عديدة أفكر الآن كثيرا جدا حول المنحوت. بالرغم من انني لم اعمله حتى الان. لانه كلما اريد العمل اشعر انني قد استطيعه افضل في الرسم لكن قررت الان وضع سلسلة من الرسوم للمنحوتات في ذهني ورؤية كيفية الانجاز رسما وعند ذاك قد ابدا حقا على المنحوت.
- هل تستطيع إعطاء اي نوع من الوصف للمنحوتات التي فكرت في عملها؟.
- لقد فكرت بمنحوتات على نوع من الهيكل، هيكل كبير جدا مصنوع بحيث يمكن للمنحوت ان ينزلق عليه. ويمكن للناس حتى تغيير وضع المنحوت كما يريدون. لن يكون الهيكل باهمية الصورة لكنه سيوجَد للابراز، كما استعملت في الرسوم غالبا هيكلا لابرز الصورة. شعرت انني قد استطيع عمله في المنحوت اكثر حدة.
- هل تستطيع اعطاء اي نوع من الوصف للمنحوتات التي فكرت في عملها؟.
- لقد فكرت بمنحوتات على نوع من الهيكل، هيكل كبير جدا مصنوع بحيث يمكن للمنحوت ان ينزلق عليه. ويمكن للناس حتى تغيير وضع المنحوت كما يريدون. لن يكون الهيكل باهمية الصورة لكنه سيوجَد للابراز، كما استعملت في الرسوم غالبا هيكلا لابرز الصورة. شعرت انني قد استطيع عمله في المنحوت اكثر حدة.
- هل سيكون الهيكل شيئا مثل انواع السكة التي استعملتها احيانا في الرسوم – مثلا ذلك الذكر العاري المنحني عام 1952 او اللوحة التي عملت عام 1965 بامرأة وطفل اخذا من مايبرج Muybridge؟
- نعم لقد فكرت في السكة بفولاذ مصقول بعناية كبيرة وانه كان بالامكان ثقبه بحيث يمكن تثبيت الصورة بالبرغي في مكان ما في مواضع مختلفة.
- هل تصورت الوان وانسجة الصورة؟
- كان علي التحدث الى شخص ما فهم النحت اكثر مني تكنيكيا. لكن انا نفسي فكرت بانه يجب الصب ببرونز رقيق جدا – لا بنوع خاص من اللدائن لانني كنت اريده يمتلك وزن البرونز. وكنت اريد ان ارمي عليه طبقة من ماء الكلس بلون الجسد، بذلك سيبدو وكانه مغمور في ماء الكلس العادي، مع نوع من نسيج الرمل والكلس الذي حزته. سيكون عندك بذلك شعور ذلك الجسد وهذا الفولاذ المصقول جدا.
- واي نوع من المقياس كما رايت سيمتلك؟
- لقد رايت الهيكل كفضاء واسع جدا، مثل شارع، والصور صغيرة نسبيا في علاقتها بالفضاء. ستكون الصور رموزا عارية. لكن ليست عارية حرفيا. لقد رايتها كصور شكلية جدا لرموز في وضعيات مختلفة، اما منفردة او مزدوجة. لو كنت ساعملها ساحاول اولا عملها بالتاكيد في رسم. وامل انني ساكون قادرا على عملها في منحوت اذا انجزت على الاطلاق في الرسوم. قد اعملها على الجانب الخلفي من القماشة مما قد يعطي نوعا من الوهم عن كيفية ظهورها لو تركت في الفضاء.

- طبعا " ثلاث دراسات لرموز عند قاعدة الصلب " عام 1944 هي اشكال لدنة واضحة المعالم يمكن نسخها تقريبا في منحوته..
-  حسنا، لقد فكرت بها مثل يومنيد Eumenids (الصافحات حسب تراجيديا اسخيلوس.) رايت الصَلب بكامله في الوقت نفسه. حيث يمكن لهذه ان تكون هناك بدلا من الرموز الاعتيادية على قاعدة الصليب. كنت عازما على وضعها فوق هيكل حول الصليب الذي كان نفسه سيرفَع، والصورة كانت ستكون على الصليب في المركز وتلك الاشياء كانت ستكون مرتبة من حولها. لكني لم افعل ذلك اطلاقا. لقد تركتها كمحاولات فقط.
-هناك رسم حديث جدا يرمز لرجل جالس في غرفة مواجها النافذة وخارج النافذة نوع من الرمز الشبحي والذي هو مرة اخرى، انت الذي قلت، تمثيل لليومنيدز لعام 1944، لكن رمز الرجل في هذا الرمز، او الرمز المنحني مع النافذة المغلقة في الخلفية الذي رسم قبل ثلاث سنوات قد صدمني كطريقة مثالية حيث تميل الرموز لان تكون منحوتة. انها الان اكثر تعقيدا، فعندما تخلق الان شكلا نحتيا محددا، فهو مؤهل خلال ظلال الصبغ لخلق اقتراحات عديدة والتباسات. لتلك الرموز، رغم ذلك، لدائنية مشددة جدا.
- حسنا اود الان ـ من خلال التفكير حول المنحوتة ـ اود محاولة عمل المنحوتة بشكل منفصل لجعل الرسم نفسه نحتيا اكثر بكثير. اني ارى فعلا في تلك الصور الطريقة التي يمكن ان ترسم بها الفم، العينين، الاذنين بحيث تكون موجودة بطريقة لا عقلانية لكني لم اتوصل حتى الان لرؤية كبف يمكن عملها في منحوتة. قد استطيع التوصل اليها. انا ارى فعلا طوال الوقت صورا تستمر في النمو وهي شكلية اكثر وتستند على الجسم الانساني اكثر فاكثر. بالرغم من انها اخذت على حد ابعد من ان تكون تماثيل.. اود صنع البورتريت اكثر نحتية لانني ارى امكانية عمل شيئين عظيمين من شئ : صورة عظيمة وبورتريت عظيم.
-من المثير للاهتمام جدا انك تقرن فكرة الصورة العظيمة بالمنحوته قد يعود هذا الى حبك للنحت المصري؟
- حسن، هذا ممكن، اعتقد انه ربما كانت اعظم الصور التي يمتلكها الانسان حتى الان هي من النحت، افكر ببعض النحت المصري العظيم طبعا، كذلك النحت اليوناني. مثلا رخامات الجين Elgin Marbles في المتحف البريطاني مهمة جدا بالنسبة لي دائما. لا ادري فيما اذا كانت مهمة لانها شظايا. ولا فيما اذا شاهد امرؤ ما الصورة الكاملة اكثر حدة كشظايا. وكنت افكر دائما بمايكل انجلو: انه مهم بعمق دائما في طريقتي بالتفكير في الشكل. ومع ان عندي هذا الاكبار العميق لكل اعماله ؛العمل الذي احبه اكثر الكل هو الرسومات. انه واحد من الرسامين العظماء جدا ان لم يكن اعظمهم بالنسبة لي.
- غالبا ما شككت منذ 1950 ان بعض صور مايكل انجلو كانت هناك مع كثير من رموزك العارية، في خلفية ذهنك على الاقل، كنموذج اولي لرمز الذكر. هل ترى الحالة كذلك؟
ف. ب- حقيقة، اختلط مايكل انجلو ومايبرج في ذهني معا. وبذلك ربما تعلمت عن المواضع من مايبرج واتساع وفخامة الشكل من مايكل انجلو، كان من الصعب جدا بالنسبة لي فصل تاثير مايبرج عن تاثير مايكل انجلو. لكن، طبعا، بما ان معظم رموزي اخذت من الذكر العاري، فانا متاكد بانني متاثر بحقيقة ان مايكل انجلو صنع اكثر الذكور العارية شهوانية في الفنون التشكيلية.
- هل ترى صورا لمايكل انجلو معينة متوائمة الاشكال كان لها تاثير على اشكالك المزدوجة؟
- حسنا، تلك اخذت غالبا من مصارعي مايبرج – يبدو بعضها، الا اذا نظرت اليها تحت المايكروسكوب، وكانه في شكل خاص من العناق الجنسي. غالبا في الحقيقة استعملت المصارعين في رسم الرموز المفردة لانني وجدت ان الرمزين المقترنين لهما اثخن ويعطيان انعكاسا للصبغ لا تقوم به فوتوغرافات الرمز المفرد. لكني لا انظر الى فوتوغراف مايبرج للرمز فقط انا انظر طوال الوقت فوتوغرافات مجلات كرة القدم والملاكمين وكل هذه – خصوصا الملاكمين. كذلك انظر الى فوتوغرافات الحيوانات طوال الوقت ولان حركة الحيوان وحركة الانسان مرتبطتان باستمرار في تصويري لحركة الانسان.
- وهل العرايا متعلقة في الوقت نفسه الى حد بعيد بمظهر اناس معينين؟هل هي بروتريتات للاجسام الى حد ما؟
- حسنا، انها شئ معقد، غالبا افكر في اجسام الناس الذين اعرفهم. افكر بمحيطات تلك الاجسام التي اثرت بي بشكل خاص، لكنها مطعمة غالبا في اجسام مايبرج. انا اعلج اجسام مايبرج بالاجسام التي اعرفها. لكن هذا ؛في حالتي طبعا، مع تمزيق الصورة طوال الوقت او التحريف، او اي شئ تطلق عليه؛ هو طريقة موجزة لبلوغ مظهر ذلك الجسم الخاص. والطريقة التي احاول بها ان احدث المظهر تجعل المرء يتساءل طوال الوقت: ما هو المظهر في اية حال كلما عملت اكثر تعمق غموض المظهر بحد ذاته. او كيف يمكن ان يصنع ما يسمى مظهرا في وسط اخر وهو يحتاج الى نوع من لحظة السحر ليتخثر لونا وشكلا. وبذلك يكون الحصول على ما يساوي المظهر. المظهر الذي تراه في اية لحظة لان ما يدعى مظهرا مثبت للحظة واحدة فقط باعتباره ذلك المظهر.
وفي ثانية قد ترمش عيناك او تدير راسك قليلا وتنظر مرة اخرى ويكون المظهر قد تغير. اعني ان المظهر يشبه شيئا عائما باستمرار. وفي النحت قد تكون المشكلة اكثر حدة طبعا لان المادة التي يمكن ان تعمل بها ليست بسيولة الصبغ الزيتي وستضيف صعوبة اخرى. لكن هنا تكون المشكلة المضافة هي ما يجعل الحل شيئا اعمق بسبب صعوبة تنفيذه.
- يبدو لي انه في رسمك قد جوبهت بنوع من الصعوبة الكبيرة والتي قد تتعلق برغبتك بوجوب ان يكون الشكل في الحال دقيقا جدا وغامضا جدا. في تلك الثلاثية لعام 1944 استعملت ارضية ساطعة جافة لاشكال معروضة بدقة عالية وبساطة. اشكال منحوتة بجهد كوجودها، وكان ذلك منسجما كليا. وبعد ذلك اصبح التعامل بالاشكال تصويريا Malerisch (جذابا) وبهذا اصبحت الخلفية اكثر نعومة، اكثر لونا، غالبا ذات ستائر وكل ما هو منسجم بالكامل وبعد ذلك تخلصت من الستائر وصرت تجمع بين تعامل تصويري بالشكل – وبالصبغ يكون مزحوما اكثر فاكثر – مع ارضية صلبة، مستوية وساطعة، وبذلك جاءت قناعتان متضادتان بعنف.
- حسنا، اردت بشكل متزايد عمل الصور اكثر بساطة واكثر تعقيدا. واذا كانت الخلفية موحدة جدا وواضحة لاجل العمل يكون المنجز صارخا ارى من المحتمل ان يكون السبب لاني استعملت خلفية واضحة جدا مقابلها امكانية ان ترتبط الصورة بنفسها.
- لا اعتقد انني افكر باي رسام اخر حاول حل تناقض كهذا بين صورة (ماليرش) وارضية زاهية غير ملتوية.
- حسن. قد يكون ذلك بسبب كرهي للجو المالوف. وانا اشعر دائما ان رسما جذابا (ماليرش) له خلفية مالوفة جدا. كنت احب الفة الصورة مقابل ارضية صارخة جدا. اريد عزل الصورة واخذها بعيدا عن الداخل ومن البيت..
- عودة الى تلك المناقشات الطويلة حول المصادفة او الحادثة، حيث استوقفت خاصة بفكرتين تتكرران. واحدة كرهك للرسوم التي تبدو ما تسميه مصادفية والاخرى هي ايمانك بان الاشياء التي تحدث بالمصادفة مرجحة لان تبدو وبنوع من الحتمية اكثر من الاشياء التي تحدث بالارادة.
- لم يتم التدخل بها. وتبدو اكثر نضارة – ان مفاصل الشكل تحدث بالمصادفة متجلية باكثر عضوية وحتمية اكثر.
- فقدان التدخل، هل ذلك هو المفتاح؟
- نعم. الارادة قد كبتت بالغريزة
- انت تقول ذلك، المرء يسمح للمستويات الاعمق للشخصية ان تتلاقى حين يسمح للمصادفة بالعمل.
- مؤكد اني احاول قول ذلك. كنت احاول القول ايضا بوصولها بشكل محتوم. انها تصل دون تدخل الدماغ بحتمية الصورة. انها تظهر متجلية مباشرة اكثر مما اخترنا ان ندعوه باللاشعور. مع ان دعوة اللاشعور مثبتة حولها والتي هي نضارتها.
- الان، انت تقول غالبا ان الحوادث المثمرة اكثر تميل الى الحدوث في وقت اليأس الاعظم حول كيفية الاستمرار في الرسم. من جانب اخر حين سالتك مرة فيما اذا كان من المحتمل لفعاليات المصادفة ان تعمل جيدا في اثناء عمل الفعاليات الشعورية جيدا؟ قلت بعملها. طبعا تلك الجملة ليست غير متوافقة مع الاخريات، لكن هل تستطيع التوسع؟
- حسنا هناك ايام معينة يبدو العمل متدفقا منك بسهولة حقا حين تبدا به لكن ذلك لا يحدث غالبا ولا يستمر طويلا. لا اعرف هل ضرورة ذلك افضل مما لو يحدث شئ من فشلك وياسك، ارى امكانية ذلك. حين تسير الامور بشكل سيئ ستكون اكثر حرية بالطريقة التي تلطخ – بوضعك فحسب – اللون بها فوق الصور التي كنت تعملها، وانت تعملها بحماسة اعظم مما لو كانت الامور تعمل لحسابك. ولذلك فاني قد ارى الياس اكثر عونا، لانه من خلال الياس قد تجد نفسك عاملا الصورة بطريقة اكثر جذرية باتخاذ مجازفات اعظم.
- لقد اخبرتني ان نصف نشاط رسمك هو بتمزيقك ما قد عملته بسهولة. ماهو الشئ الذي تستطيع عمله بسهولة وتريد تمزيقه؟
- استطيع ان اجلس واعمل ما يسمى البورتريت الحرفي لك بسهولة كبيرة. لذلك فما امزقه طوال الوقت هو هذه الحرفية لانني اجدها غير مثيرة للاهتمام.
- وانا اعتقد بان العلامات المعمولة بالفرشاة يمكن ان تكون ممزقة فقط. كما هي فعاليات مثل رمي الصبغ او وضع الخرقة.
- اوه. بالتاكيد. بكون الصبغ الزيتي سائلا جدا، الصورة تتغير طوال الوقت في اثناء عملك، انت ترى، لا اعتقد ان الناس على العموم يفهمون، في الحقيقة، كم هي المعالجة الفعلية بالصبغ الزيتي غامضة بطريقة ما؟ لانه حتى تحريك الفرشاة بلا شعورية. بهذا الطريق لابذاك، يغير تضمينات الصورة بشكل كامل. لكنك تستطيع مشاهدتها فقط اذا كانت قد حدثت امامك. اعني بأنها الطريقة التي يمكن ان تملا طرف الفرشاة بلون اخر وبضغط الفرشاة مصادفة تترك علامة تعطي صدى للعلامات الاخرى. وهذا يؤدي الى تطوير اكثر للصورة. انه حقا سؤال مستمر للصراع بين المصادفة والنقد. لان ما ادعوه مصادفة قد يعطيك اشارة ما تبدو اكثر حقيقية، اكثر صدقا، للصورة من واحدة اخرى. لكن حسك النقدي فقط هو الذي يستطيع الاختيار، لذلك فان ملكتك النقدية تعمل في الوقت نفسه مثل نوع من المعالجة نصف اللاشعورية. او لا شعورية بشكل عام. اذا كانت تعمل على الاطلاق.
- طبعا، الثقة بالمصادفة يبدو امرا يتخلل كل اسلوب حياتك لشئ واحد. من الواضح جدا في موقفك نحو المال. اول ما عرفتك، لم تكن تحصل على الكثير من المال عن رسم ما، لكن حين ذاك، في اللحظة التي تبيع واحدا كنت تشتري الشامبانيا والكافيار لكل من في المرأى. لم تكن توفر اطلاقا. كنت تبدو دائما متحررا من التدبير.
ف. ب- حسنا، ذلك بسبب شرهي. انا شره للحياة. انا شره كفنان. انا شره لامل من الممكن ان تعطيه المصادفة لي بعيدا عن اي امر يمكن حسابه بمنطقية، وشرهي هو الذي جعلني جزئيا اعيش بالمصادفة – شره للاكل، للشرب لكوني مع الناس الذين احبهم لاثارة الاشياء التي تحدث لهذا فان الشئ نفسه ينطبق على عملي وانا مع ذلك انظر الى كلا الاتجاهين حينما اعبر الطريق. لانه بسبب الطمع بالحياة لا العبها بالطريقة التي اريد ابها ان اُقتَل ايضا. كما يفعل بعض الناس لان الحياة قصيرة جدا ومادمت استطيع التحرك والرؤية والشعور فانا اريد استمرار الحياة.
- تذوقك للروليت كما كان، يمتد الى الروليت الروسية.
 - لا. لانه لكي اعمل ما اريد سيعني العيش اذا كان ممكنا في حين انه في احد الايام كان احدهم يحدثني عن دي ستيل De stael كانت الروليت الروسية هوسَهُ. وانه في الغالب كان سيسوق حول الكورنيش ليلا بسرعة هائلة في الاتجاه المعاكس من الطريق. متعمدا رؤية فيما اذا كان يمكنه تفادي الامر او عدم تفاديه. اعرف فعلا كيف كان من المفروض ان يموت انه انتحر بدافع الياس. لكن بالنسبة لي فان الروليت الروسية ستكون تافهة. كذلك ما حزت على ذلك النوع الذي يسمى شجاعة. انا متاكد من الخطر البدني حقا يمكن ان يكون مبهجا جدا لكني اعتقد اني جبان بحيث اراوده عن نفسي وكذلك بما انني اريد الاستمرار في العيش، بما انني اريد ان اجعل عملي افضل من خلال الغرور، تستطيع القول، يجب علي ان اعيش يجب علي ان ابقى موجودا.
- حين لم يكن لديك اموال كثيرة كنت تصرفها كما كنت تفعل هل تركت قط معوزا لمدة من الوقت؟ ام كان شئ ما ياتي دائما للانقاذ؟
- حسنا غالبا عالجت الاشياء بحيث تاتي لانقاذي. اعتقد انني من اولئك الناس الذين لديهم موهبة التحصيل دائما بطريقة ما. حتى اذا كانت قضية سرقة او شيئا يشبه ذلك، لم اشعر ضدها باي شئ اخلاقي. افترض انه موقف اناني بدرجة كبيرة. سيكون مزعجا ان يقبض عليك وان توضع في السجن لكن لم يكن لدي اي شعور عن السرقة. بما انني احصل الان على مال سيكون نوعا من الترف الفارغ ان تذهب وتسرق، لكن حين لا املك اي مال ارى انني اعتدت غالبا اخذ ما استطيع الحصول عليه.
- لدي انطباع بان اتباع النزوات والقبول بالنتائج واهمال الامان هي ليست فقط الطريقة التي تتعرف بها بنفسك. انها كذلك التحامل الذي يحكم وجهة نظرك للمجتمع. اعني انك تتحدث كما لو ان مفهوم دولة الرفاهية مع ضماناتها لانواع خاصة من الامان تبدو لك نوعا من التحريف للحياة.
- حسن، انا ارى ان الرعاية من الدولة من المهد الى القبر ستجلب رتابة كبيرة للحياة لكن قد يكون في قول ذلك علاقة بما لم امتلكه قط من اخلاقية الفقر. ولذلك لا استطيع التفكير باي شي اكثر ساما من ان كل شئ سيُعنى به لاجلك من ولادتك الى موتك. لكن يبدو ان الناس يتوقعون ذلك ويرون انه حقهم. انا اعتقد انه اذا كان للناس ذلك الموقف من الحياة فسوف يقلص الغريزة الخلاقة. اؤمن بذلك، انا لا استطيع اثباته قد يكون ذلك صعبا لفهم السبب. لكني لا اومن ابدا ان احدا يجب ان يمتلك اي ضمان ولن اقبل ابدا الاحتفاظ به.
- انت تشعر انه كذلك كما قلت نوع من تحريف الحياة واحتمالاته ان الناس يجب ان يبحثوا عن الطمانينة.
- حسنا انه على الضد من اليأس من الحياة واليأس من الوجود على كل بما ان الوجود، بطريقة ما، عادي جدا قد تحاول ايضا وتضع نوعا من الفخامة له بدلا من ان يُرعَى لاجل السلوان.
- من الواضح ان السياسة بشكل اساس هي حول النزاع بين الحرية الفردية والعدالة الاجتماعية. ومن الواضح انك تفكر بان الحرية الفردية هي امر اكثر اهمية بكثير من العدالة الاجتماعية. الا تكون منزعجا حين ترى الظلم الاجتماعي؟
- انا اعتقد انها بنية الحياة. اعرف انك تستطيع القول ان الحياة كلها مصطنعة بشكل كامل لكني ارى ان ما يسمى العدالة الاجتماعية يجعلها مصطنعة بتفاهة.
- وانت لست منزعجا بانواع المعاناة التي يتحملها بعض الناس نتيجة للظلم الاجتماعي؟
- لا حين تقول انها لا تزعجني وانا شاعر جدا بهم بطريقة ما. لكني اعتقد بما انني اعيش في بلد فيه كمية معينة من الثروة، من الصعب التكلم عن بلد يوجد دائما فيه الفقر المفرط. وانه من الممكن جدا مساعدة الناس في البلدان مفرطة الفقر لان يبقوا في مستوى يمكن لهم فيه ان يتخلصوا من جوعهم وياسهم العام. لكني لست قلقا بحقيقة معاناة الناس لاني ارى ان معاناة الناس والفروق بين الناس هي التي صنعت الفن العظيم وليست المساواتية.
- انت تقول اذن ان الامر الذي بواسطته يحكم على المجتمع هو: امكانيته لخلق فن عظيم بدلا من شئ مثل السعادة العظمى لاكبر عدد.
- من يتذكر او يهتم بمجتمع سعيد؟ بعد مئات السنين او نحو ذلك كل ما يفكرون حوله هو ما تركه المجتمع. افترض انه من الممكن لمجتمع ان ينهض وهو كامل الى درجة كبيرة بحيث انه سيذكر بسبب كمال نوعيته. لكن ذلك لم ينهض حتى الان. ولذلك فالمرء يتذكر مجتمعا لما قدمه من انجازات.


الأربعاء، 15 يونيو 2016

ابن رشد.. بين مِحنَةُ الوَعْي.. ووَعْيُ المِحنَة-*إبراهيم الملا


ابن رشد.. بين مِحنَةُ الوَعْي.. ووَعْيُ المِحنَة
*إبراهيم الملا



تعتبر المحنة المعرفية والذاتية التي اختبرها المفكر والفيلسوف ابن رشد في أندلس القرن الثاني العشر، مثالاً ساطعاً لما يعانيه الفكر النقدي العربي اليوم من تضييق ومحاصرة وتهميش، خصوصا مع امتلاك فقهاء التفسيق والتبديع والتكفير لسلطة كهنوتية واسعة، وذائبة في ذات الوقت وسط منظومة من التأثيرات الدينية والعقائدية الضاغطة على الوعي الجمعي، والمنتشرة في مجتمعات عربية وإسلامية حائرة في تفسيرها للحداثة، ومنجذبة بقوة أيضا لمخيلتها الماضوية.

سعى ابن رشد في مشروعه التنويري إلى التوفيق بين الحكمة والشريعة، أو بين العقل والدين، من خلال وضع أطر ومفاهيم واضحة ومحددة تفصل الظاهر عن الباطن في مستويات المعرفة والتعاطي مع مفهوم الشريعة، فظاهر الشريعة، كما يراه ابن رشد متاح للعامة وللجمهور، أما باطنها فهو حكر على النخبة من الراسخين في العلم، والقادرين على تأويل النص المقدّس.



وعندما قدم ابن رشد شروحاته الوافية لآراء «أرسطو» سعيا منه للتقريب بين الفلسفة والدين، أو بين العقل والنقل، وعندما صرّح بمذهبه المبني على التنوير العقلي، حاربه المتنفذون من فقهاء عصره، ووجدوا في مقارباته تهديدا لمكانتهم بين العامة ولنفوذهم في البلاط، فأصدروا فتاويهم الظالمة، وأوغروا الصدور الغافلة، وفصّلوا ضدّه التهم الباطلة، فصار عند الناس من المبتدعة الضالين والكفرة، وأحرقت معظم مؤلفاته التي وصلت إلى حدود 50 مؤلفا، وتم نفيه إلى مراكش كي يموت حبيسا في داره في العام 1198 م.
ولد أبو الوليد بن أحمد بن رشد في مدينة قرطبة (1126 م) وسط أسرة أندلسية اشتهرت بالعلم والفقه، وكان جده قاضي الجماعة وإمام مسجد قرطبة، مالكي المذهب، أشعري العقيدة، ومن كبار مستشاري أمراء المرابطين، وحفظ ابن رشد كتاب الموطأ للإمام مالك ودرسه على يد والده الفقيه أبي القاسم، كما درس علوم الطبيعة والطب والفلك، أما اهتماماته المكثفة بالفلسفة اليونانية، وردوده على أبي حامد الغزالي، فكانت بمثابة الانعطافة الجوهرية، والنقطة المفصلية التي أدت إلى شهرته وذيوع اسمه بين الأوساط العلمية والفلسفية في أوروبا القرون الوسطى، حيث زاوج ابن رشد في بحوثه ودراساته تلك بين الفكر الإغريقي والفكر الإسلامي، فظهر فلاسفة كثيرون في أوروبا تتلمذوا عليه من خلال ترجمة تراثه المعرفي. ويرى الكثير من المؤرخين الأجانب أن العرب أهملوا العلوم العقلية بعد وفاة ابن رشد، وكان ذلك من بين العوامل التي أدت إلى انحطاط الحضارة العربية الإسلامية، منذ نهاية القرن الخامس عشر الميلادي وحتى أفول الخلافة العثمانية وسيطرة الاستعمار الغربي على الحواضر العربية المنهكة فكرياً وسياسياً واقتصادياً.

برهن ابن رشد على‏‭ ‬أن ‬الوحي ‬والعقل ‬لا ‬يتعارضان. ‬وحاول ‬النهوض ‬بالعقل ‬المسلم ‬وتجديده. ‬ووضع‭ ‬خطة ‬لتربية ‬الناشئة ‬تربية ‬عقلية ‬مؤسسة ‬على ‬الإسلام، ‬تحقق ‬معرفة ‬بشرية‭ ‬طبيعية ‬تمكن ‬من ‬فهم ‬قوانين ‬الطبيعة ‬والاقتراب ‬من ‬قوانين ‬الوجود، ‬تحترم‭ ‬العقل ‬وتقدره ‬وتراعي ‬القواعد ‬الشرعية ‬في ‬التفكير ‬والحكم.

يقول ابن رشد في كتابه المشهور (فصل‏‭ ‬المقال ‬في ‬تقرير ‬ما ‬بين ‬الشريعة ‬والحكمة ‬من ‬الاتصال‭»:(‬الشريعة ‬قسمان ‬: ‬ظاهر ‬ومؤوَّل، ‬والظاهر ‬منها ‬هو ‬فرض ‬الجمهور، ‬والمؤوَّل ‬هو ‬فرض‭ ‬العلماء».

مضيفاً: «إن مقصود الشارع هو تعليم العلم الحق والعمل‏‭ ‬الحق. ‬أما ‬العلم ‬الحق ‬فهو ‬الذي ‬ينحصر ‬في ‬معرفة ‬الله ‬تعالى ‬ومعرفة ‬الموجودات‭ ‬على ‬حقيقتها، ‬ومعرفة ‬السعادة ‬والشقاء ‬الأخروي، ‬والعمل ‬الحق ‬هو ‬عمل ‬ما ‬يفيد‭ ‬السعادة ‬ويتجنب ‬ما ‬يفيد ‬الشقاء. ‬وطرق ‬التعليم ‬اثنان، ‬التصور ‬والتصديق.‭ ‬والتصور ‬يكون ‬إما ‬بتصور ‬الشيء ‬نفسه ‬أو ‬مثاله. ‬والتصديق ‬يكون ‬إما ‬بالبرهان‭ ‬أو ‬بالجدل ‬أو ‬بالخطابة»‬.



والناس‏‭ ‬عند ‬ابن ‬رشد ‬يختلفون ‬بطباعهم. ‬لذلك ‬يرى ‬أن ‬الشرع ‬جاء ‬مشتملا ‬على ‬جميع ‬طرق ‬التعليم ‬هذه‭ ‬حتى ‬يجد ‬كل ‬واحد ‬ما ‬يلائم ‬طبعه ‬واستعداده. ‬فمنهم ‬من ‬يصدق ‬بالبرهان ‬ومنهم ‬من‭ ‬يصدق ‬بالجدل ‬ومنهم ‬من ‬يصدق ‬بالأقاويل ‬الخطابية. ‬وهو ‬ما ‬ترشد ‬إليه ‬الآية‭ ‬الكريمة «‬ادع ‬إلى ‬سبيل ‬ربك ‬بالحكمة ‬والموعظة ‬الحسنة، ‬وجادلهم ‬بالتي ‬هي‭ ‬أحسن»‬.
وكان ابن رشد من المنتصرين للرأي القائل بعدم وجوب العلم بباطن‏‭ ‬الشرع ‬لمن ‬ليس ‬من ‬أهل ‬العلم ‬به ‬ولا ‬يقدر ‬على ‬فهمه. ‬وفي ‬ذلك ‬يروى ‬عن ‬الإمام‭ ‬علي ‬بن ‬أبي ‬طالب (‬رضي الله عنه) ‬‬أنه ‬قال: «‬حدثوا ‬الناس ‬بما ‬يعرفون، ‬أتريدون ‬أن ‬يُكذّب‭ ‬الله ‬ورسوله؟».

مشيرا إلى أن من واجب العلماء المربين أن يراعوا قدرات الناس‏‭ ‬بالاقتصار ‬مع ‬العامة ‬على ‬تعريفهم ‬بظاهر ‬الشرع، ‬وعدم ‬تجاوز ‬ذلك ‬إلى ‬التأويل، ‭ ‬وإن ‬كانوا ‬هم ‬في ‬خاصة ‬أنفسهم ‬مطالبين ‬بالبحث ‬عن ‬معناه ‬الباطن ‬لأنهم ‬أهل‭ ‬لذلك ‬قادرون ‬عليه. وخلاف‏‭ ‬هذه ‬الطرق، ‬كما ‬يقول، ‬تؤدي ‬إلى ‬قلة ‬تقوى ‬الناس ‬وإضعاف ‬إيمانهم ‬ونشر ‬البغض ‬والكراهية‭ ‬والنزاعات ‬بينهم ‬وتفريقهم ‬وتمزيق ‬الشرع.
_______
*الاتحاد

الثلاثاء، 14 يونيو 2016

أختام *-عادل كامل





















أختام *


 الختم الثاني

عادل كامل
       


[6] المحدود ممتدا ً

     طالما أدركت ـ بعد تذوق مرارات العمل في الصحافة ـ أنني امشي آليا ضد إرادتي. فقد كانت الأخيرة لا تعمل على استنزاف الجهد ـ والتأمل ـ والشخصية فحسب، بل على دفع الفن باتجاه التداول. إن طبيعة الموجودات، منذ امتلكت الحد الأدنى للتحكم بمصيرها، وجدت أنها في الاشتباك. فالبشر ينقسمون إلى من هم في المقدمة، والى من هم في القاع: النظرية التي تعيد صياغة التقسيم القديم ـ الصياد/ الضحية، بما يناسب من يتحكم بالمصائر، وأنا أحسست، منذ الثالثة من عمري، بذلك الانقسام، ورحت أتتبع مساراته، ومشاهده، ونتائجه. ولست بصدد تفكيك خفايا المجال النفسي لدوافعي ـ هنا ـ بل لمعرفة دوافع من هم في المحيط/ الهامش لا يعملون من اجل استبدال أدوارهم بمن في المقدمة، وإنما لخلق توازنات لا تخلو من عدل، أو في الأقل: ليست جائرة. لكن العالم ـ بعد العصر الصناعي وما بعده ـ استثمر الأقنعة/ الأيديولوجيات، لجعل الاشتباك متواصلا ً. فالبشر لم يخلقوا للرقص، ولا لأداء أدوارهم في الاحتفال الجمالية، ولا للأعياد. فليس لدي ّ ما استند إليه عدا الأعداد الهائلة من الضحايا: في تدمير البيئة، والعناصر البكر، واستهلاكها حد الإيذاء ـ التلوث الشامل ـ، ومعاملة الحيوان بقسوة وجدت مبرراتها بأشكال مختلفة، فضلا ً عما خلفته الحروب من خراب وأخلاقيات قائمة على تعزيز التقسيم القديم. لكن العناصر وباقي الكائنات الحية لم تكف عن تشبثها بوجود اقل قسوة، وشراسة، ودناءة، إلا أنها لم تثمر إلا عن ذهاب القوى نحو غياب تام للشفافية. فالحياة ـ بزيادة السكان، وتراكم الموارد، وأدوات الفتك ـ مكثت تقسم البشر بين من يعمل مع المتحكم فيها، وبين من أصبحوا تابعين، وممحوين. 
     انه مشهد حفر في أسئلة  أجوبتها ـ عند البحث ـ كانت مصدرا ً للمعاقبة، والإيذاء. فالسؤال، لماذا الفن، لم يفض إلى فضاء مغاير، أو ناء ٍ، عن تغذية التقسيم. لأن الفنون الجميلة ـ وضمنا ً الفنون الأخرى/ والفنون الهامشية ـ لم تجد جسورا ً مع من هم بحاجة إلى أساسيات الحياة: الخبز والماء والإضاءة والقليل من الهواء غير الملوث.
     على أنني عقدت ثقة ليست عمياء تماما ً مع إرادتي في الانحياز إلى الفن. فثمة ظلمات لم أكن لأدرك كم هي بلا حافات لولا هذا القليل من الإنارة ـ وهذا القليل من الومضات. لكن القلب، هو الآخر، لا يعمل إلا كعمل مجرة بين المجرات! فهو لا ينبض بسبب أوامر يصدرها العقل، مع ان اللاوعي يسمح للوعي بمجاورة الضوء، والتدشينات السحرية. بمعنى اقل إحباطا ً للمغامرة فان القلب ـ بصفته مجرة وليس نجما ً أو كوكبا ً ـ  يوازن بين برمجته نحو موته بغواية العثور على خلاص غير مزيف تماما ً. فانا لا اعمل وكأن كل جزء من الثانية ـ حد عمل قوى اللا مرئيات ـ برمج آليا ً في (الماكينة التي تخيلها ديكارت) وفي الوقت نفسه، فان تفنيد المصادفة/ المصادفات، لن يفند ظاهرة الاضطراب ـ ومبدأ: اللا متوقع ـ واللامعقول في الأخير. فالأشياء بوجودها ليست بحاجة إلى برهان ـ لأنها وجدت تلقائيا ً، أو خرجت من العدم ـ مادامت أفكر بأدوات، هي، غالبا ً، من أسهمت بصياغة هذه التصورات. فانا  كمحدود أدركت ـ وهو مثال يقارن  بحدود وعي الآخرين ـ  ان اللامحدود الذي شغلني/ وشغلنا، لا يمتلك إلا ان يكون بحدود ما أنتجه المحدود، مع ان اللامحدود سيبقى ـ كالعدم أو كالأثير عند قدماء الحكماء ـ قائما ً ولا يمكن تفنيده. إلا أنني سأزداد شكا ً في تصوراتي، ولن استعين بها إلا نتيجة حتمية لاشتباكي مع المستحيلات؛ مع الزمن، ومع ديمومة التقسيم بين من اخترع التصورات وآخر لا يمتلك إلا ان يتدرب عليها، ويفندها، حيث العدالة ـ منذ أيوب السومري ـ لم يفلح إلا قلة ـ حد الندرة ـ من تخيل حتمية وجودها، كوجود العدم تماما ً. لقد كان عقلي احد أسباب انحيازي لرهافة طالما وجدتها في ما لا يحصى من المشاهد، ان كانت بالغة الدقة، أو باتساع المديات ما بين اللاحافات. ولكن قد تكون الرهافة ـ هنا ـ المصدر الأول، وليس الآخر الذي حدد عملها ـ هو السبب المباشر لها! لكني سأدرك ـ بالوعي وبالرهافة ـ ان احدهما لا يمكن فصله عن الآخر. فمن سوى العدم يستحيل ان يكون للوجود هذا التتابع، المحكم، حد ان اللا متوقع ـ والمصادفات ضمنا ً ـ مظهرا ً من مظاهره ـ وبرهانا ً على وجوده. لكن أي لغز سيحدد ماهية أو آلية عمل تلك القوة الداخلية ـ التي تبدو غير قابلة للدحض ـ في مواجهة استعادة العدم لموجوداته!
[7] اللا حافات ـ أو المشفر

     أيا ً كانت النتائج: كل ما لم ْ ير عبر الحواس، أو عبر الحدس، أو عبر العقل، إن كان العدم الممتد ـ  غير المدرك ـ أو الذي سينتج حلقة ما في التحولات، فان إرادة حياة الفرد لا يمكن عزلها عن مكوناتها ـ وتتابع أزماتها ـ كي ترتقي إلى الأفعال الخالصة. فالنسبية تعني أني مقيد بما امتلك، وليس بما أتخيل، أو افترض. لأن التصورات ليست مستقلة في ذاتها أو تعمل بمعزل عن مكوناتها.
     أتذكر ـ هنا ـ أنني سألت زميلة لي في العمل حول سبب عدم نشرها مخطوطات كان والدها قد أنجزها ولم ينشرها، فقالت بصيغة سؤال: وماذا تنفعه إن لم تخلصه من الآثام؟ فسألتها: وما ـ بتصورك ـ فيها من آثام؟ فقالت:  إن نصوصه الشعرية تتحدث عن مفاتن الحياة وغوايتها! هذا الحوار سمح لي أن استبعد نظام الذهاب إلى اللا عمل والوصول درجة الاتحاد بالكل، إنما ـ بعد أيام ـ سألتها: وما نفع كل ما تنجزه المخلوقات الزائلة للذي لا يزول؟  لم تبلغ في ردها ما كنت آمل أن تجمّد في ّ جذوة الشرود. لقد تحدثت عن الفضائل وما ينفع الناس. جيد. قلت لها: ربما في قصائده السر ذاته الذي لا يوجد إلا في الكلمات، أو عبر مشفراتها. السر الذي يتوارى في الأنظمة المشفرة للهندسات الجينية، بل الذي قد يكون سكن تصوراتنا ووعينا وحدوسنا التي تمتلك صدمات اللا متوقع، واللامعقول، لكن التي لها لغز هذا الذي يأتي من المجهول ليذهب ابعد منه! فقالت: أنا لا افهم هذا الكلام!
     مع زميلتي المشفرة بدفاعاتها، استعدت حوارات لي مع الأستاذ مدني صالح ـ أستاذي وصديقي حتى رحيله ـ فلم يصدمني صالح بنبوغه وعبثه ووعيه الشعري كما صدمني وهو يتحدث عن عدم اكتراثي للغرائب، بل ولا للصدمات!
     قلت لها: وهل يكترث المطلق ـ اللامحدود ـ  لنا، ولشطحاتنا، ولظلالنا المائلة، ولعثراتنا...وماذا لو اكترث، وجرت معاقبتنا ـ بعد موتنا أو في حياتنا ـ إن لم تكن غاية لها ذروتها بما تمتلكه من حكمة! وأضفت: لكني أرى أن انشغال بعضنا بما يبدو فائضا ً، أو له معناه المغاير لانشغالات البشر بحياتهم اليومية، كالبحث أو الذهاب إلى المناطق النائية، لم يولد قسرا ً أو يولد من الفراغ. هل دار بخلدك أن يوما ما سيأتي يتمكن فيه الناس من استعادة ما حدث في أي زمن ـ وفي أي مكان، للتعرف على قانون: لا عبث ولا مصادفات في الديمومة، لا التي تعرفنا عليها ولا التي مكثت مقيدة بقيودها، إنما التي تجعل المعارف ـ كافة ـ مع قليل من الفضائل، لا يمكن عزلها عن نسبية أحكامنا، وأفكارنا. فاللامحدود يتسلل عبر نظامه كي يكتشف المحدود لهفته في المغادرة، لكن للامساك بما اعتقد فيه، أو تصوّره، بل للذي سيبقى ابعد من تحديد موقعه الذي استحال إلى قيود عند البعض، والى سكن في اللا حافات عند البعض الآخر!



تأملات أثناء العمل ـ وقد سبق أن نشرت حلقات من التجربة تحت عنوان: اختما معاصرة.