بحث هذه المدونة الإلكترونية

إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الجمعة، 30 أغسطس 2013

26 قصة قصيرة جدا ً-عادل كامل







26   قصة قصيرة جدا ً


عادل كامل
[1] لقاء
   كان، هو الآخر، يود ان يلتقي بالزملاء الذين عمل معهم، قبل عقود، عندما عادوا، بعد الاحتلال، بأسابيع.
  لم يسرع في خطاه، ولم يكن متلهفا ً، إنما ـ لرغبة ما ـ ود ان يذهب ...، وفي الركن الذي يطل على النهر، ضفاف دجلة، شاهد احدهم، من بعيد، وآخر، فدخل، ووقف أمامهم، أمامهم مباشرة. لم يلتفت أحدا ً له، فتدارك الأمر، وأكمل خطاه باتجاه زاوية معتمة. جلس ...،وجاء النادل، فقال له ان صحته لا تسمح له بتناول الكحول، فطلب شايا ً، وعلبة سكائر، وأغنية ...
   لم تكن لام كلثوم، أو لمحمد عبد الوهاب، أو لفيروز، بل أغنية قديمة طالما  توله بها، قبل عقود، برفقتهم، لسماعها، وقد انصهرت كلماتها بلحنها وبصوتها الكاتم للأنين، والأسى.
  وراح يراقب: وجوه ممتلئة، متوردة، لها لون ألجوري، وثمة ضحكات، وقهقهات، وحوارات، تأتيه مشوشة، لم تكن لتعنيه، لولا أنها إعادته إلى سنوات قديمة خلت.
    ربما الزمن مضى في غفلة، أكثر من ثلاثين عاما ً، كومضة، دار بخلده، صدمت الذاكرة، خدشتها، وتوارت، إنما شرد بصره وهو يراقب انشغالهم بتناول الطعام، بشراهة غريبة، لم يألفها من قبل، إنما شعر بالارتباك، وهو يراقب أصابعهم تمتد، وتتلوى، وتشتبك، في تناول لحم السمكة، التي رآها كبيرة، وقد لمح ان لها أجنحة، وراحت، ترفرف، محلقة في الركن ذاته الذي طالما جلس فيه، معهم، قبل ومضة تلاشت، وانبثقت، فجأة.
نهض، مشى بهدوء، مر بجوارهم، وغادر المكان، ولم يسمح للكلمات، في رأسه، إلا ان ترحل.

[2] استقبال

   ما ان اختفى أزيز الطائرات، ودوي الانفجارات، التي لم تترك إلا أعمدة من الدخان، تتمايل مع الريح، في فضاء المدينة، حتى ظهر عدد من الأشخاص، يهتفون، ويصفقون...، فسألهم العجوز:
ـ أتستقبلون هذا الخراب بهذه الزغاريد...؟
 لم ينتظر سماع إجابة أو ردا ً، بل جرجر جسده النحيل، وتركه يسقط في حفرة، مثل ـ دار بباله ـ نفاية، فقد كان لا يستطيع رؤية الدخان وهو يحجب عنه رؤية  السماء.

[3] مفارقة
    قال مدير تحرير الجريدة للكاتب العجوز:
ـ لا اعرف بالضبط ماذا تريد ان تقول ..؟
 ابتسم الآخر وقال له:
ـ وأنا مثلك السؤال ذاته طالما دار براسي..! وأضاف بعد برهة:
ـ لأنني لو كنت اكتب ما اعرفه، لما اضطررت إلى نشره، ولو كنت تفهم ما اكتبه، فما جدوى كتابته!
[4] ذاكرة
      سأل زميله الذي لم يره منذ عقود، وقد أمنت له قوات الاحتلال العودة إلى بلده:
ـ هل تعرفني ...؟
أجابه بصوت شارد:
ـ للأسف...، لا أتذكر، للأسف ...، أنا لا أتذكرك!
   لم ينطق. فقد غادر المقهى، وهو يردد مع نفسه: ولكنني أعرفك!
[5] فائضون
     فائضون ...؟ تساءل وهو يشاهد تقريرا ً مصوّرا ً يستعرض مواقع التفجيرات، وما تركته من خراب، كأنها حدثت في الماضي، وقد خلفت أكثر من ثلاثة آلاف قتيل، وآلاف من الجرحى ...، لم يحدث هذا في عام الغزو، ولا في الأعوام التالية، بل، بعد عقد تماما ً، في الأشهر الثلاثة قبل شهر آب من عام 2013.
     شرد ذهنه، فقد كانت الكلمات، في رأسه، هي الفائضة.
[6] سجناء
    لم يصدمه خبر هروب أكثر من ألف سجين، في بلد يماثل بلده، حيث الجميع سجناء. ولم يصدم، عندما هرب أكثر من 1000 سجين، من السجن الذي يقع على بعد مسافة غير بعيده، من بيته. ولكنه كتم ابتسامة ولم يدعها تظهر على محياه، عندما كان باستطاعته ان يهرب، قبل نصف قرن، ولكنه لم يفعل، ولم يدع الأسى يسحق آخر ما تبقى من قواه الواهنة، لأنه لم يكن باستطاعته ـ الآن ـ ان يجتاز حتى عتبة باب الدار.
[7] وخزات
     مازال يتذكرها، وهو يطالع تصريحات لها نشرتها إحدى الصحف. كان يمضي معها، قبل عقود، ليالي البرد، في غرفتها الدافئة، وهو يعيد صياغة ما كان يدور بخلدها.
   نهض. وعندما قابلها، استقبلته بحفاوة، وحرارة، وبادلته القبلات ذاتها التي طالما تركت فيه ذكريات غير قابلة للمحو.
ـ تفضل ...؟ قالت له. ولكنه لم يطلب منها شيئا ً، ليتركها تتكلم:
ـ اخبرني ...، ماذا فعلت بحياتك ..؟
    لم يجب، لأنها فهمت ماذا كان يريد، فقالت له:
ـ لا اعتقد أنني استطيع ان اعثر لك على عمل معنا!
   عندما ابتعد عنها، سمعها تسأل نفسها بصوت متوتر، خفيض:
ـ أكان علي ّ ان اعمل معهم، كي ابحث، بعد عقود، عن عمل..؟
   عندما رجع إلى البيت، وجلس يدوّن ما حدث له، معها، وجد أصابعه تغادره، وتحّوم، من حوله، وقد تحولت إلى ابر، ابر حادة، شبيهة بالتي تعرض إلى وخزاتها، قبل عقود..!
[8] سؤال
   لا توجد جريمة بلا أسباب. حتى انك ترى الملايين؛ تنحني، وتصفق، وتهتف للقائد الذي اجتاز حدود بلد آخر، وأنت لا تسأل: هل البطل هو من ارتدى قناع الجلاد، ولا تسال أيضا ً: لماذا يفعل الناس ذلك، ولكنك تسال نفسك، بصمت، ما شانك بذاك..؟ لأنك، في المرة الأولى، جرجروك إلى الزنزانة، وكدت تفقد حياتك، وفي المرة الثانية، أبعدوك، وركلوك، حتى كدت تغيب، والآن لم تعد تجد ثمة أسئلة كي تسأل نفسك: لماذا تخليت عن الأسئلة..؟
[9] خطر
  بعد ان نجا من المجزرة، ولم يذبح، دار بخلده: وهو يذهب إلى البعيد، أن الخطر بدأ توا ً.
[10] مرايا
    حقا ً، قال لنفسه، عندما لا تجد عدوا ً، تبدأ بالضمور، وينحدر وجودك إلى الزوال، وتلك هي الرأسمالية. متابعا أضاف، وهو يحدق في مرآة لم ير فيها محياه، أما الاشتراكية، فلا يموت الناس فيها كما تموت الكلاب. وعندما لم ير المرآة، سأل نفسه: ما الديمقراطية إذا ً ..؟ لم يجد جوابا ً، لأنه، وجد محياه يرفرف في الفضاء، مع حشد لا أول له، ولا آخر، من الوجوه.
[11] ديمقراطية
 ـ هل تستطيع ان تخبرنا ما هي الديمقراطية ..؟
أجاب القائد:
ـ قبل ان اعرفها لكم، علينا ان نعرف ما هو الاستبداد، ومن هو المستبد، أم لا ضرورة لذلك، وانتم تتمتعون بالشفافية..؟
ـ ولكنك أيها القائد العظيم لم تعّرف لنا الديمقراطية..؟
ـ عندما اترك رؤوسكم في مواقعها، فهذه هي الديمقراطية..!
فقالوا بصوت واحد:
ـ ولكن رؤوسنا بين يديك ..؟
ـ في الماضي كنتم تعرفون ان القائد هو من أمر بذلك، أم الآن ...، فانتم وحدكم من يفعل ذلك..!
[12] وتشرق الشمس
     بعد صمت وجيز، أمر بصوت جهوري، صارم:
ـ لا تتركوا أحدا ً، لا طفلا ً، ولا امرأة، ولا شجرة، ولا بقرة، ولا .....
   فكان أتباعه يأتون بالرجال، والخراف، والبقر، والماعز، والجاموس، والنساء، والأشجار، والكتب، والكنوز، والغلمان، والعاهرات، والتماثيل..الخ ويقذفون بها، وسط هتافات، وهلاهل، وزغاريد، إلى النهر.
   ولم يمتلأ النهر، ولم يتغير لونه، فقد كان الظلام حالكا ً، والريح شديدة. فيعود يصرخ، وأتباعه لم يكفوا البحث عن الرجال، والأطفال، والحيوانات، و...
فجأة سأله مساعده بصوت مرتبك:
ـ ولكن الشمس لم تستجب لأوامرك، سيدي، وتشرق!
فصرخ القائد يوبخه:
ـ ليس هذا هو هدفنا، أيها المغفل..
   كتم مساعده ما كان ينوي البوح به، وسأل نفسه: ما هدفنا ً من هذا، إذا ً ..؟
أجابه القائد، الذي حدس ما دار بخلده، وهو يقذفه إلى النهر:
ـ كي نبقى بانتظار بزوغ اشعتها!
[13] حشرة
   قال بصوت غائب يخاطب لا احد: لماذا أصبحت حشرة..؟ تذكر انه قرأ ذلك، قبل نصف قرن، ولم يتعجب، بل غضب، حتى أدرك، بعد سنوات، انه حشرة غير ضارة، تعيش وسط حشرات بالغة الأذى. ولم يسع ان يكون شيئا ً ما عدا ان يصبح حشرة أليفة. قال: حشرة صغيرة، لا تلفت أنظار احد. ولكنه، وجد نفسه يحتمي بعزلة محكمة: غرفة بحجم قبر، تدرّب ان يؤدي وظائفه اليومية فيها. ولم يقدر ان يميز ما اذا كان يمتلك قدرة على إصدار أي صوت، شبيه بالأزيز، أو الخشخشة، أو البحات، أو حتى الأنين، وإنما وجد الجدران تتقلص، حتى لم تدعه يتذكر ما اذا كان يتنفس أم لا ضرورة للهواء كي يستعيد قواه، ويتلافى الحشرات. ولكنه، وهو يغادر غرفته، عبر الزقاق، وجده لا يتسع لأكثر من شخص، حيث لاحظ ان الدرب سمح له بالتقدم، واكتشاف انه أصبح في العراء، من غير أعداء.
    عندما حاول معرفة الوقت، للتأكد من انه لم يمت، لم يجد ضرورة ليخاطب نفسه، ما إذا كان للوقت معنى أو أهمية، بعد ان أدرك ان عليه انتظار قرون، وقرون، كي يستعيد فمه، وأصابعه، وبصره، ويؤكد لنفسه انه لم يكن فائضا ً، ولا حتى حشرة أليفة..!
[14] البيان صفر
    لم يكن الخبر زائفا ً، أو محض إشاعة، أو من أعمال المنظمات السرية، الذي تتحدث عن قيام الموتى بكسر أبواب المدافن، وتحطيم أسوارها، واحتلالهم الأزقة، والشوارع، والساحات، بل سرعان ما تحول إلى بيانات تؤكد ان الموتى زحفوا نحو الكاتدرائيات، والمؤسسات، والزقورات، والأهرامات، والملاعب، والدوائر الكبرى، وإعلانهم عن قيام نظامهم الجديد. عمليا ً لم يكن هناك أحياء كي تحدث مواجهات أو فعاليات أو مقاومة، أو حتى احتفالات بما جرى، فقد أكدت البيانات إلغاء كل ما يتقاطع مع حريات الذين ماتوا، وغابوا، منذ الجريمة الأولى، حتى عصر ما بعد الحروب، وهو ما دفعهم إلى إغفال انتخاب الزعيم، أو الأمير، أو من يتحكم بمصائرهم، فالبيانات وحدها فرضت هيمنتها، ونسقها، من غير إطراء أو مدائح أو حتى شفافيات، لأنها كانت قد تخلت عن كل خلاف قد يفضي إلى التصادم، والى المواجهات. فالبيانات أكدت ان حرية الموتى وحدها تسمح للأحياء بالمشاركة، من غير تعصب، أو تطرف، رغم اليقين بانقراضهم، وعدم وجود أي نفوذ يذكر لهم، في تأسيس اكبر مساحة مترامية الحافات، لا تحدها نهايات، أو حدود، ولا تفرقها، أو تعزلها علامة.
   وجاء في احد البيانات ان الملايين التي ليس لديها ما تخسره، بعد قرون من الاستنزاف، هو وحده الذي دفع بها إلى ما بعد الوحدة؛ حيث بدأت الاحتفالات ـ بمنح كل مشارك، بعد محو الهوية وتطهيرها من آثار الماضي ـ الحق بتأسيس دولة تخلت وتخلصت ونبذت كل ما يقود إلى البغضاء، والى الكراهية.  فكما تعمل العناصر عملها في المديات الشاسعة، فان عمل دولة الموتى ذهب بعيدا ً بالتحرر من أسباب التصادم، وما يؤدي إلى العراك.
     وجاء في بيان آخر بعدم ضرورة إصدار أي بيان يتضمن مشفرات أو ملغزات قد تعمل على إحياء اثر ما مندرس لا مناص سيقود للتفكير في الأسباب ونتائجها، الأمر الذي سمح للبلاد ـ وهي اللا بلاد بالمفهوم الجديد ـ ان تحرر باقي المساحات غير المحررة، وبحسب البيانات المؤكدة، فقد تم إعلان نهاية الزمن، وتتابعاته، وتراكماته، ومخفياته، وتأسيس فضاءات  انتفت فيه أية ضرورة لدخولها في الأسفار، أو في كتب ما كان يسمى تاريخا ً.
   عدا ان مؤرخا ً مغمورا ً، مجهولا ً، وقد تم نفي الخبر، استطاع ان يضمن سلامة حياته بتقمص أقنعة الموتى، وأخلاقياتهم، ودوّن كيف لم تعد ـ حقا ًـ أية دوافع لعمله، مما سمح له للاحتفال، بحرق آخر علامة من علامات الحياة، والوجود السابق، والاندماج في عصر كان يراه يمتد، ويمتد، من غير حاجة للاحتفاء أو الاحتفال باتساعه، أو الفرح بما وراء أي مدى من مدياته، مما سمح للموت، ذاته، وليس للموتى، ان يتخذ اسما ً، مكث غير قابل للمشاهدة، أو الرصد. وقيل، وفق بيان لم يصدر، ان الموتى أنفسهم لم يعد لديهم شيئا ً ما يخسروه، بعد ان أصبحت الحياة، ذاتها، خبرا ً لا اثر له في بياناتهم، التي أصبحت خارج مفاهيم الزوال، أو الانتظار، والتجدد. وكان ذلك آخر بيان حمل الرقم: صفر، حيث العدد لم يعد لوجوده إلا وجود العناصر، طليقة، في الفضاءات.
[15]رسالة/1
    [ صديقي ....
كلما رفعت راسي قليلا ً أعلى من حافة المنضدة، المح ظل الحبل، يتمايل، رماديا ً ...، وأنت، كنت تشاطرني الجلوس في المكان ذاته، وكنا ـ للقضاء على الفراغ ـ نسترجع الأزمنة التي كان فيها البعوض يملأ المدينة، كان ذلك قبل ان يتم القضاء على الملاريا، بالكنين، هل تتذكر الأقراص الحمراء المرة التي كانت تساعدنا للتخلص من هلاوس الحمى وما كانت تسببه من خلط بين البصريات والأصوات، وهل تتذكر الغبار الذي كان يمنعنا من تنفس الهواء، ثم ...، لم أجدك معنا، فأقول لك: لم يعد لدينا ثمة حبل يتمايل، فالزمن مضى، إن كان رماديا ً أو من غير لون، بل أصبحت ـ بعدك ـ لا أميز عدد ألوان الحبال، وأشكال الموت الصامت.  فلا تكترث، فأنا تذكرت أيام الحبل، من غير ان يشاطرني آخر، بعد غيابك، المصير، كي أقول لك: لا يمكن لي ان أبقى طريدة تبحث عن ملاذ، لها، والى الأبد. فانا أصبحت استعيد لسعات العقارب، وعضات الأفاعي، لتلذذ بالسم، كعقار ناجع للتسوية مع قدرنا! ]
 وأرسل كلماته، من غير ان يضع عنوان المدينة، أو الصديق الذي لم يفلح في تذكر اسمه.
[16] رسالة/2
      أتراك تعتقد أنني استطيع ان أميز بين العدو وبين الصديق، أو بين اللون الأسود واللون البلوري، كي أميز اذا ما كنت مازلت اشعر بالخوف، أو أصبحت بعيدا ً عنه، وما اذا كان القليل من الهواء يكفي كي أتمدد وأنا غير مكترث لمن بجواري، إن كان ميتا ً، أو بانتظار الموت، كي تغيب الشروط ذاتها عنا التي سمحت، لنا، في ذات يوم، ان نحلم كما تحلم الطيور، وان نمرح، كما الأشجار في غابة، أم ربما تكون سعادتك قد بلغت ذروتها، حيث بصرك لم يعد يلمح حتى غيابي.
[17] رسالة/3
" ـ لِم َ تركتني أذهب، ولِم َ تخليت عني ...؟ "
   فكرت، لا للعثور على ذنب لم ارتكبه، بل عن آخر قد يدفع بالاتهام إلى أقصاه. فكرت، ان ما من فائدة ـ  لا بالسلب ولا بالإيجاب ـ يثمرها التفكير اذا ما كنت أنا ـ هو ـ الذي أوعز لها ان تذهب كي ابحث عنها، أو كي تبقى تحمل شوقا ً ما، لوعة، رغبة، أو توقا ً، لا يدعها تمحوني من ذاكرتها...؟ فكرت ـ ربما ـ لأن النهايات رأيتها تامة المقدمات، فلم اعترض على ذهابها ابعد من جسد مكبل، مقيد، كونته العناصر ذاتها التي كونتني، فقلت: يا لها من ملهاة ان تكون هناك غواية تستبدل ما لم يدشن بهذا الذي أبصرته بلا حضور.  فأعيد قراءة الإصغاء إلى الصوت النائي: لِم َ تركتني أذهب، ولِم َ تخليت عني ...، كي استدرك: ليس لهذا إلا ما يماثل عواء ذئب يحتضر وجد طريدته غزال يستنجد بقطرة ماء!

[18] رسالة/ 4
    " قلت لك: أنا مولع بتتبع ومضات ما ان اقترب منها حتى أجد من يحثني على الإسراع ....، وأنت ـ مع من كان معك ـ كنت تتحدث عن أهداف تركها بصرك تتوارى، وأغفلها، ولم يلتفت إليها، فكنت تناضل من اجل سواها. أنا لم أكن معك كي ابتعد عنك، لم اصفق لشعاراتك كي ألعنك أو العنها، لم أخنك كي اطلب منك الغفران. أنا كنت أتتبع تلك النداءات التي ما ان اتجه نحوها حتى أجد حياتي تذهب ابعد مما قصدت. وأقول لك ـ وأنت في منفاك ـ  لست َ اسعد مني وأنا لم أغادر الأرض التي تكونت في أدغالها بذور الخلق الأولى: فأنت كنت تحلم ببلاد لا تدكها أقدام الغرباء، ولا يسرقها اللصوص، فوجدتها ....، ولكن بعيدا ً عن المقبرة التي ولدنا فيها، وآمل ان يكون لي أحفاد لا يغفلون أنها كانت نائية، مثل حبيبة كلما ابتعدت وجدت القلب لها إشارة. أعرفت الآن لماذا كنت أتتبع ما هو ابعد منك، وابعد مني أيضا ً، ابعد من منفاك، حيث مازلت كلما رأيت الومضات واقترب منها أجد خطاي تحثني باجتياز العثرات ..."
[19[ رسالة/ 5
   قلت لك: لا تدع بصرك يذهب ابعد من مداه، وقلت لك: احرص ألا تدعه يتمرغ في الوحل. لم تصغ، وأنا لم أرك بعد ذلك ـ قبل عقود ـ عندما سرقوا أحلامنا منا . إنما مازلت أتذكر انك قلت: سأنتصر! أنا قلت لك: الحياة هي المعركة التي تلتقي نهايتها بمقدماتها ، وتتوحد أضدادها، فلا فناء يتلون بالغوايات، ولا هناك من  يتباهى بها، ولا ثمة ظلال !  وها أنت ـ في هذه اللحظات ـ تشاهد القاصفات، والصواريخ عابرة القارات ـ تنزل، بل تهطل، كالمطر، فوق بيوتنا، ورؤوسنا، وحدائقنا، هدايا! أنا ليس لدي ّما أخسره، وأنت ليس لديك ما تربحه، فأنت تشاهد وطنك ـ عبر الشاشات ـ يذهب إلى المجهول، وأنا أراك بلا وطن، أو بوطن بديل، والكل ماض ٍ إلى: أثير، وسكون تتكوم فيه الاستغاثات!
[20] رسالة/6
    كتب: " عندما شرعنا بالعمل من اجل سيادتنا، أنت لذت بالفرار..، وأنا، وضعوني وراء القضبان. بعد نصف قرن، أنت طليق، لديك العالم كله، وعشت حياتك وكأنك أنجزت ما كنا نحلم بانجازه. أنا ـ الآن ـ لدي ّ القليل الذي أتعكز، في المشي، عليه. ولدي ّ، الأقل فالأقل من الأحلام، التي كلما انبثقت في راسي، رأيتها، مدوّنة، فوق شواخص قبور لموتى بلا أسماء. فالحديقة التي اجتمعنا فيها، قبل دهر، لم تتحول إلى مزرعة، أو إلى مصنع، ولا إلى مؤسسة علمية، بل أصبحت مقبرة مترامية الأطراف. عمليا ً، في غرفتي نافذة صغيرة تطل عليها، إنما، أحيانا ً المح بعض الطيور، وأنا لا اعرف أهي مهاجرة، أم إنها اكتفت بهذا القليل، والأقل منه، برؤية دنيا ستولد، في يوم ما، خارج الجدران...؟
  ولكنه ضغط على علامة المحو، فاختفت رسالته، مستمتعا، بشرود، للمساحة  وهي تتقلص، من غير سواد.
[21] رسالة/7
    أنا لم انس، يوم صرخت: أسرع، القذائف تنهمر علينا، كحبات الحلوب، فأسرعنا، ولم نتوقف، لأنها مكثت كأنها تقصدنا. فسمعت صوتك: لماذا يستهدفون بيوتنا، وشوارعنا، وأنهارنا، وحدائقنا. فقلت لك: لا تتوقف. ثم وجدنا أنفسنا في درب مغلق. امرأة ما همست: من هنا. فسحبتك بقوة وهرولنا. كان الوقت عند الظهيرة، وكانت القذائف تتساقط بغزارة، فسألتني:
ـ هل سقطت فوق رؤوسنا ..؟
ـ لا .
وأسرعنا، فسألتني:
ـ هل أصبت ..؟
ـ لا .
وتابعنا الهرولة بحثا ً عن جدار نحتمي به، وعندما لم اعد اسمع صوتك، صرخت:
ـ هل أصبت ..؟
ـ لا .
   وهدأ القصف، فلم نعد نسمع أزيز مرور القذائف، فسألتني:
ـ كيف عرفت أنني لم اصب..؟
  فقلت لك، قبل ان تكمل عبارتك:
ـ عندما نموت، عندما نموت فقط، عندما نموت لا نعرف إن كنا موتى أو على قيد الحياة!

[22] طيور
    لمن يبوح، بل لماذا ـ دار بخلده ـ بموت المرأة التي أحبها لسنوات طويلة، حتى كادت ان تفقده عقله، وقد رحلت، أو ـ هو ـ لم يبد اعتراضا ً ـ حتى صدم بالخبر..؟ أتراها هي التي أرادت ألا يدعها تغيب، وهي، قال مع نفسه بصمت، استعدت للرحيل. ثم، فجأة، رفع صوته: تبدو كأنها تفتح النافذة وتدعو الطيور للمشاركة في الإصغاء إلى النداءات النائية.
    لا. وحزم الأمر:  فلا احد باستطاعته ان يواسيني، ولا حتى أنا امتلك قدرة الحسم. ولم يجد ـ حتى في نفسه ـ إلا ان يتتبع أصداء صوتها الخفية، تناديه، فيفتح النافذة، ليشاهد سربا ً من الطيور تحلق عاليا ً، ولم تجد تضرعاته لها لتشاركه الإصغاء، أو تجلس معه للمواساة، فقد كان يراها تدور، بمحاذاة غيوم بيض، وقد غابت عنه تماما ً.
[23] الصرح العظيم
ـ من شيّد هذا الصرح العظيم..؟
كانت حبيبته تصغي له وقد رافقته الزيارة، فابتسمت، وقالت بصوت رقيق:
ـ آلاف العبيد هم الذين شيدوه، آلاف الآلاف ماتوا كي يبدو بهذه العظمة ..!
هز رأسه وسألها:
ـ كي يكتسب هذا المجد، ويصبح رمزا ً للحضارات ...؟
   لم تجب، وقد اكتفت ان أومأت له بالصمت، وتتبع خطاها، فدار بخلده، انه ـ هو الآخر ـ لا يعرف لماذا انصاع لها، مع انه، معها، لا ينوي ان يبني إلا بيتا ً له نافذة صغيرة يراقب منها السماء.,
[24] الجنرال يحلم
  أمر الجنرال جنوده بصوت حاد:
ـ اقتلوهم، أينما تجدونهم، في الممرات، وخلف الأشجار، أو داخل الخنادق، اقتلوهم، ولا تتركوا أحدا ً منهم.
    صمت لحظة، وقال لنفسه، متابعا ً:
ـ فلو لم تفعلوا ذلك، وتنفذوا الأوامر، سيقتلونكم، أينما كنتم، في الشوارع، وفي الحدائق، أو في بيوتكم ..
   وخفض صوته، مخاطبا ً لا أحد:
ـ لأننا إن لم نقتلهم، سيقتلوننا، وإن لم نفعل فإنهم لن يدعونا نعيش بسلام...، إنها الحياة، يا أبنائي البواسل، كر وفر، دورة...، وعلى كل منا ان يؤدي دوره فيها.
    وأفاق الجنرال العجوز، فلم يجد أمامه إلا زوجته تحتضر، منذ سنوات، بعد انتهاء الحرب، فخاطبها:
ـ آن لي ان ابدأ حياتي ثانية! فالمعركة لم تنته، آسف، يا عزيزتي، لم تنته بعد، وآن لي ان ابحث عنها.
[25] عودة
   نظر إلى المجاميع البشرية التي كانت تزحف، فسأل من كان بجواره:
ـ في هذا الفجر، إلى أين تراهم يهرولون، ويزحفون، ويسرعون ...؟
ـ إلى المكان الذي لا عمل فيه ..!
ـ ولكنني اعرف أنهم، طوال حياتهم، كانوا بلا عمل!
ـ أنت سألت، وأنا أجبت.
   فخاطب نفسه بصوت مسموع:
ـ علي ّ ان أعود أنا أيضا ً إلى المكان الذي لا عمل فيه؛ أعود إلى الأرض، بعد ان كنت خرجت من رحمها، الذي كنت عاطلا ً فيه عن العمل أيضا ً.!

[26] المثلث
ـ قل لي، وأنا رأيتك تقتل جارك، هل كنت تفكر في الذهاب إلى الجنة..؟
    لم يتفوه الآخر بكلمة، بل تركه يحدق في فوه كاتم الصوت، فكان يرى الفوهة مثلثة الشكل وليست دائرية، فابتسم، من غير قصد، أو أراده، فصرخ الآخر فيه:
ـ أتسخر من الجنة أيضا ً..؟
ـ لا..بل من المثلث!
  قرب رأسه قليلا ً منه، وسأله:
ـ أي مثلث تقصد ..؟
ـ الذي لم اعد أراه الآن ..!
   فضحك الآخر ساخرا ً، لسبب ما، وغادره. فناداه، وهو غير مصدق انه نجا من الموت:
ـ إلى أين ...؟
ـ ابحث عن آخر اقل جنونا ً منك، كي أرسله إلى العالم السعيد!
 30 آب 2013