بحث هذه المدونة الإلكترونية

إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الخميس، 10 مارس 2016

أختام*-عادل كامل




















أختام*

عادل كامل
 [20] مرايا ومرايا مؤجلة
    لا تستطيع أية فلسفة عدمية، وأية قوة تدميرية، وضمنا ً هذا التيار الجارف للانتحاريين، أن تزعزع ذلك الفاصل بين عصر ما قبل (المرآة)، وما بعدها. ليس لأن الحياة قائمة خارج إرادتنا، وكل إرادة من صنع المتراكمات، التاريخ، أو بفعلها، وإنما لأن الوعي المضاد ذاته سيشكل امتدادا ً لها. وبمعنى ما فان اكتشاف (نرسس) الرمزي، لذاته ـ مع تحديد بؤر الخطر: كل ما هو في الخارج، وصولا ً إلى التدمير الذاتي للذات ـ سيدفع بالوعي إلى ذروته: ألانا على حساب الآخر، مما منح الجميع قدرات أعلى في صياغة مبررات الإرادة: ليس بالعودة للحفاظ على (الذات) وتراكماتها، بل للعثور على مسوغات تتوازن فيها شراسة التصادمات، وعدميتها، لكن ثمة قوة ما ستستعيد انبثاقها، على حساب حيوات ستتوارى، ابعد فابعد، كي تمنح الإرادة صيرورتها: وكل ما لم يدشن بعد.
     فهل كان باستطاعتي أن أكوّن قناعة ـ غير مبرمجة بإحكام ـ غير عمياء،  لا أتسلى بها، ولا أتقدم في المجهول،  لا يكون الاضطراب فيها مدمرا ً،  بل متوازنا ً مع هذا الذي يمنح وجودي حده الأدنى من الثبات، والسكينة، ولا يدعني أتستر خلف مرايا وجودها لا يمتلك إلا قوانينه الراسخة: أنا أو الآخر...؟
    قبل أن يرى (نرسس) وجهه فوق سطح الماء، لم يخف، انه رآه قيد الزوال، متموجا ً، إنما، في لحظة الاكتشاف، تشبث بما رأى، وسيعمل وفق اكتشافه، لذاته. إنما ثمة مسيرة طويلة تسبق هذا الاكتشاف، ومراحل لاحقة ستجعل من المواجهات حتميات لفهم القانون ذاته، ليس إلا التصادم المرئيات عبر تحولاتها إلى ذرات، والى كتل، يدمر بعضها البعض الأخر، شبيهة بتصادمات الذرات في النار، وشبيهة بتصادمات المجرات، والنجوم، في الفضاء الأكبر.
    قبل أن يتعرف نرسس على انه: وجه، ولغة، ودهشة، كان يرى في الآخر، شبيها ً له: فكانت الحياة متوازنة عبر صراعها العنيد. وها هو يكتشف انه يمتلك قوة باستطاعتها أن تقول للآخر: إن لم تكن معي فانا لن ادعك تراني عدوا ً! لكن هذا لن يدوم. فكل الحروب تخمد، مثلما خمدت البراكين التي كونت قاراتنا، كي تعمل المرآة، لا في اكتشاف خفايا النفس، ولا شعورها السحيق، أو في لاوعيها المبرمج بمعزل عنها، بل لاكتشاف حتمية إن الكون، يمتد، ويمتد، متسعا ً، إلى ما لانهاية.
     إنها سلسلة تصادمات، إنما لن تقدر أن تضع نهاية لهذا الاشتباك، إلا بالمساومة، كي يأخذ الصلح دوره في ديمومة الاحتفال، وكي يفضي إلى: مرآة شاملة. فعندما  لا يوجد منتصر في نهاية المطاف، لا توجد هزيمة أيضا ً. فهل المرآة  الشاملة، واقعيا ً، مسارا ً انصهرت فيه الروافد القديمة، أم تحضيرا ً لعصر مداه يقع خارج حدود كوكبنا الأزرق الصغير، والأخير يعالج أفوله بعقارات جميعها شبيهة بالسم الكامن في الغوايات...؟
    ها أنا لا أرى إلا ما رآه مدوّن قصة الخلق: العماء! فأمد أصابعي كي اعثر على موطئ قدم، فالعالم الذي لا اعرف عنه شيئا ً، لا يقع داخلي، ولا يقع خارجي، لا لأنه عالم مرايا، وتصوّرات، وصيرورات، حسب، بل لأنه هو كل هذا الذي لا استطيع إلا أن أتوارى فيه، كي أدرك، في نهاية الأمر، إنني أسير غوايات، حتى في عملي المضاد لها.
    ويا له من مجد، وانتصارات ظريفة، لكنها، عمليا ً، وبقليل من الحكمة، لم تشيد إلا فوق الضحايا، والخراب، والخواء  فحسب، بل لأنني عندما لا انتصر على الآخر، وعندما انتصر على (أناي)، فان الهزيمة وحدها ستمتد، وأنا أرى المرايا تتهشم، الواحدة بعد الأخرى، كي لا أرى إلا  لا مرايا، تتجاذب، فاترك أصابعي تصنع أختامها، محاطة بحافات سبقها عدمها، كقوة بلا حدود، في الديمومة.
    انه اللا كل وقد منح كل (أنا) إرادة خفية لاجتياز عصر العماء. فاستعيد دور الأعمى، واتمثله، في الحديث عن نجوم لم أرها، حولت إشعاعات الشمس، إلى فحم، داخل حضارات لم يدم صخبها، إلا ومضات داخل هذا اللا كل، عبر تصادم غوايات غابت عنها المرايا، من الخلف أو من الأمام، وقد اخذ اللا زمن موقعه، نائيا ً، في المحو. انه وجود انبثق من العماء، نحو عدمه، عبر حضور مسبوق بشظايا لن يدوم تجمعها إلا بحدود المسافة ذاتها بين الأزل والأبد، فهل تبقى لي رجاء عدا ترك روحي تحّوم برجاء لا علاقة له بي، أو بما رأيته، عبر مسرات الجحيم، والأصح: عبر جحيم المسرات  المستحيلة...؟

تأملات أثناء العمل ـ وقد سبق أن نشرت حلقات من التجربة تحت عنوان: اختما معاصرة.

الأربعاء، 9 مارس 2016

المثقف الواحد المتعدد.. البورتريه لا البروفايل-*د. حسن مدن

المثقف الواحد المتعدد.. البورتريه لا البروفايل
*د. حسن مدن

هل من الأجدى أن يحتكم المثقف إلى فكرة أو نظرة محورية واحدة، عبرها يرى الظواهر الأخرى، وأن يرى أن هناك ناظماً للأشياء والظواهر، أم أنه ينظر إليها فرادى، جزئيات مبعثرة مختلفة. حتى تفسير التاريخ نفسه عانى من هذا اللبس، ومثله السلوك العام للبشر، وفي هذا السياق يمكن صوغ أسئلة عدة عمن كان على حق: كارل ماركس مثلاً في اعتماده التفسير الاقتصادي لتطور مجتمعات وسلوك الأفراد، أو فرويد في اعتماده التحليل النفسي منهجاً لفهم النسق العام للسلوك البشري؟ ويمكن سوق أمثلة أخرى عن مزاعم صراع الحضارات والأديان والثقافات وهلم جراً.
أيهما أجدى للمرء: أن تكون بصيرته مفتوحة على الظواهر المختلفة، وهو يسعى لتأويلها مستعيناً بأكثر من منهج وأكثر من رؤية، فيرى الاقتصادي والثقافي والنفسي وسواه في الظاهرة الواحدة، أم يقصر ميدان بحثه ورؤيته على عاملٍ دون سواه؟ أمن الأجدى أن يتمترس المرء وراء رؤية فلسفية بعينها يخضع شتى الظواهر لها محاولاً، طوعاً أو قسراً، تأويلها عبر هذه الرؤية، أم أنه يوسع زاوية نظره فيرى تعدد الأبعاد في الظاهرة الواحدة، فيقاربها من الزوايا المختلفة كي يستوي في نهاية المطاف إلى خلاصة أقرب إلى الحقيقة من سواها.
ثم: ألا يؤدي ذلك إلى نوع من التوفيق الذي يبلغ حد التلفيق بين نقائض مختلفة، متعددة، متناقضة، ولو تأملنا في الكثير من الأطروحات التي تجد لها سوقاً رائجة من حوالينا لوجدنا فيها نماذج لا تحصى على هذا التلفيق، الذي لا يمكن أن ينتج معرفة جديدة، أو يُوَّلد مفاهيم خلاقة. والمعرفة بمقدار ما هي تواصل واستمرارية، فإنها كذلك تتطلب الجرأة على القطيعة مع مفاهيم بلت، حتى لو كان لها من سطوة الحضور ما يتطلب المقارعة الجسورة، كي تشق المعرفة الجديدة لنفسها درباً للأمام. ولكن معرفة أشياء كثيرة، وإن كانت مكسباً للمرء، فإنها أشبه بحبات السبحة التي انفرط عقدها فتناثرت على الأرض كل حبة في جهة، إن لم يجمعها خيط واحد تلتئم فيه.
يجري التبشير اليوم بسقوط الفلسفات والنظريات والمشاريع الكبرى التي كانت تزعم لنفسها امتياز الإحاطة بكل شيء، وتفسيره وتعليله، ويُنعش تفرغ العلوم والمعارف والاختصاصات وتشظيها إلى فروع دقيقة، متخصصة، إلى إنعاش الرأي القائل إنه لم يعد بوسع شيء واحد كبير بأن يحيط بكل شيء، وتروج بعض دعوات ما بعد الحداثة، فرانسوا ليوتار، مثالاً، لما تدعوه نهاية السرديات الكبرى، خاصة منها تلك ذات التوجه اليساري: الثورة والتحرير والعدالة الاجتماعية، بل وحتى قيم التنوير وتمجيد العقل، فيما ذهب هربرت ماركوز ومجايليه من رموز مدرسة فرانكفورت، إلى أن آليات نمط الحياة الاستهلاكي الذي أشاعته الرأسمالية في مرحلة نضوجها، أغرق الناس في أوهام المجتمع الاستهلاكي واستوعب طاقات الاحتجاج لديهم.
هذه الدعوات الآتية في سياق الفكر الغربي تعبيراً عن التعقيدات التي يطرحها تطور الرأسمالية في البلدان المتقدمة تجد أصداء لها في بلداننا العربية التي تبدو أبعد ما تكون عن استيفاء شروط الحداثة الفكرية، وهناك مهووسون بالموضات والتقليعات الفكرية يحاولون اسقاطها على واقع مغاير، شديد الصرامة في بؤسه، فيما نحن في أشد الحاجة إلى نموذج المثقف الذي يجب أن يتوافر على شروط، بينها استقلاليته النسبية عن البنى والولاءات التقليدية، وحاسته الانتقادية إزاء الأوضاع المحيطة به، وامتلاكه نزعة إنسانية تحررية تجعله قادراً على إظهار حساسية مختلفة إزاء حاجات الناس، وأخيراً جمعه بين التنظير وبين الفعل الاجتماعي.
ليس كافياً أن يكون المثقف مطلعاً أو ناقلاً للمعرفة بصورة حيادية مجردة، إنما يجب أن يكون هو نفسه حكماً على أحداث مجتمعه. وفي عبارات أخرى على المثقف أن يكون صاحب رؤية بديلة وقادراً بفكره أن ينازل الرؤى الفاسدة أو الزائفة، في سعيه إلى بث قيم جديدة، فلا يقف عند حدود الملامسة السطحية للظواهر، وإنما يوغل فيها مبضع النقد الذي يشبه مبضع الجراح الذي يستأصل الورم، حتى لو سبب ذلك آلاماً مبرّحة لمريضه.
وفق هذا القياس فإن الوظيفة الأساسية للثقافة ليست محصورة في الخلق والإبداع فحسب، وإنما في وظيفة الضبط الاجتماعي التي يمارسها المثقف من خلال إنتاجه الوعي الجديد المؤسس لقيم معرفية جديدة، والمؤصل لها في إطار السعي إلى مواجهة ما مجتمعاتنا بصدده من استحقاقات في الراهن وفي المقبل من حياتنا العربية.
الثقافة بطبيعتها ديمقراطية، ولكن ذلك لا يتحقق تلقائياً، ثمة جهود يجب أن تبذل من أجل ترسيخ القيم الديمقراطية في الثقافة، بنبذ أشكال التزمت والتعصب والتطرف، بتكريس الانحياز العميق لقيم العقلانية والعلم والتسامح والإنفتاح الحر والشجاع والنقدي في آن على تيارات العصر، سواء في ثقافتنا أو في الثقافات الأخرى دون خوف أوعقد .
في التراث العربي الإسلامي كان العالم أو المفكر في الأصل رجلاً موسوعياً. إنه يجمع بين الفقه والطب والرياضيات والعلوم الفلسفة. أما اليوم فبالكاد نعثر على مثقف متبحر في حقل اختصاصه. نقول هذا الكلام من وحي الضجيج الكبير الذي يثار حول المعلوماتية، التي تطرح بوصفها ثقافة العصر الراهن، ويكثر الكلام عن تدفق المعلومات وانسيابها كما لو كانت هذه المعلومات تخلق نمطاً جديداً من المثقف الموسوعي الذي هو على بينة من كل القضايا، ولكن المعلوماتية أمر، والثقافة أمر آخر.
أفول زمن المثقف الموسوعي له أسباب موضوعية، تكمن في التطور المذهل في المعارف والعلوم بحيث لم يعد في طاقة عقل بشري واحد أن يستوعب كل هذه التطورات، وحيث بات التخصص مطلوباً وضروريا، فحتى التخصصات الفرعية تتشظى هي الأخرى إلى فروع أصغر فأصغر، وبات كل فرع بحاجة لمن يتفوق فيه وينبغ، ولكن الأمر الذي نحن بصدده يتصل بالرؤية الشاملة أو المنظور الفلسفي العام الذي بات الكثير من دعاة الثقافة اليوم يفتقدونه في أطروحاتهم وفي القضايا التي يتناولونها.
يروي الكاتب أنيس منصور الحكاية التالية التي جرت له في وقت ما في ستينات القرن الماضي على الأرجح، إذ حدث أن دعاه المرحوم أحمد بهاء الدين هو وكامل زهيري لمرافقة الشاعر الروسي الكبير يفجيني يفتوشينكو الذي كان يزور مصر يومها بدعوة رسمية في رحلة إلى مدينة الأقصر، وفي ليلة قمرية خرج الثلاثة: منصور وبهاء الدين وزهيري إلى رحلة على متن زورق فوق سطح النيل. كان الشاعر الأجنبي مستلقياً في الزورق مأخوذاً بالقمر والليل والنيل يتأمل في ما يرى. وفجأة ومن دون سابق حديث سأل الضيف مضيفيه: ما هي القضية التي يتجادل حولها المفكرون والمثقفون في مصر، فيتفقون أو يختلفون ما الذي يشغلكم؟ ما هي قضيتكم؟!
يقول أنيس منصور إن السؤال فاجأ جميع مَن هم على الزورق، واجتهد كل مهم في تقديم إجابة. كامل الزهيري تحدث عن الأدب والجدل حول الواقعية كمدرسة، معها أو ضدها. منصور نفسه تحدث عن الوجودية بوصفها رداً لاعتبار الفرد في مواجهة ما فعلته به الشمولية، وأحمد بهاء الدين تحدث عن أمر ثالث، وهكذا. فما كان من الشاعر الضيف إلا أن روى لزملائه المصريين حكاية عن فنان طلب منه أن يرسم بورتريه لرجل مهم، ولكن في وجه هذا الرجل المهم ثمة عاهة، إن أظهرها في الرسم قد يؤخذ عليه ذلك، فاحتال الفنان بأن رسم وجه الرجل من زاوية نظر جانبية، أو ما يعرف بـ «البروفيل» وما ذكرتموه من أجوبة ليس أكثر من «بروفيلات» لواقعكم، إنكم تتفادون النظر إلى الواقع كما هو تماماً كما فعل الفنان الذي تحاشى رسم «البورتريه» ولجأ إلى «البروفيل».
يضيف أنيس منصور معقباً: هذا السؤال الذي طرحه الشاعر الضيف والتعقيب الذي قاله فيما بعد شغلاه طويلاً، وسعى للإجابة عنه في العديد من الكتب التي ألفها على مدار عشرين عاماً أو أكثر من دون أن يوفق في الإجابة كما يقول هو نفسه. ولست اتفق مع أنيس منصور، لا في الفكر وفي السلوك السياسي، ولكني أظنه مصيباً تماماً في ما ذهب إليه من أن الفكر العربي مازال مشغولاً بالجدل في قضايا قد تكون مهمة لكنها لا تشكل محور أو جوهر ما يدور في الواقع من اشكاليات.
إن هذا الفكر يقع غالباً في أحد محذورين: الانشغال بتفصيل معين من تفاصيل هذا الواقع، قد يكون مهماً لكنه ليس الأهم، وفي غمرة انشغاله بأمر الشجرة ينسى الغابة التي تتكون من آلاف الأشجار، وإما أنه يلجأ إلى التجريد الذي يغفل حيثيات هذا الواقع، ومن طبيعة الفكر أن يكون مجرداً لأنه يشتغل على القوانين العامة لحركة المجتمع، لكن هذه القوانين حين تبحث مفصولة أو مبتورة عن الواقع الذ تنشط فيه، تصبح رسماً أشبه بالبروفيل لا رسما للبورتريه على نحو ما ذهب يفغيني يفتوشينكو.
يتعين على المثقف الفرد أن يكون متعدداً، لا بمعنى أن يكون مختصاً في كل حقل من حقول المعرفة فذلك محال، وإنما يكون قابضاً على الخيط الذي يشد العلوم بعضها لبعض تعبيرا عن الترابط القائم بين الظواهر في الحياة نفسها وفي الطبيعة الأشمل التي تحوي كل هذه الظواهر.
_________
*جريدة عُمان

الثلاثاء، 8 مارس 2016

لمناسبة يوم المرأة العالمي.... كي لا نوغل في التمويهات... المرأة مازالت في عصر العبودية!-عادل كامل



لمناسبة يوم المرأة العالمي....
كي لا نوغل في التمويهات...
المرأة مازالت في عصر العبودية!

عادل كامل
     ليس في عام 2016 ـ في فاتحة الألفية الثالثة ـ يتم الاحتفاء بالخراب، الذي تعرضت له (المرأة)، في بلداننا ـ العربية/ الإسلامية ـ بل لقرون طويلة خلت أفضت إلى نهايتها المنطقية: تدمير (المرأة) ولغز وجودها بوصفها شكلت أقدم مفهوم لخلية إنتاج: الحياة!
   فلا أقسى من وجود من يزعم أن المرأة حصلت على حقوقها، رغم إنها لم تعد معطلة، أو عاطلة عن العمل، عامة، بل بمحو كيانها الوجودي، والرمزي، معا ً، فهل الحديث عن حضورها ـ كوجود الآخر ـ يسمح بالحديث عن وجود غير مقيد بالأسر في مجتمعات قائمة ـ عبر تاريخها ـ على تدمير: العمل/ التنمية/ الحرية؟ وهن ـ كالآخر ـ يعشن عمرا ً من اليباب، والخواء، أسئلة شبيهة بوجودهن داخل زنزانات في قاع كهف مظلم وموصد بكل سبل تدمير: العمل/ العقل/ والحكمة؟
   ولا جدوى من مناقشة أي فكر لا يتوخى وضع معايير منطقية للحكم....، كالقائم على الافتراضات، والمؤجلات، والتسويات، والتمويهات الرمزية...، لأن إهمال الإحصاء، في الحقوق، لا يسمح للتوغل في مواصلة بناء عالم مؤسس على الحقوق، والواجبات.
  ولنرجع إلى  أقدم مثال كونته الأزمنة السحيقة، ألا وهو: وجود آلاف المجسمات، التماثيل، في شتى بقاع الأرض، تمثل: الآلهة الأم...
   فالعصور البدائية، القائمة على حماية وجودها بنفسها ضمن الاقتصاد البري، أنجزت (المرأة) بوصفها شاملة على عناصر الديمومة، أي بوصفها هي الأصل، الذي أنتج الآخر، الذكرـ ديمومة من غير جنسانية، أو قائمة على القمع، المبرمج، وإنما بما يمثل الحرية المقيدة بالضرورات، وكالحرية لا معنى لها من غير تنمية قائمة على وفرة: الإنتاج، وغناه المادي ـ والروحي.
   فإذا كانت المصانع الأولى، لم يستحدثها احد، من البشر البدائيين، كالكون، والطبيعة،  والكائنات الحية المختلفة من حيوان ونبات....، فان (الرحم) سيشكل نواة أقدم مثال للمصنع، بكامل آليات عمله المتقدمة على أكثر مصانعنا المعاصرة، تطورا ً، ونظاما ً مشفرا ً، تحكم بالديمومة، وفي مواجهة آفاق الزوال.  فالرحم ـ الأكثر صلة بالكون والأرض وملغزاتهما ـ شبيه بالكهف الذي راحت عناصره تتراكم، وتتكامل، من النار، والخامات، وصنع الأدوات، إلى عمليات صياغة الأسئلة ـ سيشكل نواة أول مصنع منتج لأدوات صنع الأدوات، وليس لاستهلاكها حسب. ولعل أدق مثال هو وجود تماثيل الآلهة الأم، بوصفها علامة مبكرة لمفهوم المصنع ـ المركب، وهو يتصدى لصدمات التهديدات الخارجية، والفزع من الضواري، والموت. فهو وحده أداة لصنع الأدوات، لكن هذا لم يكن إلا المفتاح، للبحث عن الباب، وفك أقفاله الموصدة. فالحياة مكثت تتجدد عبر تجدد استحالة العثور على إجابات أخيرة، وحاسمة. إلا أن  مفهوم (الأم/ الأرض/ الخصب والتجدد ...الخ) لم يقهر، لا بفعل كوارث الطبيعة ونكباتها، ولا بفعل استعباد المرأة وإلحاقها بممتلكات الآخر ـ في عصر انتصار الذكورة.
   وحكاية نهاية عصر (الأم) مدوّن في الكثير من الأساطير، رغم عدم زوال آثار عصر (الأمومة)، و عصر (الأم)، بلغز عذريتها، رمزيتها، في الأقل، كما في العذراء والدة السيد المسيح. فبعد أن قام الإله (مردوخ) بقتل الآلهة (تيامة) سادت سلطته، بإلحاق المرأة، بها،  فانتقل المركز، من الآلهة الأم، إلى الإله ـ الذكر.
     وليس ثمة زمن محدد لهذا التحول، أدق من ظهور الزعامات ـ باستثناء زعيمات أو نساء قائدات كانخيدونا ابنة الملك سرجون الاكدي قبل موت تيامة بألفي سنة ـ في وادي النيل، والرافدين، وفي الصين والهند...
    لكن (المصنع) لم يتعطل عن أداء دوره غير المستحدث، فالطبيعة لديها آليات لإنتاج دفاعات محكمة في مواجهة: التطرف أو الجنسانية، والانحياز لجنس على حساب الآخر، إلا إن عصر العبودية ـ عصر خضوع المرأة لمركزية الرجل ـ لم يدم إلا بتعديلات، هي بمثابة ترميمات، للمساواة، والتمويه. فالمركزية عملت تحت هيمنة البنيات الأقوى، حتى إن مثال قابيل وهابيل يرجعنا إلى حكاية أقدم، لهذه المركزية، بغياب دور (المرأة)، ومثال الطرد/ الخروج، النفي، بسبب خضوع حواء للغواية، هو الآخر، مدوّن لتعزيز مركزية (الذكر)، وهو مثال يمكن مقارنته بالقوة المتنامية، لعنصر الذكورة، على حساب دور الأم، المعني بحفظ الحياة.
   على إن عصر (العبودية) يفصح عن تاريخ طويل زاخر بالوثائق والآثار المؤلمة....، ورغم إن البحث مازال يستدعي دراسات تفسر أو تشرح لماذا انتهى عصر الأم، لصالح الآخر، الأقوى، إلا إن تاريخ العبودية، هو تاريخ استبدال (المصنع) بأخر، لم يقد إلى العدالة، أو إلى التوازن، إلا ليأخذ (الذكر) دوره المهيمن، منذ عصر الزراعة، وتحولاتها، وصولا ً إلى العصور الصناعية، وليس انتهاء ً بالموجة الثالثة، عصر ما بعد الصناعة ...، فالمرأة ـ في الحقوق وفي الواجبات ـ مكثت في المرتبة الثانية.
   وفد (نلجم) بظهور فلسفات، ومعتقدات، وسلطات، وأعراف منحت (المرأة)  حقوقها، ومساواتها مع الآخر، ولكن هل حقا ً هذا  يلغي تاريخ (السبي) و (العبودية) ومعاملة المرأة كسلعة، وموضوعا ً للترف، وعلامة من علامات البذخ، الطويل الذي تعرضت له المرأة، في مختلف المجتمعات البشرية، وبدرجات  لا تلغي الفجوات، بينها، إن لم توسعها،  في حقب ازدهار الإمبراطوريات، القائمة على القوة، وسفك الدماء، والاغتصاب ...؟
    إن الحديث عن (المساواة) ليس حكما ً هشا ً، ومخادعا ً فحسب، بل انه يلغي أي تفكير (موضوعي ومقترح للمساواة)، ويدعونا إلى قراءة المعادلة، ليؤسسها على: العمل/ العقل/ الحرية.
    فهل نحج (الرجال) بإقامة أنظمة الكفاية، كي لا تشهد الأرض، في عالمنا المعاصر، أكثر من ملياري (رقم بشري) يعيشون تحت خط الفقر، وبموت أكثر من (17) ألف طفل يوميا ً، ووجود أكثر من (60) مليون  مهجر، نازح، مخلوع عن وطنه، وملايين من الباحثين عن بلدان لا تسفك فيها دمائهم، لأسباب واهية، مصطنعة، خادعة...، وملايين العاطلين عن العمل، والتفكير، وملايين لا علاقة لهم بالحياة، لا بمصنعها ولا بحكمتها؟
   أي احتفاء ـ احتفال ـ يجري للآلهة (الأم) وهي مقيدة بنظام يلفت النظر، بالدرجة الأولى، إلى عالم: العبيد ـ رغم سيادتهم، وامتلاكهم، لإدارة شؤون الأرض، ومصانعها؟!
    فالرجال ـ هنا ـ مثال للعبيد، وليس للأحرار...، وإلا كيف يتم تدمير أقدم مثال للمصنع ....، بأية ذريعة من الذراع، فلسفيا ً،  أو بأي مبرر من المبررات، أو بأي عرف، أو أخلاق، أو قانون... تجري العقوبات، والمعوقات، ضد عمل المصنع الأول: لإنتاج وسائل إنتاج الحرية: التنمية، العقل، والعدالة.
    ألا تبدو المقارنة، اليوم، تلفت نظرنا ليس لتحرير (المرأة) فحسب، بل لتحرير بنية النظام الذي صنع من الرجال سادة افتراضيين،  وبناء عبودية لم  تجعل من المرأة سلعة، رقما ً، هامشا ً، فحسب، بل  مصنعا ً لا ينتج إلا العبيد! ألا يتطلب الاحتفاء/ الاحتفال، إزاحة الوهم، والتوهم، الخداع والمخادعة  برؤية ما يحدث فوق كوكبنا الأزرق الشبيه بحبة رمل في ساحل لا نهائي الامتداد....، وتهديدات لا تدفع بالحياة نحو المجهول، بل تقوضها، عندما لم نتعلم من الآلهة (الأم) لغز الدور الذي افتتحت البشرية معالمها المتمدنة الأولى: كي لا يأتي منح (المرأة) حريتها، حسنة، أو مكرمة، بعد أن تحولت القوة إلى القانون الذي ينتج ـ إلا  قوانين الاستبداد، وتدمير أي حرية قائمة على تكبيل التنمية، وعلى التطرف ألذكوري، الذي ما انفك يعمل على تدمير أي جهد  حقيقي لحياة لا نسمع فيها إلا عويل الأطفال، واستغاثات المرضى، ولا نصغي إلا إلى أنين الأرامل، وبكاء الثكالى!

* جدارية خزفية للآلهة الأم ـ 1994/ 182×31 سم لعادل كامل



الأحد، 6 مارس 2016

غالب المسعودي - نَعَم.....؟(قصة سُريالية)

نَعَم.....؟(قصة سُريالية)-د.غالب المسعودي

نَعَم.....؟(قصة سُريالية)

يا ليتها كانت نِعَم....!

على انغام اغنية سعدي الحلي شربت كاسي الاخيرة حتى الثمالة, غفوت , استرسلت في الطبقة الثالثة من حلمي, اثار (الدوك ستايل) واضحة على ركبتيها, سالتها عن القروح ,قالت انها تمسح وتنظف البيت على ركبتيها, لكني اعرف انها اثار(الدوك ستايل), تصورت انها غلبتني لأني تنازلت لها عن ما تبقى من حلمي الاخير ,غفوت على حلمتها اليسرى , عندما اغفو احلم و اشخر بعمق, كذلك احلم بعمق, روى لي سلطان شذ منذ الصغر, ان مردوس وهو العقل الثاني  في حلمي  وهو في هيئته  الطولية, قال لي ستعشق , سأسير لك الصافات في سماء حلمك, تحميك وستاتيك سفائن محملة بالبخور, لم احزن لأني اعرف ان هذا حلمي الاخير معها, لكني عدت الى ذاكرتي وهي تتمرغ بالطين اليابس, حين اصدر فرمانا عثمانيا نص على ان يكون راس السلطة القضائية ,قوادا للوالي وان يكون الوالي شاذ جنسيا ,وبناء على عدة فقرات من الدستور, عين الوالي كبير الطهاة وكبير الخدم وكبير القوادين وهلم جرا, انا لازلت مصرا منذ حلمنا الاخير ان اثار القروح على ركبتيها تشير الى( الدوك ستايل) لكن احدهم نبهني انها تمارس العادة السرية في أروقة المستشفيات , تعلمت طرقا جديدة للوصول الى لحظة انهيار اللذة, كما يدور في بلدي, المهم وانا في حلمي بعد ان اجريت تعديلا وزاريا على حلمي, قامت احدى النباحات, اعترضت على تسنم وزارة قضيب العفة لشخص عفيف, تصدى لها ذو اللحية الزرقاء, نسي ان يصبغها بالأسود لكثرة انشغاله ,هي في الحقيقة كانت مخططة, انسدل سائل ابيض على فمها , تدفق من حنجرتها صرخت بأعلى صوتها, هذا نهب العذرية ,لم يصغي لندائها ,احد شتمت بؤس مصيرها, اتخذت من العطار القذر سلوتها خانت حلمها, هي مصالح, المفكرون المحتالون خلف عجيزتها, يساريون لم يقتربوا من جحر التنين, شذاذ افق, اكلت من صمتها ,تراءى لها انها في قمة الانتصار, الوالي سخر اجنحته اصدر فرمانا اخر بتعيين كبير النعاق مسؤولا عن التكنوقراط ,لف عمامته اسدل لحيته تعطر بالبخور, رش على قامته المقذية برميل عطر مغشوش تحسبا ,ظهر على شاشة التلفاز..., انا كما هي, نِعَم.... نِعَم.... نِعَم....! هي تبرر كذبتها بالصدق , انا ابرر صدقي بالكذب, ما الفارق اذن....؟ نحن نسير على خط واحد, اكل من نهديها وشرب ,عزل الخمس من حليبها, اودعه في بنك اليسار, جمع الباقي في خيبتها الطينية ,ناور في كسب اصدقائها القدماء ,لم يؤلوا جهدا في كسب  سذاجتها ,اكل من دمعتها وهي قيد النضج ,احتشدت حول اريكتها انواع الشائعات وارقام الهواتف غير المحفوظة, لم تُصدق, لأنها روتها لي على عجل ,لكني في حلمي قضيت وطرا اناقش مستجدات الوضع الراهن ,تبين ان الدخان المتصاعد من خيمتها فيه اثار تمرد واشتعال, لكنه غير ناضج حد اللحظة, تساوره شكوك اعرابي لم يلحظ ان الصحراء مزروعة بسراب الماء ,وعليه ان يزاول صيده البحري ما بين الصخرة والماس ,تعجب الاعرابي الذي كان يبحث عن قطرة ماء اصبح كله ماسا, هو لا يجيد لغة الماورائيات, عندما يعطش ,بول الابل له سلوى, هو كما هي نفس الرؤى والتفكير, لا زلت امارس حلمي في مدينة بيضوية الشكل ,الناس فيها يتباهون بقلوب سوداء كأنها هدايا عيد الحب ,كلابهم تعزف موسيقى رائعة ,رميت بقايا محفظتي لم يلتفت لها احد, كانت تحتوي بقايا من الشبكة العنكبوتية ,كان التنور مشتعلا قرب حافة وسادتي استيقظت من حلمي ,واذا بها تستعطي الحب من جيوب المتسولين ,حمدت مردوس لقساوته معي اذ لم يسمح لي ان التقط سقط المتاع.