بحث هذه المدونة الإلكترونية

إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

السبت، 30 يناير 2016

قصة قصيرة الشق-عادل كامل

قصة قصيرة

  الشق



عادل كامل
     وجد انه يتعثر بإكمال ترتيب جملة تتكون من ثلاثة أصوات، فما أن ينطق بالصوت الأول، حتى يتراجع للبحث عن الصوت الثاني، وما أن يعثر على الصوت الثاني حتى يكتشف انه غير مناسب للمعنى الذي قصده، وما أن يعثر على الصوت المناسب حتى يجد صعوبة اكبر في العثور على الصوت الثالث كي يكمل ما كان تبلور داخل ذهنه، بعد أن غادر الحفرة، وراح يحدق في فتحتها، من الجهات التي بدت له إنها محصنة، ولا تسمح له بالابتعاد عنها. فتحة بدت كنافذة صغيرة، ثم اعترض، إذ ْ بدت له مثل جرح لم يلتئم بعد، كأنه حز طولي حفر بقسوة، حتى وجده انه لا يعني أكثر من شق لم يعد يذكر اهو فتحة الحفرة أم نافذتها أم بوابة للطوارئ...؟ تسمر لبرهة مدركا ً استحالة بناء ثلاثة أصوات تمثل ما أثاره الشق، الذي بدا له مثل حبل رفيع يتأرجح ويتمايل ثم بدا له، على العكس، خشنا ً، وصلبا ً، فدار بخلده، انه لم يعد يمتلك وسيلة للتفكير بمعزل عن الكلمات، فالصوت، متابعا ً بحذر شارد، مكتظ بذاته حد الانفجار. فرفع رأسه قليلا ً مستدلا ً برائحة التراب الرطب، ممتزجة بالدغل، والأوراق، والأشواك، إنما كانت رائحة الحفرة حادة، لم تسمح له بالحركة والابتعاد أكثر من أمتار قليلة، ليس لوجود الحواجز سببا ً ليمنعه من التقدم، ومن اجتيازها، بل لأنه، منذ سنوات، اكتفى   بما توفره له من حركة، وصلة حميمة لا يمكن فصلها عن الحفرة. حفرة لا تمتد عميقا ً في الأرض الرخوة، ذلك لأنه لم يجد ثمة ضرورة للتوسع بفضائها الداخلي، مكتفيا ً بما توفره لجسده من استقرار، بعد أن اعتنى بتكور جسده داخلها، ومن غير ضرورة للتوسع، لأداء أعمال باذخة، دار بباله، أو لأي نشاط يمكن الاستغناء عنه.
    وعاد يتأمل: إنها ليست فتحة! لا...، معترضا ً، لأنها لا تبدو مناسبة للحفرة، فهي، رفع صوته من غير اكتراث لتداخل الأصوات، أو اضطرابها: شبيهة بالشق. ومثل حز عميق في كتلة صلدة. فلقد فكر بوجود علاقة ما بين نهاية الحفرة ـ وأحيانا كان يدعوها بالمغارة أو بالبئر المائل ـ وبدايتها. فالشق راح يؤجج لديه صورا ً لم يعد يراها، بعد أن وجد ان ظلام المغارة ـ نطقها هكذا بلحظة نشوة ـ لا علاقة له بانخفاض الأصوات، حد انه لم يجد مبررا ً للقول بان الصمت يمكن ان يكون كلمة دفينة مادامت، ردد، ان الحقائق تبرهن انه طالما لمح ما لا يحصى من الومضات تشع عندما يكون الظلام تاما ً، وقد شغل فضاء الحفرة بالكامل، ليجد انه اضطرب في العثور على سلامة التعبير، حتى لو كان أصواتا ً مبعثرة....؛ فانا هو من بدأ الحفر...، وأنا هو من اكتشف ان الصمت لا وجود له بينما لا وجود للظلام للخالص بالمرة...، وها أنا أجد ان الفتحة، لا تدل لا على الظلام، ولا على ما يمثله الصمت.
   مرت الخواطر من غير زمن، فقد شعر إنها كالعلاقة بين الفتحة ونهايتها، إنما: هذه ليست مدخلا ً ولا بابا ً ولا نافذة ولا بئرا ً مائلا ً ولا حزا  ً غائرا ً في جدار...، ولكنه لم يجد كلمة مناسبة إلا عندما تذكر انه لم يكن مهددا ً بعدو، أو بمداهمات مفاجئة، خاطفة، تحصل على نحو غامض، فلم يضطر لتأمل ثقوب تحميه من الخطر، للمغادرة، والهرب....، فما أن غادر جناحه، واستقل عنه، لم يجد معارضة حتى شعر انه وجد الحل المناسب، فلم يستغرق في العمل إلا ساعات حتى أكملها، بعد أن موه المدخل، حتى عندما ألقى نظرة عليه لم يتعرف عليه بيسر، ولم يفكر أن يجد له اسما ً، لا له، ولا للمغارة ذاتها التي كانت، من الداخل، شبيهة بجسده. فما ـ هي ـ الكلمة المناسبة....؟ ابتعد قليلا ً، رافعا ً رأسه، ليشاهدها تحولت إلى: شق....،لا...، وتردد، لكنها ليست فتحة، ولا نافذة، ولا ثقبا ً....، فقد تخيل انه صنعها من غير تصوّر مسبق، وان لم ينو أن يجعل منها مدخلا ً، ولا بوابة، ولا حتى بابا ً....
     ترك رأسه يستقر فوق العشب: فالحفرة برمتها أصبحت بمثابة الشق الذي خرج منه...، لا...، اعترض، فانا لم اخرج منه...،فانا كنت حسمت الأمر بعد أن تشتتنا وهربنا من الجناح...، فانا إذا ً هو الذي حفره، صنعه، رتبه، وأنا هو من دخل فيه...! أغلق فمه للحظة مستنشقا ً رائحة كانت تحملها نسمات الفجر...، رائحة لدنة، طرية، فخاف...، وعندما لمح خيوط الفجر من وراء الأشجار ذات الألوان الداكنة ترسم حدا ً بين السماء والأرض، اقترب من الشق: آ ......، أنا خرجت منك، وها أنا أعود إليك! لا ...، ذلك لأنه تسمر يتأمل المدخل مرورا ً بالحفرة حتى بلغ قاعها: يا لها من مسافة؟ شق غائر يغوص في التراب، ولكنه لم ينغلق. ابتسم ساخرا ً من عملية اللهو التي انشغل بها....، إنما أجاب بأنه طالما أمضى الليل يتحسس الحرارة الصادرة عن جسده، الحرارة التي كثيرا ً ما كانت تحميه من التجمد، حرارة امتزجت بأنفاسه، وبإشعاعات صادرة من باطن الأرض...، رغم انخفاض درجات الحرارة في الخارج. حرارة كان يتغذى عليها، حتى اكتشف إنها كانت تبدد العتمة، وانه كان يستطيع رؤية السقف، والحيطان، والأرضية الترابية المغطاة بالأعشاب، والعيدان، والريش، والصوف....، ويصغي إلى أصوات غامضة متباينة في شدتها، وفي انخفاضها...، تارة يسمع في الصمت عويلا ً، وتارة يصغي إلى أنين مكتوم، وأحيانا ً يرتجف لسماع أصوات دوي وأخرى لخرير تدفق المياه، أو لسقوط الأمطار، ممتزجة بأزيز لمرور الريح....، فليس ثمة علاقة ما بين الصوت والصمت الذي تخيله كحبيبات العتمة مزدحمة بالبذور المشعة. لا يوجد صمت بإمكانه أن ينفصل عن اثر ابر ملونة ذات نهايات براقة تحدثه في جسده كالتي كانت تتركه المخالب والأنياب وهي تعمل عملها في تمزيق جسده فيصرخ نافيا ً أن يكون للصمت الدلالة ذاتها لانعدام الأصوات، فكثيرا ً ما كان الصمت يلامس جسده بقسوة مثل مخالب وأنياب حادة تخترقه، فتدميه، وتعمل كعمل الإبر في جسد الطريدة فيلوذ هاربا ً باحثا ً عن جحر، أو نفق، أو حفرة، أو ثقب، أو شق، أو فجوة بين الصخور.
     وكأنه تخيل جده يصغي لصوته المتقطع، غير المترابط، ساخرا ً من لجوئه إلى مكان منفصل عن جناح الأرانب....، فأنت لا تلوذ بالماضي بل بما قبله....، تريد أن تعرف كيف حصل ذلك...؟ لا....، أجاب بشرود: لا .... أنا لا ابحث عن الحقبة التي لا فزع فيها ولا ذعر أو خوف....، بل أنا مشدود حد الجنون بهذا الشق الذي افسد علي ّ فاتحة هذا النهار!
     نظر إلى اليسار، والى الخلف، والى الأمام، والى اليمين، فلم يجد أحدا ً. لقد لمح خيوط الشمس تملأ الفضاء، ولمح تحول البلور الفضي إلى إشعاعات مستقيمة ومتموجة ممتزجة بالغيوم المتناثرة...
ـ أصبحت اكلم نفسي!
ضاحكا ً بسخرية:
ـ بمعنى أصبحت: أهذي!
     وقال حالا ً بعد لحظة صمت:
ـ مع من أهذي.....، وأنا كنت أدركت إنني لم اعد موجودا ً...؟
     لم يصدم، فلم يجد كلمة لها الأثر ذاته الذي تحول إلى: شق! فالأخير غدا مؤنثا ً. لا، رد: فأنا تماما ً لم اعد ابحث، بعد أن محوت وموهت أي اثر للفتحة والحفرة وجعلتهما يندمجان بعضهما بجسدي عميقا ً بالصمت وبالظلمات.....، فانا لم اعد منشغلا ً بأحد...، ولا حتى بهذا الذي لا اعرف كيف يمتلك جرأة استفزازي...؟
     انجذب لرائحة الحفرة فأحسها مثل هالات لها حافات رمادية تتدفق دافئة تخرج من الشق: رائحة بذور مضى زمن طويل على قطافها، لها مذاق العفونة. فكادت تجذبه للتراجع والعودة إلى الداخل، إنما عاد يشاهد الشق يرتفع من الأسفل إلى الأعلى: مثل هيأة الجناح الذي تهدم...، وهرب منه، فاستفزه الشكل: كأنني أراه للمرة الأولى....، وكأنه انبثق من العدم توا ً. فثمة حرارة لها رائحة رفيف أجنحة طيور ممتزجة برائحة سيقان أعشاب طرية وأخرى جافة. فضلا ً عن ومضات تحمل رائحة صوف وشعر ما انفكت تلامس انفه وتخترقه حتى أحس أن شيئا ً ما يوشك أن ينفجر داخل كيانه.
     أغلق فمه بصعوبة، بعد أن شاهد الشق يتسع أمامه حتى غدا بوابة بحجم باب الحديقة...، متخيلا ً أن الشق كان فوهة بركان...، تارة، وتخيله مثل شقوق الأرض التي تحدثها الزلازل المدمرة، تارة ثانية. إنما خيّل له أن الشق مثل بحيرة بدت له مثل حوت هامد...، رأسه يرتفع قليلا ً إلى الأعلى، وله أجنحة، وينتهي أسفله بمثلث حاد الحافات: بركان استحال إلى بحيرة اتخذت هيأة سمكة عملاقة: يا له من شق!
ـ أتراني صغت جملة مفيدة....، خالية من الحركة...؟
     أجاب بصمت إن الزمن انسحب وتوارى تاركا ً الفعل يتراجع حيث الصفر دفن أعداده وصار شقا ً!
ـ من يتعقبني...؟
     وكتم صوته كي لا يبدو مرتبكا ً وكي لا تغدو عزلته قد تحولت إلى ما يشبه العقاب الذاتي مما تستدعي طلبا ً للعون، او الرحمة! لا...، قال مع نفسه، من غير ان يفتح فمه، كي لا يظن انه بصدد طلب المساعدة...، أو استجداء المعونة. فالعملية برمتها نجحت رغم غياب المريض! فثمة المرض وحده هو المشكلة، وليس الطبيب، ولا العقار. فانا ....، أفلحت بعزل حياتي تماما ً عن هذا الذي ...
    أغلق فمه منشغلا ً ـ بلا إرادة ـ بالشق. فقد لاحظ إن السمكة لم تمت، ولها ذيل شبيه بهرم مقلوب، وهي  تشع حرارة ناعمة تسللت إلى جسده مثل عطر لم يلوث بالغبار. أحس إن جسده يتهاوى، وهناك خدر بدأ يتسلل منتقلا ً من الرأس إلى الأطراف، شعر بأنه تحول إلى اخطبوط يحتضر، ويموت..!
ـ كأنك تتكون توا ً...، فقد كان موتك شبيه بالحفرة التي سكنتها وسكنتك...؟
   عاد يتفحص الشق، وقد غدا أعلى من مستوى الأرض، يرتفع كنهايات أشجار  تتدفق من خلفها الريح بغيوم داكنة.
ـ آ ....، ستمطر إذا ً...، وقد آن للطوفان أن ....
      إنما صدم وهو يرى الشق يغيب. يلتئم، ليصبح خطا ً حفر برقة، من الأعلى إلى الأسفل، يغيب أم ينبثق؟ لم يجد ضرورة للإجابة...، فالخط كف عن أداء عمله؟  فلم يعد يعزل، ولا يفصل، وليس هو بفجوة. فقد بدا رابطا ً أو لاصقا ً بين الجهتين، ليبدو الشق مثل ثمرة ناضجة. اقترب قليلا ً...، كأنه أراد أن يراه بجسده، وليس بعينيه، ثم ابتعد...، برغبة لا إرادية ترك رأسه يستقر فوق الحشائش.    
    ولم يستطع تجاهل انه لا يمتلك رغبة بالذهاب ابعد من المكان الذي يتمدد فوقه، فعاد يبحث عن الخط وقد بدا له حادا ً، منحنيا ً، وليس مقعرا ً، ثم بدا له كغصن شجرة جاف وفي أعلاه تتكوم مجموعة أوراق أبرية الحافات وفي أسفله ظهرت الجذور ممتدة وغائصة في الأرض...، فأحس براحة ما قائمة على الوهم، فالظل الذي شاهده لم يكن سوى شعرة شطرت عينه اليسرى وحجبت عنها رؤية الشق كاملا ً، وكأن ما بدأ يراه هو الحقيقية الملموسة، وليس طيفها، فالانشطار سرعان ما تلاشى ليعيد مشاهدة كتلة ضبابية اتخذت شكل الأمواج، إنما عموديا ً، بعد أن اوحت له بأنها كانت مستقرة أيضا ً فوق التراب.
     فدار بباله انه لم يقم بحماقة بمغادرة الحفرة، بل كل ما حصل انه خرج لتنفس الهواء، والاستمتاع برائحة النباتات، والزهور البرية، وإعادة التثبت من موقع مغارته بين الأجنحة الأخرى...، من ثم العودة والاستقرار داخلها.  ولكنه سرعان ما شعر بتثاقل في ترتيب الأصوات، وصعوبة بمنحها سلاستها المطلوبة، مدركا ً انه يواجه ضربات غامضة، وان أفكاره مهزوزة، مرتجة، فقد لاحظ، في الأعلى، نباتات ترتفع عاليا ً، بدت له مثل أعمدة حجرية لم يستطع رؤية نهايتها. وواحدة ظهرت كأنها فنار، أو منارة، فقد بدت له مثل: قصر قديم شيد عند ضفة النهر...! ثم سرعان ما استبدل الكلمة بكلمة: عمارات...، كان سمعها من الزوار، وقد أربكته، فاستبدلها بكلمة: ناطحات السحاب!  فوجد فمه ينفتح عن ضحكات متتالية، من غير سبب محدد، فهي بمثابة شقوق عمودية، مثل فنارات...، ترتفع عاليا ً، لا أكثر ولا اقل. معترضا ً: لكنها حادة، مستقيمة، وغير متعرجة، وليست غائرة. فهي لا تقارن بفتحة المغارة: بيتي! وانفجر بقهقهة متوترة أدت به للشعور باتساع الفراغ: إنها عمارات شبيهة بالقصور التي كان يراها تمتد عبر ساحل النهر...؛ قصور الأثرياء! وهدأ من روعه قائلا ً انه لم يعد هناك أغنياء أو فقراء...، فقد كان ذلك قبل الطوفان الأعظم ...، إنما هي، دار بخلده، هياكل معمارية شبيهة بما حكاه جده له عن منازل الصالحين في العالم الآخر. آ .....، وما شأني أنا بالتقسيمات، والفوارق، والاختلافات، إن كانت للأغنياء أو للشحاذين، إن كانت في عالمنا أو في العالم الآخر...، فإنها ليست إلا تصوّرات قلب يعمل بعشوائية!
ـ انك لم تعد ترى حتى الشق الذي طالما جذبك، ولفت حواسك، وانجذبت له شارد البال....
ـ من أنت....؟
ـ أنا هو أنت الذي لا هو داخل الحفرة ولا خارجها!
ـ آ ....، عرفتك! هو أنت جدي ...، جدي الأعظم، الذي طالما سمع عن أسلافه إن حفيدا ً سيأتي ليساوي بين الشقوق والحفر والجداول ...، الولد البار الذي سيردم العثرات ويضع حدا ً للنهب والسلب والقتل!
ـ اسكت! فالحرب لم تنه بعد، لأنك لم تعد ترى سوى الخراب والأنقاض والتصدعات!
    شعر أن جسده يتخلى عنه، وانه غدا خارجه، الم ْ يصغ عميقا ً لجداته الصالحات وهن يقصصن له كيف تخرج الروح وتحوّم فوق جسدها ثم تغيب ولا ترجع أبدا ً إلا عندما لا تجد مكانا ً لها  لترقد مرة ثانية في المكان الذي غادرته! وعاد يتخيل الشق مثل حدقة عين ظبية، لكن من غير بؤبؤ، بعد أن أزال الشعرة التي قسمت الشق وشطرته إلى يسار والى يمين، ليراه تحول إلى فم شبيه بفم ضفدعة كبيرة تحدق مذعورة في السماء. كتم فزعه لأنه سمع نقيقا ً تخللته حشرجات كصرير أبواب خشبية عتيقة...، وشاهد آلاف الأفواه متراصة بدت له مثل وجود فئران مذعورة جمدها البرد أو صعقت بتيار قاتل فمنعها من الحركة. سمع أنينا ً مكتوما، وأصوات آلات ومكائن ينبثق من أفواه الضفادع، والفئران، وقد استحالت إلى فوهات شبيه بفوهات البنادق التي طالما استخدمت في الحرب الأخيرة، وفي الحروب السابقة، ولكنه سمعها تصمت، بعد أن استحالت إلى  أشكال لا حافات لها، فضحك متندرا ً من اللا حافات في وجودها مقيدة بهيآت لم يرها من قبل، فالصوت راح يرتد، ثم يقفز، ليجد انه تعثر بالثالث، والرابع، بعد أن تداخلت المقدمات بنهاياتها. فلم يعد يرى مثلثا ً رأسه إلى الأعلى، ولا مثلثا ً رأسه إلى الأسفل، ولم يعد يتجه إلى اليمين، ولا إلى اليسار: وجوه ضفادع، أو فئران، أو فوهات بنادق آلية ، صماء،  بدت تتخذ شكلا ً بيضويا ً. فلذ ّ له أن يمد أصابعه الناعمة ويتلمس الشق.  
ـ ابتعد ...، كن حذرا ً، فماذا تفعل؟
     تجمد، وتخيّل جسده يتصلب، وقد تحول إلى كتلة من صلصال، لولا انه سمع همسا ً رقيقا ً، ناعما ً:
ـ بهدوء، وليس بقسوة!
   مد أصابعه وتركها تغوص:
ـ ماذا تفعل، الم اطلب منك أن تكون لينا ً، سلسلا ً....؟
   وارتفع الصوت يدوي في رأسه:
ـ كن رقيقا ً.
     غابت ناطحات السحاب، وغاب الشق، منشغلا ً باستنشاق رائحة بذور وصوف وقشور ملأته حتى وجد جسده مسترخيا ً وممددا ً فوق العشب تماما ً:
ـ آوووووه.
    فاقترب نورس يتعثر في خطاه، وسأله:
ـ أيها الحكيم ...
     رفع رأسه ليرى إن كان الآخر يتحدث معه أو مع آخر سواه:
ـ معي إذا ً...؟
      ودار بباله: وليس مع احد غيري. أجاب النورس:
ـ لم نرك منذ زمن بعيد ....؟
ـ وأنا أيضا ً لم يسعدني الحظ برؤيتكم!
    اقترب النورس منه قليلا ً:
ـ يبدو انك خرجت للاستمتاع بأشعة الشمس في هذا اليوم البارد الحزين..، أم انك ضجرت من ظلام المغارة وعفن رائحتها...؟
    لم يجب.  فعاد النورس إلى الكلام:
ـ على أية حال، من الصعب البقاء وحيدا ً داخل الجدران، وأنت خلقت كي تتمتع بالحياة، لا أن تركلها!
   لم يجب أيضا ً. فسأله بصوت متوتر:
ـ هل أتركك كي تستمتع بوحدتك، وعزلتك هذه ...؟
ـ هذا أفضل...، لو سمحت!
ـ ولكنهم أرسلوني كي اعرف ما إذا كنت...
   فرد بغموض:
ـ ألا تراني ...، أتأمل ما آلت إليه حياتي...
ـ  وما آلت له ....، وأنت وحيد في العراء، تحت هذه الغيوم...، أم أنا  أرى كائنا ً آخر غير الذي عرفته...؟
ـ لا أنت تراني أنا نفسي...
ـ ماذا تقصد....؟
   رد الأرنب:
ـ خرجت من الحفرة، وأنا لا اعرف ماذا اعمل خارجها، فقلت إذا دخلت فماذا افعل في داخلها، فقلت: يا لها من محنة...، ثم فجأة لم تعد هناك محنة، فقد انشغلت بتأمل الشق الذي ضاع ولم أجده كي يسمح لي بالدخول من المكان الذي خرجت منه!
ـ ها، ها، ها....، ظننت انك ضجرت من نفسك!
ـ لا...، ولم الشعور من الضجر..؟
ـ  على اية حال، يبدو انك لا تفكر بمغادرة حفرتك؟
ـ ها، هل تصدق إنني الآن لا اعرف كيف ادخلها..! فمنذ وقت وأنا حائر ....، متى خرجت...، والآن لا اعرف ماذا افعل ..؟
ـ دعك من الحفرة.
ـ  ليس من الحفرة...، بل من هذا الحد الفاصل الذي سد الباب علي ّ. فلم تعد هناك فتحة، أو نافذة، أو حتى ثقبا ً يسمح لي بالعودة...
ـ أي حد....؟
ـ انظر....، ألا ترى فتحة الحفرة ..؟
ـ لا ... أنا لا أراها.
ـ وأنا أيضا ً قلت لنفسي: كان الأمر وهما ً، أو شيئا ً كالوهم...؟
ـ صدقني...، لقد أرسلوني كي ترجع لتعمل معنا!
ـ من أرسلك؟
ـ هم!
ـ آ ...، فهمت، ولكن هل هناك ما يمكن عمله...؟
ـ قالوا: إذا كان اللا عمل هو الذي أفضى بما إلى هذا الوضع، فلماذا لا نجرب العودة إلى العمل!
  هز رأسه وراح يقهقه:
ـ هل تسخر مني...؟
ـ لا ..، أبدا ً..، فانا جادّ ملتزم! ثم لماذا تعتقد إن العمل رذيلة؟
ـ وهل قلت إن اللا عمل حسنة؟
ـ أووو....، لم تتغير...، في المرة السابقة قلت لك: انظر... لقد أعادونا إلى عصور الكهوف، والبراري، والى أزمنة المستنقعات، فقلت لي: وهل كنا ذهبنا ابعد منها؟  والآن اطلب منك أن تشاركنا العمل .. فتسكت!
ـ أنا لم اسكت...، لكنك ترى إنني ما انطق الصوت الأول حتى أراها يتراجع ليزحف نحو الصوت الخامس فتضيع الأصوات علي ّ وكأنني لم أغادر المصح، وإنني مازلت ارقد هناك في ظلمات السرداب، تحت وأنا اجهل أولدت أم مت أم إنني مازالت بينهما ...؟
ـ آه ...، كان هذا من الماضي السحيق....، أما الآن فان العزلة تؤذيك!
ـ بالأمس جاء السيد الغراب وعرض علي ّ خطة للنهوض بجناح المواشي، فسألته: ما الذي تغير.....؟ فلم يجب. والآن تطلب مني الشروع بالعمل ....، على تغيير جناح الأسماك ...، فما الذي تغير...؟ حسنا ً ما الذي حدث...؟
ـ آ ...، كأنك لا تريد أن تتغير، وكأن تلك الجرثومة التي طالما تحدثت عنها قد وجدت مأواه داخل رأسك العنيد؟
ـ أية جرثومة، يا سيدي النورس، تتحدث عنها، وليس باستطاعتي القول إلا إنني أصبحت ظلها! وليس لغزها العنيد.
وأضاف:
ـ عندما اقترحوا علي ّ أن اشرف على تطوير مشروع الغابات، والجداول، فرحت! وما أن بدأت بالعمل، حتى وجدت مصيري معلقا ً بالحبل! فأعادوني إلى زمن السراديب!  لأنهم قالوا لي: خذ ما تشاء.... ودعك من المباشرة بالعمل!
ـ آ ....، كان هذا قبل الطوفان.....، وقبل التغيير...؟
ـ والآن...، وغدا ً، مثلما كان بالأمس، وقبل الأمس...، سألك: ما الذي تغير...، وانتم تعرفون إنني لم اكسب سوى هذا الثقب، سوى هذه الحفرة.....، وسوى هذا الشق الذي لم اعد أراه....، فهل ضاع، أم غاب، أم سرقوه، أم لا وجود له في الأصل...؟
ـ لا...، انه موجود! وأنا بنفسي سأدلك عليه شرط... موافقتك حضور الاجتماع والإصغاء إلى برنامج عملنا بإنقاذ هذه الحديقة؟
ـ  لا تدعني استيقظ....، لا تدعني أفيق، لا تدعني أصحو، لا تدعني أغادر حفرتي...، فانا لا أريد أن افقد هذا الكنز..!
ـ اللا شيء؟
ـ هكذا سنختلف...، ونتصادم، ويذبح احدنا الآخر....،  أنت تتحدث عن شيء...، وأنا أتحدث عن شيء آخر.
ـ أنت تتحدث عن اللا شيء، أم أنا فأتحدث عن أشياء!
ـ دعني ابحث عن الشق الذي غاب! فان وجدته فسأتخذ قراري....
ـ دعنا نبحث...، أين كان موقعه؟
ـ هنا...، فبعد ان لم يعد لدي ّ ما افعله، وأصبحت وحيدا ً، رحت احفر....، لأنني قلت: لا يصح ان أبقى من غير عملً...، فحفرت حفرة لا تتسع إلا لجسدي، من غير بذخ، أو رفاهية! حفرة لا تتسع إلا لأحلامي! فهل أذنبت، أم ارتكبت خطيئة، أم فسقت، أم خالفت الأعراف، أم تذمرت.....؟  حفرة ملأتها بالقش، والورود، والريش، والقشور....، وببعض البذور، ورحت أغط في سبات عميق، وقد أصبحت لا اعرف من يتسلى بالآخر، هل هي الحياة أم أنا هو من راح يجد فيها مثل هذه السلوى...؟
ـ ها، كأنك تتحدث عن الفردوس؟
ـ  عن أي فردوس تتحدث، يا صديقي القديم، صديق الضفاف، والشواطئ، والشمس....، وأنا لا أتحدث إلا عن حفرة بحجم أحلام رجل يحتضر، وعن حفرة من غير شق؟
ـ  كنت أظن انك تحلم؟
    فصاح الأرنب فجأة:
ـ من أرسلك....، اخبرني، وماذا تريد مني؟
ـ الذي أرسلك هو الذي أرسلني...، وما يطلبونه منك هو الذي تطلبه منهم...، فلماذا نختلف؟
ـ قلت لك: كانت لدي ّ، قبل قليل، حفرة اسكنها،  والان...، كأنها توارت...، ام كأنكم سرقتكم حفرتي...؟
ـ ولماذا نسرقها.....، ام تظن انها منحت لك الى الابد...؟
ـ ها أنت تفصح عن نواياك، عن سرك، لأنك في الواقع لم تأت من اجل العمل...، كي تدعني لا اعمل! فأنت أضعت على الشق نفسه الذي طالما كنت أتسلى ...، أو هو الذي كان يتسلى بي؟
ـ أي شق...؟
ـ هذا الذي كنا خرجنا منه...، فأين اذهب الآن إن لم أجده...؟
ـ أنت تذكرني بحكاية الأسد الذي استولى على مغارة الجرذان...، وراح يزأر: أين عريني؟ فضحكت الجرذان منه حتى ماتت من الضحك!
ـ لم افهم شيئا ً.
ـ  لأن السيد الأسد طرد من مغارة الجرذان ذاتها بعد ان كان قد تخلى عن عرينه!
ـ وهل أنا فعلت الأمر نفسه...؟    هز النورس رأسه، فقال الأرنب:
ـ اسمع...، كانت البسالة لها معنى، اقصد كان للموت معناه، قبل الطوفان، فكنا نذهب ولا نرجع، من غير تذمر، أو تردد، أو خوف...، ثم حل الطوفان...، فكنا نقاوم السيول، والرعد، والأمطار، ونموت بشهامة وببسالة وبلا ذعر وبلا عويل ...، فكنا نعرف ماذا كنا نعمل، وكان من لا يعمل يساق إلى العمل، فلا احد باستطاعته التحايل، أو الخداع أو التمويه....، ثم حل العصر الذي مازالت سنواته تمتد...، وتمتد...، فلا احد يرغب ان يصبح  بطلا ً، ولا احد يرغب ان يكون باسلا ً...، فلا احد يكترث للهزيمة، فان متنا أو لم نمت فالقضية أو المعضلة لم تعد مثار جدل، أو اعتراض!
ـ ها أنت تبدو كمن أضاع عقله؟
ـ ها، سيدي، لو كان لي عقل، لعرفت كيف استخدمه وليس كيف ادعه يضيع؟
ـ كأنك لم تكن معنا تشاركنا الصولات...؟
ـ نعم، كنت...، فانا كنت واحدا ً منكم...، ولم أكن واحدا ً من كوكب آخر....
ـ وكأنك لم تنل وسام المجد الأعلى ...
ـ وهل نفيت أو نكرت أو تجاهلت الأمر...، فانا كنت معكم في ...
ـ فماذا حدث إذا ً....؟
ـ الذي حدث...، أيها النورس، إنني لم اعد أرى الشق الذي خرجت منه، وهذه هي المعضلة!
ـ دعك من الشق، ودعك من المعضلة...، فليس كل من يخرج منها يتحتم عليه العودة إليها...، وليس كل من يدخل يسمح له بالخروج! إنها حتميات أو احتمالات أو مصادفات لها قوانينها وأنت ـ مثلي ـ لا تمتلك إلا أن تكون جزء ا ً منها.
ـ ها أنت تذكرني بالذئب الذي فضل العيش وحيدا ً في مغارته...، فاضرب عن الصيد، بل حتى انه أبى أن يشارك القطيع طعامه...، حتى قيل انه عاش غير مكترث بالبحث عن الذي شغلنا، واكتفى بالهواء والماء والتغذي على الأعشاب، والتبن!  وقد ذاعت شهرته كأعظم حكماء البرية، منشغلا ً بقراءة الكواكب، وفك رموز الليل والنهار، عالما ً بالريح والأمطار والجفاف والفصول....، وشاء أمير الصحراء أن يرد العدوان عنا ...، فنصحوه بالذهاب إليه، كي يقود الحرب. اعتذر الذئب العجوز واخبره بأنه لا يمتلك من الدنيا غير ما لا ينفع احد ولا يضره!  فقد تساوت عنده الهزائم بالانتصارات، والخسائر بالأرباح، والأحزان بالمسرة...، لكن أمير الصحراء أصر أن يتولى قيادة الجيش، وإدارة الحرب...، فلم يجد وسيلة للاعتذار، أو حسن التخلص من أوامر الأمير، بالهرب، والنجاة، فاضطر إلى تحمل المسؤولية حتى اختتمها بالنصر المؤزر كما يقال، ونال ـ لدى الأمير، أرقى الجوائز والأوسمة وآيات الثناء. ثم مات أمير الصحراء، فخلفه ولده الأعرج الأعور الاثول المشهور بالخسة والسرقة والتجسس والدناءة...، على عرش الصحراء، فلم يأمر بإعادة الذئب العجوز إلى مغارته، بل الذهاب للعمل مع النعاج، واليرابيع، والفئران! فقال الذئب الحكيم مع نفسه: كنت اعرف أنني سأخسر الهواء والماء وعزلتي، ولن يسمح لي حتى بربح ما فقدته، وما خسرته، وما صار بحكم التراب! فما معنى الحكمة عندما لا يكون الحكيم فيها لا يمتلك شيئا ً من أرادته، ولا ظلها؟
ـ ولكننا لا نطلب منك أن تكون زعيما ً، ولا قائدا ً...، ولا حتى مسؤول جناح....!
ـ ماذا تريدون مني...؟
ـ نريد أن لا تفقد حفرتك...!
ـ وها أنا فقدتها، بل وفقدت بابها أيضا ً!
ـ يا صديقي العجوز...، الحفرة في الأرض، والأرض كلها حفرة، فهل يصح اتهامنا بأننا سرقتنا حفرتك؟
    رفع رأسه وقال بصوت مذعور، متلعثم:
ـ حتى أني لا أرى أثرا ً لها!
ـ ألا ترى هذا الشق...، كم واسع هو...، شق هذه الأرض؟
ـ هذا .. وحده .. هو الذي يراني، ولا أراه! فانا اعرف إن الحديقة تراني...،مثلما السماء تبصر، ولكنني لم اعد استطيع رؤية فتحة الحفرة التي أمضيت حياتي فيها ...
ـ لم تتغير؟
ـ الم ْ أسألك: ما الذي حدث...، وما الذي تغير...، غير إن الماضي يتابع محو ما دوّنه ماضيه السحيق!أو قل يكمله!
ـ وأنا قلت لك: العزلة تضر بك، وتسبب لك الأسى، والحزن.
ـ آ ....، علي ّ أن افهم، إن الموت معكم لا يشبه الموت مع نفسي...، فالموت وحيدا ً مع نفسي اقل درجة من الموت معكم...، مع إن الموت معكم لا يختلف عن موتي وحيدا ً مع نفسي!
ـ كان عليك أن تقول: إن المشي معنا غير أن تمشي وحيدا ً حتى من غير نفسك؟
ـ وهل كنت وحيدا ً...؟
متمتما ً بشرود:
ـ يبدو إنني لم أكن حتى مع نفسي...، وإلا أين اختفت الحفرة، وأين اختفى شقها...؟
ـ ها أنت تدرك عمق المعضلة، ولغز حقيقتها؟
ـ بل أنا أدركت حقيقة اللغز!
ـ كأنك لا تريد أن يكون لموتك معنى...؟
ـ لا....، لأنني، يا صديقي، كنت أدركت، منذ زمن بعيد، لا معنى موتي معكم، ولا معنى لموتكم مع موتي...، والآن أدرك تماما ً لا معنى موتي مع نفسي، ففي المرة الأولى انجذبت إليكم من غير إرادة...، وفي المرة الثانية تركت موتي يمشي أمامي كي أتتبع خطاه....، فكانت الحصيلة إنني خسرت  ما كان يمكن عدم خسارته، وفي المرة الأخيرة لم اربح حتى هذا الذي من المستحيل أن تجد له أثرا ً، كي تجد له معنى!
26/1/2016
    Az4445363@gmail.com





هل الإسلام هو سر تخلف المسلمين؟-سيد القمني



هل الإسلام هو سر تخلف المسلمين؟

   

سيد القمني
 
السؤال جد هام ، وأيضا جد حساس ، لكنه سؤال مطروح الآن بقوة في كل الدراسات الشرقية ، وعلينا أن نطرحه أيضا على أنفسنا بهدوء نركن فيه إلى جانب العقل قبل القلب ، وقبل النقل ، وأن يكون هدف الإجابة ليس الانتصار للإسلام أو الانتقاص منه ، أن يكون الهدف هو مصلحة البلاد والعباد في زمن نتأرجح فيه على أرجوحة يقف إسلامنا في جانبنا على طرفها فوق جرف هار بلا قاع ، وعلى الطرف الآخر تقف بكل ثقلها حضارة الإنسان المدني الحديث ، قد تهتز باهتزازنا ، قد تتمسك بطرفه لكيلا نسقط في قاع التاريخ المنسي ، لكنها لن تستمر كذلك طويلا دون جهد مضاعف من جانبنا للحؤول دون السقوط في ثقب التاريخ الأسود.

وللمباشرة والدخول إلى صلب الموضوع يمكن طرح السؤال ببساطة :

هل تخلفنا الذي يتندر به الركبان هو تخلف معرفي حضاري أم هو تخلف ديني ؟

سيجيبنا أهل الدين كعادتهم المتعجلة في الإجابة للوقوع في الفخاخ ، إن تخلفنا يعود إلى نقص شاب إيمان المسلمين ، مما أدى إلى تخلي ربهم عنهم ، وأخلص الأمريكان للصليب ويسوع فنصرهم ، وهكذا تبدو الدنيا وفق هذه الرؤية كما لو كنا زمن آلهة جبل الأوليمب وأساطير الأدويسة والإلياذة ، وهي قفزة هائلة إلى بطن الخرافة وارتداد نحو الأسطورة في التفسير ، والعجيب أن هذا التفسير لتخلف المسلمين هو ما يروجه رجال دين المسلمين عبر كل الوسائل الإعلامية والدينية.

وما يفوت المشايخ وهم يطرحون رأيهم في أسباب التخلف تأثيما للناس وتذنيبا ، أنهم هم المسئول الأول عن الدين الإسلامي طوال تاريخه ، وأنهم يدعون حتى الآن أنهم المسئول عن الإسلام في الأرض ، وممن ثم فإذا حدث التخلف في الجانب الديني فإنهم سيكونون هم المسئول الأول عن هذا التخلف ، ومن ثم لن يمكن استمرار الثقة بهم بعد تخلف دام عشرة آلاف عام. لم يرعوا فيها دين الله حق رعايته التي حملوا مسئوليتها. فإن ردوا علينا أنهم لا سيطرة لهم على الإيمان داخل نفوس المؤمنين فهي منطقة ضمير حرة ، قلنا لهم : قلتم قولة حق ، لكنكم أيضا كنتم حراس الإيمان والمفتشين في الضمائر والحاكمين على الناس والمنفذين الأحكام حتى هذا اليوم ، ويكفي للقارئ إلقاء نظرة واحدة على ملخص أعمال معهد البحوث الأزهري لعام 2004 وحده ليعرف عدد من أمسكهم هذا المعهد بتهم تتعلق جميعا بصدق الإيمان.

ولأنهم كانوا القاضي والخصم والحكم والجلاد عبر التاريخ حماية لهذا الدين ، ولأنهم يزعمون أن تخلف المسلمين بسبب ابتعاد المسلمين عن دينهم ، ولأنهم كانوا المسئول طوال التاريخ عن الدين في الأرض ، فإن من قصر في حق دينه كل هذا التقصير لم يعد مؤتمنا على الدين ولا على الوطن ولا على الناس.

لا مخرج لمشايخنا من هذا الفخ التاريخي إلا الاعتراف للناس بصدق الإيمان ، وسحبهم كل تكفيراتهم وتأثيمهم للمسلمين البسطاء الذين لم يتربحوا بهذا الإسلام لا اليوم ولا أمس ، ولم يقبضوا الهبات والأموال والصدقات والزكاة والرضي السلطاني ليحافظوا عليه. حافظوا عليه فقط لإنه دينهم وجزء عظيم من ثقافتهم وهويتهم ، حافظوا عليه وهم يأكلون الفقر والفقر يأكلهم ، ولأنهم ببساطة يحبون دينهم ويرفضون التخلي عنه.

وبعد هذا الاعتراف والسحب عليهم الاعتراف أن تخلفنا هو في الجانب العلمي المعرفي الحضاري ، وهنا وبعد الاعتراف والسحب عليهم الانسحاب ، لأنه لا مجال لرجال الدين في البحث العلمي في مختلف العلوم ، بل هو مجال الفلاسفة وعلماء الاجتماع والتاريخ والرياضيات والفيزياء والكيمياء ، وهذه علوم خارج نطاق الدين ولا يفهمها رجاله ، لأنهم حتى اليوم يعيشون زمن القرن العاشر الميلادي يأسرون الأمة كلها داخل أسواره ، ويريدون أن يدخلوا في منافسة حضارية مع أمم تعيش في القرن الحادي والعشرين ؟ إنكم سادتي خارج المنافسة.

فهل يبدو من ذلك أن الإسلام هو الذي أدى إلى تخلف الأمة ؟ إن السؤال هنا يغفل تقدم الأمة الإسلامية خلال القرون الأربعة الأول. إذن الإسلام ليس سبب التخلف !!

لكن إذا كان ذلك كذلك وأنه دين تحضر فلماذا نحن اليوم متخلفون؟

يبدو أن هناك أختلاطا ما في المسألة يؤدي إلى التباسها ، هو أن الدين في حد ذاته كدين ليس طرفا في الموضوع ، إنما هو خارج اللعبة وبرئ من التخلف كما هو برئ من التقدم. وأن الإسلام كدين في حد ذاته لم يكن عنصرا في إنجازات الرازي والفارابي وابن الهيثم ، وليس عنصرا في اختفاء العلماء من بلادنا منذ هذه الكوكبة اليتيمة التي نستدعيها نندب عليها حضارتنا الموؤدة دفاعا عن الإسلام والإسلام منها برئ. فبالإسلام نفسه تقدمت دول أخرى في شرقي آسيا أطلقوا عليها لفورتها القاطرة نحو قطار الحضارة باسم النمور الآسيوية. . وبالإسلام نفسه تعيش بقية دول المسلمين في مؤخرة الأمم.

إن المشكلة ليست في الدين ولا في أي دين. لكنها في كيفية استثمار هذا الدين ، فهناك من استثمره في التقدم ، ومنه من يستثمره في التخلف.

هناك من احترم الدين فصانه بعيدا عن آلاعيب السياسة ودسائس المشايخ والسلاطين ، وهناك من مازال يستثمره حفاظا على خط فكري نظري واحد ليظل سيد الموقف في كل شأن وكل أمر ، وهو موقف لا تشغله الأمة ولا الناس ولا الدين بقدر ما تشغله سيادته وسيطرته على العقل المسلم واستمرار هذه السيادة السلطوية المستمدة من تعبد الناس.

إنه الموقف الذي يمثله كل مشتغل بالإسلام مهنة ومصدرا للربح ، والذين يمكنهم تشكيل وعي الناس وفق الرغبات السلطانية والسلطوية. وهو الوعي الذي يتم وفق رؤية بعينها واحدة لا صح سواها ، يزعمون أنها هي صحيح الإسلام وغيرها كافر آثم ، مما لم يعط فرصة للرأي الآخر يوما بالظهور ، لذلك لم تظهر معارضة في تاريخ المسلمين ، وإن ظهرت فكانت وسيلتها الأيديولوجية قراءة أخرى لنفس الإسلام ، لكن هؤلاء غالبا ما انتهى أمرهم في التاريخ الإسلامي في مجتمع لا يعرف سوى فرقة واحدة هي الناجية.

ها قد عثرنا على سبب أول يرتبط بالإسلام :

انعدام وجود رأي آخر يؤدي إلى جدل مثر ونقاش حول الدين وحول الحياة لتفرز جديدها ، كما حدث عندما اختلف المسيحيون الأوائل في تفسيرات الإنجيل ، وحول الذات والروح القدس ، فاجتمع المختلفون في مجامع اعتمدت على قوة حجة المتعارضين ، لينتهي الأمر بقرار يتفق علية الأغلبية ، لتظهر خلافات جديدة لتعقد مجامع جديدة ، وهكذا كان مجمع نيقية ومجمع خلقدونية ومجمع أفسس. . إلخ. كانت هذه بقايا ثقافة اليونان والرومان ، أما على الجانب الإسلامي فكان أول مجمع وآخر مجمع هو مجمع سقيفة بني ساعدة التي تقرر فيها شأن الفهم الإسلامي السائد سياسيا ودينيا وغيره باطل الأباطيل.

ودخل هذا الفهم محنا حتى استتب له الأمر مرورا بحروب أهلية طاحنة بدأت بحروب الردة وليس انتهاء بكربلاء ، فظلت المنطقة الممنوعة المقموعة تظهر عبر التاريخ بقوة ثم لا يلبث أن يتم قمعها وإبادة أصحابها من الزنج إلى الحشاشين إلى القرامطة وغيرهم لم يبق منه جميعا غير المبدأ الخليفي القبلي الأول سائدا لا يقبل منافسة من سواه ، بزعم أنه صحيح الإسلام كما يريده الله ، كما لو كانوا قد عرجوا للسماء واستمعوا هناك إلى كل التفاصيل العجيبة التي دونوها في فقههم وتحليلاتهم وتحريماتهم وتفسيراتهم وفتاواهم من فهم الله نفسه ، وأنه قد خصهم بالفهم دون غيرهم.

ولأن المسيحية من فجرها حدثت ناس زمنها بلغتهم ومفاهيمهم فأعطت ما لقيصر لقيصر وما لله لله فصلا للسلطات ، قياما على مأثور يوناني مازالت مبادئ الديمقراطية لها فيه روائح.

فإن منظومة الخلافة الإسلامية المسربلة بالدين وحلف رجاله المحترفين كانت هي نموذج الدمج الكامل للسلطات دينية ودنيوية ، باحتساب النبي الذي حاز كل السلطات بيديه في دولته الناشئة ، نموذجا سنيا للحكم بحاكم مطلق السلطات والنفوذ وبرأي ديني واحد مطلق السيادة ، غير مفرقين ما بين النبي كنبي أوحد خاتم النبيين ، وبين ذواتهم كوارثين للنبوة والتي لا تورث.

يبدو أن سبب التخلف في النهاية هم رجال الدين أنفسهم مع حلفهم الانتهاري عبر التاريخ ، ثم ألا يبدو خطابهم اليوم خطابا يعود للقرون الوسطى إذا ما قورن بلغة الحداثة اليوم؟

تعالوا نقارن : في الوقت الذي يتحدث فيه العالم عن الفصل بين السلطات ، يتحدث مشايخنا – أجلك الله – عن الدمج الكامل للسلطات الدينية والدنيوية في دولة مسلمة.

في الوقت الذي يتكلم في العالم عن الحرية وحق التفكير والإبداع والإعلان عن الرأي المخالف بحماية الدولة ، يتحدث مشايخنا عن الخطوط الحمراء للأمة وثوابتها التليدة.

في الوقت الذي يتكلم في العالم لغة العلم والمدنية والحضارة نتكلم نحن بفقه الأموات ولغة زمان مضى لا يريدون له أن يمضي.

في الوقت الذي يرفع فيه العالم كل القيود عن الحريات نتحدث نحن هنا حد الردة والخروج عن معلوم من الدين بالضرورة وعدم الاجتهاد مع نص.

في الوقت الذي يحكم فيه العالم على ما يكتب المفكر من منطق الحجة والبرهان ومدى المصلحة المتحققة من هذه الكتابة ، تحاكم مجامعنا المفكرين وتدينهم وتهدر دماءهم. وبالمناسبة أتذكر هنا أن المجمع المنوه عنه سبق وطالب مصادرة بعض أعمالي ، وتمت محاكمتي ، وتمت تبرئتي من تهمة الكفر (الازدراء بالأديان) والإفراج عن كتابي ، فإذا كانوا يؤكدون صحة الحديث النبوي : “من قال لأخيه يا كافر فقد باء بها احدهما” ، فهل مع براءتي يكون الأزهر قد باء بها؟

وفي الوقت الذي تتحرك فيه الدنيا في وثبات عملاقة علميا واقتصاديا يدعو مشايخنا إلى الثبات ، لا بل إلى العودة إلى الخلق ، إلى الزمن النبوي حيث خير القرون وهو ما أدى لاحتقار المسلم لزماننا ورفضه له بكل حضارته ومنجزاته.

في الوقت الذي يصبح فيه علم التاريخ علما مخبريا يقوم على التدقيق بأجهزة وأدوات ومركبات كيميائية وتساعده الجيولوجيا والطبوغرافيا والآلسنيات والأركبولوجيا والأنثروبولوجيا لكي نصل إلى صدق وثيقة واحدة فواحدة لنرى التاريخ كما كان في زمانه قدر الإمكان. فإن مشايخنا يمنعون مثل هذا العمل في التاريخ الإسلامي ، ويرفضون تدقيقه ، ويجرمون وصف الآشياء بأسمائها الحقيقية ، بعد أن تم تزييف هذا التاريخ على المسلمين لصالح مذهب بعينة وفئة بذاتها هي الحاكمة وهي المتفقهة.

وفي الوقت الذي تفتح الدنيا أبوابها للنقد لأنه باب المستقبل ونافذة النور لإصلاح الشأن باستمرار نحو الأفضل بجميع ألوان النقد لذلك هي تتقدم ، فإن المسألة عندنا تقوم على مبدأ الستر وتجميل التاريخ الإسلامي ، والذب عنه ، وإحدى وسائل هذا الذب هو عدم كشف عواره ، وإن أي نقد سوف يصب في خانة العداء للإسلام.

وفي الوقت الذي تصبح فيه أعظم نظريات العلم الحديث من الماضي باكتشاف جديد ، ليتحول العالم كله نحو الكشف الجديد ، فإن مشايخنا يرون فهمهم للإسلام صالحا لكل مكان وزمان ، وأنهم المرجعية الدائمة في كل شأن من كيفية التغوط إلى كيفية إطلاق الصواريخ.

في الوقت الذي تبحث فيه الأمم عن أخطائها لإصلاحها أينما كانت فإن مشايخنا صنعوا للمسلمين وعيا لا يرى في نفسه عيبا كما لو كان الاعتراف بالخطأ كفرا ، والأنكى أنه يرى الدنيا كلها عيوبا وأنه الوحيد المنزه.

وفي الوقت الذي يتحرر فيه الفرد من كل قيود المجتمع أللهم إلا القانون الساري على الجميع على التساوي ، فإن مشايخنا يلزموننا السنة في كل سلوك أو بادرة تبدو منا أو قول نقول ، يلازموننا حياتنا الشخصية من الصباح حتى موعد الجماع ويدخلون معنا الكنيف وغرفة النوم. وقد زيد في هذه السنة المستحب عند الصحابة والتابعين وتابعي التابعين ، حتى أصبح المسلم كالإنسان الآلي يردد طوال الوقت الأذكار والأدعية ، مما يدفعه في النهاية إلى حالة ذهان مرضي واضحة في شارعنا الإسلامي.

وفي الوقت الذي تجاوز فيه العالم فكرة الوطن بحدوده إلى عالمية الإنسانية بعولمة هي فرز زمانها الطبيعي ، فإننا خارج هذا كله ، بل نحن لم نصل بعد إلى مرحلة أسبق هي مرحلة المواطنة ، لأن مشايخنا لا يرون للمسلم وطنا سوى دينه وجماعته المتشرذمة من بلاد واق الواق إلى بلاد ماو الماو. فالإسلام هو الوطن وشعب الإسلام هو أي فرد مسلم في العالم. فتضيع الأوطان من المسلمين فيصبحون خارج الجغرافيا بعد أن أصبحوا خارج التاريخ.

وبينما تستفيد الشعوب من نكساتها وهزائمها في منافساتها الحضارية من أجل إصلاح الذات والتقدم على طريق المنافسة ، فإننا نلجأ في هزائمنا لنقف صفوفا وراء مشايخنا لنعلن الحروب في المساجد ضد الأعداء بالدعاء والتزام الطقوس إثباتا للرب أننا صالحون ، وأنه سينظر إلينا بشفقة ويسامحنا ويبرز للدنيا عجائبه فجأة ، فتزول أمريكا وإسرائيل وربما كل الشعوب المتحضرة لنبقى نحن أسيادا على المسكونة دون أن تحقق هذه الدعوات سوى مزيد من الخسائر والتخلف في الواقع ، لأن مشايخنا يجعلون التقدم ثمرة للصلاة والدعوات الصالحات التي قد تغفر الذنوب لكنها أبدا لا تأتي بأي تقدم.

ولو كان للصلاح والتقوى والدعاء الصادق أي دور في التقدم ، لكان سلفنا الصالح هم الأحق بصنع الصواريخ والمضادات الحيوية وهندسة الوراثة ، ولوصلنا إلى القمر ببركة دعاء الوالدين. إن الدعاء لتطهير النفس والصلاة للبعد عن الفحشاء والمنكر ، وليس لاكتشاف الذرة أو أسس الحضارة ، ولم يكونا يوما سببا في أي تقدم أو أي انتصار.

إن التقدم والتحضر هو شأن الإنسان وممكناته وإرادته وقدراته ، التقدم يقوم به عقل حر مطلقا من كل قيد ، لديه القدرة على رفض كل ما هو ضد قوانين العقل والكون ، وهو وحده القادر على إقامة التحضر ، والعقل يقول إن الأخذ بالحداثة والانغراس الفوري فيها هو الطريق إلى التحضر والتقدم.

يقول لنا مشايخنا – رحمك الله – إن المقصود مما يقوله أمثالي أن نعيش كأهل الغرب وانحلالهم الخلقي لكي تنهار أمتنا بتقليدهم ، كما لو كنا متقدمين حقا نخشى الانهيار ، وكما لو أن حياة أهل الغرب قد أدت إلى تخلفهم وانهيارهم.

ومن هذه الفكرة التي ترى الحداثة غزوا ثقافيا مقصودا منها ضرب أمتنا في دينها بعد أن أعاد الاستعمار تشكيل نفسه باستخدام أساليب جديدة ، أي فكرة أن الغرب صليبي يشن عليه حملة صليبية ، لا تفهم هل الغرب صليبي يميني متدين متطرف في تدينه ، أم أنه محل فجور وانحلال وإلحاد ؟


إذن لا علاقة للدين ولا الإيمان بتقدم أو تخلف ، إنما هناك دائما في وجود الجريمة من هو صاحب مصلحة مستفيد ، وهي جريمة تاريخية في حق أمة بكاملها جنى عليها رجال الدين المحترفين ، وكانوا طوال الوقت المسئولين عن الإسلام والمسلمين ، فكان حاميها طوال عشرة قرون هو حراميها.

القلاع الأبوية. الرأسمالية تتهاوى-نوال السعداوي


القلاع الأبوية. الرأسمالية تتهاوى

 
لم أتخيل أنني سأعيش لأسمع شعوب العالم والشعب المصري يهتفون: الشعب يريد إسقاط النظام، في طفولتي حلمت بسقوط الملك وشيخ الأزهر الأكبر، الذى كان يدعو في صلاة الجمعة، أن يحفظ الله الملك الصالح زخرا للبلاد، والصحفيون والأدباء والمطربون يغنون للملك صاحب الجلالة المعظم، حتى سقط عن العرش فانقلب عليه، كل من مدحوه وأصبح مخلوعا فاسدا زيرا للنساء.
عالم مجنون تديره القوى الخفية وأرواح الجن، وإن كنت مسئولا عن كشف الفساد وكشفت عنه فأنت المخطئ وليس الفساد، وإن لبيت النداء لخدمة الوطن وكنت من المجددين للفكر الدينى فأنت الذى تعاقب وليس المتجمدون بالأزهر، وإن كنت امرأة وأفنيت عمرك فى خدمة الأسرة المقدسة ثم أقسم زوجك بالطلاق فى البرلمان فأنت الضحية. وإذا كنت رجل أعمال امتلكت المليارات من الثقوب السوداء فى قوانين الانفتاح، ثم دخلت البرلمان بأموالك واعوانك فأنت وطنى ليبرالى محترم. سمعت فى طفولتى عن قريبة لنا يسمونها المجنونة التقى بها أحيانا فى الطريق تبتسم لى يعينيها العسليتين يكسوهما بريق حنون، أكاد اتحدث معها لولا أن كلمة "جنون" كانت مفزعة، وقد ماتت هذه السيدة قبل أن ادرك انها كانت أعقل النساء والرجال فى عائلتنا، وصموها بالجنون لهروبها من زوجها (كان أكبر منها بنصف قرن) وعاشت معزولة وحيدة دون أسرة ولا أطفال حتى نهاية عمرها.
فى بداية حياتى الطبية، كانت السلطات تعاقب الطبيب غير الخاضع للنظام، بتعيينه فى مستشفيات الأمراض الصدرية أو الجلدية أو العقلية، بأمل أن تنتقل إليه جرثومة الدرن الرئوى أو مرض الجذام أو عدوى الجنون، وقد قضيت فترة من ربيع عمرى محاطة بهذه المخاطر دون أن تنال مني، بل أكسبتنى مناعة أكبر.
لحسن حظى اشتغلت فترة فى مستشفى المجانين، أحدهم كان ينهض فى الليل ليهتف: الشعب يريد اسقاط النظام، سألته يوما: ماذا تقصد بالشعب؟ قال: أنا الشعب أنا مصر، وحملق فى وجهى بعينيه البراقتين يسألني: هل أنا مجنون؟ قلت له، أنت لست أقل عقلا من رؤساء الدول الكبري، منهم ديجول الذى قال أنا فرنسا، والسادات، الذى اعتبر نفسه جمهورية مصر الكبري.
وكتبت رواية بعنوان "جنات وإبليس" دارت أحداثها بالمستشفي، تصور أحد المرضى أنه الرب الأعلى والرجال عبيده والنساء جواريه وملك يمينه، يتعارك فى الليل مع مريض آخر تصور نفسه ابليس، كان الرب يوقظ ابليس ويقول له: اصح يا ابليس عندك شغل، يرد ابليس: شغل ايه يا مولانا عاوز أنام، يزعق الإله: تنام ازاى يا ابليس ومين يوسوس للناس؟ ويرد ابليس: الناس نايمة يعنى ضرورى أوسوس لهم يا مولانا؟ ويرد الإله: أيوه ضرورى توسوس لهم، يعنى أنا عامل النار لمين يا حمار؟ يتغطى ابليس باللحاف ويقول: اشوى عليها الخرفان يا مولانا.
ومسرحية أخرى كتبتها من وحى الخيال عن فساد النظام بالمستشفى وخارجه، لم توافق أجهزة الرقابة على نشرها بالطبع، فلا يكشف الحقيقة إلا الخيال، وما إن علمت السلطات بأثر المجانين الايجابي على أعمالي حتى أمرت بنقلي إلى حيث العقلاء وحيث توقف الالهام.
أحد النواب العقلاء فى البرلمان أقسم بالطلاق، ما علاقة زوجته بفساد الدستور؟ لكن المشكلة هي جنون قانون الأسرة منذ العصر العبودى حتى يومنا هذا، إذ يعطى الرجل الحق في تطليق زوجته أو ضربها، لمجرد أنه عاجز عن ضرب رئيسه، أو لأنه مصاب بتصلب الشرايين أو ضغط الدم وغازات في الأمعاء.
وإحدى النائبات في البرلمان قالت: نالت المرأة المصرية جميع حقوقها ولم تعد لها قضية بعد نجاحى فى الانتخابات، كأنها تقول: أنا كل النساء، أنا مصر، أنا فرنسا. لو قرأت النائبة التاريخ منذ نشوء الانتخابات لأدركت أن البرلمانات لم تحقق الديمقراطية ولا العدالة للنساء، لم يتحرر شعب فى التاريخ بالانتخابات أو بالبرلمان، بل بالثورات الشعبية خارج البرلمان.
ويرتج العالم اليوم بالملايين يهتفون: الشعب يريد إسقاط النظام، يطلق رجال البوليس الرصاص على الشعوب، وتسقط أعتى الإمبراطوريات والشعوب باقية، فشل النظام الرأسمالي الأبوي الديني في تحقيق الحرية والعدالة والكرامة للشعوب، بل أنتج الحروب والتجسس والنهب والأزمات والكوارث والأمراض والفقر والهجرة 99%، لا يملكون شيئا و1% يملكون كل شيء وأصبح الرجل بعد التسعين يشترى فى السوق طفلة تحت اسم الشرع والقانون، تتهاوى دعائم النظام بثورات النساء والشباب والأطفال، وينكشف الفساد المستتر في الدول ألكبري، والقلاع المقدسة، بما فيها الفاتيكان فى روما والبيت الأبيض فى واشنطن والأزهر الشريف فى مصر والدولة اليهودية فى إسرائيل، وأصبح الأطفال والبنات فى فلسطين يحاربون بسكاكين المطبخ، والنساء يقتحمن الكنيسة والفاتيكان لتصعد المرأة الأوروبية إلى منصب البابا، وكان منصبا أبويا ذكوريا منذ تأثيم حواء، وسوف نسمع قريبا عن "الماما" تحت قبة الفاتيكان، وشيخة الأزهر الكبرى فى القاهرة، وسقوط الدولة اليهودية فى تل أبيب. 

وداعا معمار مصر الواعد احمد ميتو-ا.د.احسان فتحي



مسرحية الرسالة تحمل أكثر من رسالة رموز تتحرك بحرية علي الخشبة - مؤيد داود البصام



شايش النعيمي ممثل ومؤلف المسرحية
 

مسرحية الرسالة تحمل أكثر من رسالة
رموز تتحرك بحرية علي الخشبة 

 
       مؤيد داود البصام

قدم المخرج محمد خير الرفاعي مسرحية ( الرسالة ) من تأليف وتمثيل الفنان شايش النعيمي، علي المسرح الدائري في المركز الثقافي الملكي الأردني، ضمن ( موسم الربيع المسرحي الأول )، وهي من مسرحيات الشخص الواحد ( المنودراما )، إذا لم نضف عازف الموسيقي الفنان محمد البلعاوي، الذي جلس في الزاوية أليسري القصية من المسرح ليعزف موسيقي حية مع إيقاع حركة الممثل، وتمثل الديكور برسم علي الجدار الأمامي المواجه للجمهور، لمجموعة صخور ومعلقة فوقها ملابس جندي، وفي الطرف الآخر المقابل للعازف علي المسرح بئر وجديلة متدلية من السقف في داخل البئر، وثمة كتب وجرائد وأوراق مرمية علي الأرض في مقدمة المسرح، وقنينة شراب ، الديكور أقرب للتجريد منه لواقعية المنهج الذي جاء به النص، لتعميم الفكرة.
اقتصرت الإنارة علي البقع الضوئية التي كانت تلاحق الممثل، أو للإيضاح بالتفريق بين الحالات واللحظات المأزومة للبطل، وبين داخله الذي يفترسه الألم لأنه لم يطبق أو ينفذ وصية والده بالاستشهاد، وبين العالم الخارجي الذي يضغط عليه ويحدد مساراته، في حين استخدم المخرج الإضاءة في مقدمة المسرح في الجزء الثاني من المسرحية عندما يتقدم الممثل إلى إمام خشبة المسرح بمواجهة الجمهور، لإظهار إن الأمور التي كانت مخفية ومضمرة، بانت مكشوفة.

النص
عالج النص الذي كتبه شايش النعيمي وهو الممثل الوحيد في العمل ، مسالة أو محورا ظل نقطة غير مقروءة في السابق بإبعادها الحقيقية، مسألة تضحية ونضال المواطن العربي والأردني بالذات في الصراع العربي الصهيوني، فقد لازمت فكرة النضال بما اختصرت فيه، بسلب الصهاينة لأرض فلسطين، وتركت الإبعاد الأخرى ما وراء قضية الاستيلاء والاستلاب الرأسمالي العالمي، علي ثروات وتراث وتاريخ المنطقة وحضارتها وبناء إنسانها الثقافي والحضاري مهملة أو لم تناقش بصورة جدية، ولهذا انصبت أغلب الإعمال لتتحدث عن جزء من الصراع، ولو كان أهم الأجزاء، وهو احتلال الأراضي الفلسطينية، لوضع موطئ قدم للصهاينة، وبعدها التوسع في فرض الإرادة والهيمنة علي عموم المنطقة، فجاءت معظم النصوص لتتحدث عن ما بعد نهر الأردن حتى تخوم البحر، وفي هذا النص يعالج النعيمي، مسألة غاية في الأهمية، تأخذ بعدين، الأول مشاعر الإنسان العربي إجمالا تجاه القضية الفلسطينية والوجود الصهيوني، وثانيا: تأثير القضية الفلسطينية وإبعادها المحلية والدولية علي الإنسان العربي والأردني خصوصا، ووجه نظر المواطن الأردني ومشاعره وكيف ينظر إلى الأرض وقدسيتها، وقد نجح المؤلف في معالجة المسالة من دون أن يقع في التقريرية والمباشرة، إذ أعطي بعدها الدرامي بالامتداد التاريخي من خلال معانات الفرد، وهو ما يمنحه مسرح المنودراما، كونه عرضا يمثل مجموعة حوادث ووحدات صورية حياتية ، يشكل فيها المنولوج الداخلي والمناجاة الذاتية، وجه الصراع الداخلي للبطل وآثار الضغوط الخارجية عليه، وقدرته علي الرفض لهذه الضغوط، ويتيح المجال للصعود والهبوط من دون النظر إلى المذهب الارسطوي لتحقيق البداية والذروة والنهاية في البناء الدرامي.
المسرحية قصة جندي يرفض بيع بيته، أو المساومة عليه، والمقصود رمزيا (الوطن)، وهي اللحظة التي يتذكر فيها وصية والده التي ضمنها في رسالة له قبل استشهاده في أرض المعركة في (معركة الكرامة)، ولم يستطع الابن من تنفيذ وصية والده، ليس تخاذلا منه وإنما لان القيادات هي التي فرضت رأيها، منذ لحظة إيقاف إطلاق النار عام 1973 وكان وقتها الابن جنديا في ارض المعركة، يحمل حماس وروح التضحية التي زرعها الأب فيه، وما تبع وقف إطلاق النار من اتفاقيات مع العدو، بزيارة السادات ومؤتمر أسلو والمؤتمرات اللاحقة، وصولا ليومنا الحاضر، وما آل إليه حاله وحال المجتمع، إي أنه يقراها مجددا علي ضوء الإحداث، عام 2010.
انقسم النص إلى جزأين ( تقسيم افتراضي)، الجزء الأول الذي قدم لنا وصية الأب لأبنه، ولماذا لم يتمكن الابن من تنفيذها، وهنا مكمن أزمته التي هي ليس ذنبه، وإنما ما جاءت  إليه من الخارج، لان الحلول جاءت بغير أرادته من القيادات التي فرضت رأيها بالموافقة، وارتضت المساومة، وذهبت تضحيات ونضال وكفاح الأجيال في مهب الريح من اجل مكاسب آنية تحققها هذه القيادات لنفسها وليس لشعبها، وفي الجزء الثاني (الافتراضي)، يروي الابن ما حل به وبالمجتمع بعد الاتفاقيات والحلول الاستسلامية، وينتهي إلى أن الحل الحقيقي هو ما سار عليه الإباء من أجل استرداد الحقوق.

التمثيل وعناصر العرض
استطاع الممثل شايش النعيمي إن يقدم عرضا أخاذا، ملئ فيه ساحة العرض المسرحي، بقدرة الممثل المحترف، إضافة لكون العمل جاء مواكبا لأحاسيسه ومشاعره، كونه مؤلف النص، فاستطاع إن يقول كلمته نصا وحركة، مجسدا الأدوار الأخرى التي يتطلب وجودها، ببراعة وإمكانية ممثل يعرف ما يريد، فكانت الحركة والصوت تجسيدا حقيقيا لمعاناة الإنسان المهشم والضائع بين الأوامر التي تصوغ حياته، من دون إرادته، وبين مشاعره ومدركاته وإيمانه، ونجح في تجسيد مختلف الأدوار التي تطلبها النص للشخصيات الموازية، الفنانة أو الجدة.. الخ، في خفة الحركة والانتقالات السريعة والمباشرة، واحتواء صالة العرض، إضافة إلي التنوع الصوتي وتغير التون حسب متطلبات الدور، أو عند تمثيل الشخصيات الأخرى.
وكان لبساطة الديكور الذي عمق الإيحاء بين قدرات الممثل وصراحة الفكرة، وما جسدته الإضاءة في عمق المسرح، وبساطة الملابس والإكسسوارات، إبعادا إيحائية مع مصاحبة العرض بالموسيقي الحية، التي واكبت حركة الممثل بدقة، ومنحت العرض روحا إيقاعيا يتواصل مع اللحظات المأزومة في حياة البطل، والنهاية التي اوحاها العازف، في نهاية المسرحية عندما ترك الآلة واخذ يتصفح كتابا، دلالة علي عدم الاهتمام، وان ما يحدث لا يمت له بصلة، والإيحاء الرائع الآخر هو جديلة الجدة المتدلية من السماء، في أشارة لتواصل الجذور عبر العمق الدلالي الذي يمثله البئر، وعملية الفصل بين الخلفية في عمق المسرح المتمثلة بملابس الشهيد مع الإيحاءات الدلالية للإنارة، وبين الفوضى للكتب والجرائد المنثورة علي الأرض في مقدمة المسرح التي يمثلها الزمن الحاضر.

الرؤية الإخراجية
استطاع الفنان محمد خير الرفاعي إن يحتوي المسرح ويقدم عملا شد المتفرجين خلال ساعة من الزمن، بالعناصر التي ولفها لخدمة النص في العملية الإخراجية، ببناء معماري استفاد من إمكانيات الممثل، فصب جهده علي الرموز والدلالات التي صاغها بدقة ليمنح النص قدرة الترابط بين الممثل والجمهور، خصوصا إذا عرفنا إن المخرج جمع أكثر من أسلوب في تنفيذ العمل، فقد استفاد من الطريقة البرختية في استغلال الإمكانيات الصوتية والحركية للمثل، وجعله يبدو كحقيقة واقعية وليس تمثيلا، حتى لا يضيع التأثير العقلي للمتفرج، وعمل علي خلق روح المراقبة لما بعد الفعل، وابعد المسرحية عن التسلسل المنطقي، لكسر إيهام المتفرج انه يشاهد عملا خارج وجوده وعقليته، بل مندمجا في الفعل ضمن انعكاسا مماثلا، لهذا جاء توظيف المخرج لفصل المشاهد المسرحية بعضها عن بعض، لتظهر ما يشبه حياة الإنسان في حركته وشعوره ونفسيته، وفي الجزء الأخير دفع بالممثل لكسر البعد الرابع وانزله إلى الجمهور، وجر المسرحية نحو مسرح ارتور (مسرح المضطهدين) أو مسرح الجماهير أو المسرح الثوري، ضمن فهم أن مهمة المسرح ليس الاتكاء علي الواقع وتقديمه كما هو، بل تعريته وتفجير تاريخه وكشف المطمور والمسكوت عنه، وإعلان ما يراد إن لا يرى، مركزا بناءه المعماري علي الإيحاءات التي خلقها في أجزاء بسيطة، ولكنها تمثل أهمية في البناء العام، قدسية النهر والماء والبئر والجديلة للجدة، تقسيم حركة الممثل علي المسرح، العمق للتضحية والاستبسال والرؤية النضالية للإحداث والتاريخ، و حرك الممثل في مقدمة المسرح للإحداث الراهنة والتالية، ولما حل بعد الاستسلام لاتفاقيات الأعداء، وهو ما ركز عليه في الإنارة المسطحة لمقدمة المسرح، بينما استخدم إضاءة السبوت والبقع الضوئية للجزء الأول في عمق المسرح، واحتوي المسرح بحركة الممثل بتوازن عام للوحة، التي هي أصلا كانت متوازنة بوجود البئر والجديلة من الجهة اليمني للمسرح، والعازف علي الجهة أليسري، فكان تحرك الممثل يبقي العرض متوازنا في تشكيله، ولاشك أنه علي الرغم من استعانته بالسينوغرافيا، لتجسيد صورة المعركة بلقطات حية، إلا انه لم يتكأ عليها ليحلها مكان الأداء المسرحي، واستطاع إن يسيطر علي عدم اتساع فكرة الاتكاء على السينوغرافيا كبديل عن الأداء المسرحي ومنح الأداء علي المسرح الأهمية، وهي الفكرة التي دأب محمد خير علي أدائها في أعماله السابقة، إن تجربة الفنان محمد خير الإخراجية في هذا العمل، قدمت بعدا متناميا في قدراته التي سبق أن وضبها لبناء المسرح النقدي، والذي يشكل التعاطف بين الجمهور والممثلين الركن الأساس، وجعل الوعي مهمة في أداء المسرح لجر المتفرج إلى التأمل والتفكير، وان يكون الجمهور جزء من متطلبات العمل المسرحي، حتى تكتمل السلسة بين الإنتاج والتلقي، التي تهمل في إنتاج الإعمال الحداثوية، وفي مسرحية الرسالة التي يرمز العنوان إلى جانبين متلازمين يفسران بعضهما، الأولي: رسالة بأهمية تواصل الأجيال مع بعضها البعض، والثانية: للمجتمع والواقع الذي نعيشه، أن ما بني علي خطأ فهو باطل، قدم الرفاعي عملا يشكل رقما في الإبداع المسرحي العربي والأردني.




الذات والآخر في السرد: قراءة تحليلية لمعضلة الهوية في الرواية العراقية 1/3 -سعد محمد رحيم


الذات والآخر في السرد: قراءة تحليلية لمعضلة الهوية في الرواية العراقية 1/3


سعد محمد رحيم
مدخل؛ سؤال الهوية
الرواية خطاب جمالي؛ سردي ـ ثقافي، يُحيل إلى الواقع والتاريخ حتى وإن توسّل بالمخيلة. وهي خطابُ ذاتٍ فردية وجماعية، وخطابُ هوية وزمن وحياة. فالرواية فضاء سردي، الحفر في طبقاتها التحتية يوصل إلى منابع ثقافة، ويكشف عن إيحاءات هوية..
إن مبتدأ علاقة السرد بالهوية هو انشباك السرد بكينونة الإنسان ووجود العالم لحظة وعي الإنسان بهما.. فالهوية هي ماهية نمط وجود وكيفيته ومقاصده، وتمثلات ذلك في الوعي والوجدان.
البحث في الهوية هو من منظور فلسفي؛ بحث في الوجود، في كينونة الإنسان والمجتمعات والعالم.. هذه الكينونة بتاريخها وذاكرتها وأقدارها وحاضرها والأشكال المحتملة لمصيرها قائمة في السرد، في الفنون السردية التي ابتكرها الإنسان منذ أزمان طويلة ليفهم موقعه في الوجود، ويزيح شيئاً من الغموض الذي يجلل هذا الوجود، وهو قائم فيه..
"إن جذور العلاقة بين السرد والكينونة تمتد إلى العلاقة بين السرد والكون في طفولة الفكر البشري. وإذا كانت الكينونة بمعنى عام، تفيد ( الانوجاد ) الحضاري للإنسان في التاريخ، فإن هذا ( الانوجاد ) ذاته يرتد للرؤية التي صاغها الإنسان للكون من حوله، وهي رؤية تقوم على أنساق حكائية تمثّلَ الإنسانُ فيها الكون، وترجمها تخييلياً في أساطيره وخرافاته منذ عصور سحيقة"(1)
يصبح البحث عن الهوية معضلة وجودية حين تتحول الهوية إلى مصدر إعاقة للحياة، وحين تحول عقابيلها دون تفتح الذات وانطلاقها في أفق حر. وفي ظني؛ هذه ثيمة مقترحة دائماً لروايات جيدة.
كل رواية جيدة لابد لها، في لحظة ما، من أن تطرح سؤال الهوية.. وهو سؤال مركّب يأخذ في البدء أبعاداً ثلاثة:
ـ هوية الذات الكاتبة في مواجهتها لنفسها وآخرها، والعالم.
ـ هوية الخطاب السردي بوصفه متناً مثقلاً بالدلالات والمعاني.
ـ هوية النص المكتوب بوصفه شكلاً فنياً مائزاً، أي إبداعاً يفرض نفسه بين نصوص أخرى لا تعد.
والأبعاد الثلاثة للهوية هذه منشبكة في علاقات اتصال مرآوية وتفاعلية، مولِّدة للدلالات.
فالرواية تحكي عن شخصيات تسعى لإثبات ذواتها في العالم.. أن تقول للآخرين، من أنا، وإلى مَ أرمي؟. فينفتح السرد على المغامرة الإنسانية، على تلك التجارب التي تركِّب الإنسان، وتعيد تركيبه في خضم حركة العالم وعلاقاته. ذلك أن الشخصية الروائية تخرج على قيم انتمائها المعطى/ الموروث، رافضةً التماثل مع أعضاء جماعتها، وباحثةً عن الفرادة. فالصفة الغالبة عليها هي التمرد.. إن الممتثل والمتماثل لا يمكن أن يكون شخصية جذابة في رواية.
منذ البدء علينا أن نفترض أن الهوية تأسيس مستمر، ولذا لا يمكن منحها حدوداً صارمة أو مضموناً جوهرانياً.. معضلة الهوية أنها تتخطى نفسها دوماً باتجاه أفق لا يُدرك كأنه السراب، فهي تحفِّز الأسئلة والشكوك.. هذا لا يعني أن لا هوية ثمة.. فقط نحن نتكلم عن شيء زلق حرباوي أحياناً، ولعوب.
إن صوغ عالم روائي هو في فحواه إعادة لصوغ موقع الإنسان والمجتمع في العالم، والتعريف بماهيتيهما.
وإذن تتحدد تمثلات الهوية بـ؛
ـ ما الذي يريد أن يقوله الروائي عن نفسه خفيةً عبر السرد، وعبر ما يرويه الرواة؟.
ـ ما الذي يقوله الرواة عن أنفسهم، في خضم صراعاتهم وعلاقاتهم مع بعضهم بعضاً؟.
ـ ما الرؤية التي تنطوي عليها الرواية إزاء الوجود والعالم؟.
ها هنا لا نقرأ الرواية بعدِّها نصاً أدبياً له شكله الأستطيقي، بأنساق سردية متعينة، بقدر ما نقرأها خطاباً ثقافياً مترعاً بالدلالات التي تحيل إلى خارج النص المكتوب، والذي يرتبط بسياق اجتماعي ـ تاريخي.. فلا نسعى إلى تعيين هوية النص الأدبية. فما يهمنا، في هذا المقام، هو البحث عن تجليات الهوية التي هي موضوعة إنسانية بأبعادها الذاتية والاجتماعية والسياسية والوجودية، في الرواية العراقية المكتوبة باللغة العربية تحديداً.
الذات في السرد
السرد يخترق الذات، يحتلها ويعيد صياغتها.. الذات بعد ذلك هي غيرها قبل ذلك.. الذات السادرة في الحياة، هي الذات الساردة وقد أنسنت الطبيعة وأجرت عليها تحوّلاً، حتى وإن كان طفيفاً لا يكاد يُرى أو يُحس. وتلك هي الثقافة.. الذات الساردة هي الذات بعدما تثقفت. هنا نتكلم في الأنثربولوجيا، ولم ندخل بعد محفل الأدب، وما زلنا لم نتكلم في التاريخ.. الفضاء المشترك الذي يجعل تنقلنا بين هذه الحقول يسيراً، سلساً، هو التخييل. وقد يعترض معترض؛ أفي التاريخ الذي هو علم في الإنسانيات والاجتماعيات، فسحة للتخييل؟. وأقول؛ حتى هذه اللحظة، نعم.. ورثنا بعض حقائق عما جرى، وورثنا كثيراً مما جادت به المخيلة.. لكن هذا لا يمنحنا، ونحن مطمئنون على حكمنا، حق الجزم بأن التاريخ محض أكاذيب. إنه سرديات، كما الأدب، كما الأنثربولوجيا.
وفقط حين نقرأ التاريخ كما نقرأ الأدب، بروح تتسلى، وعقل يتعلم، من غير أثقال الإيديولوجيا، من غير عُقد جذورها في الصحارى البعيدة وفي الأزمنة السحيقة، من غير أن نسحب أدران التاريخ وسوءاته إلى راهننا، سنقلل احتمالات النزاعات، وسننعم بفرص سلام أكبر.
وإذن، الذات هي موضع التقاء جريان التاريخ ودفقات التخييل منظوراً إليها من زاوية موضوعية ـ تاريخية. وهي موضع التقاء تيار العقل والإرادة المحرِّضة على الفعل منظوراً إليها من زاوية ذاتية ـ تاريخية. أي أننا لا نستطيع أن نفصل التاريخ أبداُ عن كينونة الذات.
وعلى الرغم من أننا نعيش في عصر تعولم فيه كل شيء تقريباً، وأصبح التواصل بين البشر، مع توافر التقنيات الحديثة، أكثر يسراً، فإن هذا لم يحل دون تعميق النزعات الذاتية. ولا محل مثالي لاختبار هذه الحقيقة أكثر من ميدان الكتابة الروائية. فالانفتاح المفرط على الخارج يحفِّز في الإنسان الرغبة في العودة إلى الذات والتعرف على مكنوناتها وخلجاتها العميقة، وصراعاتها الخفية، والأهم موقعها ومكانتها، إزاء الآخر.
"إن الرواية العربية في بداية الألفية الثالثة يسكنها توجه جمالي مختلف، قوامها إنصات مرهف للذات، وسبر لأغوارها، ومساءلة تشظياتها، وآثار ذلك على الهوية في عالم مفتوح، لا يكف عن التغير والتبدل بوتيرة متسارعة"(2).
في الرواية العراقية بقيت الشخصيات غالباً، ولمدة ليست بالقصيرة، مغتربة عن ذاتها، لا تجرؤ على الإفصاح عن هويتها الذاتية كما تعيها حقاً وتشعر بها.. بقيت توارب وتناور عبر اللعب البلاغية وتتخفى خلف إنشاء فضفاض وخلف رموز مستغلقة أحياناً خوفاً من أن تكشف عن كينونتها الحقيقية.. كان السرد هرباً من ضرورة الإمساك بحقيقة الذات إلى سردية أخرى مموهة ضبابية، ومقنّعة. ففي كثر من الروايات العراقية لن تستطيع تحديد الهوية المذهبية، والعرقية ـ الاثنية لمعظم الشخصيات، وحتى الهوية السياسية كانت تبقى ملتبسة إلى حد بعيد. وما برحت الرواية العراقية لعقود طويلة تُكتب في ظل رقابة صارمة مؤسسية، وحتى ذاتية.. كان الروائي نفسه يمارس تلك الرقابة، وأحياناً بوسواس وحسابات تتعدى محددات ومعايير المؤسسة نفسها.. ولأن لا رواية جيدة يمكن أن تُنتج في مناخ من القلق والخوف والحذر المَرَضي ظلت الرواية العراقية متأخرة بخطوة أو خطوات عن مثيلاتها المنتجة في العالم، وحتى في دول عربية كمصر ولبنان والمغرب.
كما بقيت ثمة منطقة شبه مجهولة، مضببة، هلامية، خشي الروائي العراقي لمدة طويلة من انتهاكها، وإضاءتها.. كانت تلك منطقة الهوية السياسية الصريحة.. كان ذلك موقعاً مراقَباً، خطراً، ومثيراً للريبة.. أما الذات الساردة فما برحت تلجأ إلى التعمية، إلى الإنشاء الفضفاض.. إلى التداعيات التي لا تفضي إلى قرار.. كانت ثمة إشارات عابرة خجولة خائفة قابلة لتأويل مغاير.. لم تكن المخيلة محرَّرة، واللغة كانت شبه محتلة ببكتريا الخوف.. والرواية المكتوبة، في النهاية، كانت مبتغى هرب لا اعتراف.
غالباً ما نلتقي بشخصيات مأزومة، في روايتنا العراقية، وحتى أولئك المتبنين منهم لأفكار اجتماعية ـ سياسية، والمدافعين عن إيديولوجيات أو قيم عليا نجدهم مصابين بالإحباط، وقريبين من اليأس بهذه المسافة او تلك، وبذا يطغي على لغتهم التذمر والقلق والسوداوية والخيبة، فتراهم غير متوافقين مع بيئاتهم الاجتماعية، ولهم خلافاتهم الحادة، إنْ كان لهم مثل هذا الارتباط، مع مؤسساتهم أو أحزابهم.
هذا ما جرى لكريم الناصري في رواية ( الوشم ) لعبد الرحمن مجيد الربيعي، ولتوفيق في رواية ( المسرات والأوجاع ) لفؤاد التكرلي، و لـ ( كاتب القصص والروايات) هكذا سمي في رواية ( الحلم الجميل ) لأحمد خلف.
يغدو الواقع أقوى من إرادة الشخصية الساعية للتغيير. وبالتالي ينتقم الواقع من المسعى، ويكون الثمن رضوضاً نفسية، وإحباطاً معنوياً، وحيرة عقلية، وانكفاءً على الذات.
وثمة شخصيات تحاول الهرب إلى ملاذات لا تعرف عنها شيئاً. وفي أحايين كثيرة هي لا تعرف على وجه التحديد ماذا تريد.. هنا يمكننا التكلم عن فقدان الاتجاه والتيه.
ولأن أرضيتنا الاجتماعية والسياسية دائمة التعرض لزلازل وانهيارات يصبح خلق شخصية تجد خلاصها في نهاية المطاف، وتنعم بالاستقرار والسلام، ضرباً من التضليل والتلفيق.
وجهة النظر الواحدة المتسيدة على مسار السرد تكاد تطبع الرواية العراقية بميسمها.. وغالباً ما تتداخل في مثل هذه الروايات السيرة الذاتية مع المتخيل السردي، ويرفد التاريخ المتن الحكائي للنص.. في رواية ( الحلم العظيم ) لأحمد خلف يتشكل السرد في إطار واقعي يحيل إلى مرجعية تاريخية معروفة، لذا يمكن قراءتها بوصفها شهادة رجل مثقف عن حقبة مضطربة موّارة بالأحداث الدراماتيكية من تاريخنا الوطني، وعن حياة جيل عانى في خضم تلكم الأحداث. على الرغم من أن المؤلف استخدم ضمير الغائب وهو يقدِّم وجهة نظر شخصيته الرئيسة، وهو شاب يجد نفسه إزاء احتدامات واقع سياسي صاخب، فيتأسس تبعاً لذلك وعيه السياسي ـ الاجتماعي المغذي لموهبته المتفتحة في مجال الأدب.. إنه ( مؤلف القصص والروايات ) الذي لم يكتب شيئاً لافتاً بعد، لكنه يحلم بمستقبل زاهٍ لبلاده، يتساوق مع ارتقائه في عالم الشهرة الأدبية.
نقرأ الجملة الاستهلالية للرواية: "ذات ليلة باردة، اكتشف الولد، أن همس المتزوجين في غرف النوم يُسمع بعد الحادية عشرة..". وهي جملة ذات إيحاء جنسي لا يُخفى، سيمتد كشعاع منفلت ليجلل مساحات واسعة من السرد فيما بعد.. فالشخصية لم تكد تغادر مرحلة مراهقته، ويحيا في بيئة محافظة شحيحة، لا تشبع الرغبات الجنسية الطبيعية، فيعيش عالم استيهامات، عاداً إياه المكان الذي فيه مصرعه ومثواه. هنا يتناظر الحرمان العاطفي والجنسي مع ممارسات سلطة سياسية قمعية، ليعكسا أزمة الشخصية الاجتماعية والوجودية.
في واقع مترع بالتناقضات والمحبطات والكوابيس يستحيل الحلم إلى عبء، وتغدو محاولات تحقيق الذات والبحث عن هويتها فيه إشكالية كبرى.
روايات عراقية كثيرة حاولت خلال السنوات العشر الأخيرة توظيف التاريخ بوقائعه التي شهدها كتّابها، والذين خلقوا شخصيات مناظرة لشخصياتهم، أو بعثروا شخصياتهم في أكثر من شخصية واحدة داخل النص الواحد..
تنقل رواية ( المحرقة ) لقاسم محمد عباس حكاية طالب جامعي ( مروان ) يطلب منه والده، في لحظة عصيبة التخلي عن دراسته والالتحاق بوحدة عسكرية في البصرة هرب منها أخوه ( غسان ).. أي أن عليه أداء دور غسان في الجيش خشية انتقام السلطة من العائلة. فيذهب إلى هناك؛ يموّه شخصيته ويخدع الضباط، يساعده الشبه الكبير في ملامح الوجه بينه وبين أخيه.. وبخسارته لمستقبله الجامعي سيخسر حبيبته ( ياسمين ) أيضاً، وهي ابنة عمه التي تنصحه برفض هذه الصفقة غير العادلة، لكنه لن يحرِّك ساكناً، فتتزوج من رجل آخر..
سيتقمص مروان شخصية أخيه حتى لن يعود مروان مرة أخرى، ولن يغدو غسان بطبيعة الحال. ولن يكون في مكانه الذي تخلى عنه بضغط من ظروف قاهرة، بل لن يجد ذاته ثانية في أي مكان. وإذا كانت الحرب قد شطرت ذاته في ذاتين ظاهرياً فإن الشرخ سينتقل حتماً إلى ذاته الداخلية. وسيحاول من طريق الكتابة أن يمضي بالحوار حتى نهايته علّه يستوعب ما يجري، ويفهم ذاته، من أجل أن يتصالح معها ويعيد لها وحدتها، بعدما كان يقول؛ "وكأنني أتحدث إلى شخص آخر، لا علاقة له بي". فهل سيفلح؟!.
يكتب قاسم محمد عباس روايته بضمير المتكلم. وفي أية رواية مكتوبة بهذه الطريقة ثمة اقتران سري بجنس السيرة الذاتية، لا من حيث الشكل فحسب، بل من حيث التورط بالاعتراف.. إن روايات ضمير المتكلم، كما أزعم، تعد مخزون اللاوعي لكتّابها، لإنهم يُستدرجون، بحكم إغراءات الطريقة نفسها، إلى البوح الذاتي، واستعارة تفاصيل من التجربة الشخصية يستثمرونها في تعزيز عالمهم المتخيل.

المعرض السنوي لجمعية الفنانين التشكيليين .. وذكرى رحيل جواد =

-

المعرض السنوي لجمعية الفنانين التشكيليين .. وذكرى رحيل جواد سليم



تزامنا مع المعرض السنوي لجمعية الفنانين التشكيليين العراقيين، ومرور الذكرى الخامسة والخمسين لرحيل الفنان  الرائد جواد سليم تقيم اللجنة الثقافية للجمعية الفنانين التشكيليين العراقيين، عرضا ً لفلم ( صانع الحرية ) عن الفنان جواد سليم ، إعداد وسيناريو توفيق التميمي ومونتاج محمد النجار ومدير التصوير زمان فالح وإخراج طالب السيد، مع حوار عن الفن العراقي والمرحلة الحالية ومعرض الجمعية. يوم الثلاثاء الموافق 2/2/ 2016 . الساعة الحادية عشرة قبل الظهر، في مقر الجمعية الكائن قرب معرض بغداد الدولي ومعهد الفنون الجميلة مقابل حديقة الزوراء.
 

   

الخميس، 28 يناير 2016

حينما اجترحت الالهة-غالب المسعودي

حينما اجترحت الالهة
الحب..............
وصفته بانه داء لا يرجى شفاء منه...!
تخاصمت في العلى
سلطت كيوبيد بسهامه
على شغاف القلب...........؟
الحب شمس وقمر
تعكسه الاضواء في ليل
سهر..............
اسيرو ظلي وجعي
يعصف بي لهب حارق
لعل من طارق..............!
ارشف آهاتي  من عطشي.........؟
اخبو كخيمة
 تجاذبها الصحراء من دون عمد..........
ابتسامة من عينيها
تشعل صمتي
هل انت حب بلا حدود.....؟
احلم
اداعب وجنتيها
امسك
يديها
تمنحني السلام واغفو.....................!
في احضاني تولدين
من تراب الى انثى
واي انثى
(مهر لا وكس ولا شطط)
حب اداره الله
في كور
ان طابقتها الاقدار
لن تصغي لاحد
كسيوف غادرت اغمادها
في ظل نازلة ولم تحد
والقنا تلعب
بإياديين صمد لن ترد
لأجل شفاه ان اجرست
تحدس الاخبار في ارض ثمد
اسكب في رحى الساجور اشرعتي
لا ابتغي الود من ألس جحد
نار وماء وجسد
وكشح ضمه كفلان
من فرط الحسد
بت اشكو من هواها
فتنادي
ذات حبل من مسد...............!
تضرم النار بقلبي
واجثو ضارعا

بين نهد..........ونهد.............؟

الثلاثاء، 26 يناير 2016

أختام*-عادل كامل












أختام*


عادل كامل


[2] النائي
   عندما لم تعد هناك فئة (مثقفة) نادرة التخصص، وذات كيان يتمتع بحفريات نائية، منفصلة عن مجتمعها، وقد أصبحت منشغلة للبقاء على قيد الحياة، وقد أصبحت معنية، بالدرجة الأولى، أن لا تندثر، وتغيب، فان هذا الخط الفاصل ـ هذه الفجوة/ بله الفجوات والمسافات غير القابلة للردم إلا في حدود الاستثناء ـ ستزداد اتساعا ً نحو كائنات ستنفصل عن (النخبة) ذاتها، بوصفها قد ذهبت ابعد من: الولادة ـ الموت، ولكنها ليست ابعد من تمسكها بهذا الذي هو ابعد من الغايات/ الأهداف، إن كانت قد حددت، أو لم تحدد. إنها ليست إشكالية، بل ستوضح إن تفكيك (الإشكاليات) يتطلب هذا الحفر، أحيانا ً، خارج البرمجة.
   لنأخذ مثال: اللغة. إنها وجدت ـ ككل أداة ـ ضمن عوامل يمكن الإشارة إلى عدد منها، مثلما سيكون الباقي مشروعا ً للامتداد. فهي لا تنغلق عند حدود، الوظيفة وجمالياتها، لكن (لغتنا) منذ دوّنت أقدم النصوص فيها، لم تتخل عن العوامل التي تسري في مجالات البرمجة كاملة، من الأثير إلى النص.  فعندما يغفل المتابع، أو يغيب عنه، أن كل يوم، في لغة مثل الانكليزية، وفي سبعينيات القرن الماضي، تندثر20 كلمة، لتحل 20 جديدة، فان برنامج الحياة برمته يتعرض للتآكل، والتعفن، أي: ديمومة التصادم.
   وقد برهنت الحياة ذاتها إنها لا تعمل بإمرة فيلسوف، أو طاغية، وحيد، وفي الوقت نفسه، ستعمل بديالكتيك: اللا ـ كل، إزاء الكل، ومن ثم: الانتقال إلى المجموعات، ومنها: النوع البشري.
    فعندما نجد أن هناك من توقفت ديناميته عند: حدود، لا يمكن تجاوزها، فانه يكون قد وضع الديمومة في مأزق. والمفارقة وحدها تفصح عن أمثلة تذهب ضحيتها كائنات لا تحصى. وقد يكون الرد ـ بمعنى الدحض ـ هنا، هو المثال على إبقاء مقولات كالترتيب الهرمي، إزاء أي تحرر يتوخى الارتقاء بالنوع نحو هذا الذي لا خاتمة له.
   فتلك الفئة التي دوّنت النصوص التي مازالت متداولة، في الحقول كافة، والرمزية منها تحديدا ً، ليست (متقدمة) إلا قياسا ً بما سبقها، لأنها، في الصيرورة، لن تغدو (مستقبلا ً)، بل عثرات.
   والسؤال: إلى أين يتجه الإنسان، إن لم يذهب: أما إلى الفردوس، وأما إلى الجحيم، من ناحية، أو يرجع إلى العناصر التي تكّون منها، من ناحية ثانية، عندما يكون زمن (الوجود) محصوراً بينهما. وهذه عملية اختزال لكنها ليست بلا فائدة، في الأقل، لأنها التاريخ ممسرحا ً ـ ومرئيا ً، بتصادماته، كي يجري  بعجلات المنقرضات.
    فما الذي تريد تلك النخبة أن تلفت النظر إليه، غير (العدم)، مقارنة بما تسعى إليه الحياة برمتها؟ انه ليس هدفا ً يستعاد وتتم الإشارة إليه بمعزل عن مصيره: الاندثار....، أم هناك هذا السابق على (العناصر) والمندمج معها، والمتقدم على ـ حضورها/ وغيابها؟
     لكن هذه الإشارة لن تثمر جدلها ـ بوصفها جدلية وهي تذهب ابعد منه ـ إلا بوصفها تتمسك بالعقلانية، منهجا ً، نحو هذا: اللا ـ شكل، في آليات عمله، أو في غائيته. فالمنجز ـ علما ً أو فنا ً ـ أو صهرا ً لهما ـ يحافظ على تنبؤاته في مواجهة أشكال الثابت، والأبدي.
    فهل الكتابة حقبة لها زمنها التاريخي، أم إنها تؤدي دور الجسور نحو (غائية)، بلا غاية، للحفاظ على (الدينامية) أم أن إرادة (الحياة) ما هي إلا احد أشكال المحركات النائية، وخارج حدود الوعي ـ واللغة؟
   هنا تبلغ المغامرة ذروتها: التقدم في المجهول. وهي مغامرة لن تترك (الحياة) بلا غاية، من ناحية، وتدفع بها نحو (مجهولها) من ناحية ثانية.
    بدءا ً، ليس التطور وهما ً، بل جزءا ً من العنصر غير المسمى، المشترك، مع ما لا يحصى من العناصر، في ديمومة هذا الذي لن يترك أثرا ً له، عدا ـ في لحظة المراقبة ـ ومضاته وكأنها مستمدة من التاريخ، وليس من تلك التي سكنت الذات الحية، ونخبها، على مر الزمن. فالتاريخي يغدو أبديا ً، ولكنه، وبالتاريخ، يغدو منطقه، على أن توظيف (المجهول) إلى مشخص أو إلى تأويلات رمزية، سيعزز النظام الهرمي، ولا يعدله، مما يجعل: الولادة، في هذه الحالات، وكأنها وحدها تعمل بمعزل عن موتها ـ وفنائها.
   إنها شبيهة بالأنظمة التي درست، منذ الاقتصاد البري، في الزراعة، ومن ثم إلى التفكير المجرد، حيث الأشكال وحدها تحذف، لتجد أشكالا ً توازي تطور (الذكاء/ الأدوات/ الخبرة)، إنما المعركة ذاتها ـ منذ تشكل خلايا الحياة الأولى ـ لم تحتفل بنصرها، مثلما لم تهن لهزائمها. فهل باستطاعة الفن أن يقول ـ أو أن يخفي ـ شيئا ً غير: دورات الولادة ـ الموت، وهي دورة التحولات، أم أن هناك، شيئا ً ما من (اللا ـ شكل) والذي هو (اللا زمن) لديه ما لم يعلن عنه، ليس استحال، بل بوصفه برنامجا ً، إن تمت معرفته، فانه لن يقارن إلا بما أخبرتنا الحواس ـ والحدوس به، ويكون قد تشّكل كما الحاضر ـ غائبا ً، وكالميت الذي يفند (الموت) بغياب اكتسب لغز حضوره؟




[3]  اللا ـ شخصي
بعبارة لا ينطقها أحمق، كما في خاتمة مسرحية غاليلو لبرشت، فان الأرض: تدور، حتى لو نطقها من غير صوت، أو بكتمانه. ولو كان قد رفع صوته، غاليلو، وليس برشت، فان الشخصي لا يعنيني كثيرا ً. ذلك لأن لذّة المعاقبة التي لها ليست مرضية، ولهذا فهي لذّة ليست خالصة، مع إنها لا تخفي انتصار كوبرنيكس، بالذهاب ابعد من دوران الأرض حول الشمس.
   ثمة لذّات شخصية استثنائية، كالإدمان بمختلف أنواعه، كالإدمان على الفساد، أو تناول الكحول، أو إشباع الرغبات الأكثر سادية من القتل، وأخرى، كتنفس الهواء الأنقى، أو تناول الطعام بشراهة، يمارسها حشد بلا عدد، لكن لذّة أن يقول سقراط، في واحدة من ومضاته، إن المحادثة إلى رجل يفهم، لا تختلف كثيرا ً عن التحدث إلى رجل صفر. فالأول يفهم، والآخر لا يفهم، وهكذا  يغدو الكلام بلا لذّة.
   والأمثلة، مع زيادة السكان ـ من ادم الذي ينتسب إلى الواحد الأحد، إلى سبعة مليارات مخلوق يبحثون عن الخلاص ـ ليست نادرة، ذلك لأن الحقيقة ستبقى قائمة، بمعزل عنا! فأين هو فن تلك الومضة، وهي تنتقل من حد إلى حد آخر، ومن زمن إلى زمن ابعد، أم كما دوّن أفلاطون، بحكمة بلغت ذروتها: إن الأعمى الذي يسير من الليل إلى النهار، خير من الأعمى الذي يتجه من النهار إلى الظلمات!
    الإنسان أعمى! تلك هي كلمة والدي، استخلصها، بتأثيرات المعري، وشوبنهاور، واليوت، فلم اعترض، ولكني كنت أتساءل: هل الحقيقة عمياء؟ قال: لا! ولأنني كنت منشغلا ً بما تصنعه الألوان في مصيري، لم يشرد ذهني إلى منطق اللغة كي أراقب الزمن، كعبارة برخت: إن الحقيقة بنت الزمن، وليست بنت الأشخاص..؟ لكنني، بإحساس لا علاقة له بالتقدم، أو بلفت النظر، أو استبعاد الهزيمة، كنت أدركت في وقت مبكر جدا ً ـ أن هناك كائنات ارتقت بتجاربها نحو هذا الذي لا يقبل الانغلاق، ليغدو لذّة نادرة. إن (نرسس) لم يكتشف كم هو جميل، فهذا لا يعنيني كثيرا ً، لكن (المرآة) كانت مرحلة متقدمة في مصير النوع: إن الحقيقة تعدلنا، مع إنها، إزاء المطلق، لا تترك شيئا ً للتقدم ـ أي حتى لقول كلمات لا تعني أكثر من كونها كلمات! وها أنا ـ من غير شعور، ولكن بوعي تلقائي ـ أقع في الفخ: إن الفنون اللا شخصية ـ من الهرم والزقورات إلى ناطحات السحاب ـ ترغمنا أن نحدق في الطريدة التي لا وجود لها، إنما علينا أن لا نتركها تتوارى أو تغيب.
    فهل الحقيقة مبصرة، مثل العلاقة بين ما لا يحصى من العناصر في بناء منظومة الحياة/ المجتمع/ وزواله، كي يمتد حتى بحدود قرون، أو آلاف السنين، لتخبرنا، إنها عبرت، مثل ذرات بحجم مجرات، أدت عملها، في معبدها، أو في مختبرها الكوني، أو في لا مكانها، بوجودنا أو من غير هذا الوجود، على حد سواء؟
   سيقال أن موت المؤلف/ الفنان/ وانتفاء الذاتي، ترجع إلى (هيغل)، عندما لا حظ أن الموسيقا لا تعزف إلا من اجل الرب، بل للحصول على ثمن. ماركس، لم يعدل هيغل، بل توغل في تفكيك العلاقة، بين المثالي والضرورة، ولم يصدم (كانسان)، كما صدم بوجود آليات بشرية، تسمح للرأسمالي/ الصياد/ الجلاد، أن لا يبالي بضحاياه. فالنمل البشري، إزاء المركز، منظومة عمل قائمة على التدمير. لأن المركز، في الأخير، سيجد نفسه مدمرا ً. فثمة مركز آخر، كنجم كبير، بمروره، يلتهم الكواكب والكويكبات، من غير مشاعر زائدة، أو زائفة، لأن آلية العمل تصبح شبيهة بعمل اللغة التي لا تصدر أصواتا ً.
    لا شخصي...، تماما ً، هي الأبنية التي سمحت الفنان( سيزان) أن يخبرنا بها، لكن هل ثمة لذّة صفر، أو مشذبة، أو جمالية، أو عقلية، كالتي سمحت لـ (نيوتن) أن يكتشف قوانين الجاذبية...، وسمحت لدارون، مع سبنسر، أن يعزلا الحقائق عن التصوّرات، ويرتقيا ـ بالتفكير ـ نحو الحقيقة؟
     ها هي الحقيقة، تقودني إلى ديناميتها، وليس إلى موتها. ففي الفن، لذّة تتحقق فيها، إن كانت الحياة فيها بعضا ً من الشعر أو ما لا يحصى منه. فالفن يعرف كيف يجتاز عثراته، وعقباته، مثلما بالإمكان تخيل فيل يمشي تحت المطر وكأنه وحده اكتشف ذلك الممر الذي ينقذه من البلل. ولدي المهووسين بكرة القدم، كعشاق (مسي) أو (رونالدو)، إنهما يمتازان بمهارة ذلك الفيل، فـ (مسي) يخفي الكرة ولكنه يمضي بها من خلال أرجل المدافعين حتى ابعد من المرمى!
    فمن غاليلو إلى سيزان، ومن دارون إلى مسي، ومن نيوتن إلى ماركس...الخ، يعبر ذلك العنصر اللا مرئي للبرهنة بان الابتكار ـ وهو معنى الحياة بعيدا ً عن نظامها الهرمي ـ يؤدي دور مرور الأطياف حتى لو كانت منظومات المراقبة (المركزية) قادرة على الاعتراض، مع إنها، ستستثمر مصائرهم لصالحها، وتحتفظ بما اكتنزت، إنما الحقيقة، والحقيقة بحسب المختبرات، تذهب ابعد من ذلك.
   هل قلت إن اللا شخصي، ليس ما هو ما قصدته الألسنية/ البنيوية، منذ بواكير علم الانثروبولوجيا، وصولا ً إلى التفكيك، وإنني لم اقصد ـ أيضا ً ـ الحديث عن نظام يعمل بمعزل عن العاملين فيه، مع انه، لا علاقة له بموت الفن أو موت الإنسان؟ إلا إنني حاولت لفت النظر، ضمنا ً، للقبول بالقهر، من قبل (النمل) البشري، والعمل ضد الحقيقة: ضد الفن ـ ضد الإنسانية التي قرأت لحكماء سومر، ولسقراط، أو لتولستوي، وللآخرين أصحاب النزعات المرهفة، مثلا ً، لأنها ناصعة، كالنجوم التي أثارت دهشة (كانت)، لكن ليس من اجل لذّة خالصة قائمة على (الشيء في ذاته)، لأنها في الأصل عبرت مخيال قهري ـ بل أداء ً شبيها ً بعمل الدماغ ـ وما كان عاملا ً لهذا الوعي في رصد مرور هذا الذي ستكون (علامته) غائبة، بحضورها المحصور بين مجهولين، وليس بين غائبين. فالأشياء التي تفنى، مقارنة باللا ـ شكل، تعمل بمعزل عن هذا الزوال ـ الفناء. فالعقل سيتتبع مساره عبر علاماته في الزوال، فيما الفناء، يلحق، رمزيا ً في الأقل، باللا كل.
    فهل (الهرم) علامة اكتنزت بلغز ديمومة مكوناتها، أم للنظام الهرمي ـ من الرأس إلى الرمل ـ لغزه كي يبلغ تاريخنا ذروته...، أي نهاية الدورة، كي تعمل الحقيقة ـ بعيدا ً عنا أو بنوع يماثلنا أيضا ً؟
   إن الإجابات، في الغالب، تترتب بقيود لغتها، وليس بما يتمتع به الدماغ من مديات ابعد، لأن الأخير، بحسب العلماء، ليس مجموعة أجزاء، لكنه ليس (كلا ً)، بل مركبا ً تضمن، عبر الزمن، تلك الأطياف التي سمحت لغاليلو  أن لا يقول بصوت مسموع، بل أن يتمتم مع نفسه: تعيس هو البلد الذي يحتاج إلى أبطال!. فهو لم يخترع، ولم يكتشف، شيئا ً شخصيا ً، بل تتبع الظل وهو مأخوذ بلذّات لا شخصية: لذات لا علاقة لها بالحروف، والصوّر، والرموز، والحدوس. ليس لأنها تعمل بمعزل عن المراقبة، بل لأنها، كما هو المنطق الجدلي وهو يتوغل في تفكيك الجدل، في تفكيك ذاته، لا يتباهى بالنصر: أي بمحو الآخر. فالفردوس، طوال الحقب المظلمة، لا يسكنه إلا أقل الناس رهافة، لأن انتصاراتهم برمتها شيّدت على إقامة نيران مستعرة للآخرين. ويا لهو من خلاص...، مثل هذا (المثلث) في مقدمة السهم، أو في الرؤوس النووية، بشارة لأعياد لا وجود لها، عندما تستحيل المراكز إلى أثير.!



[4] استبصار
    على إن تحديد جوهر الوجود، لن يفضي بأكثر من إنسان يحدق في: كل ما يقع خارج وعيه. على أن الوعي ليس حاسوبا ً متقدما ً، ومنفصلا ً عن معنى (ما) في هذه العلاقة ـ المعادلة. فانا لا اخترع هذا الذي غدا خارج أدواتي في المراقبة ـ والحكم، الأمر الذي لا يسمح لي بأكثر مما ذهب إليه حكماء ـ العقلاء والمجانين ـ بتلخيص رأس مالهم حول (الحياة) بوصفها ليست فائضة ـ أو خالية من المعنى، أو: إرادة عمياء. حكماء تركوا الفجوات تسكن حكمتهم، وتسكن اللا محدود، لإعادة التحكم بمصائرنا، من غير النظام (التراتبي) الذي كان (الهرم) نموذجه على مر الزمن.
     ما الذي يشغل رأس فنان يستطيع، مثل شجرة، أن لا يصدع رأسه بما هو أعظم من الصدمات: الحماقات البشرية، التي لا يمتلك ـ لا الفنان ولا تمتلك الشجرة ـ في نهاية المطاف، إلا الدفاع عن كينونة ـ وجود مهدد بالمحو ـ أو، في الأقل: بالاستلاب؟
      ففي التعرف على ما هو خارج المعرفة، وحدودها، وعمل أدواتها، يستعيد الكائن ـ الذي توهم حريته في عالم محكم، قليلا ً من أندر الومضات التي لا تضعه فوق البشر ـ بوصفه استثناء ً، بل علامة صاغتها التحولات، وقد راح يجد خطاه فيها الدرب الذي لا يجعل نظره (تقدميا ً) ويده باحثة عن طريدة، لا يجعل صمته حرا ً وكلامه مغامرة، لا يجعل أحلامه ملاذا ً، وأفعاله سلسلة من المناورات...، فهو لا يسعى لمغادرة أوهامه ـ وأخطاؤه، كي يجاور عالما ً لم يترك أملا ً إلا بالعثور على كل ما يدفعه أما إلى السكينة، وأما إلى: اللامبالاة!
   هذا الكائن، كلما ازدادت عزلته، ازداد استبصارا ً بكل ما لا يلمحه البصر، أو يتتبع علل العقل. فهو سيعيش من غير أمل، ولكن من غير قنوط، فهو لا يعمل كما يعمل (النمل) أو تعمل الأشجار، أو (الأشياء)، واقصد من غير أمل، أي من غير وهم، مهما كان متقدما ً، ويتمتع بقليل أو بكثير من اليقين، فالأمل، ليس السراب، وليس هو استبدال (المنفى بمنفى أكثر اتساعا ً)، وليس هو الارتداد، وترك الكسيح يصبح قدوة ـ كما في النص السومري عند معالجة معضلة العدالة الإلهية ـ وقد دوّنت قبل ظهور إبراهيم بألفي عام ـ ولكن لأن السبعة مليارات (كائن/فرد/ رقم/ شفرة/ كلمة/ حرف ..الخ) تؤدي دورا ً شبيها ً بمعركة يكون النصر فيها وهما ً بنيويا ً، فان هذا الأمل، لديه، كمن يعمل عمل المستغفر للمستغفرين، كما كانت رابعة العدوية تفعل، أو كقولنا للباحثين عن خلاصهم عن قصر في الفردوس، وعن غلمان، أو عن حواري، أن لا يسرفوا في الأحادية، والتحكم بالمصائر بوصفها غنائم حرب، فالأمل ليس أن اعثر على ديمومة لا تكون جزءا ً من وجود لا يتوقف عند(حد) أو ينتهي بخاتمة.
      وبمعنى ما مماثل: كيف يتأتى لنا أن نمسك بأمل إزاء وجود لا يبوح بأكثر من ومضات: ذرات أو لا مرئيات تعمل بما يدحض أي حكم، بعد أن كانت مسيرة الأنواع قائمة على إحراز نصر لا وجود له في النهاية، إلا بحدود تحولات العفن إلى عطر، والعطر إلى عفن، لأسباب لا علاقة لها إلا بحدود (الوهم) الذي غدا (أملا ً) لديمومة تصادمات لن تترك لنا إلا احتمالات تقسيم البشر، بحسب تاريخهم، إلى: قاتل ـ وضحية، كي يستعيد الأخير، دور الأول، عبر البرنامج ذاته، ومن غير تعديلات تذكر!
 فماذا يريد الفن أن يؤديه، إذا استبعدنا التشخيص، التعبير، الرمز، واحتمالات التأويل، وما يبدو راسخا ً، أو منزلا ً، أو خاليا ً من الغبار...؟

[5]
   في الغالب لا اشعر بالندم، ولا بالإثم، لأنني لا امتلك إجابة أخيرة ما إذا كان الفراغ، أو العادة، أو الحوار مع النفس، سببا ً ابرر به انشغالاتي بالفن. ولا استبعد أن لفت النظر، حتى وأنا أتوارى بعيدا ً عن الآخرين، له تأويله.
    ففي عالم السلع ـ البضائع، ينوع الصانع إنتاجه، بعلامة ما، للترويج، إنها منافسة  للديمومة، إن كانت على مستوى  الغرائز، أو على صعيد الاستحداث.
    ومادمت اجهل تماما ً لماذا (الديمومة) لديها ما لا يرد، كي تكون موازية للقدر، والحتميات، فانا اجهل لماذا ـ بعد تذوق مرارات الإخفاق في الحسم ـ علي ّ أن أرى ما لا يحتمل، من رداءة ونذالة، من قسوة وعدم حياء في ديمومة المطالبة: بالتغيير، الإصلاح، والثورات؟
    فلا الفن، ولا الطب، ولا المواعظ باستطاعتها أن تذهب ابعد من حدود عملها: فالمريض سيلقى حتفه، في نهاية المطاف، لأن برمجة (الديمومة) قائمة على كل ما لا علاقة له بحرية الاختيار، فالأدوات مقيدة بوظائفها، مثل السلع: الاستهلاك.
    ولا أكثر إثارة للقهر أن تنتهي الحكمة باعتراف: هذا هو الواقع! لأن الأحلام ـ بمشفراتها ـ تعمل في هذه الحدود.
   وهكذا دأبت، في كل صباح، قبل الشروع بالكتابة، أو الانشغال بالفن، أو أن أعيد قراءة كتب، تبعدني قليلا ً عن حافات القفز وراء الجنون: العقل، لأن الأخير، كما تؤكد البراهين، ذروة آليات عمل المفتاح في القفل. فانا إذا ً في حال المتورط. فانا أصبحت ورطة نفسي! فالجنون، كالعقل، كلاهما شبيهان بشرود المتيم، لا ينظر إلا للذي يرغب في النظر إليه.
    وللدقة، أنا لست أسير قيود المكان الذي ولدت فيه، وزمنه، ولكنني ـ حياء ً ودقة ـ لا اذهب ابعد منهما. فقد تكون الإجابات، في كوكب آخر، ككوكب أنطوان اكزوبري في الأمير الصغير، خالية من الأسئلة. إنما أنا أرى عرضا ً مسرحيا ً شبيها ً بنظرية المؤامرة، مهما استبدل العرض، فانا لن أغادر نسق استحالة دحضه، أو حتى تعديله. فالدماغ يعمل بالغاز شبيهة بعمل شجرة تقاوم البرد أو أي عدوان، وشبيهة بالحرباء تستبدل لونها تكيفا ً بزمن قياسي، ومثل من يجهد كيف يكون بصره تقدميا ً ويده تصفق للرداءة، قلبه ينحاز للطهر وفمه ينشد للموبقات، أو مثل قديسة وحدها تدرك إنها غير مسؤولة عن عفن العالم..!
     ثمة  قيود لن نغادرها إلا بالتوحد معها، حتى بعد الموت، فإنها ستمتد، كإرث، للذين سيولدون بعدنا. فإذا كنت لا استطيع استبعاد رائحة تفسخ جسدي، أو حتى رائحة رمادي لو اخترت النار بديلا ً عن الدفن تحت التراب، فما معنى الحديث عن عطور أزهار البرية، أو ورود بساتين بغداد...؟
    ويا له من اكتشاف، شبيه بالجاذبية، أو من اكتشف إن سرعة الضوء لا تقربه من معرفة لغز: اللا ـ كل، واعني بأننا أسرى النسبية. فاينشتاين الذي لم يستطع أن يفهم شيئا ً من الصفحات الأولى التي قراءها من رواية القصر، وقال إنها بحاجة إلى دماغ يوازيها، فانا اجهل تماما ً فك مسيرة تاريخ لو لم أكن مكبلا ً به لكنت غادرته، فأرحت الآخرين ونفسي أولا ً منه ...
    فهل نطق كافكا بلسان الرب أم عمل على استبعاد بديهة المشهد ذاته الذي عاشه سيزيف وصولا ً إلى بشاعات العولمة، وعالمنا المعاصر، وما تؤديه الأسلحة المحرمة من تسليات موجعة لضحاياها، ماذا قال كافكا أكثر من رصد الإجابات على أسئلة غائبة، لكن اختيار الموت، لم يعد ممكنا ً، وفي حالات نادرة، كالأمير الايطالي الذي اضرب عن الطعام احتجاجا ً على الموجودات وعلى الوجود، ورحل بهدوء، أو كغرق فرجينا وولف، فانا لعلماء النفس شطارتهم في العثور على أعراض للإدانة!
    إنها برمجة تحتم على المبرمج، مهما تحرر من آليات عملها، أن يجد نفسه قد أتقنها، وأدى دور من يقف في أعلى الهرم: الصياد، أو الأمير، أو مدير الشركة، الأكثر مكرا ً ودهاء ً وجورا ً وقوة وفتنة وثراء ً وبرمجة يجادل بها للإبقاء على القاعدة شرطا ً للحفاظ على وجوده في الذروة: فوق الصليب أو الموت كمدا ً أو التمتع بعقارات كالمورفين أو الشعر أو الفن أو المشعوذات أو مرتلا ً في حضرة الرب، والكل يعرف، إن (الرب) يقع بعيدا ً عن ذرى التصوّرات، والكلمات. فالصياد وحده لا يفرط بلذّة إنزال اشد درجات الألم، والذل، بالآخر الذي لن تنتهي أسطورته بموته، بل سيأخذ بثأره عبر برمجة تمتد إلى ما لا نهاية، أو عند حدود برمجتها.
     فهل ـ في الفن ـ استطيع أن أجد سلوى غير تجاهل هذا العرض المروّع للقانون السابق على كلمات مالتوس: حرب الجميع ضد الجميع، حيث العناصر، في تشكلها، لا تكف عن دورها في إثبات أن: النهار يكمن في الليل، مثلما العتمة قد وجدت سكنها في أشعة الشمس!
    قوانين....، لا تجد إجابة إلا ورأسك بين يدي ّ جلاد أما أن يرسلك إلى جهنم، أو لا يمتلك أن يرسلك إلى أي مكان آخر...! ففمك إن نطق أغلق، وإن لم ينطق فلا معنى لوجوده...، فأية برمجة عنيدة هذه التي حولت حياتنا إلى مسرحية تجري في القاع، لكن بمرأى  من يمرحون تحت الضوء...! قوانين تدفع بالمفارقة للحفاظ على (المثلث): رأس... وقاعدة لا إرادة لديها  إلا التنفيذ، والطاعة. وأيا ً كان الرأس، فالمنفى يحتم شكل منفييه، مثلما المنفيين، في محاولات الخلاص، يعززون دور المركز: المنفى. وكأنها لعبة إن لم تلعبها أرغمت أن تطرد منها، أو تلعبها بحرية وحدها لا إرادة لديك إلا على أخيارها. إنها كحرية الطريدة، أينما ولت، فالمخالب غرست في أقاصي لا مرئيات جيناتها!  فهل  استطيع، بهدوء، أن اغوي أصابعي/ بصري/ دماغي، بالتحايل على نهاية وضعت، قبل أن يكون هناك نهار، وقبل أن تكون هناك دابات تدب بهذا الدبيب الذي غدا مشهدا ً مألوفا ً، بأدواته، وبتقنياته، مادمت أدرك إن موتي مدوّن في سلسلة تحولات العناصر، قبل أن يكون ثمة دماغ ـ وحواس، أم إن هذا كله نتيجة حتمية لوجود  المقدمات، ونهايتها، وهي جديرة بالملاحظة؟
تأملات أثناء العمل ـ وقد سبق أن نشرت حلقات من التجربة تحت عنوان: اختما معاصرة.