بحث هذه المدونة الإلكترونية

مرات مشاهدة الصفحة في الشهر الماضي

الخميس، 23 يوليو 2015

في النحت العراقي الحديث منعم فرات .. أسئلة النحات ومشفراته-عادل كامل




في النحت العراقي الحديث
منعم فرات .. أسئلة النحات ومشفراته


عادل كامل

إشارة

هل للبدائية ـ في عصر الموجة الثالثة ، (1) قدرة تسمح لحضورها ألا يكون شاذا ً، ورمزا ً للتخلف، أو الاستهجان: مكانة بجوار آخر نزعات ما بعد الحداثة، وما بعد الفن، التي بدورها راحت تفتقد تأثيرها الطليعي، كي تندمج مع تراكم منجزات الحداثة، وباقي التيارات غير الأوربية، كالتي لم تتخل عن أنساقها المشفرة باليات تقاوم ذوبانها، ومحوها...؟
بحرمان القارئ (2) من فعل التخيل، وهو فعل القراءة بوصفها تعنى ببناء النص بالدرجة الأولى، فان الإجابات ستنغلق، وكأننا نعمل داخل بنية مستقلة، أو منغلقة، وهو ما تؤديه المنظومات الأحادية، غير القابلة للنمو، بوصفها مقدسة أو أبدية.
والبدائية (3)ـ بهذا المفهوم ـ ليست مضادة للاستحداث، بوصفها تنتمي إلى عالم (السلع) ـ في السوق الحر أو ضمن حرية السوق تحديدا ً ـ بل لأنها لم تتخل عن أسئلة مازالت تخص حضور يقاوم الاندثار....، فهي تنحاز إلى عملية دمج معقدة بين الأسئلة والإجابات، إن لم تكن غير مضطرة للدخول في انساق التمويه. فالفنان البدائي يمتلك معرفة حدسية، فطرية، قبلية، حاملة لخبرة بعمر زمن الفن/ الإنسان، ولهذا فإنها ليست معرفة معزولة عن الإنسان إزاء تاريخه، وإزاء قدره....؛ تعبير يمتلك لغة غير مشذبة، مصنعة، ملفقة، ومغايرة تماما ً للفنون ـ كخطاب ـ تستحدثه السلطة، مثلما يؤدي الفن دور الساند، المرافق، وأحيانا ً الصانع لها. فالبدائي يتوخى الحفاظ على (عدالة) يأمل أن يكون لها وجود خارج السائد، وغير قمعية، وقائمة على الوهم، والخداع. لأن فعله النقدي ـ ضمنا ً ـ يتوحد بعذرية التعبير، وأحيانا ً بسماجته، صدقة المباشر، الوقح، وربما القبيح، لأنه لا يتوخى الأناقة، وتقنياتها، في عالم البضائع، والمنافسة. فهو فن يهدم المألوف، لأنه يكسر المرآة، ويعمل على تخريب الذوق السائد. فالبدائي طليق، وفوضاه مقبولة لأنها معادية لأي شكل من أشكال العادات الوثنية، بل، جذريا ً، يوحد لاشعوره بالتحرر والانعتاق لقول كل ما يستحق القراءة. قراءة تجعل الأسئلة بمصاف الضرورة، بدل التكرار، والكف عن مغامرة الحفر في الأعماق المجهولة، السحيقة. فهو نباش، يقودنا إلى عالمه المظلم، بل والى الظلمات نفسها، من اجل إنارة تجعل الفن أداه حياة، بمعزل عن العبادة، والمحرمات.
ومنعم فرات، ليس من اختراع (عادل كامل) ـ كما قال سالم الدباغ بعد نشر كتيب حول فنه ـ وليس من اختراع د. أكرم فاضل ـ مع إن له الفضل والثناء برعاية الفنان منعم وتشجيعه وتقديمه أيضا ً ـ بل هو من اختراع منعم فرات نفسه. (4) انه شبيه بأعظم شعراء العراق في القرن العشرين، الملا عبود الكرخي، الذي لم يمدح طاغية، ويعظم من يستحق المعاقبة، فكلاهما امتلك مشروع نقد الرداءة، فكلاهما امتلك مشروع نقد الرداءة، إن كانت مرئية، ا تجريدا ً على صعيد الأفكار.
وعمليا ً لولا انتباه عدد من نقاد أوربا لفنه، لكنا دفناه، ومحونا أثره، وهو في المهد. فالأرض التي ولد فيها، ومنذ ألف عام، لم تدع، ولم تسمح، للإبداع الحضاري أن يتقدم خطوة واحدة إلى الأمام...، إن لم تكافح حد الاستماتة في الوأد، والدفن.(5) مما سمح له أن يكتم في مصغراته الثمينة كل العويل الذي مكث مدفونا ً تحت الأرض، أو في المتاحف...؛ عويل يذهب صداه ابعد من آذان مجتمع يحتفي بشعار: من رحم الأم إلى مدافن الأرض! فمن سيصغي إلى أصوات تماثيل منعم فرات....؟ هل تصغي لها أجيال منشغلة بالاستنساخ، لغة تحاكي الحداثة، وتقلدها بعماء، وتكرر أنساقها، وأشكالها، في مجتمعات مازالت تستورد غذاءها اليومي، الضروري، من غير خجل، أو حياء، بل وتتباهى باستهلاك موارد أوجدتها المصادفة(النفط)، ما أن تنضب حتى تعود هذه المجتمعات إلى ما قبل الزراعة، وكأنها وجدت للغياب، والمحو.
منعم فرات، بفنه، لا ينتج نماذجه للاستهلاك ـ مع انه كان يبيع التمثال بعشرة دولارات! ـ بل يرتقي بها إلى مصاف محاكاة عمليات صناعة: الأسئلة ـ والخلق. فهو ـ كما ذكر الأستاذ شاكر حسن في مقال له: زنديق! ـ مع إن استأذنا شاكر حسن أدرك عبقريته، وجعل منها علامة. إلا أن منعم فرات، في فنه، يدحض الزندقة، والإيمان الزائف، وكل أيديولوجية للخداع، لأنه ضد الأقنعة، والرياء، مثلما عمل على هدم غياب العدل. ففي فنه تكمن البدائية التي نجدها في أعظم تجارب الحداثات، وما بعدها، منذ غويا، وهنري روسو، وجوجان، وماتس، وصولا ً إلى النزعات المضادة للفن. ولعل الاختلاف في فهم التقنية لا يدمر (الصدق) بل يسمح له أن يشكل لغة محصنة بفرادتها ـ وبشعريتها، وربما بمثاليتها؛ لأن الأخيرة لا يدحضها المفهوم المادي للتاريخ، كما ذكر ماركس عندما لم يلغ الميتافيزيقا عن السلعة، بل تتيح المثالية حرية عنيدة وحقيقية إزاء الاغتصاب، وفي مواجهة باسلة ضد أشكال العنف، والقمع، وسلب الحقوق. فهل ثمة نبل، بل وجمال، نجده في المستحدث، إن فرّغ من تتبع مناطقه النائية...؟ في الوقت نفسه نجد منعم فرات اشتغل كي يستعيد إنسانيته، ليجد في الفن ملاذه، حتى وهو يدرك ـ وبألم عميق ـ كم تمتد الظلمات به ابعد مما بدا له ضوءا ً...، لأن البدائية لا تراهن...، لأنها لا تقامر...، كي تخسر، ذلك لأنها تذهب ابعد من الربح، ومن تمويهات الحضارة، وقشورها.


1 ـ إشارة لكتاب توفلر [ الموجة الثالثة] بعد كتابه [صدمة المستقبل] حيث قسم الحضارة إلى ثلاث حقب: زراعية ـ وصناعية ـ وثالثة تتمثل فيها الموجة الثالثة، ويقصد بها ما بعد الرأسمالية، والماركسية، مع حفريات تسمح للماضي أن يمتد، أما معرقلا ً أم باعثا ً على الامتداد، والتطور.
2 ـ لم يعد كاتب النص إلا من الماضي، فالمعرفة التذوقية/ الجمالية/ والنقدية هي من صنع المتلقي، ليس في التحليل، أو التأويل، بل في النص ممتدا ً، وليس مدفونا ً، أو بحكم الغائب. فما ندوّنه ليس بوصفه تلقينات، أو مواعظ ، بل علامات لإنبات علامات، تغذي أو تدحض، تحذف أو تضيف، تكمل أو تهدم، وهي مهمة القارئ كفاعل، وصانع، وليس تكرارا ً وفق منهاج الوعظ، والتلقين.
3 ـ يرى الأستاذ عدنان المبارك:
ترتبط كلمة ( بدائي ) بأنشطة المجتمعات التي لم تنتم بعد إلى حضارة معينة من الحضارات السائدة سواء في الماضي أم الحاضر. وعامة صارت هذه الكلمة من نتاجات نزعة المركزية الأوربية ولكي يتوسع معناها ويشمل الكثير من الحضارات غير الأوربية. كذلك ينبغي طرح هذه المسألة على أصعدة عدة بينها السياسي والسوسيولوجي أي مستوى المعرفة في هذا المجتمع وذلك عن الفنون الأخرى. كذلك يتعلق الأمر بالعادات الألسنية ، أي استخدام كلمات تعود إلى حقب أخرى. وغالبما تعني كلمة بدائي في المنطقة الغربية وغيرها ، التخلف بشتى أبعاده مما يكون انعكاسا لحالة الاستعلاء التي تتميز بها الحضارة التقنية المعاصرة . [الفن البدائي في عصرنا] موقع القصة العراقية.
4 ـ بعد صدور كتابي حول منعم فرات، عن دائرة الفنون التشكيلية/2013 اتصل بي حفيده، وطلب مني أن أتدخل للحصول على حقوق جده، قائلا ً انه أهمل ولم يحصل على ما يناسب مكانته الإبداعية. فقلت مع نفسي: وهل حصلت على حقوقي...؟ لكن منعم فرات ذهب ابعد من الاستجداء، والمطالبة بما هو زائل، لقد نقش اسمه مع كبار المبدعين، في بلد ما أن يخرج من محنة، إلا ليدخل في اشد منها وعورة.
5 ـ اختراع يدخل في بناء الحضارة الإنسانية، فمخترع مثل (ادسون) وحده لديه أكثر من ألف اختراع، فيما لا نجد لدينا سوى توارث النكبات، جيل اثر آخر، وغير البكاء على الأطلال، واجتثاث العقول، وسحق الحريات، والدخول في أوهام النصر، والكرامة.


• ما قبل ـ وما بعد : التدوين


هل نفترض إن مجسمات منعم فرات ( 1900 ـ 1972) تنقلنا إلى زمن التحول من عصر الصيد إلى عصر تأسيس القرى البكر، وضمنا ً، عصر الزراعة.. والانتماء إلى المكان..أم .. على العكس من هذه القراءة المفترضة، تمتلك موقفها النقدي لعصر تلاشى فيه دور الفرد ـ الجماعة ـ داخل ممرات ودروب كافكوية يمكن أن تسمى بعصر نهاية الحداثة ـ وبدء ـ مشروعات ما بعد التاريخ، أو، تطبيقات العولمة بأشكالها التجريبية، وبثمارها التي مازالت لا تخفي جذور عصر الصيد ـ الزراعة ـ والاستيطان في أشكاله الجنينية ..أم .. ثالثا ً : إن هذه المجسمات ـ الاستغاثات في ذرى تأملاتها المكتومة ـ تبقى تحمل عمل أنظمة مقاومة للقطيعة..أم .. رابعا ً : ليست نظرية العبث، واللعب، واللهو، أو النشاط وقد اكتسب خاصية التخصص، لها مغزاها في قراءة دوافع الصياغات، لغة للاتصال، أو موقفا ً لا يكف يعلن عن ( سخطه) إزاء التحولات، وإشكاليات التكيف.. وأخيرا ً، في تجنب الإفصاح عن معنى ما للانغلاق .. ؟
هذه ليست أسئلة ..مع أن المتلقي، والكاتب نموذجا ً، لا يتجنب دكتاتورية الحكم، وإنما هي مساحة ـ فجوة ـ للانشغال بما تم تنفيذه، قهرا ً أو خلاصا ً أو اختيارا ً، حتى يبدو انه، هو، الذي يذكرنا ـ ككائنات خارج التقسيمات القسرية للتنازع ـ بان النحت ـ وكل فن جاوره ـ يحثنا على هذه الممارسة: إن جذور التدشينات البكر، ليست سارة، وإنها مازالت تشتغل، وربما تؤثر، في عمل أنظمة ما بعد كل حداثة ـ في عصر الاقتصاد الحر: العشوائي بنظام بالغ الأحكام ـ وتسمح للمتلقي العثور على حنين لخطابات تمتلك أكثر من فعل ورد فعل تجاه مصائر الحياة، والممتلكات الحضارية، معا ً.
لنتوقف عند:
[1] ما قبل ـ المغارة :
لنتساءل: ما الذي دفع ذلك الكائن إلى إنجاز دماه الطينية: المنحوتات الخالصة، وليست الفخارية .. المنتمية إلى عصر الصيد: الكائن المشرد، ولكن، بفعل الصيد، سيشكل آليات جمع (قواه) ومشروع رأسماله ـ وفكرة حفظ ذلك الجهد ـ في المكان ـ الكهف..؟ إن عصر الاقتصاد العشوائي، المحكوم بالكفاح اليومي الخاص بالضرورات، ربما، عند لحظات أو ساعات اللاعمل، ولدّ بذرة ( الحدث) التي تمثلت، ضمناً، بالقطيعة عن عناصر التكوين: ذلك الفراغ بين الجسد والفضاء الذي لا يمتلك إجابات، بل، دوافع الخوف، الذعر، وحتمية الدفاع ولدّت هذا المسار. فليس ثمة مودة بين الكائن وعالمه، بأي شكل ما من الأشكال، حيث، نفترض إن تلك الدمى، ـ والغريب أنها تكاد تكون من صنع أكثر الذهنيات حداثة ومعاصرة ـ كانت تمتلك ( سرـ جسر ) العلاقة بين الكائن ومكوناته. فهي مازالت، على صعيد الخامة، جزءا ً من الطبيعة، مثلما، هي، على صعيد التعبير، تخصها، مثلما، إلى حد ما، تخص الجماعة، والذات. فالمجسمات، في هذا الاحتمال، يمكن أن تشكل أقدم نواة لرأسمال ذلك الكائن البري: رمز قوته.. وضمناً، خطابه الملغز، والمشفر، وغير القابل للانغلاق.
ومنعم فرات، لو أعدناه إلى العصر الحجري القديم، ووضعت منحوتاته مع تلك الدمى، لمنحنا فرصة انه تمسك بموضوعات الجسد ـ الوجه. فهو سينفصل عن الغريزة باتجاه الحواس: العين والفم والأصابع والأنف والإذن.. حيث الفزع سيبقى يشتغل مع الجميع ـ ولكنه لن يغادر رصد التجمع / التكتل ـ وأهداف التعبير. فمنحوتاته تبقى تعمل ككتلة. فيما كانت منحوتات عصر الصيد، في الغالب، فردية: دمى بأثداء مترهلة وبطون كبيرة وأفخاذ مكتنزة. فهي تخص مخاوف حفظ النوع، وليس جمالياته، مع أنها ستشكل نموذجا ً لحداثات عصرنا. بيد أن منحوتات فرات تنتظم بوعي سيقطع صلته بالأنظمة العفوية.. فهو يركب، ويوزع، إضافة إلى القصد. فالنحات ينحت في عصر ما بعد الكتابة.. وليس في عصر الأصوات ـ الإشارات. لكنه سيبقى ( كتأويل) يحافظ على أصوات ذلك العصر: أصوات لا تتحول إلى صمت، بل، تمكث داخل كتله حد الاندماج. فالمنحوتات تتكلم بصمت أصواتها. ومغزى هذه (الإشارة) تنقلنا إلى: حداثات تجاور آثار عصور عشوائية جمع الغذاء، وتمركزه، في مغارات القرى البكر.

[2] المغارات:

ليست فترة زمانية قصيرة قضاها إنسان الصيد كي يتعلم فن الإنبات؛ فهي فترة تماثل فن تعلم السيطرة على النار(الطاقة). إنها فترة غذت ذاكرته بمعلومات أفضت به للانتقال من العشوائية الى بعض معالم التنظيم :اكتشاف مبدأ السببية. لقد خزن الكثير من أذى الليل والعواصف والفزع من الموت. فكان الاستيطان، لا ينفصل عن عصر الزراعة. ولن نسمح للكلمات بالذهاب خارج (شعرية) هذه الرحلة. فالإنسان لم يتشبث بالوجود طوعا ً، أو قهرا ً: لقد انشغل ـ بينهما ـ كي يكوّن أقدم عاداته: السكن. والسكن، ضمنا ً، محاولة لطرد شبح فترة الصيد ـ التشرد. أعمال منعم فرات، تحكي دوافعها: اكتشاف المكان، والتمهيد لمحاكاته وتطويره. فالنحت ، عندهن يحكي هذا الجانب: المكان ـ الرحم ـ وضمنا ً رؤية العالم الفسيح، واستذكار تصادماته وقسوته. فالموضوع غدا جمعّيا ً: إن كائناته تتكدس، تتداخل، وتتجمع في اطارالمغارة ـ الرحم. فالأخير، ذكرى لا واعية لمفهوم الإنبات ـ الخصب. فالفنان لا يمتلك أسئلة، بل عمل بنظام أملاه عليه لاوعيه السحيق. فهو (سوريالي) قبل أن تنتظم باليات الحفر في اللاشعور. لكن سورياليته عملت ابعد من ذلك: إنها لامست أقدم وجود للخصب والموت: آليات الإنبات ومقاومة الفناء. فكانت جدران المغارات تسمح له باستعادة جدران الرحم؛ المكان الذي لا يطارد فيه الكائن أو يفترس أو يقتل ويرمى ـ كنفاية ـ فوق الزبل. وسيكرر النحات هذا المفهوم: الحماية. إن الكهف الذي غدا انتقالة من الرحم إلى القرية، سيغدو جدارا ً صلدا ً للذاكرة، وسيترك النحات آليات تحرره من الخوف تعمل بحدود موضوعات الالفة؛ الهرب من الفضاء، والبحث عن أسرار السكينة في مظاهرها الواقعية. فالنحات لا يتفلسف، بل سمح لذاكرته ان تتداخل بخامات الحجر، كي تظهر قدرتها على المقاومة. فهو جعل النحت ـ كالكهف ومثل القرية ـ المكان الجدير بالعناية.

[3] تضاد :

ثمة، في حداثات أوربا، القرن التاسع عشر، ارتدادات تجانست مع خطاب التحديث الذي زامن نشاطات علماء الانثرولوبوجية : عودة إلى الأصول (بل إلى المحركات) .. فنشأت فنون مغايرة لعصر ازدهار مآزق الرأسمالية، مضادة للصخب الصناعي، وتهديدات انقراض منجزات الأرض. بمعنى: فنون مضادة لحياة المدن الكبرى؛ وعودة إلى حضارات تم التعرف عليها توا ً: فنون العصور الحجرية ـ والبدائية. وفنون عصور فجر التدوين.. إلى جانب دراسة أجناس مازالت تكرر أنماط الحياة الأولى؛ حياة الإنسان في تدشيناته المبكرة للمعرفة. فهل أنجز منعم فرات ( في ذروة إنجازات جيل الرواد التحديثية عند جواد سليم وفائق حسن وخالد الرحال ) كرد فعل لتجارب لم تخف تأثرها بأنظمة فنية أوربية ـ وغربية..؟
لا تشير المعلومات الوثائقية أن الفنان فرات كان يحفل بتجارب الرواد، أو يعيرها أدنى أهمية. بيد أن سؤالا ً آخر نتوقف عنده: لماذا اختار منعم فرات فن النحت.. ومن ثم أن يكرس حياته كلها له..؟ إن فرات واكب، في الحياة، تحولات البلاد، بعد الحرب العالمية الأولى، فتعلم القراءة والكتابة خارج المدارس الرسمية، وعمل في مهن مختلفة بصفته عاملا ً.. وليس ثمة إجابة .. ولكنه مارس فن النحت مبكرا ً إلى جانب الكتابة. فتذكر ابنته انه ألف أكثر من ثلاثين كتابا ً .. حمل احدها عنوان ( العاجزون في الأرض).. كما كان مطاردا ً من السلطات لأنه نحت شخصيات وطنية ومنهم السيد عبد المحسن السعدون ـ رئيس الوزراء المنتحر احتجاجا ً على سياسة الإنكليز الظالمة ـ .. وفي مرة أخرى أحيل إلى المحكمة بتهمة (النحت) لكن القاضي أطلق سراحه.. الخ
هذا المسار يوضح أن فرات ـ الذي اختار لقبه الفني احتراما لحضارة العراق بدل لقب العائلة ومنتقدا ً الطائفية ! ـ كان يمتلك ذهنية كتابية إلى جانب حاسة سمع بالغة الرهافة .. فلم يكن (فطرياً) أو عمل لمحض الكسب. لأنه طالما تألم ـ بحسب كلماته ـ بسبب الظلم والقسوة حتى انه كان يسال الخالق لماذا تذبح الحيوانات الأليفة وتترك الحيوانات الشرسة..؟ فلا يقارن بهنري روسو مثلا ً.. ولكنه ينبهنا ـ في رؤيته وفي فنه ـ انه كان يمتلك وعيا ً بما يعمل. فالنحت ـ ثقافيا ً أو معرفيا ً ـ يغاير الساق الشفوي، إلى جانب الكتابة التي مارسها، لكنه، كنحات، كان يشتغل بالحدس ـ ويتعلم بالخبرة ـ إن فنه محمّلا ً برؤية نقدية حد (الاحتجاج) . فلقد اختار النحت ـ كأسلوب ـ يماثل اختيار الكتابة.. موظفا ً المعنى بأسلوب يرجعنا إلى الأصول العراقية القديمة للنحت والتي تم الكشف عنها حديثا ً. فمنعم فرات كان قد استقى الساق، بالدرجة الأولى، من (حداثات) الخطابات القديمة، كما فعل رواد أوربا في إغفال تاريخ خمسة قرون من التقاليد الرسمية, بيد انه لم يستند إلى مبدأ المحاكاة، والاستنساخ، أو الإضافة. بل، على العكس، كان يستلهم المضامين والأشكال ويعيد دمجها بصياغة لا تسمح لآليات الحرفة والثقافة من تدمير تلك الأسرار الكامنة في التعبير. انه عمل أن يكون هو ذاته قبل أن يكون إضافة لتراثه القديم، مع انه خرج منه، بتحرير عمله من الصناعة ومن التكرار. فأي سياق هذا الذي منحه تجاوزا ً للحرفة ـ والمعرفة ـ تحت مفهوم ( البدائية ـ الفطرية ) كي يغدو علامة خاصة في الحداثة الوطنية ـ المعاصرة..؟
بدءا ً، لا تنفصل نماذجه النحتية عن الإيحاء بانتمائها إلى عصور البرية ـ الصيد .. ولا عن عصور تكوّن القرية ـ الزراعة والتدجين وعقد علاقة مع النار ـ إلى جانب : عصر النحت بوظائفه الموازية للتجمعات المدينية البدائية ـ المبكرة. إن موضوعاته المختلفة، بطابعها الحيوي، لا تكرر ثيمة واحدة. فقد نحت الوجوه والطيور ومختلف الحيوانات، إلى الكائنات الخرافية، والموضوعات ذات الطابع العائلي، الاجتماعين والإنساني...الخ توضح مدى تفهمه للمنجز النحتي العراقي القديم.. وصولا ً إلى إطلاعه على الفخاريات الشعبية. ففنه لا يقارن، بالفنون الفطرية، بل سيبقى مقيدا ً بإرث النحت العراقي وعلاماته ورموزه وأشكاله وتشفيراته أيضا ً. وسيشكل هذا البعد، في مجسماته، لغة مزدوجة ـ وتركيبية: اختيار الأشكال بصفتها علامات توصيل.. إلى جانب بحثه في المعاني الأبعد : تحرير المنطق المباشر والدخول في إشكاليات تكوّن الأسئلة. فالفنان، العنيد كهنري روسو، لا يمتلك إلا كلمات (أيوب) السومري أمام الإله، بعد أن نزلت به النازلات: المشكلة، أيها الإله، ليست مشكلتي! وسيجد النحات، في النحت، لغة أن تبقى اقل تعرضا ًللاندثار؛ لغة دلالة ابعد من سياقها البدائي، وأعمق من استعراض تاريخ الشراسة، والافتراس.

[4] ما ـ بعد ـ التدوين:

في هذا السياق، تخضع تجارب فرات، وما ماثلها، تحت تسمية: الفنون البدائية. بيد أن إعادة دراسة النصوص النحتية، بمسوياتها التنفيذية، ومضامينها، ومشفراتها، ستنقلنا إلى تيار يجد في الذين لم يدرسوا الفنون أصالة تغيّبها الدراسة، والاحتراف، والمعرفة. إن (نيتشه) وحده عارض هذا الافتراض، بحجة أن الفن سيبقى كالسر الكامن في السر، يحمل شرارة الانبثاق. وفرات، عمليا ً، لا علاقة له بالخبرة، والمعرفة، إلا في حدود من علمّ نفسه بنفسه، لفترة تمتد إلى أكثر من نصف قرن. بيد انه تعّلم، أن لا يقع ضحية الانغلاق: ضحية صياغة ما لا يتلآم مع شخصيته.. فقد جعل فنه، حداثوياً، وان لا يتخلى من الذهاب بعيدا ًفي المعالجة: إن فنه الضاج بالعويل، يتخلى عن الإفصاح. فالمعنى لا يتحدد بالعنوان أو بالموضوع أو بالأشكال. فالنحت، وفي أية حقبة من الحقب، ذاته، شكّل لغة بين الكائن والآخر، وبينه وبين ذاته العليا أو الخفية. انه علامة اتصال تتجاوز الآخر، وتتجاوز الذات في حوارها الداخلي. فثمة ( ميتافيزيقا ) لا تغادر مفهوم انبثاقها بعواملها كافة، ومنها، تلك التي تبقى تنتج وجودها ميتافيزيقيا ً. لكن مصطلح (نحت) عنده، ليس نصبا ً تذكاريا ً، أو منجزا ً للاستذكار ـ كما ذكر هيدغر بصدد فن النحت ـ وليس علامة مدينية، أو رمزا ً للنصر ..الخ انه، كما نشأ، قبل عصر الزراعة ـ ومعها ـ مكث يحمل قطيعته ـ مع ـ عناصره البكر. فهو خامة انصهرت بمكوناتها مجموعة عوامل في مقدمتها تلك التي مكثت لا تقبل المحو. إن منعم فرات، بوعي ما بعد ـ تدويني، يتمسك بسلوك (مثالي) تجاه قضايا الظلم والعدالة. فالنحت، هنا، بحث إشكالي قبل أن يصبح (علامة) اتصال: فالأشكال تسمح لمضامينها بمغادرة حدودها. إنها ـ واستذكارا ً للمعري؛ فيلسوف الموت ـ تحاول مغادرة الجسد. فثمة ما يماثل (الطيف) أو حبيبات الزمن ، أو لا متناهيات الذرة ـ يمكث عاملا ً: يغادر، كقراءة تستند إلى باثات الخامة، وما مكث فيها من كيان النحات، كانسان عمل برهافة جعلته يدوّن، نحتا ً، خفقان أسرار خلاياه كافة.


• مقارنة: البدائية


البدائية، يذكر كيركغور، ليست موهبة أصيلة، بل يجب أن تكتسب. ومع أن تحديد المصطلح، يتضمن تعقيدات متعددة، بل مبهمة، مثلما لدى المتلقي، فان تعريفا ً أخيرا ً يبقى عنيدا ً. لكن الإشكالية ليست تاريخية، كالإشارة إلى كائن بدائي، في عشيرة تعود إلى ما قبل العصر ألتدويني، أو إلى عصر مازال القوم يعيشون فيه بعيدا ً عن الحضارة، وتقنياتها. فالبدائيون متوحشون وشرسون، وهم، في الغالب، يؤسسون طقوس الصيد، وشعائر الافتراس، لا للطرائد، بل للنوع البشري نفسه. هل هؤلاء القوم (بدائيون) أم (متوحشون) .. كي نغادر هذا التصّور، ونتعرف على مفهوم: أصالة..أو تدشينات مبكرة للإبداع..؟ نلاحظ أن الرؤية (البدائية) لا يمكن سحبها على الأقوام البدائية، مع أنها ـ تلك الأقوام ـ أنتجت معظم النماذج الفنية، كتماثيل الآلهة الأم ـ عشتار؟
إن نماذج منعم فرات، لا يمكن أن توضع إلا في زمنها. وهي فترة تحولات اختتمت برحيله بحادث دهس، وكان الثالث. ولكن ما المقصود بـ (تحولات) ؟ هل لأنه عاش نهاية العهد العثماني.. ومن ثم .. الحرب العالمية الأولى .. والاحتلال البريطاني.. الذي ولدّ لديه رؤية عميقة للظلم..أم لأنه مكث يجد في الفن قدرة ما لتوازنه الشخصي، وقدرة تجعل من منحوتاته علامات مشاكسة؛ غاضبة، أو : نقدية..أم أن (التحولات) ـ وهي سمة جدلية لا تختلف إلا في الدرجة ـ منحته فرصة اختيار وبناء تجاربه بانسجام مع رؤيته لقوانين الوجود، وانعكاسها على مصائر البشر، والكائنات الحية الأخرى..؟
إن الصمت المتراكم، داخل نصوصه النحتية، وحده يمتلك قدرة النطق. انه صمت يخفي عويله. ويمكن لكل قراءة، إن لم تلتفت لهذه الإشارة، الذهاب إلى تأويل آخر: كالاعتراف بمناورة عدم البوح. مع أن منعم فرات، كما اعلم، هو الفنان الوحيد الذي أحيل إلى المحكمة بتهمة ممارسة النحت.. فضلا ً عن الدلالات السياسية المتكررة والمقترنة بإعماله الفنية. فأية(بدائية) أو(وحشية) بإمكانها أن تكون بديلا ً عن بدائية ـ توخّت عنده ـ : الذهاب عميقا ً في عصور سحيقة، ضمن نصوص الحاضر..؟ أم لأن منعم فرات، في الأسلوب، لم يختر نموذجا ً من التجارب الشائعة أو التقليدية.. ومكث يعمل بحرية استثنائية خارج هذه التقاليد.. اختار فرات، في النهاية، تقنيات يصعب حتى تقليدها.. فقد كان استنساخ أعمال الرواد، أمرا ً لا يثير الشبهات، ويمر. ولكن إذا ما تم محاكاة أعماله،بنسبة متقدمة، فعلى الآخر أن يمتلك شخصيته بالكامل. وهنا تصدمنا الصعوبة. فأعماله سهلة الاستنساخ، بحسب المنهج والأسلوب والموضوعات، ولكنها ستبقى من صنع أخر، وليست أصيلة.
إن بدائيته، في هذا السياق، تمتلك وعيا ً مرهفا ً ليس باختيار الموضوعات فحسب، وإنما في تنفيذها. فليست ثمة مهارة أكاديمية أو حديثة تقارن بأعمال أساتذة النحت، ولكن ثمة مهارة، كالتي عند هنرى روسو أو ....ـ : إن لم يذهب فرات أعمق في استنطاق الخامة، وليس أشكالها حسب: مهارة مثيرة للجدل. فأعماله النحتية لم تنجز للتزيين. والفنان لم يفكر في ذلك مع انه كان قد احترف النحت، ولم يصغها كنصب أو علامات لأحداث سياسية.. فلم يفكر بجماليات تتوازن مع هذه الأهداف. بل على العكس، ترك يده تعمل بفكر غير مقيد. فهو، غالبا ً، عالج كائناته بخيال لم يضع فاصلا ًبين الواقعي والخرافي..أو بين الأجناس. فانشغاله بالتعبير سمح للموضوعات أن تأخذ مداها في تحرير الوعي، والذهاب حيث الأزمنة تتداخل، وتندمج، كي تبلغ حقيقتها في (المجسم): النحت.
فالبدائية، هنا، ليست رؤية تبسيطية أو ساذجة، أو فطرية، أو غريزية، أو تلقائية، أو عفوية ...الخ وإنما هي، مع أنها لم تتخل عن هذا الجسر، مع الإشكاليات المعالجة، رؤية تركيبية تجعل الموضوعات المعالجة تحت الأضواء: مجسمة ومرئية بما تمتلكه من استحالات في الإجابة. فثمة شك يتجاوز الدهشة أو الفزع أو الخوف نحو (القلق) بمعناه الانطلوجي. ولكنه (القلق) الذي يتميز بيقين لم يفكك بعد، والا، لكان المنجز قد بلغ درجة الصفر أو انعدام المغامرة أصلا ً. فالنحات يتمسك بالعمل الإجرائي، في حدود موضوعات التنازع، والتآكل، كشكل من أشكال الأنظمة البيولوجية ـ السائدة. وستمثل تجارب النحات الحياتية مظهرا ً متصلا ً بتجاربه الفنية، كتذمره العنيد ضد الظلم، الذي استحال إلى موضوعات تذهب حيث الموضوعات المعالجة، لا تتحول إلى محض(إعلان) أو(موعظة) أو تتبنى وجهة نظر منغلقة وأخيرة. إن هذا الاختيار غير المقيد، لن يصبح مطلقا ً، بل مقيدا ً بموضوعات الحياة ذاتها: بخرافات دمجت أشكالها في دوامة التنازع والتناحر حد الفناء. إن هذا البعد (الموضوعي) لا الذاتي، في تفسير مشهد الكائنات عبر الحقب والأزمنة، لم يلغ فردية، وتشخيصية النحات، بل عززها بالتنفيذ: خمسون سنة من الاحتراف، ولكن الاحتراف الذي ضمن له ان يكون فنه مضادا ً للسلطة، مع ان الأخيرة، بحد ذاتها تمتلك مزايا ملغزات الصانع. بمعنى انه ثابر في الحفاظ على دوافعه في المعالجة ـ وفي اختيار الموضوعات، ولم يكن فنه، في هذا السياق، تعبيرا ً جمعيا ً، وإنما كانت ذاته قد تبلورت بسماتها الواعية ـ وهي تتقصى تدشيناتها في الأزمنة السحيقة. فالذات تمثلت بوعي ـ يمكن مقارنته برواد الحداثات وهم يتقمصون أشكال الماضي أو موضوعاته، أو وهم ـ كمنعم فرات ـ يتقاطعون مع مفاهيم حضارية قائمة على التراكم، أو على التدمير. لأن ذاته، حتى النهاية، لم تقنط من الذهاب عميقا ً في تفحص المحركات ـ وأشكالها: ذلك الكائن الهارب، والمذعور، أو الباحث عن سكينة داخل جدران المغارات، أو المهدد بالرحيل الجمعي، وصولا ً إلى فوبيا مثيرة لأسئلة ـ آنية. إن نماذج النحات لا تسحبنا إلى موضوعات اندرست أو عفي عليها الزمن، وإنما تبقى تستمد (لغتها) من أساليب حملت سمات خاصة، وفي الوقت نفسهن تواجه عالمها برؤية تاريخية غير تكرارية. فهو لا ينتمي إلى قبيلة ما قبل كتابية، أو مغلقة، أو خارج التاريخ، بل ينتمي لعصر الثورات الكبرى كغزو الفضاء وتعقيدات الحرب الباردة. فوعي النحات لم يكن قائما ً على(الدهشة) والأسئلة وغياب منطق تحليل جدلية الأسباب.. بل كان، كما في الوثائق التي تركها والمتوفرة، متقدما ص قي رؤيته النقدية للظلم البشري. فقد كان لا يؤجل الرد في قضايا تخص المعتقد بل وحتى الثوابت كالأسباب التي سمحت باصطياد الحيوانات الأليفة وترك المتوحشة او القوية.. واختياره للنحت بما يتمتع به من قوة في التعبير على خلاف الرسم.. ونقده للظلم الاجتماعي وطبائع البشر. إلا ان الأستاذ شاكر حسن، بعد ان ترف عليه وأجرى مقابلة معه ، يراه منغلقا ً. يقول : ـ " وهكذا يبدو منعم فرات.. كائنا ً متناقضا .. فهو يحاول ان يخفي نواياه ولكن بصورة مفضوحة.. انه لكي يكمّل شروط العمل الفني كإبداع يحاول أن يصل به إلى حد استحالته.. وهذه هي عين الصيغة الفطرية له كما يبدو." كي يضيف ـ " ويستأنف حبه لعزلته ضمن منهج كوني يوضحه في استخدامه لمفردات حياتية تجمع ما بين الإنسان والحيوان وربما النبات.." فالفنان لا يتناقض حتى عندما يدلي بشهادات متناقضة، أو هكذا تبدو للوهلة الأولى.. ذلك لأنه حرص بالحفاظ على عالمه الداخلي، وحصّنه، مكتفيا ً بجعل (النحت ـ الحجر) صندوقا ً اسود أو بيتا ً للأسرار، بدل الانشغال بما هو ضار أو غير نافع على حد تعبيره. هكذا يكتب الأستاذ شاكر حسن ـ " حينما تعرفت بمنعم فرات لأول مرة لم أكن لأتوسم فيه أية عبقرية. كان يبدو إنسانا ً اعتياديا ً كمزارع، أو عامل وليس كمثقف" إنها شهادة بالغة الوفاء لنحات كان قد حدس ـ بخبرة يومية دقيقة ـ مغزى التراكم ـ والتزامن ـ لقضايا إشكالية في جوهرها.. وإن مهمته، كفنان، تبقى في حدود مهمته الإنسانية، وليس الوعظية، مع انه، في مناسبات مختلفة، لم يكن سلبيا ً في اختيار وسائل الدفاع عن الظلم الذي كان يتعرض إليه. بيد أننا لا ندرسه بصفته كاتبا ً، وإنما لا يمكن إغفال كلماته المختزلة و(العامية) والمشفرة في دراسة عالمه الفني. فالنحت غدا خطابا ً لا يتاح للفنان الفطري التقليدي ـ الذي لا يتمتع بسيرة تعليمية أو معرفية ـ إلا ان يحيلها إلى إشكاليات احتواها وتمثلها وجسدها فن النحت. إنني لا أقول انه كان يزيح القشرة، كما قال مايكل انجيلو، كي يحرر نماذجه القابعة داخل الكتلة، بل كان يحرر ذاته، بالدرجة الأولى: فقد كان النحت يمتلك استحالة إبعاده من الخطاب البشري، مثلما كان يجد فيه توازنا ً نفسيا ً وحرفة حافظ فيها ان يبقى كائنا ً يقاوم الهزيمة. فبدل ان يبقى مزارعا ً أو عامل بناء، فلسف خاماته وتصوراته بضرب من الرهافة، بدل التواري. وراح يكّون سكنه و(سكينته) في أقدم معمار: الكهف كذاكرة اخفت مصيرها ـ وتركته ـ يمتد إلى كل حاضر يتجدد بعمل نبضات مكوناته البكر: انه فن صياغة علامات تتجاوز عصور الصيد ، والزراعة، ومدن الحداثات الشفافة ـ وعولمة الابادة ـ كعلامة مركبة ـ بتزامن إشكالياتها ـ خارج منطق البدائي أو الساذج، أو الفطري، أو اللاتاريخي..الخ تمتلك، بلغة قرن من الحداثات الأوربية ( منذ هنري روسو وغوغان وماتيس وبيكاسو ..) ولكن، بلغة قرون من مهارات الشعوب كافة، إدارة القفل، لا للدخول، بل لاستحالة الاعتراف بالهزيمة. إن منعم فرات، في هذا الدرس، يسمح بإثارة نقد يوسع قراءاتنا التأويلية للأثر، خاصة، بما يتضمنه من إشكاليات لا تسمح للبدائي، حتى في منتصف القرن العشرين، ان يقترحها كي تمتلك هذا العناد في الاقتراب من ملغزاتها: عمليات الزوال التي كفت ان تكون خارج ذاكرتنا ـ الحضارية، أو الجمالية!

• ما بعد ـ وما قبل

إن مفهوم (التزامن ـ التراكم) ـ والتزامن : الحدث الذي يجمع أحداثا ً تحدث بعيدا ً عن العشوائية( المصادفة).. والتزامن الذي يفضي إلى نهايات متجاورة ... الخ تدفع بالذات لإخفاء تعرضها المتواصل للهتك، ومحاولة عنيدة للعثور على توازن يتخطى السلوك المعتدل. إن ظهور تجارب منعم فرات( مع عدد آخر من المولعين بهذا المنحى في التعبير في النحت العراقي) لا يمثل قفا النحت الحديث، أو معادله، أو الوجه المقلوب له، بل ضميره. فإذا كانت هناك تجارب: جواد سليم /خالد الرحال/ محمد غني حكمت/ إسماعيل فتاح/محمد الحسني/ عيدان الشيخلي/ طالب مكي/ صالح القره غولي/مقبل جرجيس/ اتحاد كريم/ سهيل الهنداوي/ عبد الجبار البناء/ ناطق الالوسي/ عبد الجبار ألنعيمي/ صادق ربيه/ عبد الرحيم الوكيل/ عبد الرحمن الكيلاني ..الخ فان منعم فرات لم يغامر ، في اختيار أسلوب يرتد إلى عصور سحيقة، ولا أن يحاكي أو يتمم ، أو أن يتباهى بحداثات أشكال، أو إقامة أنصاب تذكارية، أو واقعية..الخ بل اختط لنفسه منحى تداخلت فيه (النصوص) كي يصهرها، ضمن كتله الحجرية، وقد كفت أن تكون إلا ذاتها: هذا الذي تتواصل داخله رؤية الذي يقبع في الداخل. وكان من الصعب أن يتحدث الفنان بأسلوب خال ٍ من التشفير. قال لشاكر حسن، ردا ً على سؤال يخص رؤيته الفنية
: ـ " اهجس واحد يشاورني" !
وتحديدا ً، عند تفكيك عبارة بهذا الوضوح، ستحيلنا، كما في تجارب رواد الحداثات للتحليل، إلى ضرب من القهر النفسي. لكن هذا ليس بدافع التشخيص، وهدم الحداثة ت أو هدم البدائية الحداثوية معاً، كمرض، وإنما تساميا ً، وتطهرا ً، ضمن تحول الكائنات إلى شرعية السوق، والى ضرب من الحريات القسرية. إن منعم فرات، سيذكرنا بتجارب ليست نادرة، لفان كوخ أو جوجان، أو هنري روسو: انه لم يكن أصما ً، بل محاورا ً، وبالدرجة الأولى: مصغيا ً. فالأزمنة القابعة في منحوتاته لا تمثل لحظة تزامن مجموعة أزمنة فحسب، بل عويلها. وإذا كان قد قال لشاكر حسن " أنا الوحيد في الفن " إشارة اعتداد، فان مغزاها يمثل منطق( حداثوية البدائل) ؛ أي على العكس من : جعل الفن للاستهلاك أو الدعاية ، فقد كان، هنا، يجد من يرشده، يشاوره، ويهمس في أعماقه. فتلك، في التحليل غير التقليدي لآليات عمل الشعور، يوضح، مدى رهافة قدرته على الإصغاء: الأصوات النائية لكافة الحيوات التي عاشت وغادرت ولم تجد إلا أن تقاوم لا معناها. فالنحات مكث يكوّن مشروعه الشخصي تارة يدوّن، أي ينحت، وتارة أخرى: يصغي لكائناته وحيواناته المتداخلة الأجناس.. فهو لم يمتلك إلا أن يراقب ذاته، والآخر، في منجز تتجمع فيه مجموعة الأصوات، والتصورات، والاعتراضات. فهو لم ينتج أعماله الفنية للتسلية، أو للانتصار، ولم ينجزها من اجل هزيمة الآخر، وإنما سمح لنا بمشاهدة هذا العرض الدرامي، وقد كان من (المهارة) أن كرس حياته لتمثل هذا الذي كان متوازنا ً بين الأزمنة، والتصدعات، بعد أن دمج في مشروع (النحت) أزمنة لم تعد مرئية، وأخرى، تتلمس خصائصها برؤية لها : ـ " ناس تقفز على ناس. أنا لا أعمل شيئا ً مفردا ً بل عدة أشياء. هذا قافز على هذا. هذا قائل هذا. هذا صاعد على هذا"
إن دلالة هذه الكلمات، وقد تضمنت رؤية صريحة لمفهوم الإشكالية ـ الصراع، لا تحسم إلا في النحت حاضرا ً. فالنحات لا يقلد ولا يستنسخ، وإنما ترك مشروع الابتكار ـ أو حتى ـ التحديث ـ منسجما ً ورهافته إزاء استحالة العثور على غاية، إلا باستحالة قبول الوقائع الشائعة، وقد فحصها بمنطق شعبي غاضب، لا يخلو من الدحض، والسخرية، والتندر. فهو، على سبيل المثال، لم يجد سكنا ً يسكنه: شكلا ً أو إناء أو حدودا ً يختارها،كما سيفعل غالبية الباحثين عن (شقق) متشابهة، ومعدة سلفا ً ، بل سيشيد مأواه،شكلا ً ومضمونا ً باستخدام أدواته: أصابعه وعقله وحواسه الأخرى. فهو يمتد مع الإشكالية، ولا يرتد إلى عصور سابقة.. بل سمح للحاضر، عند المقارنة، أن يحمل الذي لم يندثر: الكلبية والشراسة واحتقار التهذيب. فعبقرية منعم فرات ليست بدائية، أو لا كتابية، أو عذراء. إنها، على العكس، سلسلة ألغام. فهو حدق طويلا ً في عصر تبلور تحديثات مستعارة، جاءت مع الاحتلال، والغزو، والهيمنة الخارجية. لأن أشكال التحديث، ومضامينها، كلاهما، لم يولدا بفعل التراكم، ولا بفعل الجهد المنطقي الطويل له، بل، بفعل النقل أو الاستنساخ. والنحات لم يعر هذا الأسلوب إلا إهمالا ً، بعد أن اختار، كما فعل أسلافه، في أكد، وقبلهم في سومر، شرعّية البناء. فالنص الفني، كالبيت، تصوير للداخل في حدود علاماته الخارجية. فإذا كان الطائر، كما قال باشلار ـ بلغة شعرية نادرة وعذبة وسحرية ـ يبني بيته بنبضات قلبه، مانحا ً العش، من الخارج، أسرار القلب! فان (بدائية) منعم فرات لا تنفصل عن مفهوم: الإنشاء، أو البناء. انه لخّص مأزق المشاهدة، ولم يبررها بثوابت عادات شائعة وراسخة. انه فعل ذلك حد جعل كيانه مشروعا ً فنيا ً.. وعند المقارنة، سنجد نحاتا ً عظيما ً كجواد سليم، لا يغادر هذا المسار. فقد ضحى الأخير، وهو يصارع المرض، بحياته من اجل حياة وجدت مأواها في الفن ـ النحت بالدرجة الأولى. ومثال فرات، في الإنبات، يسمح بإعادة اكتشافات ثرة: إن العصور القديمة، لم تغب. إنها قد تختفي، لكنها، تثب. فماذا وقد رآها حاضرة على أمامه : ـ " هذا قافز على هذا .. هذا قاتل هذا.. هذا صاعد على هذا.." كي لا يحجبها، بحجاب التحديث، والاستعارات، وإنما صاغها بتفرد شكل منعطف الابتكار: المغامرة ... والذهاب بعيدا ً في مشروع ـ وشرعية ـ التعبير النحتي، لا بصفته ينتسب إلى حاضر مقحم، بل إلى أقدم مهارات الأصابع، مع عصر نشوء الزراعة ـ والمنازل، وهي تتبنى علامات كدها بين الميلاد والموت.

شهادات

د. أكرم فاضل ..اللقاء الأول


["كان ينحت في البيت وينحت في دروب المحلة وينحت في المقاهي. وكان ابنه احمد يسأله: "ماذا تعمل يا أبتي من منحوتات هذه؟" فيجيبه منعم فرات:" إن هناك إنسانا ًيبحث عني وابحث عنه، واراه يهيم في عالم الغيب من حيث لا يراني. ويوم يقع بصره علي ّسيبرهن للناس على عظمة أبيك" .. وخلال هذه الفترة نحت رأس جورج الخامس ورأس فيصل الأول ورأس عبد المحسن السعدون وباع هذه الرؤوس بأبخس الأثمان. "
وعن لقاءه بالنحات يذكر:
" رايته ظهيرة إحدى الجمع عام 1960 واقفا ً بين البنك المركزي ومصرف الرافدين وبيده تمثال طير صغير أجنبي ملون. دنوت منه بتلهف وسألته عنت سعر المنحوتة فأجابني بان سعرها متروك للسائل فنقدته مائتان وخمسين فلسا ً وأعطيته بطاقتي الشخصية." متابعا ً:
" هذا هو الأعرابي العملاق ماثل أمامي، أسأله عن سره فيخبرني انه طالع مجلات فتية فقالت له نفسه:" انك قادر على نحت أمثال ما رأيت" فيحاول... يزور المتحف العراقي مرة مستوحيا ً فينحت بعد الزيارة ما تلهمه مخيلته غير مقلد شيئا ً.. فإذا بمديرية المتحف تقيم عليه دعوى جزائية موضوعها التزوير، وإذا بحاكم الجزاء عبد العزيز الخياط الذكي الفؤاد يرد الدعوى ويزجر ممثل الدائرة.فأسأله عن نشأته فيخبرني ان مسقط رأسه محلة الشيخ علي، وأن أهله كانوا من ملاكي الأراضي الموسرين. وكان أبوه شيخ الطرف، بحيث لا يدنو احد من داره إلا غداه أو عشاه، لأنه ابن عشائر، لأنه جبوري...اسمه نعيم بربوت وادي، لكنه أطلق على نفسه اسم "منعم فرات" باعتباره الاسم الفني. لم تسجل أراضي الأسرة بصورة قانونية في العهد العثماني، فاغتنم هذه الثغرة احد الشطار وانتزعها من أيدي أصحابها بعد الاحتلال.. فأقاموا عليه دعاوى خسروها... وتثور ثائرة نعيم الشاب فيرسل إلى المغتصب رسالة يرسم فيها خنجرا ً، فيقيم المهدد بالخنجر الدعوى، ويدخل نعيم السجن ليقضي فيه سنة. يعود
بعدها إلى داره ليظل سنة تحت مراقبة الشرطة. وكان قبل اغتصاب أراضي ذويه يعمل فلاحا ً فيها.. ويدور به الزمان وهو يزاول شراء الأغنام وبيعها، وفي إحدى السنين تلجئه الحاجة العاتية إلى الاشتغال عاملا ً في معامل العينة.."
ويدور الحوار التالي بين أكرم فاضل ومنعم فرات:
* لا اصدق ان مواهبك تقف عند طيور أجنبية..إنني لست بموجهك، وإنما كل ما أريده منك ان تكون أنت نفسك. فأجابني:" إن راسي يعج بالسعالي والغيلان والأفاعي والعفاريت والطناطل" فاقترحت عليه ان تعمل يداه وفق تعليمات رأسه"]

* كتاب [منعم فرات ـ نحات فطري] وزارة الإعلام/ السلسلة الفنية ـ رقم (27)1974


شهادات ـ 2

ألبرتو جاتيني.. منحوتات فرات تتكلم اللغة العربية


[ " "منعم فرات، وهو النحات العراقي، اختار بمفرده طريقه الذي يقوده نحو غاياته الفنية: هذا الاختيار انبثق من أعماق نفسه الأصيلة. وأول عمل قام به هو رفضه لأي شكل ولأي تأثير أوروبي، سواء كان ذلك في التكنيك أو في الشكل الظاهري، ففضل في عمله الفني الرجوع أدراجه، مستوحيا ًالماضي بكل ما فيه من جلال.
فنان مثل منعم فرات شيء نادر لا يمكن العثور عليه في كل زمان ومكان، ذلك لأنه جعل أعماله الفنية تتكلم بلغة قديمة، بل ابعد من القدم نفسه، اذا صح التعبير. ولنقلها بصراحة ان أعماله الفنية أخذت تتكلم لغة عربية، واعني ان هذه الأعمال أخذت تتكلم وتستحضر ذلك الماضي الموغل في القدم، حين كان الساميون يجوبون الصحارى المجدية، وفي أذهانهم تلك المياه المتدفقة في وادي الرافدين، وكيف استطاعوا ان يلحقوا تلك الأحلام وينشئوا حضارات متعاقبة اقل ما يقال عنها أنها زاهية وشامخة لا تطالها يد الدهر أبدا ً، وبالرغم من ان التقاليد الموروثة منذ القدم لا تجيز إظهار الأشكال البشرية وغيرها بواسطة الرسم والنحت، فان فرات تحدى كل هذه الفترة الطويلة ليبدأ من النقطة التي توقف عندها ذلك الجمود."]

شهادات ـ 3


منعم فرات نحات القصص والأساطير التي لم نصلها بعد


قال النحات العراقي محمد غني حكمت، عن فنه، وعنه:

[ "إن شخوص منعم فرات، تتحدث عن قصص وأساطير تعيش في عالم لم نصل بعد إليه, ولكم تمنياه! .. فليس منا من رأى إنسانا ً برأس حيواني أو حيوانا ً برأس إنساني.
إن مخلوقات عالمه تتراكم بشكل عجيب، وتنبت على أجزاء من أجسامها مخلوقات أخرى ليست من جنسها، تعيش في صراع صامت.. في وحدانية وانفرادية، كئيبة حتى الأعماق، ولكنها رغم كل ذلك تفكر في اللانهائي، وتعيش في قعر الصمت الموحش: إنها تمثل ذلك الاضطراب والقلق الذي يغرق فيه عالمنا، وهذا ما يريد الفنان تحقيقه بشكل لا إرادي، ليشبع رغبتنا في تأمل صوره العجيبة التي يخلقها بأزميله الصغير" ]

محمد غني حكمت/ نحات وعضو جماعة بغداد للفن الحديث

شهادات ـ 4

ارمان آبيل .. هذا الأعرابي الذي صنع نفسه بنفسه


[ " لقد قلت آنفا ً كلمة عن منعم فرات، هذا الفنان الأعرابي، هذا الفنان الشعبي الذي اعتمد على نفسه وعلى نفسه وحدها فمارس فنه على هذا الصخر الجميل الذي تزخر به تربة بلاده، فانغمس منذ مطلع شبابه في نحت ما يريد التعبير عنه، وذلك باستخدامه للكتل الحجرية مشذبا ً صاقلا ً أكثر من كونه ناحتا ً، فابرز صورا ً للنساء والرجال، وأطلع شخوصا ً للحيوانات وهي مزيج عجيب في كل حركة من حركاتها مما ينغمس فيه سكان القرى من اضطراب في حياتهم اليومية.
إن المادة حين تلامسها يده، تستحيل إلى تعبير مباشر، يمكن القول عنها أنها تغدو في حكم المنتهية منذ تخطيطها الأول، لأنه من البداية، يجعلنا نستطيع التكهن بالتفاصيل التعبيرية. " ويضيف:
" لقد كنت في غاية الحبور لدى مصافحتي يد منعم فرات، وفي أوج السعادة حين تهنئته وعند سماعه وهو في قمة التواضع، يجيبني بحماس ظاهر مبديا ً اعترافه بالجميل لأولئك الذين بعد ان جاؤا به إلى الوزارة، أتاحوا له فرصة متابعة أعماله وهو متحرر من ربقة الحاجة."]
المستشرق البلجيكي ارمان آبيل

شهادات ـ 5

منعم فرات لشاكر حسن:
خلو الإنسان على حاله

يذكر الأستاذ شاكر حسن، في حواره النادر، مع منعم فرات، انه حينما تعرف عليه للمرة الأولى، لم يكن يتوسم فيه العبقرية، متابعا ً " كان يبدو إنسانا ً اعتياديا ً كمزارع، أو عامل وليس كمثقف، وكان ذلك الانطباع سرعان ما تحول لديه إلى نوع من الاعتراف المكتوم بقيمة (العمل الفني دونما فنان). أو ما يمكن ان يسمى بسادة مبدأ (التاريخ بلا أسماء). إذ ان مان يدور بخلدي وقت إذن كان هو لدى صدق ظهور الانسجام بمظهره، متواضعا ً، أكثر من سواه.."
ويذكر شاكر حسن:
" ثم حينما سنحت لي الفرصة بعد ذلك في التحدث إليه بهدف الكتابة، بل الاستزادة في الكتابة عن فنه، وجدت نفسي في موقف جديد إذ تحتم علي ّ ان أصحح بعض ماكونته عنه ..."
فيتحدث منعم فرات إلى شاكر حسن:
ـ" انتميت إلى الجيش العثماني في الحرب العظمى، ولم اشترك بها، امتهنت الزراعة في الوشاش وكنت استطيع مطالعة المجلات تزوجت ولي ولد كاسب، " ويتابع فرات:
ـ " اعرف نفسي إنسان مخلوق ولا عبره ..يدخلني بسرداب ما بيه دراج.. لم أسافر خارج بغداد لسوى الاعظمية والكاظمية لم اسمع قصة لم اسمع حكاية " ويقول متابعا ً:
ـ" الحكايات ؟ أنا لا أقراها ولا القصص أني لا أتذوقها" فيقول شاكر حسن:
ـ " ولكني عرفت بعد ذلك منه انه كان يؤلف الحكايات وانه يحفظ الشعر وانه يسافر، سافر على الأقل مع الجيش العثماني (في السفر بر) لقد كان إذن يبني هكذا منفاه الذاتي تحصنه أو (موته الروحي) الذي كان كما يبدو يستمرأه بشغف بما يلهيه عن التفكير بحياته الدنيوية " يقول منعم فرات:
ـ " تعجبني أصوات الطيور البلابل والبيبي متو والديك يسمع ديج العرش اذا صاح الغراب فقولوا خيرا ً فان الخير كامن في جنح الغراب " متابعا ً:
ـ " لا تعجبني الأغاني. أجمل شيء الحيوان.. خلو الإنسان على حاله.."
ـ " أنا مومطيرجي. كل شيء لا تحصل منّه على (أذية) غير لائق بالكراهية والمؤذي من الواجب ان لا تجنيه" " البعير هو الحيوان الذي يعجبني لكن النحلة هي سيدة الشجر كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تأتي أكلها كل حين وبعد ذلك الأشجار الحمضية كالبرتقال والأعناب والتين ثم كل ما هو نبات اخضر "الخضر الياس" ثم نجده يبلغ في جدوله البياني الكوني هذا مبلغ الجمادات:
ـ " أنا أحب من الأحجار ما هو نافع. مرمر فرش الموصلي.. الحجر الأزرق والأبيض ألشكري النباتي" " فيدوّن شاكر حسن انطباعه:
ـ " آه ما أجمل نعوتك لعالم مخلوقاتك يا منعم فرات! وما أجمل تلك الصخور الجرداء ذات الأشكال البلورية في تصورك! إنها كنزك الذي تستطيع ان تباهي به الآخرين أمام الخليقة جمعاء إنها حجرك الثمين وماسك ولؤلؤك في آن واحد"
ويختتم حواره معه على النحو التالي:
• هل قتلت أحدا ً..؟ هل اختصمت، هل ذبحت دجاجة ؟
ـ صمت.
* هل تعرف السباحة..؟
ـ أنا تبدور لا اغرق.
* هل تعبد الله..؟
ـ أنا مذهب سز، دين سز!
*هل ...؟
ـ لم ارسم شيئا ً لأن النحت أقوى. لم العب القمار."]
* شاكر حسن. مجلة الرواق/ وزارة الثقافة والأعلام ـ بغداد ـ العدد13 العام 1982


شهادات ـ 6

منحوتات منعم فرات وارتباطها بالموروث الشعبي

حسين الهلالي

منعم فرات بعفويته وجرأته وانتصاره على الحجارة الصلدة استطاع ان يخرج بقامته ووضوحه إلى هذا العالم الذي يفتش عن كل ما هو جديد ويقول للجميع ها أنا ذا اطرح أسلوبي العراقي المتفرد والمتجذر والمنحدر من صلب المبدعين الأوائل في سومر واكد وآشور، اولئك الفنانون المجهولون الذين اظهروا اسم العراق بأعمالهم التي تتحدث عن الأوائل في التاريخ الطويل.
منعم فرات هو ابن شعراء سومر، دنجركامو، وابن انخيدوانا الشاعرة الكاهنة الأكدية، هو ابن يحيى بن محمود الواسطي ورسومه التي عبرت عن عصره، هو ابن عصره الذي سار متخفيا ومختفيا في ظل المبدعين ،جواد سليم، فائق حسن، خالد الرحال، محمد غني حكمت وظهر صامتا تحيط به منحوتاته التي تتحدث كوميديا الإنسان في عصره وهي شامخة متزنة، أظهره إلى دائرة النور الراحل الدكتور أكرم فاضل، حاملا همومه وأسرار أسلوبه الذي لا يمت بصلة الأساليب الأخرى وحتى السومرية لكن إصراره إصرار سومري وشخصياته من عالم سحري فطري مرجعياتها في ذاكرته التي تمتد وتتوغل في موروث الشعب العراقي منذ طفولته التي عاشها في القرية وسمع الحكاية وشاهد مأساة الفرد هناك حتى شبابه وكهولته التي تداخلت مع موروث المدينة وتعاشقت مع مفرداتها اليومية إذن هذه هي مقومات منحوتاته، وعلى الرغم من فطريتها وبدائيتها إلا أنها تعيش عالمها الخاص معبرة بصمت عن الأحداث التي ورثتها من هذا الشعب العراقي ، في جلستها تصغي إلى الآخر بوجه بشوش على الرغم من ثقل هموم الدنيا التي تحملها، هذه الهموم التي ورثتها من الشعب العراقي، الآتية من ظلم استعماري وإقطاعي ونظام تعسفي عميل، هي صامتة وتنتظر لتنفجر بقوة ضد ظلم هؤلاء، والصبر والأناة والتصرف باتزان هو سمة من سمات الشعب العراقي موروثة وموغلة بالقدم.والقطعة الفريدة من تمثال آخر متراصة في كل جوانبها الدائرية ولا تعيي اي مجال لاختراقها وفك مفاتيحها وهي مأخوذة من المثل القائل (حط ظهرك على ظهر أخوك ونام).أما التمثال الثاني هو جلسة الحكيم وتقاطر الناس عليه للاحتكام عنده، هو ذلك الوجه الورع المملوء حكمة ودراية وصبر، هو جوديا وحمورابي وسرجون الاكدي هم رجال العراق الحكماء الذي خلدوا في التاريخ القديم وهذا التمثال اتكاءه على موروث من التاريخ ولكن لو رجعنا إلى منعم فرات والى دراسة قسمات وجهه وتأملنا صمته الطويل وتأملنا منحوتاته نجده هو ضمن هذا السكون وعدم البوح بأشياء وأسرار كامنة في نفسه جاءت من انعكاسات المجتمع الذي يعيش فيه.لا يعلم بفناني العالم وسعيهم إلى ما هو جديد ويجاد أساليب خاصة بهم تقوض الفن الكلاسيكي وكل ما هو تقليدي رتيب فهم منذ عصر النهضة إلى الآن يسعون إلى الحداثة في الفن، فظهور منحوتات هنري مور بتجاويفها وانطراحها هو خروج عن المألوف وعن تقاليد النحت الإيطالي في عصر النهضة هذه التقاليد التي تلزم الفنان بتطبيقها وتماثيل جاكومتي واستطالتها الملفتة للنظر والتي تنشد التحرر من كل القيود المفروضة.
وهي نفس الرؤى والعفوية التي عبر عنها منعم فرات في منحوتاته وأسلوبه الخاص الجديد، وهذه المنحوتات اربكت الفنانين العراقيين عندما انتبهوا لها بل أدهشت فناني العالم والنقاد عندما عرضت في الخارج لأنها قدمت قيمة كبيرة في الفن الفطري السائد في العالم.

شهادات ـ 7
(منعم فرات) ولغة الصخر: الحجر التعليم

علي النجار
من أشهر فناني العراق الفطريين، وأوضحهم أسلوبا تتمثل في منحوتاته سمات بلاد الرافدين الفنية التنقيبية المعروفة عبر حقبها المتعددة. اختار كما أسلافه السومريين والآشوريين مادة الصخر مجالا لإنتاج منحوتاته. ولهذا الاختيار عوامل عديدة منها توفر هذه المادة وسهولة حصوله عليها. ولمألوفة المنحوتات الأثرية في عموم العراق. سواء ما متوفر منها في متحف الآثار العراقي الحديث النشأة وقتها، أو في المواقع الأثرية العديدة التي تغطي مساحة رقعة هذا البلد الجغرافية. وإذا ما عرفنا بان منعم جرب النحت على الحجر وأنجز رأس إنسان واستهوى هذا العمل منذ عامه الثامن عشر ( في عام 1918). في تلك الحقبة الزمنية التي كان فيها العراق يفتقد حتى إلى التعليم الابتدائي إلا ما ندر، وكانت الكتاتيب التي تحفظ القران هي السائدة في أزقة بغداد وبقية المدن، كما كان الخطاب القرآني وملالي الخطب الدينية وقراء ومستطلعي الحظ والتنجيم ( فتاحي الفال) لهم النصيب الأوفر من حصة الثقافة الشعبية السائدة. ولم تكن ثقافة فناننا إلا بعضا من هذا التحصيل المعرفي الشعبي. وان كان يتماها وشقه الديني المحاذي لمنطقة التصوف المحلي. فقد كان الخطاب الديني والتراث العربي بشقيه ألمديني واللا مديني (الريفي والبدوي) يسيطر على ذاكرته. ولم يكن نتاجه ببعيد عن كل ذلك، بل كان تفسيرا لواقع أو مخيال ورموز ذلك التراث مترشحا عبر غربال تفاصيل هذه الثقافة الشعبية لبداية القرن التاريخي. وما منحوتاته بمجملها إلا تمثيلا لمحنة وجدانه ورهافة أحاسيسه.
(الأحجار منذورة لي)، هذا ما كان يردده (منعم فرات) دوما. وللنذر أصل سحري بالمعنى المجازي. والسحر الذي يسلطه منعم على أعماله ذات الهيئات المركبة هو خليط من مركبات ذهنية ذات مرجعية تاريخية واجتماعية عاش أزمنتها، هو المتلبس سحرا غابرا و المتسربل أخلاقية فروسية عربية نادرة، وكما دونته ابنته لاحقا ( عاش ومات وحيد منعزل فريد ومؤمن بالله وبملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر لا يحسد أحدا ويكره التزييف (الزيف) والحيلة والغش والفتنة قليل الكلام والضحك يخاطب الله في كل وقت لماذا ذبح هذه الحيوانات الأسيرة الضعيفة ولم لا تحلل ذبح الحيوانات المفترسة، يكره الحرب ويقول لماذا تزهق الأرواح لولا الطامعون لا يشرب الخمر ولا يلعب القمار (1)) وما يهمنا من مقتطف هذه السيرة على أهميته هو ما ورد فيها من مفهوم أنسنة الحيوان وبقية المخلوقات، الذي تمثل على أوضح ما يكون في معظم منحوتاته أو احفوراته. بما ان أعماله النحتية منفذة بواسطة الحفر والكشط والحز وبما يوازي تعرية سطوحها من زوائدها التي تغلف أو تطمر رؤيته المشهدية لمجاميع كائناته الإنسية والحيوانية. أو اختلاطاتهما معا في نسيج واحد، أجسادا وملامح متبادلة أو متكافئة الأدوار أو الأداء الأسطوري. بما ان الأسطورة هي عنده فروسية أخلاقية، حاضرة هنا في شقيها الواقعي والخيالي. وان كانت المنحوتات الأثرية العراقية مغرقة بتفاصيل مثقفة (وعيها الزمني وإغراضها الدينية والدنيوية (2)) فان اختلاف أعمال منعم عنها يكمن في عمق الإفصاح عن فطرته وهو الذي صان سجية هذه الفطرة طوال دروب عمره. وعن ابنته مرة أخرى (أرسلت الوزارة ـ تقصد وزارة الثقافة العراقية وفي وقت متأخر) منعم إلى طبيب العيون يفحصه ويسأله فقال للطبيب أنا لست طيارا ولا مدفعيا. أنا نحات والحجر قريب مني (إلي) أنت طبب نفسك وخرج).
ربما للأحلام دور مهم في إخراج منحوتاته. فان كانت الفطرة حلما سكن الذات الإنسانية يوتوبيا منذ الأزل. فإنها كذلك خاضعة للضمور أو الظهور، ربما بسبب من محفزات ظرفية. وان كان في الإمكان تجسيدها، فإنها تجسدت في أعمال هذا النحات الفريد. فكل منحوتة مستقلة من منحوتاته تمثل حلما سكنه في لحظة ما.
وان كان قد عاش حياته الحلمية نذرا مستحيلا. فان سحر هذه الأحلام سوف يكون شاخصا كما هو سحر الدمى السومرية. وان جازت المقارنة بينهما فهي جائزة بحدود مبثوث نواياها الحلمية الأسطورية وبملامحها الرافدينية وبمحركات حاضنتها الطينية. وما الاختلاف إلا في حدود نوايا الفنان. وان كانت منحوتات منعم تندرج ضمن مساحة الفن الفطري، فإنها شـأن أعمال سكان استراليا الأصليين (الأبرجينيز) تبقى محافظة على خصائص تفردها بدلالاتها السحرية وبمحمولات تفاصيل كائناتها المؤنسنة، كما أنها تشكل استثناءا بين بقية أعمال الفنانين الفطريين العراقيين لوضوح خطوطها الأسلوبية رغم صغر أحجامها و ميزة كتلها النصبية الواضحة.
مع استثنائنا للرسوم العراقية الفطرية التي أخذت منحا مغايرا عن عموم الرسوم الفطرية العربية. كونها، وخاصة في منطقتي الفرات الأوسط والجنوب، تميزت بالاشتغال على تشخيص الرموز الدينية، وعلى الرسوم التمثيلية لوقائع تاريخية دينية أيضا، وبتأثيرات مشرقية فارسية، ومغربية عربية (جغرافيا). كما الاختلاف في أحجام هذه الرسومات والتي تقارب مساحات اليافطات الإعلانية، سواء مثلت حدثا مفردا أو سلسلة أحداث متعاقبة. ولكثرة تكرار تفاصيلها واستعادتها، فإنها شكلت حدثا فولكلوريا شعبيا واضح المعالم وقابلا للاستنساخ إلى ما لا نهاية. كما ان معظمها ابتعد عن الأداء ألمسندي للوحة الرسم. لذلك بقي النتاج النحتي الفطري هو الأبرز في هذا المجال في العراق. مع استثناءات نادرة. ربما يرجع سبب انحسار أو شيوع نمط الرسوم الفطرية العربية المتقاربة الخصائص في العراق، هو اكتفاء الذاكرة الجمعية العراقية بهذا الأداء النحتي والرسم الديني المشرقي. وان تكن لم تختلف بشكل مطلق عن بعض النماذج الملحمية لبلاد الشام ومصر على سبيل المثال. لكنها تبقى متفردة في إخراجها ونواياها الثقافية ومرجعيتها التاريخية الخاصة.
* فنان تشكيلي وناقد

منعم فرات في سطور

ولد الفنان منعم بربوت وادي المعروف في الوسط الفني بـ (منعم فرات) في بغداد محلة الشيخ علي في جانب الكرخ عام 1900.
تعلم القراءة والكتابة وحفظ القران الكريم بواسطة الكتاتيب وأول عمله مزارعا في أرضه وكان يفكر في النحت فذهب وجاء بصخرة و أدوات إلى المزرعة وبدأ ينحت فحولها إلى رأس إنسان فهنأ نفسه واستمر على النحت وكان عمره 18 سنة وظل يواصل العمل وينحت.
هذا الفنان القروي الفنان الشعبي الذي أعتمد على نفسه وعلى نفسه وحدها فعالج فنه على الصخر الجميل الذي تزخر به تربة بلاده فأنهمك منذ مطلع شبابه في نحت مايريد التعبير عنه وذالك بأستعماله الكتل الحجرية وتمليسه لها اكثر من كونه ينحتها فابرز صور للنساء والرجال وكذالك صور للحيوانات وهي مزيج عجيب فجمع في كل حركة من حركاتها مايقوم به في الحياة اليومية سكان القرى والأرياف.
كذلك ألف أكثر من ثلاثون كتابا منها ((ايهل الراقد)) ، ((العاجزون في الأرض)) و ((اللؤلؤة والصراع العنيد)).
حصل منعم فرات على الجائزة الاولى بدرجة ممتازة في المهرجان الدولي الثالث للفنون الفطرية الذي أقيم بمدينة (براتسلافا) في جيكو سلوفاكيا بداية شهر ايلول عام 1972 وشارك فيه (55) فناناً.
كتب عنه الناقد الايطالي ((البرتو جاتيني)) " منعم فرات اختار بمفرده طريقة الذي يقوده نحو غاياته الفنية ، هذا الاختيار انبثق من أعماق نفسه الأصيلة ، وأول عمل قام به هو رفضه لأي شكل ولأي تأثير أوروبي ، سواء كان ذلك في التكنيك أو في الشكل الظاهري ، ففضل في عمله الفني الرجوع أدراجه ، مستوحيا الماضي بكل ما فيه من جلال ، وان فنان مثل منعم فرات شيء نادر لا يمكن العثور عليه في كل زمان ومكان ، ذلك لأنه جعل أعماله الفنية تتكلم بلغة قديمة ، بل ابعد من القدم نفسه ، إذا صح التعبير ، ولنقلها بصراحة إن أعماله الفنية أخذت تتكلم لغة عربية ، أي إن هذه الأعمال أخذت تتكلم وتستحضر ذلك الماضي الموغل في القدم ، حين كان الساميون يجوبون الصحارى المجدبة ، وفي أذهانهم تلك المياه المتدفقة في وادي الرافدين ، وكيف استطاعوا أن يحققوا تلك الأحلام اقل ما يقال عنها إنها زاهية وشامخة لا تطالها يد الدهر أبدا ، لذا يمكننا القول بان منعم شبيه ببيكاسو وبراك ديران وماتيس ، أولئك الذين فتحوا الطريق أمام التجديد في الفن الأوروبي فنهضوا بهذه المهمة باكتشافهم الفن الزنجي والاوقيانوسي واستخلاص النتائج من ذلك ".
وقال عنه النحات محمد غني حكمت " إن أعمال منعم فرات أصبحت وستصبح أمثولة لأكثر من فنان عراقي ، ذلك لان أعماله الخاصة ، وأسلوبه في تصوراته برمتها لا تتصل بمدرسة فنية معينة ، ولا تشتبك بجذور من مؤثرات خارجية ، أنها خلاصة ملاحظة عامة للمنظورات وتعبيرات مبهمة لأحاسيس وأخيلة عن الحيوان والإنسان في حبهما وفرحهما .. في غضبهما ورضاهما .. في أحلامهما وأمانيهما ، إن شخوص منعم فرات ، تتحدث عن قصص وأساطير تعيش في عالم لم نصل بعد إليه .. ولكم تمنيناه ! .. فليس منا من رأى أنسانا برأس حيواني أو حيوانا برأس إنساني ، إن مخلوقات عالمه تتراكم بشكل عجيب ، وتنبت على أجزاء من أجسامها مخلوقات أخرى ليست من جنسها ، تعيش في صراع صامت .. في وحدانية وانفرادية ، كئيبة حتى الأعماق ، ولكنها رغم كل ذلك تفكر في اللانهائي ، وتعيش في قعر الصمت الموحش ، إنها تمثل ذلك الاضطراب والقلق الذي يغرق فيه عالمنا ، وهذا ما يريد الفنان تحقيقه بشكل لا إرادي ، ليشبع رغبتنا في تأمل صوره العجيبة التي يخلقها بأزميله الصغير ".

__________________________________
منعم فرات بعفويته وجرأته وانتصاره على الحجارة الصلدة استطاع أن يخرج بقامته ووضوحه إلى هذا العالم الذي يفتش عن كل ما هو جديد ويقول للجميع ها أنا ذا اطرح أسلوبي العراقي المتفرد والمتجذر والمنحدر من صلب المبدعين الأوائل ، في سومر وأكد وآشور ، أولائك الفنانون المجهولون الذين اظهروا اسم العراق بأعمالهم التي تتحدث عن الأوائل في التاريخ الطويل ، أظهره إلى دائرة النور الراحل الدكتور أكرم فاضل ، حاملا همومه وأسرار أسلوبه الذي لا يمت بصلة إلى الأساليب الأخرى وحتى السومرية لكن إصراره إصرار سومري وشخصياته من عالم سحري فطري مرجعياتها في ذاكرته التي تمتد وتتوغل في موروث الشعب العراقي منذ طفولته التي عاشها في القرية وسمع الحكاية وشاهد مأساة الفرد هناك حتى شبابه وكهولته التي تداخلت مع موروث المدينة وتعاشقت مع مفرداتها اليومية إذن هذه هي مقومات منحوتاته ، وعلى الرغم من فطريتها وبدائيتها إلا إنها تعيش عالمها الخاص معبرة بصمت عن الأحداث التي ورثتها من هذا الشعب العراقي ، في جلستها تصغي إلى الآخر بوجه بشوش على الرغم من ثقل هموم الدنيا التي تحملها ، هذه الهموم التي ورثتها من الشعب العراقي ، الآتية من ظلم استعماري عثماني وظلم استعماري انكليزي وظلم إقطاعي مسنود من نظام تعسفي عميل ، هي صامتة وتنتظر لتنفجر بقوة ضد ظلم هؤلاء ، والصبر والأناة والتصرف باتزان هو سمة من سمات الشعب العراقي موروثة وموغلة بالقدم والقطعة الفريدة من تمثال آخر متراصة في كل جوانبها الدائرية ولا تعطي أي مجال لاختراقها وفك مفاتيحها وهي مأخوذة من المثل القائل (حط ظهرك على ظهر أخوك ونام) أما التمثال الثاني هو جلسة الحكيم وتقاطر الناس عليه للاحتكام ، وهذه المنحوتات أربكت الفنانين العراقيين عندما انتبهوا لها بل أدهشت فناني العالم والنقاد عندما عرضت في الخارج من كونها قدمت قيمة كبيرة في الفن الفطري السائد في العالم.
أصبح منعم فرات عضوا عاملا في نقابة الفنانين العراقيين بتاريخ 7-1-1971 أحيل إلى التقاعد في الثامن من آب عام 1972، كانت أحالته على التقاعد فاجعة إنسان مرهف الشعور ومرهق الجسد قذفت به سيارة مجهولة على رصيف مهمل في أحد شوارع بغداد فوجد ميتا وبموته انتهت حياة الفنان الفطري منعم فرات الذي تعامل مع الحجر بكل الحب والإبداع وجسد في فنه الطبع والصنعة على حد سواء.
Az4445363@gmail.com








ليست هناك تعليقات: