بحث هذه المدونة الإلكترونية

إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

السبت، 4 مايو 2013

ثلاث قصص قصيرة-د. بلقيس الدوسكي



ثلاث قصص قصيرة


د. بلقيس الدوسكي

سعادة

    هي طبيبة ماهرة في مجال تخصصها لكنها لا تكتفي بمطالعة المجلات الطبية وما يستجد في علم الطب، بل كانت تعد الدراسات والمقترحات والمواضيع العلمية، ومن اهتماماتها الأساسية اقتناء الكتب والإصدارات الثقافية والعلمية والأدبية والفنية وغيرها.
    تقضي أوقات فراغها اما بالمطالعة وأما بالعزف على آلة الكمان التي أجادت العزف عليها بمعظم الأنغام، فهي تعتقد ان للموسيقا تأثيرها المباشر على شفاء المرضى، وهي مسألة قديمة.
    وكان زوجها المهندس يأنس لعزفها ولمهارتها في طب العيون معا ً. وفي إحدى الليالي سألها:
ـ ماذا ترين في عيني؟
ـ أرى أشياء كثيرة.

ـ مثلا ً؟
ـ أرى الأفق الأزرق المليء بصور المحبة والحنان.
ـ وماذا بعد؟
ـ أرى صورة تجمع الحبيبين.
ـ من هما ..؟
ـ أنت وأنا.
ـ إنها أحلى الصور قاطبة.
ـ فهل ترى الصورة نفسها في عيني؟
ـ  وهل للموسيقا علاقة بالورد..؟
ـ نعم، وقد ثبت بعد الدراسات العلمية ذلك، فالورد يستجيب للموسيقا وله لغته القريبة من لغة الموسيقا وهي لغة هامسة غير مسموعة!
      كان زوجها يفتح معها موضوعا ً في كل مرة بعد ان تغلق عيادتها وتأتي إلى البيت مع انه لا يقل عنها ثقافة، ولكن ...، كل واحد منهما يستفيد من ثقافة الآخر في شتى المواضيع والاهتمامات. وفي ذات مرة سألته:
ـ لقد اقترحت علي ّ أكثر من سؤال، وأنا أحب ان أسألك.
ـ اسألي يا حبيبتي.
ـ بما انك يا عزيزي مهندس ناجح، فما أجمل التصاميم التي تفضلها؟
ـ التصاميم المتطورة، والمعاصرة، شريطة ان تحافظ على تاريخنا وحضارتنا، فضلا ً عن الجمالية التي تواكب إيقاع العصر.
ـ وما هي الجمالية التي تعتمدها؟
ـ استوحيها من الجمال الكامن في عينيك، ومن اهتمامك بعيني، وعيون الآخرين! 
ـ خاطرة حلوة، أكثر مما هي إجابة!
    وتناولت كمانها وعزفت له مقطوعة موسيقية عنوانها (حديث العيون) فاهتز لها طربا ً وداهمه النعاس، لكنها استطاعت ان توقضه بمعزوفة صاخبة بعض الشيء، فقال لها:
ـ الموسيقا العذبة، أما ان يغفو الإنسان على أنغامها وأما ان توقضه، فتوقض معه مشاعره الجميلة.
ـ حبيبي، أنا على موعد غدا ً لمعالجة عيون شابة جميلة، فدعنا ندخل إلى غرفتنا ونأخذ قسطا ً من النوم بدعوة من نداء قلبينا!
ـ وهل هذه الشابة أكثر جمالا ً منك..؟
ـ الجمال يا حبيبي، ليس جمال الوجه، وإنما هو جمال الروح، والقلب، وعذوبة الكلام، وصدق المشاعر.
ـ الذي أتمناه ان تكتبي القصيدة التي نظمها قلبي على شاشة عيوني عندما أنام، فهي أجمل ما تقرأين في الأحلام.
ـ متى تعلمت الشعر يا حبيبي؟
ـ من خصلات شعرك، ومن رموش عينيك، ومن الدفء الذي أحسه وأنا بجانبك.
ـ إذا ً، فانا أتمنى لك ان تكتب قصيدتنا.
ـ إنها قصيدتنا التي ندوّنها من غير كلمات، إنما نراها تنبثق بأجمل الألحان وأكثرها دفئا أيضا ً.


حكاية لك ِ ولي أيضا ً!



  استأنفت رحلتها مع هدوء أعصابها بعد ان كانت في ذروة غضبها وتذمرها مما عانته من أذى، ثم سلكت طريقا ً آخر غير الطريق الذي تعثرت فيه خطاها وأعطت لكل خطوة نقاطا ً من الضوء الأخضر وهي مصرة على اجتياز أي حاجز يعترض طريقها الجديد.
    وضعت الأمس وعذابها وراء ظهرها وأضرمت نار غضبها على  ذكرياته وصوره، ولم يبق منه أي اثر في سجل حياتها، لكنها حملت معها التجارب والعبر وحسبت لكل خطوة ألف حساب.
     نست الأشياء كلها عدا صديقاتها الحميمات اللواتي وقفن معها في أيام الشدائد، واشتاقت لزيارتهن بعد فراق طويل:
ـ أهلا ً يا صديقتي الحبيبة.
ـ لقد أوحشني غيابي عنك ِ، وهزني الشوق إليك ِ.
ـ ولكن لِم َ كل هذا الغياب الطويل الذي أقلقني؟
ـ لقد أرغمتني الأيام على هذا الغياب المر.
ـ وما هي أخبارك يا عزيزتي..؟
ـ بالنسبة لأخبار الأمس فقد طواها النسيان، وأما أخباري الجديدة فمازالت في الغيب، لأنني فتحت صفحة جديدة مازالت بيضاء.
ـ أسأل الله ان تمتلئ بأسعد وأحلى السطور والبشائر.
ـ شكرا ً يا عزيزتي.
ـ وماذا عن ..
ـ لا تكملي...، اعرف عمن تسالين، فالذي تسأليني عنه يا صديقتي قد حرق كل عهوده في لحظة واحدة غير متوقعة!
ـ ماذا فعل..؟
ـ فعل ما لم يكن بالحسبان أبدا ً، الأمر الذي جعلني أعيد النظر في حساباتي كلها، وأغيّر أسلوبي في التفكير وأتجاوز حدود ثقتي القديمة.
ـ لكنني يا عزيزتي أريد ان اعرف ماذا فعل هذا الرجل..؟
ـ الحديث عن خيانة هذا الرجل يستغرق وقتا ً طويلا ً.
ـ إذا ً، هي خيانة؟
ـ نعم، لكنها خيانة يندى لها الجبين ويرفضها أي إنسان يمتلك قليلا ً من النبل.
ـ لقد بدأت أتحمس كثيرا ً لمعرفة هذه الخيانة.
ـ ستعرفين التفاصيل كاملة عندما ينتهي الجزء الثاني منها!
ـ لكن دعيني اسمع الجديد في حياتك ِ.
ـ أنا يا عزيزتي، وبصراحة، لا اعرف لماذا يرفض أبي كل من يتقدم لخطوبتي، ولا استطيع ان اسأله عن السبب الذي لم يعلن عنه لحد الآن وتجهله حتى أمي، أمي التي اختلت به مرات عديدة لتعرف سر رفضه لكنه ظل مصرا ً على عدم الإفصاح عنه، وها أنا كما ترين قد أوشكت ان أتجاوز مرحلة الشباب، وتلك هي مشكلتي، إن لم اقل مصيبتي!
ـ أنا وأنت يا عزيزتي نعيش المعاناة نفسها، ولكن، ان بعض الشر أهون...، وأن مصيبتي كأنها من نسج الخيال أو الأساطير. وبعد أيام سأزورك مرة ثانية واروي لك الحكاية كلها.
ـ أهلا ً بك ِ ومع السلامة.
     وظلت هدى تتابع الأحداث وما سينجم عنها لكن حدسها كان يشعرها بان النهاية سيكون الخاسر فيها هو نفسه الرجل الذي داس على ضميره وخانها، وبعد ان انتهت فصول مسرحيته كلها، ذهبت إلى صديقتها وأخبرتها:
ـ الآن يا عزيزتي، سأقول لك ِ ماذا فعل هذا الرجل.
ـ نعم.
ـ اتفقنا أنا وإياه على موعد محدد للذهاب إلى المحكمة الشرعية لكتابة العقد، وفي اليوم المحدد ذهبت إلى المحكمة لكنني صدمت بالمفاجأة، فقد رايته هو وامرأة  أخرى جاء بها ليعقد معها عقد الزواج، فلم أتمالك أعصابي، فثرت عليه وأمطرته بوابل من اللعنات، وحين سمعت تلك المرأة ما قلته له، وعرفت بأنه خائن ومخادع، تركته وهربت وخرجت على أثرها، وبقي هو وحجه مشدوها ويدور في أروقة الشوارع بعد ان أفلس منها، ومني!
ـ يا له من رجل لعين.
ـ لهذا غيرت مساري في الحياة.
ت لك ِ الحق كله، يا صديقتي.
ـ إنها، إذا ً حكاية لك، ولي أيضا ً!


الحقيقة وظلها

      لا يريد ان يتعرف على أي إنسان من أبناء المنطقة ولا يريد حتى ان يسلم على أي واحد منهم عندما يذهب صباحا ً أو عند عودته مساء ً من العمل. وأحيانا ً لا يخرج من البيت طيلة النهار، أو خلال ساعات الليل.
    ولكن في المقهى القريب من بيته، دار الحوار التالي، فسأل احد رواد المقهى صاحبه:
ـ ماذا حدث للأخ عبد المنعم، لقد كان يسلم علينا ويجلس معنا في المقهى، وكنا نستفيد من حكاياته الجميلة، والنادرة، ولكنه فجأة انقطع عنا؟
ـ ربما يعاني من حالة معينة.
ـ لنفترض ذلك، لكن لماذا حين يمر من أمامنا يدير وجهه جانبا ً ولا يسلم علينا؟
ـ ربما سمع شيئا ً ما من رواد المقهى ..
ـ ولكن رواد المقهى يحترمونه ويحبونه.
ـ إذا ً، لابد ان هناك من سبب آخر!
ـ لقد أصبح وكأنه لا يعرفنا أبدا ً، أتراه أصبح متكبرا ً، بشكل مفاجئ، والله اكبر من المتكبرين جميعا ً.
ـ لا نستطيع ان نتهمه بالتكبر، قبل ان نعرف السبب.
ـ السبب واضح ولا يحتاج إلى نقاش.
ـ سأبعث زوجتي إلى بيت السيد عبد المنعم لتستفسر من زوجته عن أسباب انقطاعه عن الحضور إلى المقهى.
    وأرسل زوجته لتقابل زوجة السيد عبد المنعم:
ـ أهلا ً وسهلا ً، زارتنا البركة.
ـ شكرا ً يا عزيزتي.
ـ اطلبي يا جارتي العزيزة.
ـ  بصراحة أرسلني زوجي لاستفسر منك عن سبب انقطاع زوجك الطيب عن الذهاب إلى المقهى، والكل متشوقون إليه.
ـ زوجي يا عزيزتي، رجل حساس ولا يستسيغ النفاق، والطعن، والتشهير بالآخرين، وربما سمع شيئا ًمن هذا ..
ـ الم ْ يخبرك بماذا سمع؟
ـ لا أبدا ًفهو لا يبوح لي بالأمور الخاصة به.
ـ قولي له ما قلته لك، لطفا ً.
     عادت زوجة محمود وأخبرت زوجها بما سمعته من زوجة السيد عبد المنعم:
ـ إذا ً، سأقابله بنفسي مساء هذا اليوم، ولابد ان افهم منه الأسباب التي جعلته يقاطعنا، ويمتنع من الحضور إلى المقهى.
   في المساء ذهب محمود لمقابلة السيد عبد المنعم. فرحب به، فقال محمود:
ـ يا أستاذ عبد المنعم، زرتك في هذا المساء، نيابة عن رواد المقهى.
ـ أهلا ً بك، وبهم.
ـ شكرا ً. إنهم جميعا ً يريدون ان يعرفوا سبب انقطاعك عن المقهى خلال هذه الفترة.
ـ سأعود إليها عندما أتأكد بأنها أصبحت نظيفة!
ـ ولكن صاحب المقهى يحب النظافة، وهو يقوم بتنظيفها ليل نهار.
ـ أنا لا اقصد أرضية المقهى، يا أخي، ومحتوياتها ..
ـ إذا ً ماذا قصدت يا أستاذ؟
ـ  أقصد تنظيف الألسنة من شوائب الوشاية والإساءة والوشايات والنميمة التي تحدث فيها، وهذا ما كنت اسمعه فاكتم غيضي.
ـ معك الحق في هذا الجانب، ولكن لماذا تمر ولا تسلم علينا..؟
ـ لأنكم لم تحاولوا قطع دابر هذه الإساءات، بل تصغون إليها ولم تردوا عليها. وربما انتم وأنا، لوثت سمعتنا هذه الألسن في غيابنا. فحسبتكم من المشجعين لها، ولهذا قررت مقاطعة الجميع.
ـ ومعك الحق في هذا الجانب أيضا ً، ولكن يا صديقنا أستاذ عبد المنعم ليست الألسن كلها مصابة بهذا الوباء.
ـ كما تقول، لكن للوباء عدوى!
ـ سنقضي على الوباء، ونمنع أنواع الوشايات والإساءات في المقهى.
ـ لا شيء أفضل من الأحاديث النبيلة، والمفيدة، والجميلة التي تشد القلوب إلى بعضها، وآخر ما أقوله، لعن الله من يلعن الآخرين! لكنه تدارك وقال معتذرا ً:
ـ العفو والاعتذار والغفران أساس المعاملة، وليس مواجهة الإساءة بمثلها!




قراءة في مجموعة حامد الراوي "هوامش كحل" عادل كامل



قراءة في مجموعة حامد الراوي "هوامش كحل"
الإقامة في السفر


عادل كامل
[1]
    إن كانت قصائد حامد الراوي كتبت لتقاوم صدمة الغياب، أو لتمتد بديمومتها، فالشعر لم يترك إلا أثره وهو يحول الأصوات إلى علامات:
[يتسللون من التراب ليسجدوا   
ويغادرون إلى التراب ليولدوا]
   كأنها ترجعنا ـ العلامات ـ إلى عصور ما قبل الكتابة؛ تلك التي تركت أصواتها تسكن رسومات الجدران، وفي المجسمات، وفي ما دفن في الرماد. إنها (الرهافة) أو أقدم جذر لتعريف الصدمة، إزاء عالم لا تمتلك فيه الأشياء، ولا النبات، ولا الإنسان، إلا ان تمد جسورها من اللازمن إلى التتابع، والتأمل، والعراك، كي تجد أنها كوّنت نظامها في الاندثار.
    فما ـ هو ـ الشعر..؟ أهو اختزال مسافة الصدمات، أم مراقبتها، أم ـ هو ـ الذي يعيد صياغة النهايات بمقدماتها..؟
   ألا تبدو أسطورة (سيزيف) المعاقب، برفع الصخرة من القاع إلى القمة، مرة بعد أخرى، وحتى نهاية الدورة، قد ردمت الفجوة مع من اصدر القرار، وان دوره لم يعد   تنفيذا ً، للأمر، بل مساحة له، وانبثاقا ً لوجود غير قابل للإدراك، أو التعرف، وهو الشبيه بما قاله إبليس لآدم، بعد ان سأل الأخير الأول: لماذا أغويتني، فقال: وأنا من أغواني، بحسب الغزالي في واحدة من استجاباته للعبور من الكلام إلى الصمت!
     إن الراوي، هنا، لا يروي، بل وجد كيانه يدوّن امتداده بين السابق على الحضور، والملحق بالغياب: انه يعيد نسج الثيمة ذاتها التي بلورها السومري وهو يبحث في مفهوم: (حياة)، في (إنانا)، بما يتضمنه من عناصر الجدل، وإشارة إلى أقدم إشكالية ستبقى كلما بلغت نهايتها، تجد  تدشينا ً يعيد نسج نظام: الميت من الحي، كما الأخير، لم يخرج إلا من الموت.
     لكن هذا كله اشتغل عليه المعري، لا بصفته شاعرا ً، أو فيلسوفا ً، بل لأنه أبصر في تاريخ الحضور وهو يتلمس انحداره، كالدورات، نحو ما هو ابعد من: اللغة، ودوافعها، ومضامينها، ورمزيتها، ومشفراتها، كي ندرك ان حامد الراوي، هو الآخر، حمل لوعة أسلافه أو سابقيه، في التأمل الانطولوجي، بعيدا ً عن مشاعر الأسى والأسف، هذا النسق بين الانفتاح والانغلاق. فالإنسان، في لمحة موجزة للزمن، تضمن شهادة المعاقب، بلا ذنب، ولكن، بحسب سومر أيضا ً، المذنب بالولادة.
    على ان فصل (المعنى) أو استحالة تحديده، عن اللغة، يبقى قائما ً، مادامت الأخيرة، أحيانا ً، ليست سوى حجابا ً، كالحياة برمتها ما ان تتوارى حتى تستعيد معناها، بعد الموت، وجودا ً لا تمتلك اللغة شيئا ً تقوله عنها.
    فهل الشعر ـ كالحياة ـ آلية للعبور، إنما، لهذا الذي يصعب حتى استبصاره بعد التدشين، أم هو السفر من غير خاتمة، لكن، الذي غدا إقامة، حتى بصفتها تضمنت نفيها..؟
    فالشعر، في هذا السياق، ينحاز إلى (الاستجابة) إن كانت غواية، أو قيدا ً تضمن حريته، أو  إنعتاقا ً مقيدا ً، إن لم يكن ـ هو ـ علامة لها، ولغزها، كالعدم ممتدا ً، الذي كان خاتمة لنهاية عصر بابل، قبل دخول العدد على الصفر. فثمة تلقائية اكتملت فيها مباديء النظام، إنما، للتدشينات افتتاحات لم تكتمل، وحتى إن بدت تامة الزمن.
   فليست الكلمات، هي التي، في البدء، بل محركاتها، وهي التي لم تترك إلا مقاومة لمحوها، بعد ان أصبحت امتدادا ً للغياب. وكأن الحضور ذاته، لم يخف هذا الذي اشتبك بعناد مع عوامل محوه، واندثاره.
[2]  
    لا يكتشف جواد الحطاب، في مقدمته لقصائد حامد الراوي، بل يستنتج ان الشاعر (مراوغ بامتياز)، بالتوقف عند:
1 ـ اصطياده الشعر، بكمين الشعري، كامتداد أو كتعبير عن مفهوم الصيد.
2 ـ وما اذا كانت تجربته تنتمي إلى النسق العمودي، أم القائم على التفعيلة الحرة، أو النثر...، كي يستنتج ان التجربة في انسجامها مع الذات لتمثل مركز الشعر.
3 ـ ان الشاعر لم ينس المحرك الأزلي لشيطان الشعر (المرأة) فقدم لنا ـ يقول الحطاب ـ: نفسه عاشقا ً في زمن تخشبت العواطف فيه وأضاعت سحر رومنسيتها..ليقودنا إلى "عالمه الأليف كلما: أضاع الطريق إلى موته"
4 ـ ولا يغفل الحطاب ان جمهور الشاعر هم: العشاق والمجانين!
     كي يختتم إشاراته، بمقدمتها: أظنني قلت لكم ـ في البدء ـ انه شاعر مراوغ.
    فـ: (المراوغة)، لا تخص الشعر، بل الشاعر. بمعنى ان الحطاب بدأ من الشاعر ـ نحو الشعر، كي يسمح لنا ـ ولمن يتعقبنا ـ البدء من الشعر ـ نحو الشاعر، للانشغال بإشكالية مازالت كلما تعرضت للتفكيك، تمتد في المجهول: ما الشعر؟
   إن الكلام، مهما بلغ ذروته، في التجريد، كما في الإشارات عند المتصوفة، أو عبر المشفرات، في الأنظمة المنغلقة، بل حتى لدى الوعاظ أو الكهنة ..الخ، لن يوجه إلى: لا احد. واللا احد، كماهية، هو الذات، لأنها هي جزء من نظامها، وليس علة في ذاتها، أو تامة، أو من غير علة.
    فالشعر ـ كذروة في الكتابة، هو هذا الذي يتناثر في المرآة، أو الذي يقع خلفها، وهو السابق عليها والملحق بها أيضا ً. هو التاريخي ضد التاريخ، وهو، في الأخير، مساحة للتدشين:
[نطأطئ أعمارنا واقفين
ونسأل: هل من دليل على موتنا
كي نموت]
ماذا غير ان نعيد قراءة آلاف الآثار التي تركها إنسان المغارات ـ من الرماد إلى المدافن ـ  تحكي المحنة ذاتها؛ لأن قانون الصيد، في دورته، يسمح للضحية ان لا تكون فائضة. ولعل انشغالات جلجامش ـ الباحث عن ديمومة إمبراطوريته/ والمجد الذي اغتصبه أو كوّنه ـ عند أسوار أوروك، استنتج ذلك: لا ديمومة للمحكوم بالفناء. فأي دليل هو هذا الذي يمتلك نفي الدال في هذا التساؤل الانطولوجي، حتى اذا لم يكن جلجامش قد أدرك ان الخاتمة كانت جزءا ً من مقدماتها..؟
     ان حامد الراوي ينصص، يدفن ويوّلد، بنسق القانون ذاته. فهو يمنح المعقول بعده الآخر، ليس الشك، بل اليقين وقد تعرض للدحض. فالواقعي ظل، والأخير، لا ينفصل عن المحنة؛ محنة اكتشاف اللامرئي، كي يدوّن ـ باختيار ما لم يختره ـ في محنة الاختيار: لا لأنها محنة مرور، أو استغاثة، بل محنة إقامة محكومة بمكوناتها: تاريخها اللغوي، وتاريخها الايكولوجي:
[عبثا ً تخون لكي تخون
عبثا ً تداهن أو تهادن
ان ذاكرة الخيول
تمتد من معنى الصهيل
إلى
الصهيل]
   فالدورة تحافظ على لغزها، ليس خارج اللغة ـ كإحالات ـ وليس داخل اللغة ـ كتعبير ـ، بل كتأمل شارد توخى الإفاقة، أو الاستعانة بها، لمغادرتها. مرة أخرى، لا مراوغة، ليس لأن الشعري انتقل من المعنى إلى الصوت، ومن الصوت، الكلمة، الى المعنى، بل لأن الشعري بلغ مداه.
[مر العشاق على المعنى، واختلفوا فيه
كل يبحث عن معناه
لكني أعني
لا أعني إلا
أني
يحلو لي]
    فالمرور ليس غواية، أو مراوغة. فقد كان مدني صالح يرى ان حسن التخلص يماثل المعنى لكن من غير إفراط: انه ما قصده اليوت في الأرض الخراب: الجفاف وقد غدا غيابه تام الحضور. فأين يكمن المعنى، عندما تأخذ الأصوات طريقها إلى الغياب..؟ لا اعتراض يجد معادله في الاستجابة، لأنهما ـ معا ً ـ يدحضان الإرادة. لكن الكلمات ذاتها ـ في الشعر ـ تراوغ، تبتعد كي تظهر، وتتوارى كي تقترب. لكنها ليس محنة شعر، وشاعرية، وشعرية، بل حفريات في الأصل: الورطة. الأمر الذي لم يسمح للمراوغة إلا ان تتكتر، أو تقشر، أو تستبعد، كي:
[يتناسلون من الهواء
ويسقطون
على الخواء
ويرحلون]

    فالفناء شبيه بوجود لا مرئي؛ توارى، كي تغدو الحياة حدا ً بين لا وجودين، إنما، ليس ثمة عدم، لا بالمعنى المثالي ولا بقوانين الحركة، أو الزمن، فالجسور لا تمتد إلا في إقامتها،كما يقيم العاشق في عشقه، مستبعدا ً لحظة الإفاقة، وكما كانت رابعة العدوية قد عززت مبدأ العشق، بالتخلي عن ذاتها، كي تكسبها، فان ما لا يعّرف، لا يظهر إلا وقد أصبح خارج مداه، لأن الوجود ـ بأي معنى من معانيه ـ لم يتشكل بقوة حضوره، أو بلغز غيابه، وإنما استدعى هذا التأمل: تدشين التقدم ـ أو التراجع ـ في المجهول.
[3]
   لم تكن تحذيرات جورج ارول، بعد الحرب العالمية الثانية، حول تراجع دور اللغة، إلا تشخيصا ً لعصر كان (هيغل) قد لفت النظر إليه، بموت الفن، وتفكك عالم المثل، وتخليه عن ملغزاته، لصالح: التاريخ القائم على التراكمات، والاندثار.  انه عالمنا الذي يتقدم في المجهول، إن كان يحدث في أعلى الهرم، أو في القاع. فهي النتيجة ذاتها التي دونتها ملحمة جلجامش: اعمل بالحدود التي تمتلكها. ولم تكن حكمة الملحمة عمياء عندما طلبت من جلجامش ان يكون التاريخ هو ما يصنعه الإنسان، بحدود انجازه.
   حامد الراوي، في قصائده، يجعل المغادرة، وما ينحدر، ويمر، ويعبر، إقامة.  إنها اللحظة ذاتها التي صاغت دوافع من صاغ علامات في مواجهة زوالها: انطولوجيا محكومة بعللها، ولكنها لن تصبح خالصة، لأن (الخالص) لا معنى له خارج: الكلمات ـ الفن.
[أقيم ـ وحولي شتاتي
عزاء يليق بأيامنا، لا تموتي
ولا توغلي في النعاس الخجول
قفي عند باب الذهول
وقولي: سلام على الآفلين]
    لكن الشعر، إن فسر، غدا عددا ً في المعادلة، لأن ثمة ما هو أعمق من الخسارة، سكن الصفر، أي العدم ممتدا ً، يجد انبثاقه، حتى في عصر موت الإنسان. انه سكن غيابه عبر الاستثناء، حضور تجمعت فيه الغيابات، إنما الغواية تبقى عنيدة:
[ وأنا في حضرة خمس زنابق غامضة اللون
ان افتح بابا ً شرقيا ً
واطل على روحي
وارتب راسي
اعني شعري
قافية قافية لأنام]
    لأن المعنى لا يتوارى، بل ـ هو ـ في الأصل ـ غواية لغز:
[ مع من تقف
مع من تسير
وإذا دعاك السيف
هل تنسى ذراعك في السرير
أو سوف تحشر
عمرك المحموم
في حجر]
   فالمعنى سكن عبوره، لأن كل لحظة (قنص) ما هي إلا بحكم الغياب. فالشعر لا ينتهي عند خاتمة، كما في النثر، بل يستعيد مقدماته/ تدشيناته البكر التي لا تموت. انه الإثم بلا معاقبة، وهو ـ إذا ً ـ طهرها: سكن الأزمنة في اللازمن. فالشعري فناء أكوان لم تنشأ بعد. رثاء بلا سواد. تاريخ تراكمت أسفاره من غير حوادث، ومن غير صفحات. اهو لوعة خالصة...؟ لا ـ هو ـ في هذا النسق: المشي خلف ظل غدا ومضات، وصار يمتلك فضاء الأثير. فالشعري ـ عند الراوي ـ يكف عن الخسارة، بعد ان كف عن الربح، فثمة:
[هنا مرتقى الروح لا تلتفت إذ ْ تموت
وكن هادئا ً... ربما ... فالبيوت
 تضيء قناديل أطفالها مرتين
 ونم هانئا ً فوق ثغر السكوت
وكرر قنوتك
كرر نعوتك
حاول ... وحاول
ولا تلتفت إذ ْ تموت]
    الشاعر لا يتحدث عن تاريخ، وعصر، وكائنات فحسب، بل عن جذر، وعن أصول لهذا كله كامنة في ما هو أعمق من: اللغز. إنما اللغز يتم التوغل فيه، مثل سفر اكتمل بغياب الدرب، وبغياب المسافر، إنما لحظة التوهج شبيهة بمن ذهب ابعد من الزمن، كي يستيقظ الشك، براءة تقاوم عادات الأعراف.
   وها هو الشعر يحافظ على نظامه: الكلمات، بعد ان توخى الاستحالات:
[أضعنا الطريق إلى موتنا،
والتفتنا إليك
وكنا على بعد ذاكرة من غيابك
نحاول ان نستعين عليك بأنسابنا
كل عرق عناق
مرائين كنا، ولكننا أوفياء
وكنا نقشر أصواتنا، كي يظل الغناء
نقيا ً كما تشتهي
يا عراق]
فالتاريخي أصبح موقفا ً، وقضية، إنما، كي تمتلك  البذرة عنادها، وتصير هي نفسها تتابعا ً. فالزمن يمتلك ازدواجيته: الزمن المنحدر من اللاحافات، نحو، وفق منطقنا، نحو اللاحافات، إنما الشعري يغدو لمحو: قنص ـ وصيد ـ وخسائر، وهي التي تضمنت كل ما سكن (الكلمات)، من مشفرات، تحيلنا إلى ما قبلها ـ والى ـ ما بعدها. فالمحنة محنة ذات إزاء إشكالية لا حضور لها، عدا وجودها كأثير توارثت فيه ومضاته.
كي يذكرنا الشاعر ـ ضد الشعر ـ وضد الشعري، ولكن ليس من غيرهما:
[ نطأطئ أعمارنا واقفين
ونسأل: هل من دليل على موتنا
كي نموت
لنسقط من كوة في الكلام المعمى
ونحسبنا صاعدين
هنا مرتقى الروح، لا تلتفت، فالبلاد
ترتب أطفالها الميتين
وترزمهم واحدا ً واحدا ً بالوصايا
وتدمغهم واحدا ً واحدا ً بالدعاء
نشير إلى نجمة في الخواء
ونطفئها قانتين]
   فالكلمات لا تنتقل من المخفي إلى الظاهر، ولا من السطح إلى القاع، لأنها لا تؤدي دور الراصد للمرور، بل للإقامة ذاتها وقد أصبحت هي الكلمات.
فـ:
[ هل من دليل على موتنا
كي نموت]
    سؤال يستعيد لغز الصفر، الصفر المتحرك، المتضمن عدده، كاليقين بصفته قاصة أسرار، وشكوك، وليس مرورا ًمن غير الحفر في ما سكن الكلمات، وصاغ نظامها في التعبير. لأن صمت الكلمات ـ في الشعري ـ يكتم المرور وقد تجمد كعلامة يعيد (الآخر) صياغتها وهو يستأنف لحظة التأمل، وليس لحظة الغياب.
    فإذا كان علماء الفيزياء، يجهلون ما هو سابق على الزمن، فان الشعراء، لعوامل تكوينية خاصة بالرهافة، والمراقبة، يتابعون حركة الزمن: ليس من أين أتى، أو إلى أين يتجه، وإنما الظلال التي توجت مصادر الإضاءة، وسكنتها.
   لأن التدوّين، عند الشاعر، يبصر:
[على حجر، يظل لنا سجود
وتهتريء الخطى وبها نعود
ونهدأ ـ قيل ـ نهدأ، ثم نغلي
فيورق فوق ثغر الجمر عود
ويومئ للبعيد رماد كف
ونحن على أصابعها شهود]
   فالشعري يغدو كلمات مضادة للكلمة، كما السلعة محكومة باندثارها، لكنهما يتجددان، كما العشق، ابعد من الكلمات، ومن الأشياء، والعشاق، للمعنى ذاته وهو يدشن لغز (إنانا)، متوجة بالإقامة في العبور، بعد ان بعثر الزمن تاريخه وغدا ابعد من براءته، وآثامه، فما هو اشد إيلاما ً من الموت، ليس الموت، بل الرحمة! وهنا تسمح لنا ومضات حامد الراوي ان نتوسع في تخطي حدود الظلمات، حتى لو كانت قد تضمنت مرورها، وحتى لو كانت الخاتمة قد تأسست بمثل هذا العبور.

(يا خشوف العله المجريه وأبنكم فزّز الدوريه )-الشاعر الشيخ ( حسن العذاري )-حامد كعيد الجبوري


                          (يا خشوف العله المجريه وأبنكم فزّز الدوريه )
الشاعر الشيخ ( حسن العذاري )
حامد كعيد الجبوري
   لم أستفد كثيرا من التجارب التي سبقتني لأني لم أأرشف كما يفعل غيري مع ما يحيط بهم من تدوين كل شاردة وواردة ، ومرة دعاني الصديق  أ د ( صباح نوري المرزوك ) أن لا أترك شيئا دون أن أسجل له ملاحظاتي الشخصية كما يفعل هو ، أو كما يسجل الشاعر صلاح اللبان والباحث كاظم السيد علي ، وحين أردت الكتابة  عن الشاعر الكبير الشيخ ( حسن العذاري ) اضطررت الرجوع لديوانه الذي أصدره قريب الشاعر الأستاذ ( محمد حمزه العذاري ) ومما سمعته وأحفظه بذاكرتي مما تحدث به الراحل الشاعر  سليم العزاوي  عن المترجم له .
       غنى الراحل الكبير ( ناظم الغزالي ) أغنيته المعروفة ( يا خشوف ) ولم يذكر حينها  مؤلف هذا النص ، ومن أجل الأمانة الثقافية نقول أن هذا النص هو للشاعر المرحوم الشيخ حسن العذاري وكما أثبت ذلك في ديوانه الذي أصدره قريبه الباحث ( محمد حمزه العذاري )  ، وحسن العذاري من ناحية ( محاويل الإمام ) وهي ناحية زراعية يخترقها من الجنوب  نهر يسمونه ( المجرية ) والنهر متفرع من شط الحلة ، لذا كتب قصيدته الشيخ حسن العذاري قائلا ( يا خشوف العله المجرية / أبنكم فزز الدورية / وأبنكم صابني ورماني / وسهام لحظه بالحشه مرميه )  ، غيّر فيها الراحل ناظم الغزالي مفردة ( المجرية ) الى ( الفختية ) وهي طائر الفاختة المعروف ، وللشيخ حسن العذاري قصيدة جميلة لا تزل الذائقة الشعبية ترددها في مناسبات الأفراح وهي ( يهواي دمشي بهونك / خافن تغث الكامه / ليما تصد بعيونك / خليت نعلة نامه / وينه اليدور وينه ويجسب ألي الراحه / ولفي تره نياشينه وجنات إله وضاحه  ) والقصيدة كما أصطلح عليها العروضيون الشعبيون  من وزن ( المثمن الهجيني ) .  
     ولد شاعرنا في مدينة الحلة عام 1889 م ، ،وتلقى الشيخ ( حسن العذاري ) من والده بعض المفاهيم التربوية والدينية ، ثم لازم الشيخ ( علي العذاري ) الصغير وأخذ عنه الكتابة والقراءة وحفظ القرآن الكريم ، ثم تتلمذ على يد مشايخ آل العذاري وأخذ عنهم الحديث وعلوم تفسير  القرآن واللغة في النجف الأشرف ، وقد بلورت النجف الأشرف المواقف الوطنية لشاعرنا الشيخ حسن العذاري فقد تصدى مع أقرانه للحكم العثماني أبان ثورة النجف الكبرى عام 1914 م ، ولأنه من الحلة الفيحاء فقد ألتحق بصفوف الثوار عام 1915 م وقاتل مع أبناء مدينته في ما يسمى ب ( دكة عاكف ) ، وللشاعر الشيخ ( حسن العذاري ) وهو بعنفوان شبابه  مواقف وأشعار لا تنسى أثناء ثورة العشرين ، ( كلنه نموت دون الوطن ودنه / ولو جدم علينه الحتم ودنه / كلمن وصل حدنه وكرب ودنه / (للمظلم خله يودونه ) ) ، والمظلم إشارة للقبر ، وله لثورة العشرين أيضا ( أحنه أوي التفك والدان ولمات / ولا نركن الحكم الجور والدان / عدنه يحتي المظيوم والمات / ( يتشرب من حد ماضينه )) ، ونلاحظ أيضا أن بناء هذا المقطع والذي قبله مبني على وزن الأبوذية ( الهزج ) ، ولكنه يختمه ببحر الخبب وهي ( الهوسة ) ، وكان مثل هذا البناء الشعري مستساغا يوم ذاك ، وسبب انتقال الشيخ العذاري الى النجف الأشرف هو وفاة والده وهو بعمر سبع سنين فأخذته أمه الى أخواله من ( آل المطيري   ) في النجف الأشرف ، وتتحدث أخت الشاعر حسن العذاري وهي الشاعرة  (الملاية صفية ) موصفة حياة أسرتها بتلك المرحلة فتقول ( وين أهل الرحم وين أهل المروه / متدرون الدهر بمرارتي أشسوه / بعدني أرضع حليب أمي وجار وياي / يتيمه أمحيره والهظم فت أحشاي / بالحلة عشت ما بين هاي وهاي / وتدرون اليتيم أشلون يتلوه ) .
تزوج الشيخ ( حسن العذاري ) وهو في سن الأربعين أو بعد الأربعين قليلا من امرأة تسكن قرية الإمام ومن عائلة ( الكوام ) لمرقد الإمام ( أبو محمد الحسن الأسمر ) ويذكر أنه غادر الى بغداد لمدة ثلاثة سنين ولم نعرف سببا لذلك ، ومن الطرف التي تناقلها أقاربه أن زوجته طلبت منه أن يجلب لها من السوق ( بامية وطماطم ) ولم تكن تعرف بذهابه الى بغداد ، وبعد ثلاثة سنين عاد لداره جالبا معه ما طلبته زوجته منه ، وفي العام 1935 م تزوج شاعرنا ثانية بزوجة أرملة من أهالي الحلة ومن عشائر ( الجبور ) وأنجب منها بنتين ، ورغم قلة ما في اليد فقد كان شاعرنا رحمه الله قنوعا صابرا أبيا ولم يتكسب بشعره طارقا أبواب الميسورين والتجار وأهل المناصب الحكومية وهو شاعر الفصحى والشعبي ويقول بهذا الباب ( ينكل بي دهري ولم يدر أنني / صبور وأهوال الزمان تهون ) ، ويقول أيضا ( وأكل كسيرة من خبز أهلي أحب ألي من أكل الرغيف ) ، لقد أطلع الشيخ ( حسن العذاري ) على الحضارات الشرقية وتعلم اللغة الفارسية من أخيه وأخته وضمن قصائده بمفردات أو بيتا كاملا من اللغة الفارسية ( هندونه سي أبيا نجر / وكت شام وكت ظهر / دكعد يبو خدود الحمر / من الغزال عيونه ) ، ولأن شاعرنا كتب الفصحى والعامية فقد أبدع بشعر ( الملمع ) ، ( يا رشئا عذب قلبي فهل / فد يوم قز القرط تنطيني / وسهمك الفتاك في مهجتي / جنك تريد أتحش مصاريني )  ، وشاعرنا طرق كل أغراض الشعر من مدح ورثاء ووجدان وهجاء واجتماعيات وأخوا نيات ومساجلات مع مجايليه من الشعراء ، وفي حفل زواج صديقه الشاعر ( صاحب عبيد الحلي ) يقول بأحد مقاطعها ( عادت ليالي الونسه / ورد الفرح عالعاده / كلبي أنطلق من حبسه / وصدرت بعفو الراده / والجنس عاد الجنسه / كلمن عرف معتاده ) ،   وله هذا الأبوذية التي يقفلها ب( هوسة ) مفتخرا ومعتزا بقوميته وبعروبته ( الدخيل أنجان بينه أنضام وأنساب / صحيحين الحسب بالكتب وأنساب / كلمن عال بينه أنشتم وأنساب / ( مكسور أنرده الديوانه ) )  ، وكتب شاعرنا ( حسن العذاري ) الكثير من مراثي ومدائح آل البيت الأطهار عليهم السلام رددتها حناجر المنشدون لآل البيت ( ع ) ، ومن جميل ( أبوذياته ) وهو يذكر خصال النساء و يقول ( أشو طارش موده مايه منجن / واليعرف مكرجن مايه منجن / أنتن ريع كلبي مايه منجن / لو ساعه تجن ما هيه سويه ) ، وله من بديع ( موالاته ) قائلا ( سهمك رماني ومضه وبحشاش جبدي مرك / وحنت لحالي الكفر لاجن دليلك مرك / كل اللمحني بجه وأشتمر عني ومرك / ياليت كل المركني لاوجه أبيته / وأعمه يظل لايمي بيدي وجبيته / أني لوني أيحصل عندي وجبيته / آنه أعله زيجي ولك لو زاد عندي مرك ) ، وأخيرا توقف قلب هذا الشاعر الكبير الشيخ حسن العذاري عام 1952 م في مدينة الحلة ودفن في النجف الأشرف .