بحث هذه المدونة الإلكترونية

إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

السبت، 17 مارس 2012

ليلة التمثال-قصة قصيرة- عادل كامل


قصة قصيرة
ليلة التمثال
عادل كامل
لا أحد يعرف اسمه الحقيقي، عدا لقبه الذي اشتهر به، وهو " المثال" أو "النحات" وحتى هذا اللقب لا أحد يعرف كيف حصل عليه أو من اطلقه لكي يتميز بين رجال حينا .
كان هاديء الطباع، متوسط القامة، يخرج في الصباح ولايعود الا قبيل الغروب .أعزب . ولا احد رأى معه أحدا . إلا أنه كان موظفا في الغالب، ومن النمط الذي يؤدي عمله بدقة وصمت فلم تكن لديه علاقات تذكر، ولم يكن وجوده على مدى ربع قرن في حينا… وان أسرار حياته لا تعني أحدا. ويبدو انه استسلم لهذا الأمر، بطيب خاطر.. ففي الليلة الغامضة، ليلة التمثال، اختفى من داره، ولا احد يعلم الى أين ذهب .
في مساء تلك الليلة، ولأسباب اجهلها، كنت أراقب المثال في غرفته، وهي صالة متوسطة الحجم، وقد انتصب أمامه تمثال لسيدة … كنت أراقب الرجل من نافذة صغيرة وهو، كما يبدو، يضع اللمسات الأخيرة، لقد تذكرت هدوء الرجل… أما في تلك اللحظات . فكان يتكلم بصوت حاد، مرتفع . وهو يشرب الخمر. كدت اهرب، لولا الفضول الذي جعلني أراقبه، قال للتمثال :
" وألان سأوشك على النهاية .. منذ ربع قرون وأنا اعمل، بلا كلل… "
وسأل نفسه :
" هل صورتك على حقيقتك يا عروسي… هل أنت هي ..؟ "
وتجمد .. ابتعد عنها … وأضاء مصباحا ذهبيا… ثم اقترب من التمثال:
-" لا اعتقد ان هذا الحجر سينطق ليقول لي : حسنا .
فعلت . أوه … أنا لا أحب المرأة وهي تتكلم . لا أحبها وهي صامته. أنا في الواقع لم أحب إلا هذا الخيال الذي رافقني طوال حياتي .. هذا الخيال العنيد … المؤلم… الجميل أكنت احبك حقا أم كنت أخاف منك؟ لا ابحث عن إجابات، أنا في نهاية حياتي وعلي أن أغادر ياأيتها المرأة العنيدة …"
ثم أبتعد عنها … جلس يقلب في مجموعة من الاوراق… كان يدخن ويشرب بلذة . أنا في الواقع لا أشرب لكني أعرف ماذا يفعل الخمر في بعض الرؤوس :
-" لم أكن أشرب لا نساك او اتذكرك… كنت لا أعرف غير ان أصنع هذا المجد."
ورفع صوته:
-" هذا الوهم . عندما انتهى من قصتي معك سأغلق هذا الكتاب . بالتأكيد كنت معي كل هذا الزمن … وكنت اعترف لك .. اكتب لك .. واغني. الاف المرات قلت انت نجمتي وكنت اعرف، في اعماقي، ان المرأة هي المرأة، والوهم هو الوهم… والقدر هو القدر لكن لا … أنا اخترتك من بين نساء الارض … ها …ها… أقصد من بين نساء هذه المدينة … فأنا لم أزر أي مكان غير هذا المكان، غير هذه المدينة.. وأحببتك" اقترب منها قليلا:
ـ" ماذا تقولين عن نفسك .لن ينطق الحجر ألان .. فانا اعرف أسراره .مثل القبر الذي لايتكلم .. إنها الأسرار التي تقود الى الأسرار .أسرار بسيطة مثل نسمات فجر .. لكن كلا ياروحي ..أنا أحببت التمثال الذي فيك ..وما فيك في التمثال .. وفي هذه الليلة سانتهي من قصتي كلها .فبعد اليوم لن أراك ولن..لن.. أعود اليك ..لقد منحتك حياتي، ثم، بهدوء، سأمنحك ِ موتي أيضا"
شرب وكان يدخن ..وقد جلس فوق الأرض:
ـ"علي أن أضع آخر اللمسات ..بل آخر لمسة..قبل أن أستمع الى صوتك .."
وصمت فترة طويلة من الزمن.كان يكتب ويدخن .ثم نهض وكان يدور حول التمثال . صرخ :
ـ" لماذالاينطق الحجر؟ اووه..أعرف.. أنا الوحيد الذي يعرف..يعرف سر هذا الصمت ..فأنا لم أعش قصة حب عابرة.كنت أدرك بعقل غامض ماذا كان يحدث لروحي من صخب وجنون ..إنما لم أسمح لخيالي إلا بهذا العبور . انه ليس القدر.. إنه أبعد وأعمق من هذا الليل .لو كنت معي لكنت امرأة مثل كل النساء.."
ورق كلامه:
ـ" كنا ندور في المدينة، معا،وكنا مثل نجمتين. لقد قلت لك ذات مرة: الحب لايختلف عن الوهم .فجاة لا أحد هناك .الحياة تبقى.. وأنا أردت أن يبقى هذا الحب .هل أنا على وهم..ستقولين،بسخرية :لا.لا.لا.ثلاث مرات،إنه صياح الديك..إنه الخصب الذي أفسده الزمن .لكن حبي لك صار قصة.."
وصرخ :
ـ "علي أن أصمت، في آخر ليلة من ليالي عمري.على الرجال أن يعرفوا ثمن الكبرياء .حتى اللص الجيد وهو يقتل يرفع راسه الى السماء.القتلة والعشاق لاينظرون الى مزابل الدنيا .الكلاب فقط تبحث عن العظام .ياله من مثل وسخ، غير لائق، وأنا في آخر ليلة معك يا تمثالي "
أقترب منها :
ـ"لا أعرف هل أنت على قيد الحياة ام ستبعثين حية مرة ثانية . التراب بشر، نساء ورجال واشجار وطيور ومنقرضات لاتحصى ..وأنا عند لحظة الحب المقدسة الاولى، بالعقل المتوهج والمر، أبعدت صمت الكلام. تفسخ اللذات، لكن، لسوء القدر، كنت مثاليا ..هل تصدقين اني أنا أستسلمت لك، على مدى ربع قرن وكأنك أنت أو لاأحد.أريد أن أعترف لك، المرأة لا التمثال:
اني لو كنت عشت معك، لذهب هذا العمر كله، كما يذهب زمن الاشجار . هل أبدعت شجرة سرها بسر أعمق منها .أنا فعلت ذلك بدافع الجنون . كنا في العام الاول لانعرف ماذا سنفعل بعد الجامعة .انا اصبحت موظفا وعاشقا لهذا الصمت انت، لااعرف مصيرك ولا قدرك ربما الان أنت اميرة عند أحد أثرياء المدينة..ماذا لو كنت معي؟..ماذا كان سيحصل من أخطاء ؟أنا كنت أتغذى بالخيال والاحلام والرغبات المستحيلة .أتذكر مرة واحدة قلت لي فيها : أترك الخمر .فقلت لك:كان عليك ان تقولي ذلك على نحو مختلف .العشاق لايتكلمون باصوات مرتفعة .عشقتك كنجمة على الرغم من انني أعرف أن حجرتنا برمتها ستذهب الى مصيرها .كل شيء الى زوال.ولم ابك أو أحزن أو أتراجع.كانت الحياة عنيفة وقوية ..لكني لم أبدل تمثالي"
كدت اصرخ فالرجل يتكلم على نحو عجيب.. لقد سحرني منجذبا إليه لدرجة اني فكرت أن أطرق الباب عليه.. الا اني تريثت .. فأنا كنت بمثابة جاسوس عليه.
تابع كلامه:
ـ" في ليلتي الاخيرة سارسم الابتسامة بضربة كنت أنتظرها منذ ربع قرن .
ستبتسمين للأجيال كلها… سعيدة بجمالك، خالدة بعض الوقت، بهذه الابتسامة المرة".
ونهض. كان مثل تمثال يحدق فيها. تراجع خطوة، وتقدم خطوة . لم يشرب ولم يدخن. كان يحدق في محيا التمثال الذي كان يشع فعلا. كنت أنا الذي أراه، وكان متجمدا تماما. وفي لمحة بصر، ضرب بأزميله ضربة شفافة خفيفة فوق نهاية الفم . كنت أتوقع انه سيصرخ " انطق" لكنه قال، بهدوء.
-"الآن انتهى عملي…"
فجأة، قالت له:
-" أريد ان أتكلم …"
لم أكن مخمورا….
-" تكلمي…"
-"تكلم أنت …"
-" الآن سيشيد هذا التمثال وسط المدينة .."
-"تحت الشمس المحرقة … وفي البرد. أيها الحبيب هل أنفقت حياتك كلها لتذلني …"
ورفعت صوتها :
-" ليراني عابر السبيل .. أكنت مقدسة في حياتك حقا؟ أم هكذا سيجلس السكير ويشتمني.. سيقول : لا يعترف الرجل الا لرجل … وسيلعن كل امرأة مثلي. وسيأتي الاطفال في النهارات ويتندرون مني .. وسأتحول الى ... وفي يوم من الايام سيأتي بعض اللصوص ويسرقونني . هل أنا روحك . بل ربما سيبصق علي مجنون. أو ستهدمني طائرات الاعداء… أو سأتحول الى عش طيور…".
تجمد تماما . كان يصغي اليها بذهول . ولم يفتح فمه . قالت :
-" أنت صنعت مني هذا التمثال وأنا كنت قد أحببتك بدمي وروحي. ماذا أفعل بهذا التمثال اليوم أو بعد اليوم و.؟ أنا لم اشع بالنور، كنت خجولة مثلك . كنا فقراء وكاد الحب ينقذنا لا من الفقر بل من العذاب… ثم لماذا لم تبدل تمثالك؟ الاخطاء كانت تلاحقك منذ البدء. ومن قال الانسان الى زوال… من قال العشاق لايتكلمون أو يرقصون أو تطربهم لعنات الغيوم . ثم اني لم أطلب منك أن تترك لذة الخمر إلا عندما كانت تقتلك . أنا كان الصمت عذابي ومسرتي .. ومثلك، أنا كنت نجمة . أنا على قيد الحياة وميتة. والبشر تراب. والحب المقدس يدوّن بالافعال . واللذة لاتذهب، وأنا لم أكن أنا بل أنا مثل امرأة ككل النساء."
صرخ :
-" سأغادر .. قلت إنها ليلة التمثال …"
-" لا … الى اين تذهب .. أنا صرت أحبك بروحي …"
وتابعت :
-" ربع قرن وأنا هنا سجينة معك "
-" وصنعت لك هذا التمثال …"
" أنتظر .. أين ستذهب … ولماذا أيها المثال العاشق ؟ "
لم يجب .. فقالت بكلمات رقيقة :
-"لن يراني عابر السبيل .. لانه لايمتلك البصر . وأنا كنت مقدسة في حياتك حقا لان السكير لن يشتمني بل سيتعلم الحب. بل سيقول : لولا المرأة لصارت الحياة قاسية قاسية . والاطفال كلما شاهدوا تمثالي في النهارات سيرقصون ويغنون.. والطيور ستكون سعيدة، تغرد وتغني وتسعد الناس .. وإذا سرقني اللص فانه لن يبيعني بثمن بخس .. وأنا روحك فالروح روح. والمجنون له أعذاره، أما الاعداء فأنا أمامهم حجارة وأعرف ماذا أصنع بهم دفاعا عنك ياأيها الحبيب الذي صنعتني من الصخر " .
قررت أن اهرب . وهربت بالفعل . لكني تريثت برهة سمعت " المثال" يقول لها:
-" من عذب من ؟… "
" لا احد"
أقترب منها . كانت قد تحولت الى امرأة حقيقية ثم أبتعد عنها.
قال :
- " خيالي " خيالي المر… سيطاردني الى الابد …"
-"أنت ستطارده .."
-"احدنا سيقتل احدنا .. آنذاك ستنتهي الحكاية .."
-"بل ستبدأ، أيها الرجل أنت علمتني الأسئلة … وسيكون لنا أبناء وأحفاد… يحملون الأسئلة .."
-" ولن تنتهي القصة بموتي …"
-إنها ستبدأ …"
فكر برهة وسألها :
" مع من ؟ .."
-" معك، معك أنت .. هل لديك شك ؟ "
ثم اختفى …
-" أين أنت ..؟"

لا اعرف لماذا فكرت إنها، وفي المكان ذاته، في حينا، ستشيد له تمثالا..فنهاية القصة، أو بدايتها، تتطلب هذا الحل، لكني في واقع الأمر، أهملت الموضوع، ولم انتبه له، إلا عندما، في ليلة باردة، تحولت الى تمثال.


1992

الجمعة، 16 مارس 2012

البصرة وإن جار الزمان -كاظم فنجان الحمامي






البصرة وإن جار الزمان

غريب على الخليج

لقد فاض طوفان الأشجان حتى صار تسونامي. .
فقد كنت أتشمس في حديقتي الصغيرة, أتأمل نخلتي البرحيتين وقد تفتقت طلعاتها, ويقوم الفلاح بتلقيحها, وأنا أراقبه وهو يأتي كل موسم لتلقيح البرحيتين البصريتين وتشذيب كربها وسعفاتها وربط عذوقها حينما تثقل ثمارها .. شممت رائحة اللقاح (فكبسلتني) مثل حشاش مصري في نشوته تحت أشعة الشمس الدافئة .. غادر الفلاح بعد أداء عمله وجلست على الكرسي تحت أشعة الشمس .. وحلقت في سماء غير سمائي, طرت خفيف الجناحين كطيور القطا إلى بصرتي وبيتي وأصحابي .. أغفيت في مكاني حالما بأنني في البصرة وفي بساتين الجنوب أشم رائحة اللقاح والقداح والجوري مخلوطا بنسمات من شطنا الذي كان رائعا ..

غمرتني ذكريات عزيزة, استعرضت في خيالي أيام الصبا والشباب والبصرة وأهلها الطيبين, كنت مغمض العينين وكأني في نشوة حلم وردي, تحاصرني خيالات الماضي.. الشمس ليست شمسي, ورائحة الطلع ليست رائحة بساتيني .. شمسي هناك تدغدغني بحنان بالغ .. تسلمني إلى إغفاءة طفولية حيث يأتي الحاج عبود رحمه الله والد نجم بقوري الشاي (السنكين) بعد وجبة دسمه من الصبور والدولمة .. فنشرب حتى الثمالة .. ما ألذ الشاي في ربوع بلادي ؟ تذكرت أيامي في هذا الفصل الربيعي حيث كنا كصيادين نودع الموسم حين كانت الطيور المهاجرة تستعد للعودة إلى مواطنها واليوم اسأل نفسي : أليس هناك عودة للوطن بعد 42 سنه من الاغتراب ؟ ..

حتى الطيور تريد العودة إلى أعشاشها, وهي تقطع عشرات الآلاف من الأميال, ونحن على مرمى حجر من الوطن ولا نستطيع الوصول إليه, ؟ الجنسية والجواز والهوية لا تنتزع الإنسان الشريف من جلده, فالحنين يسري في شرايينه نارا تلظى .. أتمنى زيارة مدينتي وبيتي, والتقي أحبائي الذين غادر معظمهم عالمنا المضطرب دون أن نحمل نعوشهم فوق أكتافنا, ولا نقرأ الفاتحة على قبورهم, ولا نحضر مجالس عزائهم.. إنها والله حسرة لا تزول, استغرقت في أحلامي الوردية وأنا استنشق رائحة اللقاح وافتقدت رائحة الصبور المشوي والدولمة البصرية والطرشي الخصيباوي والخبز الحار وأغنية (على درب اليمرون أريد اكعد وأتاني) .. يا ترى هل سأرى بصرتي كما تركتها قبل الاحتلال؟. هل استطيع أن أنام قرير العين من دون أن يفاجئني زوار الفجر للبحث عن السلاح أو إلصاق تهمه (4 إرهاب), أو صفة إرهابي تكفيري, وهابي, أو بعثي صدامي ؟ .. هل استطيع أن أنام في بيتنا بالصنكر, الذي تم هدمه ظهرا على صوت طير (الشكرك) المزعج, بعد أن غفت عيوني على تغريد البلابل ؟ , هل سأرى الوجوه البصرية, التي تشع بالطيبة والمحبة ؟, أم وجوه كالحة كذئاب جائعة ؟.
تساؤلات كثيرة تدور في البال .. ثم تختلط الأمور فأرى الكآبة مخيمة على أولئك الطيبين الذين كانوا عنوانا للعراقي المضياف الدمث الأخلاق, الذي لم تغيره المآسي والمحن, فكم مرت عليه من كوارث, لكنه كان صامدا فقد حارب أعداءه الخارجيين بكل ضراوة, ودفع الدماء والأرواح رخيصة, ورد كيدهم إلى نحورهم, لكنه اليوم يحارب من ؟. أيحارب الذين يدعون بعراقيتهم وانتمائهم وهم الذين ساموا هذا الشعب الذل والهوان والجوع ؟, وكيف يقتل العراقي أخاه ؟, وكيف يداهم الجندي والشرطي بيت أهله ؟, ويحطم أثاثهم ويروع أطفالهم ؟, ويغادر بابتسامة صفراء تشفيا وحقدا.. إن جاءك الضيم من عدو فلا حول ولا قوه إما أن يأتيك من ابن وطنك فهي الطامة الكبرى ..

أتمنى العودة, فعلى الأقل تستقر أجسادنا فوق الثرى, الذي ولدنا عليه لكن أن تموت كمدا في بيتك وأنت تشاهد إن القتلة والمجرمين واللصوص هم من مواطنيك وليسوا أعداءك فلا تملك إلا أن تتمنى جحيم العدو ولا جنة هؤلاء.
استيقظت من أحلامي التي استحالت إلى أحلام رمادية أعادتني بقسوة إلى عالمي, وأنا أطيل النظر إلى النخلتين البصريتين اليتيمتين اللواتي ربطن مصيرهن بمصيري, على الأقل يشربن ماءا حلوا, وينعمن بالأمن والأمان, فلن تصرخ مثل نخلات الجنوب من الظمأ والإهمال, ومن الماء المالح المسموم بمخلفات مصانع جارة السوء .
لا ادري هل سيكتب الله لي أن تكتحل عيني برؤية بيتي وصحبي وحديقتي وشمسي ؟. أم أظل اقطع باقي الخطوات في صحراء الاغتراب ؟؟؟. .
تلك كلمات أثارتها رائحة طلع النخيل, والويل كل الويل لو كانت معها نسمات القداح والجوري حينها سيفلت العقل من مكانه .إلى الله المشتكى. .

غالب المسعودي - التفتزاني ولغز الايمو

غالب المسعودي - التفتزاني ولغز الايمو

الاثنين، 12 مارس 2012

ثمن معجزة الكهرباء-كاظم فنجان الحمامي

ثمن معجزة الكهرباء

جريدة المستقبل العراقي 11/3/2012

كاظم فنجان الحمامي

قبل بضعة أيام وصلتني رسالة الكترونية من أخي الكبير الأستاذ سهيل المطوري, تروي قصه طفلة صغيرة كانت في يوم من الأيام بطلة لمعجزة إنسانية وقعت في مكان ما من هذا الكون الفسيح, سأعيد عليكم قراءتها هنا بعدما أخبركم بما تركته في نفسي من انطباعات وهواجس ماانفكت تقفز أمام عيني كلما تعمقت في تفاصيل المعجزة التي تحققت للطفلة, وقارنتها بما يحصل في بلد الأحاجي والألغاز والمعجزات من غياب تام للكهرباء التي أضحت عودتها من المعجزات. .
لقد كانت تلك الطفلة سببا في استنفار ملائكة الرحمة, فتحقق الحلم الذي كاد أن يكون مستحيلا بمبادرة طيبة من رجل واحد تعاطف معها, وهب لنجدة شقيقها, فمتى تتحرك عواطف أصحاب الحل والربط حتى يوفروا لنا الطاقة الكهربائية التي نصبت أبراجها فوق أكتاف المستحيل, ولوت أسلاكها حول أعناق الأمل فخنقته في عز الصيف, وشحنت مولدات التعقيد بأمبيرات التعطيل, فتبدد الحلم القديم في سراب الوعود المؤجلة. .

رجل واحد فقط عصفت به الغيرة والحمية, فتفجرت على يده القدرات الإنسانية الخارقة, ورجال وضعنا ثقتنا بهم, وذرفنا الدموع خارج مكاتبهم المحصنة, فأشاحوا بوجوههم عنا, وتركونا نلوذ بالظل خوفا من أشعة الشمس الحارقة. .
لا أريد أن أطيل عليكم, اقرءوا القصة ثم احكموا على الذين تباطئوا في تأمين الطاقة الكهربائية لشعب عريق يعيش منذ ربع قرن في أفران خط الاستواء. .
توجهت الطفلة سارة, ذات السادسة إلى غرفة نومها, تناولت حصالة نقودها من مخبئها السري في خزانتها, ثم أفرغت محتوياتها على الأرض, أخذت تعد بعناية ما جمعته من نقود في الأسابيع الفائتة, ثم همست في سرها: ((إنها بالتأكيد كافية, ولا مجال لأي خطأ)), أعادت النقود إلى حصالتها, ولبست رداءها, وتسللت من الباب الخلفي متجهة إلى الصيدلية, التي لا تبعد كثيرا عن دارها. .
كان الصيدلي منشغلا, فانتظرته صابرة, بيد إنه لم ينتبه إليها, فحاولت لفت نظره دون جدوى, فما كان منها إلا أن أخرجت قطعة نقود معدنية من حصالتها, فألقتها فوق زجاج الطاولة, التي يقف وراءها الصيدلي, عندئذ انتبه إليها, وسألها بصوت عبّر فيه عن استيائه: ((ماذا تريدين أيتها الطفلة, ألا ترين كم أنا مشغول في مناقشة شقيقي القادم من شيكاغو, والذي لم أره منذ زمن بعيد ؟)), فأجابته بنبرة طفولية حادة: ((إن شقيقي الصغير مريض جداً, وبحاجة لدواء اسمه (معجزة), وأريد أن اشتري له هذا الدواء)). .
أجابها الصيدلي وعلامات الدهشة ترتسم على وجهه: ((عفوا صغيرتي, ماذا قلتي ؟؟؟)), فاستأنفت كلامها قائلة بكل جد: ((شقيقي الصغير اندرو يشكو من مشكلة في غاية السوء, يقول والدي أن هناك ورماً في رأسه لا تنقذه منه سوى (معجزة), أرجوك أفدني حالا ؟؟)). .
أجابها الصيدلي بلهجة متعاطفة معها: ((أنا متأسف يا صغيرتي, فأنا لا أبيع (معجزة) في صيدليتي)).
ردت عليه الطفلة بثبات, وقالت له: (اسمع, أنا معي ما يكفي من النقود لشراء الدواء, فقل لي كم الثمن حتى أدفع لك الآن ؟؟)).
كان شقيق الصيدلي يصغي لكلامها, فتقدم منها, وقال لها: ((ما نوع المعجزة التي يحتاجها شقيقك أندرو ؟؟)). .
إجابته الطفلة بعينين مغرورقتين بالدموع: ((لا أدري, ولكن كل ما أعرفه, إن شقيقي مريض جدا, قالت أمي إنه بحاجة إلى (معجزة), وقال لها أبي إنه لا يملك نقودا تغطي تكاليف العملية الجراحية, لذا قررت أن استخدم نقودي)), فسألها شقيق الصيدلي مبديا اهتمامه: ((كم لديك من النقود يا صغيرة ؟؟)), فأجابته مزهوة: ((معي دولار واحد, وعشرة سنتات, ويمكنني أن اجمع المزيد إذا أحببت)). فأجابها مبتسما: (يا سلام. . دولار واحد وعشرة سنتات, يا لها من مصادفة, إنها تساوي بالضبط ثمن المعجزة التي يحتاجها شقيقك)), ثم تناول منها المبلغ, وامسك بيدها, طالبا منها أن تقوده إلى دارها ليقابل والديها, وقال لها: أريد رؤية شقيقك أيضا.

كان ذلك الرجل هو الدكتور (كارلتون ارمسترونغ) جراح معروف, وهو الذي تبرع بإجراء العملية الجراحية للطفل اندرو على نفقته الخاصة, وكانت عملية ناجحة, تعافى بعدها اندرو تماماً.
بعد بضعة أيام, جلس الوالدان يتحدثان عن تسلسل الأحداث منذ اليوم الذي تعرفوا فيه على الدكتور (كارلتون) وحتى نجاح العملية, وعودة اندرو إلى حالته الطبيعية, كانا يتحدثان وقد غمرتهما السعادة. قالت الوالدة في سياق الحديث: ((حقا إنها معجزة)), ثم تساءلت: ((ترى كم كلفت هذه العملية ؟؟)). .
رسمت الطفلة على شفتيها ابتسامة عريضة, فهي وحدها تعلم إن (معجزة) كلفت بالضبط دولار واحد وعشرة سنتات. .
تصوروا معها دولار واحد وتحققت معجزتها, ونحن معنا مليارات الدولارات ولم تتحقق معجزة الكهرباء. .
وقفت وحدها تبتهل إلى الله حتى تتحقق المعجزة, ونحن نقف بالآلف, لكننا نبتهل بقلوب مشتتة ونفوس متنافرة فلم تتحقق معجزة الكهرباء في ديارنا. .
وقف معها رجل واحد, ونحن وقفت معنا طوابير من فرق التكنوقراط, والوزراء والأمراء, ولم تتحقق معجزة الكهرباء. .
ترى ما هو الثمن الحقيقي لمعجزة ثبات التيار الكهربائي واستقراره في عموم المدن العراقية ؟. ومتى تتوقف آخر مولدة منزلية عن الضجيج ؟. .
--