الفن البدائي في عصرنا
عدنان المبارك
ترتبط كلمة ( بدائي ) بأنشطة المجتمعات التي لم تنتم بعد إلى حضارة معينة من الحضارات السائدة سواء في الماضي أم الحاضر. وعامة صارت هذه الكلمة من نتاجات نزعة المركزية الأوربية ولكي يتوسع معناها ويشمل الكثير من الحضارات غير الأوربية. كذلك ينبغي طرح هذه المسألة على أصعدة عدة بينها السياسي والسوسيولوجي أي مستوى المعرفة في هذا المجتمع وذلك عن الفنون الأخرى. كذلك يتعلق الأمر بالعادات الألسنية ، أي إستخدام كلمات تعود الى حقب أخرى. وغالبما تعني كلمة بدائي في المنطقة الغربية وغيرها ، التخلف بشتى أبعاده مما يكون إنعكاسا لحالة الإستعلاء التي تتميز بها الحضارة التقنية المعاصرة . فمعلوم أن هذه الكلمة لاتصلح تماما لأيجاز منجزات ثقافية تجمعت خلال قرون طويلة. ففي كل ثقافة من الثقافات التي يذكرها علماء الإناسة لا نجد السطحية أوالفقر المضموني أوالشكلي وحتى لدى الأقوام التي تعتبر الأكثر تخلفا وقربا من ثقافات العصرين الحجريين القديم والحديث المعتمدة على الصيد وجمع القوت. فغالبما نلقى أبنية رمزية غنية وفنا قادرا ، بكل متانة ، على التعبير عن أحوال التفكير والعلاقات المعقدة بين الأنسان ووسطه أو بينه والمجهول. كما نلمس هنا طاقة متدفقة للتعبير عن شتى الأنظمة التفكيرية والأخرى الحياتية. كما نلمس تفوق الفلسفة على التكنولوجيا. ونصل هنا نقطة بالغة الأهمية : إن هذه المجتمعات تعتبر بدائية بسبب إستخدامها تكنولوجيا بسيطة والقليل من الأدوات. كذلك معلوم أن كلمة ( بدائي ) هي من مصطلحات حقبة نظرية التطور الدارونية وغيرها. فعلماء الأنثروبولوجيا حاولوا , آنذاك , إيضاح واقع تنوع البشرية الثقافي. وفي ذلك العصر، عصر الاكتشافات الكبرى ، كان صدمة عنيفة للأوربي وجودُ أحوال التباين في ثقافات المجتمعات الأخرى. مثلا كانت قبلها ، في القرن السادس عشر ، قائمة النقاشات والخلافات حول هل أن الهنود الحمر بشر أم لا. ولم يضع حداً لها إلا أحد القرارات البابوية ..
من ناحية كان الفلاسفة والكتاب والرحّالات ورجال البعثات الدينية قد أكدوا على أحوال التباين هذه. وفي القرن السابع عشر كتب فيكو Vico أن الإختلافات بين البشر سببها تأخر جزء من البشرية وإرتداده، في حين أن فلاسفة القرن التالي أمثال جان – جاك روسو خلقوا صورة رومانسية للهمجي النبيل وضربوا بذلك مثلا على المساواة كفكرة من أفكار الثورة المقبلة. وفي القرن التاسع عشر تصبح المجتمعات البدائية موضوع التحليل العلمي. ووفق نظرية التطور وصل الأنسان بصورة تدريجية الى الإكتشافات الأساسية كصنع الأدوات من الحجر وإشعال النار وإكتشاف القوس والعجلة والمحراث أو حين خلق المؤسسات الأجتماعية الرئيسية وغيرها. ومن هذه الإكتشافات تطورت ثقافة البشرية - من الأشكال البسيطةالى الأخرىالمعقدة. فالتطوريعني التنوع. وعند أستخدام معياربساطةالأدوات والمؤسسات الإجتماعية والعقائد تمَّ تحديد معايير تطور المجتمعات. وكان أكثرها شيوعا معيارهنري مورغان في كتابه المعروف ( المجتمع القديم Ancient Sosiety ) من عام 1877 والذي تكون وفقه المجتمعات غير الأوربية صورة لحياة أسلاف البشرية والتي تمثل وفق نظرية الإرتقاء شتى مراحل التطور. وكان كل طور سابق أقل تنوعاً. إلا أن المجموعة البشرية تملك صفات أساسية معينة وهي شمولية تخص الكل. وهكذا فكلمة ( بدائي) يمكن أن تكون مفهومة كشيء أساسي ، جوهري ، أصلي خرجت منه عبرقوانين التطورتلك الصفات. كما أن هذا الشكل كان بداية الأشكال الأخرى الأكثر تطورا. ومعلوم أن صفات مثل ( بدائي ) أو ( أولي ) صارت مفاهيما أساسية لنظرية تطورالثقافة. وحتى عندما تقدمت المعرفة عن المجتمعات غيرالأوربية في العقد الأول من القرن العشرين لم تنمح هذه التصورات والمفاهيم .
لقد دللت الأبحاث الأنثروبولوجية والأثنولوجية على أن مجتمعات القارات الأخرى والتي لا تعرف الكتابة وبقيت منذ زمن الكولونيالية بعيدة عن عمليات التصنيع ، تتميز ببنية معقدة وتنظيم بالغ السعة سواء في الميدان الإقتصادي أم العلاقات الإجتماعية أم المنطقتين الدينية والفنية. ولقد بيّن ليفي- ستروس أن الإنسان لم يقم لغاية الثورة العلمية – التقننية الا بتطوير تلك المخترعات التي جاء بها العصر الحجري الحديث. فكل فكرة جديدة هي تطوير منطقي لما كان قائما. وهكذا يجد هذا العالِم أن لافرق جوهريا بين عالم مجتمعات ماقبل الصناعة والأخرى الصناعية. وعلى أساس الكثير من الأبحاث تبين أن هناك حلولا متنوعة ومتباينة للغاية قد أخذت بها شتى المجموعات البشرية ، وخصّت الطبيعة والمجهول والموقف من البشرالآخرين. كذلك فنظرية التطورالتي وضع عليها علم اليوم الكثير من علامات الأستفهام ، لا تكفي لإيضاح تلك الحلول رغم أنها ُتقبل كنظرية ، لاغير، تفسر ، الى جانب النظريات الأخرى ، الإتجاه العام لتطورالبشرية. لقد نهضت نظريات ذات طابع تفصيلي تخص أبعادا معينة من حياة الأنسان ، إرتبطت بها مصطلحات خاصة أيضا. فالمجتمعات موضع البحث والفحص بدأت تسمى بما قبل الصناعية والبسيطة وماقبل الكتابة والقبلية ، ومقابلها كانت الأخرى الصناعية والمرّكبة التي تستخدم تقنية الكتابة.
وبرأي روبرت ردفيلدRedfield تتميز المجتمعات البدائية ببضع صفات دائمة وهي أنها مجتمعات ليست بالكبيرة ومتجانسة ثقافيا ولا تستخدم الكتابة في عمليات الإتصال ولم تطور التخصصات المهنية في حقول الأنتاج والحياة المهني، ولدرجة معينة تكون مجتمعات منعزلة ، وفي كل الأحوال مقاومة للتأثيرات الخارجية. وكل هذه الصفات تؤثر على طابع فنونها التي تكون وسيطة هامة للإتصال بحكم إنعدام وسيطة الكتابة. لذلك فعليها أن تكون ذات طابع حاسم وحدّي. ومن هنا فالأمانة أزاء النموذج الأصلي والمبدأهي أهم بكثيرمن إنفعالات الفنان الذي عليه أن لا يعبر في عمله عن ذاته بل عن الأسطورة والمضمون الإجتماعي ومبدأ العمل والنشاط.
وبقي مؤرخو الفن الأوربيون لفترة طويلة يبدأون عملهم بفحص شكل العمل الفني وليس مجتمعه. وهناك تيارات كثيرة في هذا الحقل لم تستفد لأمد طويل من التخصصات الأخرى وفي مقدمتها الأنثروبولوجيا الأجتماعية. ونتج عن ذلك الكثير من المقولات الخاطئة عن الفن البدائي الذي هو بدائي لأنه فن مجتمع بدائي بدل القول أنه فن آخر لاتتوفر فيه صفات الأساليب الغربية لماقبل ثورات الفن الحديث بالطبع ، بل أخرى كالبساطة الرفيعة للشكل وطرح الأفكار ذي الطابع التركيبي والآخذ بالرمز.
وفيما يتعلق بالفنون الأفريقية الراهنة فهي قد إمتلكت طريق تطور يعود الى آلاف السنين أي أنها مرتبطة بشكل ما ، بالنشاط الفني لإنسان الكهوف والثقافات الأركيولوجية القديمة التي إكتشفت آثارها في هذه القارة. وفن ماقبل التأريخ المتمثل بالصوروالمحفورات الصخرية غالبما نلقاه في شمال القارة وجنوبها وفي مناطق قبائل البوشمين. ومعظمها يعود الى العصر الحجري الحديث. والى الحقبة نفسها تعود المكتشفات السيراميكية والمنحوتات الحجرية الصغيرة والفخارية. وتلك الصور والمحفورات شبيهة بالأخرى لدى قبائل البوشمين من مطلع القرن التاسع عشر.
وتنبع النزعة المحافظة في الفن الأفريقي من قواعد المحاكاة الدقيقة والتي هي الشرط الأساسي في الخلق. ويجد النحاتون أن الإستنساخ الدقيق للنموذج هو أصعب بكثير من الخلق الحرّ ، كما أنهم لا يعتبرون أن الحد من ملكة الإبتكار لديهم هو أمر سيء أو عبودي. وهو شيء طبيعي أن يرفض مثل هذا الفن الشكل الفني الجديد أو تقبله ببالغ الصعوبة. ويعود السبب الى أن للفن دور السحر، والفنان مقيّد بشروط محددة في عمله. مثلا عليه أن يمنح ، بكل دقة ، قناع هذا الإله سماتٍ معينة.
ورغم الفوارق الجوهرية في فنون مختلف القبائل ثمة أحوال شبه كثيرة تسمح ، من جهة ، بتمييز مناطق لأساليبها الرئيسية ، ومن ناحية أخرى بتشخيص السمات الفنية الأساسية والمميزة. وعامة هناك أربع مناطق لهذه الأساليب وهي الساحل الغربي من السنغال الى النيجر، وحوض الكونغو الذي يعّد فنه الأكثرخشونة ، ثم سهوب الكاميرون المتميزة بعمارتها الخشبية النصبية وبضمنها المعمارالمتطور للداخل . والأسلوب الأخير يعود الى منطقة البحيرات الكبرى في أفريقيا الشرقية التي تعد من أغنى مناطق القارة في فنون النحت الا أنها تتميز أيضا بفنونها التزيينية ذات الأنتشار الواسع. وفي الواقع يكون هذا التقسيم ذا طابع عمومي . وهناك عدد من علماء الأثنوغرافيا يميز ثلا ثة أساليب ولايذكر هنا أفريقيا الشرقية.
تتمثل الفنون الأفريقية بفنون النحت ثم التصوير ، لكن جزئيا، وبعدها الصناعات الفنية. وبالطبع لانلقى السمات الرئيسية بذات الشدة في كل مكان وأقصد الواقعية والثبات والتشويه وتبسيط الشكل. فالواقعية تعتمد على إعادة الخلق الأمينة لصفات النموذج مع مراعاة ملامح الوجه والتشويهات الجسدية. ومن أجل تشكيل الصفات الفردية يـؤخذ بعين الإعتبار أمورعدة بينها تسريحة الشعر وغطاء الرأس أو حالة الأسنان مثلا. وعادة تعتبر بورتريهات أمينة صور رؤوس الأعداء القتلى ، مثلأ أقنعة قبائل ماكونده وماويا والتي تعير بالغ الإهتمام للصفات الفردية التي تتمثل أحيانا في البنية الجسدية المتميزة أوأحدى العاهات. كذلك أصبح ما يميز النحت الأفريقي التأكيد على جنس الشخصية المنحوتة ومنحها الصفة الرمزية الدائمة. وهذا النحت يتميز باللاحركة أوالجمود الذي ُيفسَّر، وليس بعجز الفنان بالطبع , بل يكون الغرض هنا تقديم حالة ثبات الإنسان الميت أو الروح أضافة الى منطقية اللاحركة في هذا العمل الفني. فكل حركة بادئة لابد أن تستمر وبذلك يصعب مسكها كاملة. كذلك فمسألة الثبات تتصل بأخرى هي مسك حالة التماثل symmetry . فاللاتماثل أمر نادر في الفن الأفريقي. كما أن اللاحركة يترتب عليها إنعدام التعبير( مثلا الإبتسامة). وهذا أمر منطقي أيضا. فتقديم حالات التعبير هو تعبير عن حركة العضلات أيضا. ومن المعلوم أن في هذا الفن تشويها بالغا للتناسب الطبيعي للجسم. فالنحات يبرز الرأس ويكبره ويطيل الجسم ويقصر الأطراف. وهذا كله يتم تحت تاثيرعقائد معينة. فالرأس يعتبر مركز الحياة لذلك يتم التأكيد عليه من خلال التضخيم . وأحدى قبائل الكونغو تفسر ذلك بأن دماغ الرجل أكبر من دماغ المرأة مرتين. كما أن الدافع الى تشويه النِسب هو الرغبة في التعبير عن القوة الفيزيقية البالغة لدى الإنسان. ومن هنا فاللاتناسب في هذه الحالة لا يسبب نفور المتلقي بل إعجابه الذي يفوق الإعجاب بالفن الذي يعبر عن حالات التناسب الطبيعي .
وفي فنون الزينة الأفريقية نلمس السعي الى خلق أكبر حالات الإنسجام بين الشكل والخطوط الجميلة . ويتم ذلك من خلال التعبير الفني المتواضع والبساطة والنمذجة الأسلوبية الكبيرة . وفي الواقع يكون الخلق الفني الأفريقيي بالغ الغنى ونحن نراه في كل قطاعات الحياة . وفي فنون التشكيل تستخدم مختلف المواد والتقنيات وفي مقدمتها النحت الخشبي والصياغة المعدنية و يعتبرالخشب المادة الأكثر شيوعا . فمنه يصنع معظم النتاجات المكرسة للعبادة كالأقنعة والمنحوتات مثل شخوص الأسلاف إضافة الى شتى أنواع أدوات الأستعمال اليومي التي ُتطلى بأصباغ متنوعة أو تتعرض لعملية الحرق الجزئي . وتقنية صبّ المعادن اللينة بلغت ذروتها في ثقافة بنين القديمة. ولاحاجة الى القول بأن هذا الفن مرتبط بأوثق رباط بالعقائد الدينية. وأصوله تعود الى طقوس السحر السرّية والعبادات القبلية. والوظيفة السحرية تخص ، على السواء ، الأقنعة والمنحوتات والمواد الأخرى ذات الأشكال البشرية والحيوانية أيضا. وتملك الأقنعة أهمية خاصة . ومعروف الدور الذي قامت به في المجتمعات القديمة. وهنا يمكن تمييزأربعة أنواع وهي الأقنعة التي تمثل تجسيدا للكائنات ذات القوة التي تفوق القوة البشرية ، مثلا صور الأسلاف. وهناك الأقنعة التي يكون الغرض منها أثارة مشاعر الخوف ، والأخرى ( الرسمية ) التي يستخدمها القضاة ثم أقنعة اللهو والتي يرتديها الشباب عادة. ومعلوم أن المهمة الرئيسية للقناع إخفاء الوجه الحقيقي للإنسان وتحويله الى معبود أو روح البطل الذي يكون القناع بورتريته. ويؤمن الإنسان الحامل للقناع بأنه يكسب القوى الكامنة فيه ، الحيوانية والكونية والسحرية ، ويصبح عن حق مليئا بالقوة والرهبة والقدرة بالمقارنة مع الآخرين ذوي الوجوه العارية. وعامة يكون دور الأقنعة بالغ الأهمية. فهي تستخدم في الإحتفالات الخاصة ببلوغ سن الرشد وفي الأنشطة السحرية لغرض إنزال المطر أو ضمان محصول وافر. كما نجدها في مراسيم الدفن أو عند تنصيب سلطة جديدة أو حين الإحتفاء الرسمي بالأصدقاء من القرية المجاورة. كذلك يعالج الرقص بالأقنعة المرضى وعقر المراة . وإرتداء الأقنعة هو إمتياز خاص بالرجال الا أن النساء يرتدين الأقنعة في بعض قبائل أفريقيا الغربية.
ويحتل النحت التشخيصي المكان الطليعي في فن أفريقيا . ونجد له أربع هيئات هي للمعبودين وشخوص الأسلاف والأطفال التوائم عادة والبورتريهات . فالمعبود أو الفتيش هو شخص يكون معبودا من خلال حقيقة وجوده ذاتها. وأكثر الفتيشات خطرا ما كان مغروزا بالمسامير. وكل مسمار قد يحرر قوى الخير أو الشر. وحين يدق الساحر المسمار يحصل الإنتقام من العدو أو موته. ومن هنا القول الشائع ( لتحل منيتي اذا كنت مسؤولا عن مرض أو موت أحد من الناس ) . وعامة تتقمص الفتيشات هيئات حيوانية. فلدى الإنسان البدائي يكون الحيوان رمزا للقوة والرهبة . وتملك المنحوتات الممثلة للأسلاف أهمية تعبيرية. ومهمتها حماية اقرباء الميت أو الزوج الغائب أو رب البيت. ويتمثل الأسلاف بالنساء الحوامل خاصة. ولهذا تفسيره الإجتماعي والعرفي . فكل أم في أفريقيا تكون مبجلة بشكل خاص إذا كان عدد أطفالها كبيرا. فحينها تكون رمزا للسعادة ومدعاة للفخر في حين أن العقر هو أكبر عار قد يلحق بالمرأة. ومنحوتات التوائم التى نجدها في بعض القبائل بعد موت أحد أفرادها تعامل كما لو أنها أطفال أحياء. وللبورتريها ت طابع دنيوي تقليدي . فهي إما للمتعة أو لتخليد ذكرى شخص ُمقدَّر في القبيلة. وتعتبر أبرز البورتريهات ألأفريقية تلك التي تصور ملوك قبيلة باكوبا الكونغولية الجالسين بصمت وعيونهم شبه مغمضة. وكل منحوتة تحمل في الجهة الأمامية من قاعدتها عنصرا رمزيا مرتبطا بشخص أحد الحكام أو يذكر بشيء يميز فترة حكمه. وليس هناك في الفن الأفريقي من حدود أو تقسيم للفن الى واحد كبيرعظيم متسام وآخرعملي . وكل قول عن فن ديني أو ( بلاطي ) وآخر مرتبط بالحرف الفنية هو مجازي. فعناصر الزينة التي نلقاها في أقنعة العبادة ومنحوتات الأسلاف هي نفسها في أدوات الإستخدام اليومي. وقد يملك العنصر التزييني أكثر من معنى . مثلا قوائم الكراسي المنحوتة على شكل هيئات بشرية أو حيوانية تكون تصويرا مجازيا لبلاط الملك أو ترمز الى ثرائه ومنعته وسلطته المطلقة على رعاياه. والكؤوس التي هي على شكل الرؤوس البشرية انما هي بورتريهات للأعداء القتلى وتعتبر تجميعا للقوة العدوة . أما الشخوص التي تزين الأمشاط أو دبابيس الشعر الخشبية فهي تضمن لحاملها الحب السعيد وإنجاب الأطفال. كذلك فللموتيف الحيواني الذي نلقاه في أعمال الزينة طابع رمزي أيضا : الأفعى والسمندل يرمزان الى راعي الولادة والخصب في حين أن العنكبوت يرمز الى تكريم الموتى ، والسلحفاة الى الخلود ,،والفيل الى القوة التي لا تحدّ. والملاحظ أن الموتيف الهندسي هو ذو طابع رمزي أيضا ويملك رباطا وثيقا بالسحر.
وفيما يتعلق بفنون أستراليا التي هي في الواقع قارة معزولة عن التأثيرات الخارجية نجد أن طابعها متجانس. ومنذ العصر الحجري الحديث الى غاية القرن الثامن عشر أي قرن وصول الأوربيين كان الفن ظاهرة تخص السكان الأصليين بنطاق يشمل التصوير والنحت في الصخور والآخر المنفصل كذلك التصوير الجداري والنقوش الجلدية والرسوم الطقوسية على الرمل وتزيين مواد الأستخدام اليومي والأخرى المخصصة للعبادة. وأكثر المواضيع المطروقة نجدها في الموتيف التشخيصي أو النماذج الهندسية التجريدية . وفي مواد الإستخدام اليومي كالدروع والبوميرانغ والرماح ينفذ الفنان رسوم الحيوانات والبشر بكل دقة وعناية وبإحساس واقعي شديد. وغالبما نجد علامات رمزية بأشكال اللولب أو الدائرة أو المستطيل أو المتعرجات. وكلها تعبر عن الأساطير القبلية التي يناط بتفسيرها وفك رموزها أفراد معينون.
وفي جزر المحيط الهاديء يتميزالفن بكثرة الأساليب. فكل مجموعة من الجزر، وأحيانا كل جزيرة من الأرخبيل تملك أسلوبها المتميز. وتسمح سمات معينة في فن المحيط بالقيام بنوع من التصنيف الذي تكون أهميته مجازية بالدرجة الرئيسية كمنسّق للآساليب في نظام معين. وإذا إفترضنا أن هذه الأساليب الفنية لا تختلف فيما بينها بالصفات الشكلية فقط بل الأصل والتأريخ يمكننا تمييز ستة أنواع . أولها الأسلوب القديم archaic الذي هو محروم من أية اشكال متبلورة ودائمة كما أنه ليس أسلوبا متميزا. فنحن نلقاه في فنون الحضارات الأخرى. والثاني هو الأسلوب ( اللولبي ) الذى كان أول أسلوب مميز لمنطقة المحيط. ونجده في أعمال تنفر من الخطوط المستقيمة وتفضل الأقواس والخطوط المنحنية . والأسلوب الثالث أتفق على تسميته ب( المنقاري ). و سمّي هكذا بسبب إطالة شكل الأنف لكي يصل السرّة أوأسفل البطن. وتندر فيه الخطوط المستقيمة أيضا. والصفة المميزة أيضا هي إنحراف العينين. وغالبما يرتبط هذا الأسلوب بصورة الفيل الذي يرمز الى ( غينيش ) رب الحكمة في الهند. وعبادة هذا الرب نقلها المهاجرون الهنود الى الساحل الشمالي لغينينا الجديدة التي لم تعرف الفيلة ولذلك أستبدلت بهيئات الطيور. وبعدها يأتي الأسلوب ( التكعيبي ) من غينيا الجديدة أيضا. وهو يتميز بالشكل التكعيبي للرأس والشفتين العريضتين والخط الشاقولي للحنك كذلك جلسة القرفصاء للشخص المركزي الذي يمسك في المقدمة منحوتة أصغر. وهناك إفتراضات بأن أصل هذا الأسلوب ينحدر من أندونسييا. وخامس الأساليب هوأسلوب تامي نسبة الى جزيرة تامي. ويتميز بالشكل الموشوري للرأس المرتكز بعمق على الكتفين. ويستخدم هنا عنصر التأطير بالمثلثات المنحوتة أحيانا ، والموتيف المتكررهو التهام الأفعى أو التمساح للإنسان. ويتميز الأسلوب السادس - أسلوب ملانغان Malanggan بالمهارة التقنية وعدم التركيز على موتيف رئيسي بل الإبتكار في كل الإتجاهات. وتقرّبه كثرة عناصر الزينة من الفن الهندي.
أكيد أن هذا التصنيف خاضع لتأثيرات موجات الهجرة في الفترة ما بين الألف الثالث والقرن الخامس قبل الميلاد . وأكبر شهادة على تقدم التقاليد الفنية هي الأواني الحجرية والمنحوتات والبقايا المعمارية بشكل ممرات وشرفات وقواعد صخرية وشوارع مرصوفة بالحجارة. ولغاية اليوم لم تحل ألغاز أنقاض الأحياء القديمة والقبوروالتماثيل الصخرية الضخمة في جزيرة الكريسماس. ورغم تعدد الأساليب هناك صفة مشتركة لفنون منطقة المحيط وهي تلك الصلة الوثيقة بالمعتقدات والطقوس. فعبادة الأسلاف المتجذرة عميقا وطقوس التجمعات السرية كذلك الإحتفالات ببلوغ سن الرشد تكون كلها بمثابة حوافز بالغة القوة في الخلق الفني. والمظهر المميز لإرتباط الفنونالتشكيلية بالعقائد والطقوس يتمثل بالمنحوتات التي هي بمثابة بورتريهات للأسلاف أوتصوّر للقادة والأبطال. وتعتبرالقبيلة مثل هذه المنحوتات المكان الذي تجتمع فيه أرواح الموتى وأنها خير راع للبيت والمجتمع القبلي. ومن أشهر الأعمال الفنية نجد المنحوتات التزيينية من زلنده الجديدة والمسماة تيكي Tiki ومنحوتات ملانغان التي هي مزج باهر للهيئات البشرية والحيوانية إضافة الى الأشكال الرمزية التي تستخدم أثناء الطقوس الخاصة بتكريم الموتى. كما نجد تلك التماثيل الصغيرة التي تمثل أبطالا خرافيين قادمين من المجهول ، وهي ترتبط بفكرة الزعامة وعبادة القمر. وعدا النحت التشخيصي تكون الأقنعة من أبرز أعمال فن المحيط . وهي تستخدم عادة في الإحتفالات ببلوغ سن الرشد أو في طقوس الدفن. ومن يحمل القناع يسعى الى أن يغير نفسه ويجلب أرواح الأسلاف التي تقوم بأداء دراما أسطورية والتذكير بالنواهي والفروض. وهناك عدة أنواع لهذه الأقنعة وأكثرها شيوعا أقنعة الدفن المتميزة بغنى ألوانها. وهناك أقنعة تاتانوا Tatanuaوهي بشكل خوذ تستخدم في الرقصات ذات الطابع الإيروسي أو الغرض منها إنزال المطرأو الإخصاب. كذلك هناك الأقنعة الخشبية الصغيرة من غينيا الجديدة ، ولها مفعول التعويذة التي تطرد الشر ويحملها الرجل في كيس مضفور على رقبته. وفي المواد الفنية المستخدمة في الحياة اليومية نجد رموزا تعبرعن الإيمان بتبعية عالم الأحياء لعالم الموتى . وعامة يرمز الطائر في فنون المحيط الهاديء إلى الروح. وُينحَت عادة في مقدمة القارب. أما السمندل فيرمز الى الإخصاب وإنبعاث الحياة لذلك نلقاه على الأسلحة والدروع .
إن فنون المحيط الهاديء ظاهرة غيرإعتيادية بفضل فرادتها المفرطة التي جاءت نتيجة العزلة التي إنتهت مع قدوم الأوربيين في القرن الثامن عشر.
وفيما يخص فن أمريكا نجده يخلق الإنطباع بأنه بانوراما عريضة للأساليب. فتنوع المواد والطاقات الفنية من الأمور التي تميّز هذا الفن عن غيره. وخلافا لفن المحيط الهاديء مثلا يخلق فن الأمريكتين كلا متماسكا. وهذا التجانس متأت وليس فقط من نزعة المحافظة لدى الهنود الحمر بل له مصدره في حقيقة أن إتصالات هذا الفن بالمفاهيم الغربية كانت قصيرة وغير مباشرة . وبدون أن نستثني التأثيرات العابرة للحضارات الآسيوية المتقدمة عليّ القول إن أكبر تأثير على الفن الأمريكي ألقته فنون المكسيك وبيرو. وبالرغم من هذا تبقى الفنون المحلية وليس التأثيرات الخارجية ، جوهرهذا الفن. ويتفق الباحثون بأن بداياته تعود الى القرن الخامس عشر قبل الميلاد ، لكن بمعزل عن الإستمرارية التي تميّز الفنون البدائية كلها فقد مرت عليها طيلة القرون التحولات والتبدلات.
وهناك قبائل في أمريكا تخصصت في فنون معينة ، بعضها في النحت وأخرى في الغرافيك وصناعات الخوص أو النسيج أو الفخار أو صياغة المعادن. ومستوى التنفيذ يمثل جميع مراحل التطور : من البدائية الصرفة الى أعلى درجات المهارة والصنعة. وقد يكون أبرز مثال هنا تلك الأعمدة المسماة بالطوطمية و البالغ إرتفاعها أكثر من عشرة أمتار. و هي تتكون من سلسلة رسوم تمثل أشخاصا جالسين في صف شاقولي يمثلون شخصيات أسطورية للقبيلة. والدافع الى خلق هذه المنحوتات كان ، عادة ً ، سرد أسطورة تؤثر فيها الحيوانات الخرافية على مسيرة العالم والحياة البشرية. كذلك هناك أغراض أخرى وهي تدوين الأحداث الإجتماعية. كما كانت تعتبر مكانا لحفظ مخلفات أفراد القبيلة البارزين. وأجمل الأعمدة من صنع هنود هيدا من منطقتي آلاسكا وكولومبيا . أما المنحوتات الصغيرة فتصنع لضمان رضا الأرواح ، و هي ، عادة ، تمثل الأسلاف وتكون ملكا للأفراد الذين يعاملونها كتعاويذ تمنحهم القوة . والطرز الأخرى من النحت هي لعب الأطفال بهيئاتها الخرافية التي تميز ثقافة الهنود الحمر. أما الأقنعة فهي غير شائعة في فن أمريكا. وعامة تعد الفنون التزيينية أبرز فنون أمريكا . فالأقوام التي تقطن غرب المكسيك كانت معزولة عن تأثيرات الثقافات الكبيرة ، وقدعرفت بالصناعات السيراميكية التي تصور الحياة اليومية. أما المنحوتات فتتميز بالفنتازيا التي تكشف عن دينامية حياة هذه الأقوام. واذا خص الأمر الفن الغرافيكي فلقد تطور بشكل خاص بين هنود السهوب في امريكا الجنوبية.
بعض المصادر الرئيسية :
- R. Redfield, The Little Community ,Chicago, 1955.
- R. Benedict , An Anthropologist Work , Boston,1959.
-The Mind of Primitive Man ,New York, 1911.
- Primitive art , Cambridge , 1927.
- A. Radcliffe – Brown ,Structure and Function in Primitive Society ,London ,1965.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق