بحث هذه المدونة الإلكترونية

إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الجمعة، 10 فبراير 2012

قصة لوحة: الناعور الذي أراد أن يقول شيئاً -صائب خليل .




صائب خليل .

6 شباط 2012


كنت أقضي عطلة الصيف في معظم عقد الستينات في بيت جدي في “عانه”. (يكتب إسم مدينة “عانه” بهذا الشكل عادة "عنه" لكني لا أرى مبرراً لكتابتها هكذا، خاصة أنها تعطي لفظاً خاطئاً لمن لا يعرف المدينة.) وبيت جدي واحد من مجموعة بيوت ضمن "حوش"، وهو شيء وسطي، بين البيت الكبير لعائلة كبيرة، والمحلة الصغيرة.
لـ "حوش حسين" باب خارجي كبير متداعي، يبدو أنه بني للدفاع عن سكانه من هجمات الغزو التي حدثنا عنها أهلنا. يطل هذا الباب على "الدرب الجواني" (الداخلي) وهو شارع ترابي متعرج يخترق “عانه” من شرقها إلى غربها، وكثيراً ما مشينا به ولعبنا الدعبل. فالشارع الترابي بانحناءاته وارتفاعاته ورقة ارضيته، هو بيئة صديقة للدعابل وللأقدام الحافية.
وفي “عانه” شارع ثان خارجي يفصل المدينة عن التلال الصخرية التي تحيط ب”عانه”، وتجعل منها شريطاً رقيقاً طوله 11 كلم، وعرضه لا يزيد عن بضعة مئات من الأمتار. بين "الدرب الجواني" والنهر، تطل البيوت المحظوظة على منظر ساحر لجزر الفرات، وحيثما سمح المكان، تواجدت المقاهي التي تطل على النهر. وبين دربي "“عانه”" الوحيدين، خط من البيوت وبساتين النخيل والحمضيات ذات الأسيجة الواطئة، ثم يأتي "الدرب البراني" (الخارجي) والتلال الصخرية. ويربط هذا الطريق الأخير "“عانه”" بـ "لواء الرمادي"، كما كان يسمى، وبقية المدن التابعة له مثل هيت وحديثة، من جهة، ومن الجهة الأخرى يستمر الطريق نحو ناحية "“راوه”" القريبة، متلوياً بين البساتين عن اليمين والتلال التي تتحول إلى مغارات نسجت حول بعضها قصص الجن، وأشهرها مغارة "أم حجول".

وكان الشباب يتراهنون على شجاعة بعضهم البعض في من يستطيع أن يذهب في منتصف الليل ويضع علامة في مغارة أم حجول، ثم يذهب رفاقه في الصباح ليتأكدوا منها. ولم يكن يجرؤ على ذلك إلا أشجع الشباب. ويروى أن واحداً منهم، ذهب فتأخر كثيراً، فقلق رفاقه عليه فذهبوا يفتشون عنه، فوجدوه في المغارة مغشياً عليه. وحين عاد لوعيه، قال أنه وضع العلامة المتفق عليها، وحين هم بالعودة إذا بأحد ما يمسك دشداشته! وتبين أن دشداشته قد حصرت تحت الصخرة الكبيرة التي وضعها كعلامة!

على تلك التلال كان "تانكي المي" (خزان الماء) ينتصب شامخاً، وتحته بقليل المدرسة الإبتدائية، وأعلى منها بقليل المدرسة الثانوية ذات الساحة الرياضية البسيطة التي شهدت تحديات وخاصة بكرة القدم وكرة الطائرة التي اجتذبت الشباب بشكل خاص، وكثرما تحولت إلى معارك بسيطة بين فرق مدارس "“عانه”" و”راوه”، خاصة عندما تخسر فرق "راوه" الأكثر مشاكسة وجرأة. ومع الوقت بنيت بعض البيوت المتناثرة على تلك التلال.

وفي الربيع تشهد التلال الأبعد، حركة نشطة للباحثين عن الكمأ والفطر وكذلك "الشعيفة"، وهو حشيش صحراوي أبري، سهل الأكل وطيب المذاق، وأيضاً "الكعوب"، وهو نبات صحراوي شوكي له أزهار بنفسجية كبيرة تؤكل نية أو بإعدادها بطرق مختلفة.
ولا أنسى أبداً حين كانوا ينظفون خزان الماء، فيتراكض الأطفال يبلغون بعضهم البعض بصرخة "سال التانكي"!، فكنا نهرع لنغنم دقائق الشلال القصير العمر الذي كان يحدثه الماء عند الحافة الصخرية، لنأخذاً "دوشاً" بارداً ونحن نلعب ونتضاحك.

عندما صرت في الثانية عشر كنت آخذ كل صيف كامرة خالي، الذي كان قد عاد من دراسته في الخارج، وفلم واحد، ولم أصور به إلا "“عانه”" ببساتينها ونوعيرها وممراتها. لم أكن التقط صوراً لأصدقائي إلا نادراً جداً...فلدي 36 صورة فقط، أخصصها كل عام لتدوين جمال "“عانه”" دون غيرها.

أذكر مرة رآني رجل أحمل كامرتي في المنطقة بين “عانه” و"“راوه”"، فأثار هذا الصبي فضوله، فسألني (السؤال التقليدي هناك)"إبن من" أنا، وماذا أفعل فقلت له، فنظر حوله وأشار إلى النهر وقال: "هذا منظر جميل، خذ له صورة"..أجبته، أتصور أنه سيكون أجمل من فوق هذا التل، ثم تركته وصعدت. وبينما أنا أفكر في الصورة، رأيته يصعد خلفي، نظر إلى النهر وقال: "والله صدقت...هيا خذ الصورة"! .. أجبت.."لا .. لم أقتنع بعد، سأصعد أكثر وسيكون المنظر أفضل"، وصعدت، حتى وصلت لمكان مناسب وكنت أعد كامرتي لإلتقاط صورة فإذا به يتسلق وهو ينهت... نظر حوله إلى النهر، والتوائه عند قلعة “راوه”، والبساتين المنتشرة بتفاصيلها الكثيرة، ونواعير النهر على الضفتين، فهز رأسه وقال عبارة لم أنسها حتى اليوم: "تقدر على زمانك"! وكانت لقطة من أجمل ما صورته في حياتي. هكذا كنت أقضي ايامي في “عانه” بين عشقي السباحة والتصوير، ويمكنكم أن تتخيلوا الصدمة حين قال لي المصور في بغداد مرة: "الفلم محروق"! – كم حقدت عليه! لم يكن عندي شك أنه أحرقه بإهماله.
عندما حان وقت حياة "التشرد"، أخذت معي جميع تلك الصور، وكانت غلطة العمر، ففقدت جميعاً!

النهر في "عانة"، لم يكن ممراً مائيا فقط بالنسبة لنا نحن الأطفال. بل كائن مهيب مليء بالتفاصيل والقصص والسعادة. أمام "حوش حسين" تمتد جزيرة "الحضرة"، تليها إلى الشرق جزيرة "المقطعات". وهكذا تتوالى الجزر كلآلئ عِقد في وسط النهر، وعلى طول “عانه”، بل وبعدها وقبلها أيضاً.
كنا نقضي يومنا في النهر من الصباح وحتى المساء أحياناً، وحسب الموسم ومستوى المياه. مجموعة من أربعة إلى ثمانية أطفال عادة، نسبح عند ناعور "صدر الرحى" (الذي يظهر في اللوحة) ، وكان أهلنا ألقلقين علينا لا يريدوننا أن نذهب عند الناعور، حيث الماء سريع، يخبرونا – دون جدوى- أنه "بيت السعلوة". بل كان الأطفال الأكثر جرأة وأكبر عمراً يمسكون بالناعور، ويجعلونه يرفعهم من النهر عالياً، وهو يئن ويكاد يتوقف من الثقل، ثم يقفزون إلى الماء ليعود يدور مسرعاً ويستعيد إيقاع أغنيته الحزينة!

وفي موسم الفيضان يتغير المنظر، ويربط الناعور بحبال قوية، ويسرع النهر وتصعب السباحة. لكن الشباب الأكبر كانوا يستغلون غرق الأرصفة العالية حين لا يبقى منها الكثير ظاهراً ليلعبوا "الدكة"، حيث ينقسمون إلى فريقين يتصارعان للسيطرة على ذلك الرصيف (الدكة)، وكنا نراقبهم بحسد وببعض الخوف مما كان يبدو في لعبهم من العنف وكل يلقي بالآخر في الماء الجارف بقوة وبلا رحمة.

عند الناعور، كان أهالي “عانه” يقطعون النهر بخط من الحجارة، هي أشبه بالسد غير المكتمل، يسمى "السِكِر" (بكسر السين والكاف وتسكين الراء)، الغرض منه رفع مستوى الماء قليلاً، لكي يدور الناعور بشكل أفضل. ومن المنطقي أن تجد دائماً ناعورين على جانبيه عند ضفتي النهر للإستفادة من ارتفاع الماء. وفي وسط النهر تترك عمداً "الفتحة"، لكي لا يحصر النهر أكثر من اللازم ويدحرج الصخور. وتتطلب إدامة "السكر" عناية لإعادة وضع ما تدحرج تلك الصخور الكبيرة، في مكانها كل عام، وكذلك تتطلب إدامة النواعير أعمالاً متكررة.
الناعور يدور باستمرار، ويأخذ كل صاحب بستان حصته من مائه وقتاً محدداً، قد يكون بعد منتصف الليل وحتى الصباح، وعليه أن يقضي ذلك الوقت يركض لفتح السواقي وغلقها. لا ينقسم مجتمع "عانه" أو "راوه" إلى "عشائر"، وإنما "أحواش" أو "بيوت"، ولم تعرف "عانه" أو "راوه" أو المناطق القريبة منها الإقطاع، ولم تكن هناك فوارق طبقية حادة بين الناس. وكان الجميع تقريباً يمتلك بعض الأرض التي يقوم بفلاحتها، ولم نسمع بأحد يمتلك أراض شاسعة يقوم الفلاحين بزراعتها له، ولم يكن هناك "شيوخ" و "عبيد" أو "اقنان" ولم أر يوماً شخصاً "مسكيناً" يشعر بالدونية في تلك المناطق. وتقسم أراضي البساتين إلى "صلبان" (جمع صليب، عمودان من الخشب متعامدان في الناعور) وهي وحدة قياس مساحة مبتكرة مشتقة من الناعور الذي يتكون من 12 صليب. فالناعور يستطيع ري مساحة محددة من الأرض، ويتم تقسيم هذه الأرض إلى 12 قسم يسمى كل منها "صليب" (تنطق بتسكين جميع الحروف).

"السكر" وصخوره الزلقة المغطاة دائماً بطبقة خفيفة من الماء، وخطوط الأمواج البيضاء التي كان يرسلها ذيولاً طويلة وقصيرة كما تشاهدون في اللوحة، كانت بالنسبة لنا مكان لعب ومتعة لا حدود لها. نلعب ونلهو ساعات عند "السكر" ونحن نقترب شيئاً فشيء من وسط النهر، عند "الفتحة"، وأخيراً نقرر العبور إلى الجزيرة، وعندها نقذف بأنفسنا في "الفتحة" ذلك الممر السريع المخيف من الماء، ونضرب ونضرب حتى نصل الى ذيل الجزيرة الرملي، محاذرين التلكؤء كيلا يجرفنا الماء نحو الجزيرة التالية، "المقطعات". وبعد استراحة وبعض اللعب، نخترق الجزيرة حتى غربها، صعوداً عكس تيار النهر، على طولها الذي يقل عن كيلومتر واحد، وفي طريقنا المظلل بالنخيل والأشجار المثمرة نحصل على "البسر" الأصفر، وهو التمر نصف الناضج، ألذ أصناف الفاكهة، أو هذا ما كنا نراه.
من مقدمة الجزيرة تبدأ رحلة عودتنا فيجرفنا النهر خلال وقت سباحتنا، عائداً بنا إلى "الفتحة" السريعة والضحلة المياه، والتي يجب أن نتسطح عندها فوق الماء قدر الإمكان خشية أن تصيبنا سرعة التيار وصخور القاع القريبة، بأذى، وكثرما فعلت ذلك!

لكن صديقنا "السكر" لم يكن لطيفاً دائماً - تغرورق عيناي بالدموع وأنا أكتب هذا السطر – فما أزال أذكر ذلك المساء الثقيل الحزين الصامت، إلا من نواح أم بعيدة، حين غرق صديقي "كفاح"! كان يسبح لوحده ذلك اليوم، وتخيلته يقفز غاطساً عند "السكر" فتصيب رأسه حجارة قاع كان يتصوره عميقاً، فيغمى عليه ويغرق. وجدوا جثة كفاح في اليوم التالي مع جرح في جبهته! كنت مصدوماً ومذهولاً، لكن لا أذكر أني بكيت "كفاح". يبدو لي أن الأطفال لا يبكون الموت، اليس كذلك؟

الصيف في "عانه" رقيق. حره لا يؤذي ولا يمنع من العمل واللعب، ولكن بما يكفي للتمتع بالسباحة. وحتى حين يشتد قليلاً، فيكفي أن تجلس في "عشة" من سعف النخيل أو أغصان "الغَرَب" وترشها بالماء لتنعم بالهواء المنعش المعطر. والنوم على السطوح في الليل، متعة أخرى! فيتحول السطح إلى ساحة للّعب والمصارعة. وعندما كان النسوة والفتيات من عدة بيوت يجتمعن لعمل "الكليجة" في السطح، ويضاف عدد من المصابيح لزيادة الإضاءة، كان ذلك سبب آخر للإحتفال واللعب حتى وقت متأخر.

لكن ألذ ما في النوم على السطوح، ذلك البرد الخفيف الرطوبة على الوسادة عندما نضع رأسنا عليها لأول مرة! إني أفهم السياب تماماً عندما قال: "واحسرتاه متى انام... فاحس ان على الوساده، من ليلك الصيفي طلا... فيه عطرك ياعراق"!
كنا نخبث على بعضنا البعض، فنتسابق إلى "سرقة" ذلك "الطل" بأن ننام على وسادة الغائبين أولاً، قبل أن ننقلب إلى فراشنا! حتى النوم كان احتفالية في ذلك الزمن، لماذا، وما الذي حدث؟
وأخيراً يهدأ ضجيجنا، ويتوقف سعف النخيل عن الحركة، والعصافير عن الزقزقة. وقبل أن أستسلم إلى النوم، أسمع في ذلك الهدوء من بعيد هدير "السكر" الذي أخذ "كفاح"، وأنين الناعور الذي كنت أتخيله يريد أن يقول شيئاً....ونغفوا!

في بعض المرات كنا "نسيّس" – بكسر وتشديد الياء- (أي نترك مجرى النهر يأخذنا) من “راوه” إلى “عانه”، على "الجوب" المطاطي الأسود. كانت هذه السفرة مع تحضيراتها تستغرق يومناً، لبطء النهر خاصة عند منحنى النهر عند قلعة “راوه”، وكنا نمر في طريقنا بـ "الطِين" (جمع "طينة" .. وهي جزيرة صغيرة مؤقتة تظهر في موسم هبوط النهر وتتم زراعتها بالخيار والرقي واللوبياء الغضة وغيرها. وروى لي أبي مرة كيف كانوا يذهبون لزراعة "الطيَن" والعناية بها في الفجر المثلج وقبل ذهابهم إلى المدرسة). وكنا "نسرق" ونأكل بعض ما تجود به "الطين"، ثم نستمر، لنصل وقد أسدل الليل ستاره على “عانه”، وكل شيء هادئ، إلا هدير "السكر" وصوت الناعور، وصراخنا يملأ النهر، وقد ابتعدنا عن بعضنا.

عندما أتذكر ذلك، أفكر، مسكين طفلي، ومساكين أطفال الأجيال التي تلتنا. لن يمكن له أو لرفاقه أبداً أن يذوقوا طعم تلك السعادة وتلك الحرية وذلك الإحساس بالأمان والضحك الكثير والمشاعر العميقة، وحتى لو كنت مليونيراً اليوم لما أمكنني توفير مثلها له أبداً!

الطريق بين بغداد و"عانه" كان شاقاً ووعراً وطويلاً، وأكثره غير مبلط، وسعيد من ينجو من الدوار حتى نهايته. لكنه لا يخلو من أماكن ساحرة مثل منطقة "البغدادي" ومقهاها الذي يطل على منطقة في النهر، تبرز فيها الصخور وأشجار "ألغَرَب" برائحتها المميزة المنعشة، وتسير عميقاً عبر النهر. كنت أتصور أنه الجنة!
وعندما نصل إلى "عانه"، فأن أول شيء كنت أحرص على رؤيته هو "الشط". وحتى لو وصلنا في وقت متأخر من الليل، فإني أفرك عيني وأقفز من السيارة وأركض حتى النهر. وهناك أبقى دقائق طويلة أستمع إلى صوت "السِكر" وهو يحطم الأمواج بهدير مهيب، ويرتفع وينخفض أنين ألناعور الأزلي...

أذكر في إحدى المرات عندما وصلنا “عانه”، كان جرح في إصبع قدمي قد تورم، ويجب أنتظار شفائه قبل أن يسمح لي بالسباحة. نزعت ملابسي، ووقفت عند الدكة التي نقفز منها إلى النهر. قالت خالتي محذرةً:" يجب أن يطيب جرحك أولاً؟" قلت... "أنا أقف فقط ".. كنت أريد على الأقل أن أقترب من متعة السباحة بقدر ما يُسمح لي به. بقيت هكذا لدقائق طويلة أنظر إلى النهر وأتخيل نفسي اتلوى في مياهه، وأنا ألمح خالتي تحدق بي باسمة ومتأثرة. وفجأة ضممت يداي إلى صدري وصرخت، لم أعد استطيع المقاومة، وقفزت الى الماء!

اللوحة التي أمامكم، تمثل "حوش حسين" على فرات “عانه” القديمة. فيها بعض التفاصيل والشخوص المتخيلة، أما معظمها الباقي فيعود إلى صورة التقطتها للمكان، عام 67 أو 68، وما أزال أذكر تفاصيل التقاطها. البيت على اليسار كان بيت خالتي، التي كانت تنادي إبنها من تلك الشرفة لكي يتغدى، ثم ليتعشى، وأحياناً ليتناول فطوره! فقد كان "سلام" سمكة أكثر مما كان طفلاً. والى يمين البيت مكان أشبه بالحجرة المغلقة في الماء، تغسل فيها الفتيات الصحون ويسبح فيها الأطفال الصغار. هذا الخط الداكن النازل عند حائط الجامع كان مسار ماء التغسيل من الجامع إلى النهر. كان في الجامع "قمرية" عنب كبيرة تطل على النهر، وكان في اعلى مئذنته عش لقالق. البناء قرب الناعور كان طاحونة يوماً ما، ومن هنا جاء إسمه "صدر الرحى"، لكننا لم نشاهدها.

كان هذا المكان أفضل ما يمثل “عانه” بالنسبة لي، بلا منازع، لكن لم يكن ممكن التقاط صورة له إلا من داخل النهر، وكانت تلك مشكلة. وفي أحد الأيام أقنعت صديقي فاضل، أن نذهب في "بلمه" (زورقه) إلى منتصف النهر لنأخذ الصورة!
وبعد قليل كنا نصارع أمواج "السكر" في بلم صغير جداً، "أبو أربعة تنكات" – (مصنوع من أربعة علب دهن الراعي الكبيرة) مهدد بالغرق في أية لحظة، وما قد يعنيه ذلك من احتمال فقدان البلم، وأهم من ذلك بالنسبة لي، تلف الفلم كله وربما الكامرة! ولأني يجب أن أهتم بالصورة فقد كان على فاضل أن يهتم بالبلم لوحده ويجدف بقوة ليتقدم أو يقاوم الإنجراف حتى نصل إلى المنطقة التي ترضي "المصور". وأذكر صراخه وهو يحتج على طلباتي المتكررة الكثيرة: .. "يجب أن نذهب أكثر في عمق النهر" .. "تقدم قليلاً" .. "لا معنى للصورة إذا أخذناها من هنا، شوية بعد" .... "لا .. متكفي لازم نروح أبعد"..."منارة الجامع لا تظهر كلها مع الماء من هنا"... "يا أخي إذا أخذت الصورة من هنا، أما الناعور ما يطلع أو الحوش ما يطلع".."إحنا تعبنا تعبنا.. خللي نحصل صورة زينة"...
وأخيراً، صرنا حيث كانت كامرتي تستطيع أن تحتوي أحب مكان لدي في العالم. لم يكن في الكامرة شيء أوتوماتيكي، ولن أبذر أكثر من صورة واحدة حتى هنا! أضبط المسافة... قدّر فتحة العدسة المناسبة.... السرعة... والآن حاول أن تستقر أكثر ما يمكن ذلك في بلم صغير تؤرجحه الأمواج...و..." كليك" !

وغرقت “عانه”! ومازالت ترن في أذني أصوات صرخاتنا وتلاطم الأمواج ورذاذ الماء وصراخ فاضل القلق من غرق البلم، وصوت الناعور الذي لم أفهم حتى اليوم ماذا كان يريد أن يقول لنا!

الشهيد عبد الكريم قاسم والصراع الطبقي والسياسي -حامد كعيد الجبوري


إضاءة
الشهيد عبد الكريم قاسم والصراع الطبقي والسياسي
حامد كعيد الجبوري
مهما حاول الكثير من الإساءة لهذا الرمز الوطني العراقي الكبير فهو يعلو ويحلق في سماء التاريخ المنصف والجاد ، شخصية كالزعيم الخالد خلقت الكثير من الأضداد ضده ، ومهما قيل ويقال فلم يستطع أحد خدش وطنيته ونزاهته وحرصه على بلد نهض توه من قيود رجعية ومؤامرات ومكائد محلية وعربية وعالمية ، أن الثورة التي قادها الراحل الشهيد قاسم خلقت له أعداء محليون وغيرهم ،سياسيون وعروبيون وغيرهم أيضا ، مساء يوم 8 شباط الأسود تحدث ( مالك دوهان الحسن ) من خلال فضائية العراقية ، والظاهر أن هذا الرجل قد قبض الثمن سلفا ليرسم ما في مخيلته الموتورة ضد الراحل الشهيد قاسم ، ويحق لمالك أن يتحدث عن الزعيم بهذا الحقد الدفين فقد كان قانون الإصلاح الزراعي الذي شرع في عهد الشهيد قاسم ضربة قاسمة وقاسمية لمثل هكذا أقطاعيين منحوا آلالاف ( الدونمات ) الزراعية لقاء خدمتهم المستعمر العثماني والبريطاني على حد سواء ، وهم نفسهم هؤلاء الإقطاعيون الذين أوحوا للمرجعية الدينية حينها لتصدر فتواها المعروفة ، مضافا لذلك قانون الأحوال المدنية ، والغريب أن المرجعية الدينية لم تفتي بشئ مما عمله البعث وأزلام الحرس القومي من سفك للدماء وتشهير للحرمات ، بمعنى أن المرجعية الدينية السنية والشيعية تآزرتا سوية من أجل الإجهاض بثورة الشعب العراقي عام 1958 م ، لأن الثورة حينها أصابت هؤلاء بالصميم ، ولست هنا مدافعا عن ثورة كتب بها وعنها أكثر من 4500 مؤلف ، غير الأطاريح الجامعية والكراريس والمجلات والصحف ، ويدعي الكثير أن الراحل عبد الكريم قاسم ليس سياسيا ناجحا ، وأقول لهم نعم لم يكن قاسم سياسيا ناجحا بمعايير السياسة التي يفهمونها اليوم ، فلو ساس الناس بسيف ( الحجاج ) و ( صدام ) لكان سياسيا ناجحا ، ولو ساس الناس بسياسة ( معاوية بن أبي سفيان ) و ( عمرو بن العاص ) لكان سياسيا ناجحا وفذا ، وأسأل مثل هؤلاء ما يعني لهم قانون ( 80 ) وقانون الإصلاح الزراعي وقانون الأحوال المدنية ؟ ، وما يعني أن يباع النفط العراقي بالجنيه الإسترليني ؟ ، وما يعني بناء مجمعات سكنية بطول العراق وعرضه لفقراء البلد والمحوجين ؟ ، نعم الظاهر أن كل من يعمل للفقراء ويكن منهم ليس سياسيا ، فالسياسي الذي يستأثر بالمال العام ليسوقه لحزبه ومدينته وعشيرته ذلك هو السياسي العبقري ، لا أريد أن أطيل بل سأورد هذه المعلومة التي سمعناها نحن مريدو أحد الصالونات الثقافية السياسية حيث تناولنا الراحل الشهيد قاسم وثورة الشعب العراقي ، قال أحد محدثينا وهو يعمل بعد أن فر هربا من الأنظمة المتعاقبة ليستوطن في ألمانيا الغربية حينها ، قال ارتبطت بعلاقة صداقة مع أحد الوزراء الألمان المتقاعدون ، سألني هذا الألماني قائلا ماذا يمثل لك عبد الكريم قاسم ؟ ، قال صاحبي لأغير من مفاهيمي تجاه عبد الكريم قاسم وقلت للألماني أن قاسم دكتاتور أهوج ، قال وما رأيك بجمال عبد الناصر ؟ ، قلت قائدا عروبيا ( قومجيا ) محبوبا من شعبه ، قال الألماني لو فرضنا أن جئنا بقاسم لمصر وجمال للعراق فماذا سيحدث ؟ ، قلت لا أدري ، أجاب الألماني قائلا لو جاء ناصر للعراق لم يستطع حكم العراق ثلاثة أيام ، ولصنع المصريون لقاسم تمثالا يعدل صرح أبو الهول ، وأضاف الألماني قائلا للعراقي الذي يخفي حب الزعيم بداخله،أتعرف أن قاسم أجتمع مع وزرائه عام 1959 م لمناقشة ميزانية العراق التي هي عبارة عن 100 مليون دينار عراقي ، ويقول كتبت تلك الميزانية على سبورة ب( الطبشور ) تفرس بها الزعيم الراحل وهي عبارة عن أسطر قليلة تحتوي على أرقام عدة ، نهض الزعيم من محله وأخذ الممحاة وأزال كل ما كتب على السبورة وهو يحدق بوجوه الوزراء ، لاحظ تجهما على وجوههم ، نهض مرة ثانية وأعاد بخط يده ما كتبه وزير المالية ( محمد حديد ) ، قال محمد حديد مخاطبا الزعيم أن هناك ثلاثة أرقام تختلف عن ما كتبه حديد ، أخذ الزعيم الممحاة ثانية وذهب لمسح تلك الأرقام الثلاثة ليعيدها كما كتبها الوزير ، وقال الزعيم لحديد عليك أن تراجع هذه الأرقام الثلاثة الممحاة لنناقش ميزانية العراق ، وعودا لبدء أقول للسيد ( مالك دوهان الحسن الجبوري ) حمدا لله إذ لم يكن الزعيم نهازا كغيره ، ولم يكن ملكيا ، ولم يكن وزيرا للبعث المقبور ، ولم يكن وزيرا أمريكيا ، ولم يكن مرشحا لبرلمان عراقي لأكثر من مرة ولم يحصل على خمسين صوتا ممن أخذهم معه لبغداد للتظاهر ضد الراحل قاسم ، ممنيا لهم بزيارة الإمامين الجوادين وكذب عليهم وزجهم ضمن التظاهرة وهم يرددون ( زيارة وسفرة ودينارين ) ، بمعنى أنه أعطى لكل واحد من هؤلاء ديناران كأجر له ، ومع ذلك لم تغرهم الدنانير لينتخبونه اليوم رغم الفضل القديم والجديد لهم ، للإضاءة .......... فقط .

الاثنين، 6 فبراير 2012

رياح الحرب الكونية المحتومة-كاظم فنجان الحمامي



رياح الحرب الكونية المحتومة

آخر التعديلات على سيناريوهات الهرمجدون

جريدة المستقبل / بغداد / 5/2/2012

كاظم فنجان الحمامي

خرج الثعلب العجوز (هنري كيسنجر) من عزلته السياسية التي اختارها بنفسه, وبدا متوقد الذهن بالشر, رغم بلوغه العقد التاسع من العمر, فتحدث لصحيفة (ديلي سكيب) اليومية النيويوركية, بلغة معفرة برماد الكوارث والمصائب والنكبات, فكان حديثه بمثابة الإعلان النظري لاندلاع الحرب العالمية المرتقبة. .

لقد نطق الثعلب الماكر بما لم ينطق به كهنة النظام العالمي الجديد في غابات الطغيان العسكري الكاسح, فأشار في حديثه إلى القوى المرشحة لخوض الحرب, وحدد تشكيلاتها التعبوية, التي ستخوض المنازلة الخرافية الكبرى, ورسم محاورها القتالية, وثبت إحداثياتها بخطوط الطول والعرض, وكأنه يقول للناس: يتعين عليكم متابعة العد الرقمي التنازلي لساعة الصفر المخبأة في فوهات براكين الرعب القادم من جهة الغرب. .

عندما يتحدث رجل بمستوى (كيسنجر) عن حرب عالمية مرتقبة, ينبغي أن نأخذ كلامه على محمل الجد, فالرجل لا يجيد التنجيم ولا يميل لقراءة الطالع, ولا من الذين شغفوا بالتنبؤات المستقبلية, وليس ممن يبحثون عن الشهرة بإثارة الضجيج, ولا ممن يرغبون بإطلاق الفقاعات السياسية الكاذبة, ولا يسعى للمزاح الثقيل في هذه الظروف المتكهربة. اغلب الظن انه يحمل في جعبته سيناريوهات حربية لحماقة جديدة من حماقات النظام الأمريكي المتبجح بقوته, المتباهي بطغيانه. .

قال (كيسنجر): ((أن ما يجري حاليا هو تمهيد للحرب العالمية الثالثة, التي سيكون طرفاها روسيا والصين من جهة الشرق, والولايات المتحدة الامريكية وحلفاؤها من جهة الغرب)). .

وستكون حربا كونية شرسة طاحنة ساحقة ماحقة مدمرة, لا يخرج منها سوى منتصر واحد, وقال (كيسنجر): ((أن واشنطن تركت الصين تضاعف قدراتها العسكرية, وتركت روسيا تتعافي من تداعيات الإرث السوفيتي الثقيل, وسمحت لهما باستعادة هيبتهما المفقودة, بيد أن تلك الهيبة ستكون هي الحزام الانتحاري الناسف, الذي سيحمل أخبار اختفاء تلك الأنظمة وانصهارها في النظام العالمي الاستعلائي الموحد)). .

ويقول هذا الثعلب العجوز: ((ان مراكز القوة في الولايات المتحدة خططت لاحتلال سبع دول في الشرق الأوسط بهدف الاستفادة من ثرواتها الطبيعية, وان الفيالق العسكرية الامريكية, حققت هذه الأهداف تقريباً, وربما هي الآن في طريقها نحو تحقيق ما تبقى من الأهداف المؤجلة)), وأكد في حديثه للصحيفة: ((ان السيطرة على الموارد النفطية هو الوجه الآخر للسيطرة على الدول, أما السيطرة على الموارد الغذائية فهو الوجه الآخر للسيطرة على الشعوب وإذلالها)). .

ويختتم كيسنجر حديثه بالقول: ((بات من المؤكد أن التنين الصيني الأصفر, والدب الروسي الأحمر لن يسيرا في مؤخرة القطيع الأمريكي الهائج, ولن يقفا موقف المتفرج ليراقبا إسرائيل وهي تشن سلسلة من الغارات الحربية المتوقعة على البلدان العربية, وسيشتركان في الحرب إن عاجلا أم آجلا, عندئذ ستقع الحرب الكونية الثالثة في قلب الشرق الأوسط)). .

يتحدث كيسنجر هذه المرة بمنطق الخرافات الكهنوتية الوثنية القديمة, ويبدو ان أعراض الزهايمر إصابته بلوثة دماغية أفقدته صوابه, فعاد إلى الثرثرة عن خرافة (الهرمجدون Armageddon), التي سردتها له جدته في القرى الألمانية البافارية الجبلية. .

فالهرمجدون معركة منتظرة, ولدت من ترهات الأساطير الغابرة, وروّج لها سفهاء (الطاروط), و(الزوهار) الذين شحنت عقولهم بحكايات عرافات مذهب (الكابالا), و(الويكا), وخطط لها فرسان المعبد منذ زمن بعيد, واستعدوا لخوض غمارها في فلسطين, فهي عندهم من المعارك الحتمية الفاصلة. .

و(الهرمجدون) كلمة عبرانية مكوّنة من مقطعين. (هر) أو (هار) بمعنى جبل,
و(مجدون) اسم لواد في فلسطين. يقع في مرج ابن عامر, وكلمة (هرمجدون) تعني: جبل مجدون, وبغض النظر عن مدلول الكلمة, فأنها ترمز إلى الحرب العدائية التي تخطط لها أمريكا وزبانيتها. فنحن نقف اليوم على أعتاب اندلاع حرب وثنية جديدة تستهدف تدمير الشرق الأوسط برمته. .

ينبغي أن لا نستغرب من تلك الأفكار الامريكية المنبعثة من كهوف الأزمنة الغابرة, وخير مثال على صحة كلامنا هذا: إنّ الرئيس الأمريكي (بوش الصغير) كان مسكونا بالخزعبلات الوثنية, ومن لا يصدق ذلك يتعين عليه قراءة آخر ما كتبه الكاتب الفرنسي (جان كلود موريس) في كتابه, الذي حمل عنوان (لو كررت ذلك على مسامعي فلن أصدقه), كشف فيه عن تفاصيل المكالمات الهاتفية بين (بوش) والرئيس الفرنسي (جاك شيراك), والتي حاول فيها (بوش) إقناع (شيراك) بالمشاركة في الحرب التي شنها على العراق بذريعة القضاء على العفريتين (ياجوج وماجوج), الذين يزعم إنهما ظهرا في الشرق الأوسط تحقيقا لنبوءة وثنية قديمة وردت في الكتب (المقدشة), ونلفت الانتباه هنا إلى إن مفردة (مقديش) بالشين, تعود إلى المصطلح الأكدي الوثني (قديشتو) للتعبير عن كاهنات الدعارة في معبد (مردوخ). .

يذكر المؤلف: أن (جاك شيراك) وجد نفسه بحاجة إلى التزود بالمعارف المتوفرة بكل ما تحدثت به التوراة عن (يأجوج ومأجوج), وطالب المستشارين بمعلومات أكثر دقة من متخصصين في التوراة, على أن لا يكونوا من الفرنسيين, لتفادي حدوث أي خرق أو تسريب في المعلومات, فوجد ضالته في البروفسور (توماس رومر), وهو من علماء الفقه اليهودي في جامعة (لوزان) السويسرية, وأوضح البروفسور: إن (يأجوج ومأجوج) ورد ذكرهما في سفر (التكوين), في الفصلين الأكثر غموضا, وفيهما إشارات غيبية, تذكر: ((أن يأجوج ومأجوج سيقودان جيوش جرارة لتدمير إسرائيل ومحوها من الوجود, وعندئذ ستهب قوة عظمى لحماية اليهود, في حرب يريدها الرب, وتقضي على يأجوج ومأجوج وجيشيهما ليبدأ العالم بعدها حياة جديدة)), ثم يتابع المؤلف (موريس) كلامه, قائلا: إن الطائفة الانجليكانية التي ينتمي إليها بوش, هي الطائفة الأكثر تطرفا في تفسير العهد القديم (التوراة), وتتمحور معتقداتها حول ما يسمى بالمنازلة الخرافية الكبرى, ويطلقون عليها اصطلاح (الهرمجدون), وهي المعركة الفاصلة, التي اشرنا إليها آنفا, وحذرت مجلة (لونوفيل اوبسرفاتور), الفرنسية, من تنامي هذه العقيدة الجديدة المتطرفة. وأكدت أن الرئيس (بوش), المؤمن جدا بهذه العقيدة الشاذة, اتصل بالرئيس الفرنسي (شيراك) ذات مرة, لحثه على مؤازرته في غزو العراق. قائلا له : (( اسمع يا صديقي شيراك. لقد أخذت على عاتقي تخليص العالم من الدول المارقة والشريرة, وسأسعى بكل ما أوتيت من قوة لخوض معركة الهرمجدون هناك)). .

لقد بات من الضروري أن يعرف الناس حقيقة تلك العلاقة الدينية والتاريخية بين اليهود وأمريكا التوراتية، ويدركوا إن كل هذه الحروب الاستباحية التي تخوضها أمريكا, أو التي ستخوضها، وكل هذه المؤامرات التي تحيكها هي من اجل تدميرنا ونهب ثرواتنا وتمزيق وحدتنا الوطنية من خلال زرع الفتن وإثارة النعرات الطائفية المسيسة، والسعي لإعادة رسم خارطة الشرق الأوسط، وترسيخ أقدام عبيد الشيطان في قلب الوطن العربي. .

من المؤسف له أن نرى كوكب الأرض في الألفية الثالثة تتحكم به الكاهنات والساحرات وتتلاعب بمصيره التعاليم الوثنية المنبعثة من أوكار المجانين والمتخلفين والمشعوذين. .

والله يستر من الجايات