بحث هذه المدونة الإلكترونية

إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الأربعاء، 4 أغسطس 2010

العلمانية عند العرب-عدنان الصباح


العلمانية عند العرب...من الاصالة الى البؤس

عدنان الصباح
ad_sabah@hotmail.com

"إن الحكمة هي النظر في الأشياء بحسب ما تقتضيه طبيعة البرهان"
"من العدل أن يأتي الرجل من الحجج لخصومه بمثل ما يأتي به لنفسه"
"ليس يمكن أن يكون الفاسد أزليا ولا يمكن أن يكون الأزلي فاسدا. كما انه ليس يمكن في المثلث أن تعود زواياه مساوية لأربع قوائم ولا في الألوان أن تعود مسموعات، والقول بهذا ضار في العلوم الإنسانية جدا"
ابن رشد

كلمة لا بد منها
ان الفكر الدنيوي لم يكن ابدا وسيلة للابتعاد عن الإيمان الروحي بل إن الفعل الدنيوي هو احد الوسائل العملية للتقرب الى الله والايمان به ولا إثبات للايمان بالقول بل بالفعل والسلوك الحي على الأرض, وهو القائل سبحانه " وقل اعملوا فسيرى الله عملكم " فالله اذن في لغة الإيمان الحقيقي هو الدعوة الصادقة للعمل الطيب أيا كانت أهدافه والله هو رؤيا الحب الخالص في عقول البشر قبل قلوبهم فمن يؤمن بالعقل يتواصل إيمانه ومن يؤمن عاطفيا يبقى عرضة للأهواء, والله أعطانا الدنيا لنبدع فعلا فالفعل الايجابي صلاه وحراثة الأرض صلاة وزراعتها وتحويل منتجاتها ومخرجاتها لسلع لرفاهية البشر صلاة وصياغة العلاقة بين بني البشر على قاعدة الفعل وتنظيمها بما يكفل حق الإنسان بالعيش الكريم الحر صلاة, والعرب هم جزء من امة الله على الأرض, وهم احد مكوناتها الإنسانية وصانعي حضارتها وفي ذلك تقع على عاتقهم أيضا مهمة تبرير هذا الاعتقاد بالتفاعل الايجابي الحي مع مكونات الإنسانية حضاريا, فعلا ينتج فكرا حقيقيا فاعلا منتجا ورافدا للإيمان بالحقيقة فالله حقيقة, إن إيماني بالله يبدأ مع نهار الفعل لا ليل النوم ومع الأداء على الأرض حيث تؤثر فعلا ماديا حيا, لا مع الغياب في الوهم فالله يراقب أداءنا لا أقوالنا وينتظر منا أن نبرر الصورة الجميلة التي خلقنا على شاكلتها والصلاة حب والسجود تواضع ورفع الأيدي للتكبير فعل.
إن وجودنا على الأرض دعوة إلهية للفعل وصياغة الفكر المشتق منه وبالتالي فان أولئك الذين يحاولون حشر الله سبحانه في دور العبادة وجعل المهمة الأولى للبشر هي انتظار الموت هم أعداء حقيقيون للإيمان الواعي به سبحانه, وعلى العكس من ذلك فان العلم ينبغي له أن يكون حامي للإيمان لا مناقض له والحقيقة تكريس مادي للإيمان لا معارضة له, وصياغة الحياة بما يضمن إسعاد البشرية على ارض الله هو فعل الإيمان عملا لا قوله لفظا, والعمل دوما هو الشاهد والحقيقة الأصدق والأكثر تجذرا وبقاء والأرسخ إيمانا لأنها الابقى والأقوى وأنا إذن أحب الله لأني أومن به وبحقيقته وحقائقه, وواثق جدا أن الله لا يقبل الوهم والخرافة والكذب.
الله لا يريدنا نساكا مقيدين ننتظر الموت ونرتعد خوفا من غده بل فاعلين مؤدين مبدعين في صياغة حياتنا ورسمه أكثر لطفا وأكثر حبا وأكثر رفاهية وفي سبيل ذلك فان الأنظمة والقوانين والصيغ الضرورية لتنظيم حياتنا هي حق لنا أودعه الله سبحانه فينا فهو سبحانه يغفر كل شيء إلا أن يشرك به أحدا, على هذه القاعدة أبدع الفكر العربي والحضارة العربية مفكرين عظام وفكر عظيم صاغة فعله حقيقيون من أمثال ابن رشد وابن سينا وابن خلدون والفارابي وابن المقفع وغيلان الدمشقي وابن باجه وابن طفيل وتتابع بعدهم مدركون واقعيون لللايمان فعلا وعملا لا لفظا من أمثال حسن العطار ورفاعة الطهطاوي ومحمد عبده والأفغاني والعقاد ولطفي السيد واحمد أمين وقاسم أمين وقسطنطين زريق وساطع الحصري وطه حسين إلى أن حمل راية التجديد والتحديث والحرية قادة عظام من أمثال جمال عبد الناصر وجورج حبش وميشيل عفلق وأنطوان سعادة.
ان مشاركة الكوكبة العظيمة هذه في كل المراحل في صياغة أدوات وفكر الإدارة للشأن الدنيوي هو عمل إيماني بحت لا يتناقض أبدا مع روح ومبررات الصحيفة التي صاغها محمد عليه السلام لتنظيم مجتمع دولة المدينة المنورة المدني وبالتالي يصح القول ان الفكر الدنيوي او العلماني عند العرب هو فكر أصيل لا أجنبي دخيل أو مستورد كما يحلو للبعض تسميته.


العلمانية لغة
إن التسمية الحقيقية للعلمانية وبغض النظر عن الترجمات الحرفية وغير الحرفية فان للعرب أيضا تسميتهم وهي الدنيوية أو الدهرية وهي التسمية المنطقية التي عرفها ويعرفها العرب وهي أيضا البديل المنطقي لسائر التسميات التي يحاول البعض إرجاعها إليها سواء ومنها العلمانية (بالإنجليزية: Secularism) وهي تعني بالتحديد الفصل التام بين المعتقدات الدينية والحياة الدنيوية بكل تجلياتها, والفرنسية Laïcisme والكلمتان مشتقتان من الكلمة اليونانية لاوس أي شعب أو عامة دهماء وهي نقيض لكلمة الكهنة أو النخبة ثم حملت كلمة لاوس فيما بعد معنى الدنيوية نقيض الكهنوتية أو الدينية.
الكلمة العربية جاءت أصلا مطابقة للكلمة السريالية علما – بفتح العين وتسكين اللام – وهي تترجم إلى العربية بمعنى العالم أو الدنيا وهي تنتمي لنفس الجذر الذي تنتمي إليه الكلمة العبرية عولام والعديد من اللغات الأخرى
والبعض يعرف العلمانية على أنها الرفض التام لتدخل السلطة الدينية أيا كانت بالحياة اليومية للإنسان, وهم يرون أن ذلك لا يعني أبدا رفض التدين أو عدم قبول الاعتقاد الديني ولكنه يضع حدا للدين داخل بيوت العبادة فقط, ولا يسمح له بالتجول في الشوارع والمصانع والمزارع وبإمكان الفرد ممارسة تدينه أينما شاء دون أن ينقل هذا التدين إلى البنية الدنيوية بنسيجها الاجتماعي والسياسي والاقتصادي واعتباره شرطا لعلاقته بالآخرين أيا كانت هذه العلاقة, والعلمانية هنا لا تطلب من احد الابتعاد عن الدين أو عدم اعتناقه بل ترى في الموضوع الديني الإيماني على انه علاقة خاصة بين المخلوق وخالقه, ويصل البعض إلى تعريف مبسط للعلمانية باعتبارها تطبيق لفكرة النهضة الأوروبية القائلة بفصل الدين عن الدولة, وقد حاول البعض نقل الشعار الغربي النهضوي إلى الواقع الشرقي والعربي دون تمحيص على الإطلاق, ويشبه ذلك إلى حد بعيد محاولة البعض تقليد النموذج السوفيتي للفكر الاشتراكي بغض النظر عن أية تمايزات هنا أو هناك في الجوهر أو حتى في الشكل وبذا فان التعريف الصحيح للعلمانية إذا جاز لي ذلك هو:
بناء مجتمع إنساني عصري واقعي " دنيوي " قائم على أسس العدالة والتعاون بين بني البشر على قاعدة أن الأرض هي مكان عيش الناس وان السبل الكفيلة بتطوير هذا العيش نمطا وقواعد ومنتجات هي ملك للبشر وحدهم بعيدا عن أية أوهام يختلقها البعض, وفي هذا السياق فانه لا مجال لتحقيق ذلك إلا بنبذ كل أنماط وأشكال الخرافة والتخلف أيا كانت الصيغ والتغليفات التي تقدم بها, مع احتفاظ الأفراد والجماعات بحقهم المطلق بحرية الاعتقاد الروحي والإيماني الديني بدون شروط أو إعاقات من أي جهة أو طرف, فالدين جاء لإسعاد البشرية وتطورها وهو سيؤدي مهمته إن تم منع دعاة الإغراق في الأنا الفردية وشعارات الخلاص الفردي وانتظار الموت واستخدام الخرافة والترهيب وسيلة لإخضاع البشر لأفكارهم ورغباتهم تحت ستار الدين


الفلسفة العربية أساس العلمانية:
يمكن القول أن الدولة العلمانية الأولى في التاريخ هي دولة المدينة المنورة (622– 632ميلادية) التي أقامها الرسول محمد عليه السلام والتي اشترك فيها العربي وغير العربي والمسلم وغير المسلم وكانت دولة كل مواطنيها فعلا ومن يقرا ميثاقها الذي سماه الرسول عليه السلام بالصحيفة يرى بجلاء البعد الدنيوي ونظام المواطنة العصري في نصوصها وتطبيقاتها, ورغم أن دولة المدينة المنورة شملت أعراق واديان مختلفة إلا أنها لم تجبر أحدا على التحول عن دينه, وقد استعان الرسول بخبراء من غير المسلمين لإقامة أركان دولته, ولذا فان المناداة بفصل الدين عن الدولة لا يمكنها ان تلقى نفس التأييد التي لقيتها هذه الدعوة في أوروبا ضد حكم رجال الدين وسيطرتهم وبطشهم, وعلى العكس من الفكر الكنسي فان الدين الإسلامي غني بالتشريعات الدنيوية وتفاصيل حياة الناس الاقتصادية والاجتماعية والسياسية وهو – أي الدين الإسلامي - لم يقف عائقا يوما أمام العلم كما حدث مع كوبرنيكس وجاليليو وغيرهم أو أمام الدولة المؤسسية كما فعل رجال الكنيسة ضد الدولة في أوروبا, في حين أن الصحيح هو فصل رجال الدين عن الدولة وذلك هو ما كان من فصل لرجال الدين المسيحي عن الدولة, وليس الدين المسيحي نفسه الذي ظل قائما بكل صوره بما في ذلك في أنظمة الدولة وقوانينها وقيم المجتمع بأسره, ثم أن من المفيد التذكير أن النهضة الأوروبية لم يكن لها أن تتم إلا بعد مرور حوالي ثمانية عشرة قرنا على ميلاد يسوع المسيح وبعد ان بطش رجال الدين بالبشر وحاولوا إغلاق العقول وهو يمكن اليوم أن يشبه أولئك الذين يعتقدون مثلا بان التلفاز بدعة ويحرمون التلفاز والمذياع وتعليم المرأة فتلك هي ظلامية الكنيسة قبيل عصر النهضة.
لقد شكل القرآن في حياة الرسول عليه السلام, وخصوصا في دولة المدينة مصدرا للتشريع في كافة مناحي الحياة, ومع ذلك فقد لجأ الرسول إلى صياغة ميثاق ارضي في تأسيسه لدولة المدينة المنورة وهو ما اسماه بالصحيفة حيث يتشارك الجميع على قدم المساواة في الحق بالدولة بغض النظر عن معتقدهم أو لونهم أو جنسهم, وبالتالي فان الإسلام تمايز عن غيره من الديانات بكون دين حياة أو كما يسميه البعض عقيدة وعمل ولا يجوز الفصل بينهما.
العديد من الفلاسفة والمحدثين رأوا أن الإسلام غير جامد وان القاعدة الفقهية القائلة بالاعتماد أولا على الفرض ثم السنة ثم القياس ثم الاجتهاد قد تركت الباب مفتوحا على مصراعيه للقول بان الدين الإسلامي لا يعرف الجمود ولذا رأى أنصار الدين أن الدعوة لفصل الدين عن الدولة لا منطقية وغير ضرورية للشأن الدنيوي حين يتعلق الأمر بالدين الإسلامي الذي لا يعترف أصلا بما يسمى برجال الدين ولا بحكمهم ولا وجود في الإسلام لما كان في المسيحية من طبقة رجال الدين وان كانت النظم السياسية العربية قد استحدثت مكانتهم لتحقيق أغراضها وبالتالي فان الدعوة المجازة برأي البعض هي فصل رجال الدين عن التدخل بنواحي الحياة والتخلص من كثرة المدارس الفقهية بأنواعها, ويصر البعض ان هناك فرق جوهري بين الشريعة والفقه
لن يستطيع احد أن ينكر الدور الرئيس للفلاسفة العرب والمسلمين في النهضة الأوروبية وفي تشكيل النواة الأولى للعلمانية في العالم ذلك ان الفلاسفة العرب والمسلمين هم الذين جاءوا الموروث اليوناني (أفلاطون وأرسطو) وجعلوه جزءا من الثقافة الإسلامية. كما ان دراسات مدارس أثينا والإسكندرية كانت تحلل إنتاج أرسطو الذي كانوا يسمونه "الأسرار الصغيرة" كمدخل لا بد منه لدراسة الفلسفة الحقيقية ، "الأسرار الكبيرة"حسب رؤية أفلاطون.
أما فلاسفة الأندلس فان المسالة عندهم قدمت على أنها العلاقة بين الفلسفة والدين. في كتابه "تدبير المتوحد" قال "ابن باجة" "الزمن هو ثورة مستمرّة وكل شيء ينتهي بالموت" وقد قال عنه المؤرخين العرب فيما بعد انه- ابن باجه – كان غير منحاز للدين وانه كان يحاول دوما التملص من النصوص الإلهية. كما أن ابن رشد كان ضد تزاوج الفلسفة والدين
وقد جاء الإصلاح من الشروحات التطويرية التي جعلت ابن رشد يعود بفلسفة أرسطو إلى الأرض وما قام به مع أرسطو يشبه إلى حد بعيد ما فعله كارل ماركس مع هيجل فيما بعد. وقد سعى ابن رشد للعودة من خلال أرسطو إلى العالم الطبيعي المعتمد على العقل البرهاني والإقناع بالتجريب والملموس ويمكن اعتبار ابن رشد المؤسس الحقيقي للذهب التجريبي. وقد كان شغوفا بأرسطو إلى حد كبير ولذا قال عن أرسطو انه: "اخترع وأكمل المنطق والفيزياء والماوراء" ومن اجل ذلك يستحق أن يُعتبَر كإله لا ككائن بشري".
ولذا فانه يمكن القول أن ابن رشد مثلا هو الذي عاد بفكر أرسطو إلى الأرض وضمنه الرؤية المادية الأولى بقوله قبل غيره إن جوهر الصورة وسر المادة يجب البحث عنه في المادة نفسها ويذكر المؤرخين لتاريخ الفلسفة الإنسانية ما تعرضت له فلسفة ابن رشد من تضييق على يد توما الاكويني والبابوية في ايطاليا لأنها نقيض الفكر المثالي الحافظ الذي عبر عن مصالح البابوية آنذاك وعلى رأسه توما الاكويني وتشير كل الدراسات التي صدرت عن فترة الصراع الفكري الفلسفي العنيف في ايطاليا أنها بجملها كانت صراعا بين رؤية توما الاكويني المثالية المحافظة ورؤية ابن رشد المادية النقدية وقد شكلت فلسفة ابن رشد وتأويله المادي لفكر أرسطو الرافعة الفكرية الأولى لعصر النهضة الأوروبية والصراع ضد الكنيسة والإقطاع وقد سمى النهضويون الأوروبيون فلسفة ابن رشد بالرشدية اللاتينية والسبب في تسمية فلسفة ابن رشد باللاتينية كون ابن رشد اعتبر جوهر الإيمان الصحيح قائم على العقل وان الحقيقة الدينية تقوم في الأصل على الحقيقة العقلانية وفي حال التعارض فان على الإيمان أن يلجأ إلى العقل الفعال وليس العكس وبذا فان حركة الفصل بين الحقيقة الدينية والحقيقة العقلية أي ما سمي بفصل الدين عن الدولة في أوروبا فقد كان في جوهره معتمدا أولا وآخرا على فلسفة ابن رشد والذي وللأسف الشديد كان انتهاء الفلسفة النقدية في العالم العربي والولوج في عصر الظلمة والانحطاط مواكبا لصعود ابن رشد في أوروبا ونفيه وحرق كتبه عند العرب والمسلمين وقد تم ادخال فلسفة ابن رشد في برنامج البكالوريا الفرنسية.
لم يكن ابن رشد وحده من لعب دورا في الفكر الإنساني وتطور العلوم بل يمكن القول أن عدد كبير من فلاسفة وعلماء العرب كان لهم الدور الفعال في النهضة الأوروبية وانتصار العلمانية ويمكن الإشارة الى بعض الأدوار التي لعبها بعض فلاسفة العرب وتأثيرهم على الفكر الإنساني بجمله وهم:
الفارابي 874 م: صاحب نظرية الفراغ في الفيزياء وهو الذي طور آلة القانون الموسيقية, وهو أول مَن قدم وصفا لآلة الرباب الموسيقية ذات الوترالواحد، والوترين المتساويين في الغلظة، وأنه أول مَن عرف صناعة الموسيقى ومصطلح الموسيقى، وأنه قد وضع بعض المصطلحات الموسيقية وأسماء الأصوات التي لا تزال تستعمل إلى اليوم, وقد ذكر الفارابي نظرية الجاذبية الأرضية سابقا بها العالم نيوتن بألف عام مما أدهش علماء الغرب وجعلهم يتساءلون عن سر هذا التشابه بين آراء الفارابي ونيوتن.
ابن خلدون: والذي اعتبره المؤرخون احد مؤسسي علوم التاريخ والحساب والمنطق وكذا الجغرافيا والعمارة والفلك وقد قال عنه لينين بأن ابن خلدون في القرن الرابع عشر كان أول من اكتشف دور العوامل الاقتصادية و علاقات الإنتاج.. ثم تساءل لينين قائلا " تُرى أليس في الشرق آخرون من أمثال هذا الفيلسوف" ويقصد ابن خلدون وقال عنه روجيه غارودي " ففيما يتعلق بدراسة هيكل المجتمعات وتطورها فإن أكثر الوجوه يمثل تقدما يتمثل في شخص ابن خلدون العالم و الفنان ورجل الحرب والفقيه والفيلسوف الذي يضارع عمالقة النهضة عندنا بعبقريته العالمية منذ القرن الرابع عشر".
في كتاب "تدبير المتوحِّد" لابن باجه يميز بشكل واضح بين الإنسان المادي أو الجسماني الملموس الملزم بالعيش وفق أسس الزمان والمكان المعاشين ولذا فان ابن باجه اخذ من المدينة الفاضلة فكرتها وغايرها بقوله بان بإمكان الجسد المحسوس أن يعيش قانعا حتى في المدينة الفاسدة وان يلتزم بقوانينها وشروطها كما أن بإمكان الروحاني الرافض لفساد المدينة والذي يفتقد المدينة الفاضلة أن ينتقل للعيش بالصور الروحانية وصولا إلى ما يسميه ب"العقل الفعال", أما كتاب "حي ابن يقظان" لابن طفيل فيقول بوضوح حاد أن المعرفة مكتسبة وهي لا تولد مع الإنسان وأن المعرفة تأتي من المحسوسات وهي في الوقت ذاته وسيلة الانتقال من الذات الأنا إلى الذات الآخر ومن العزلة إلى المشاركة وصياغة الذات المجتمعية وبالتالي فان ما قاله فوكو عن تدبير المتوحد وحي بن يقظان بأنهما جاءا للإجابة عن سؤال "كيف نعيش بشكل ٍ جيد في مجتمع ٍ لا يزال ناقصاً، وكيف نحكم أنفسنا في بلدة محكومة بشكل ٍ سيئ؟؟" هو قول صحيح.


أسباب فشل العلمانية عند العرب
في بعض مقالاتي المنشورة سابقا تطرقت إلى موضوعة الفكر وعرفت الفكر يانه "وعي الفعل الجماعي مرفوعا لحد المطواعية والقدرة على التحول إلى آليات لمعاودة الفعل بشكل أفضل" على هذه القاعدة نشأت العلمانية أو الدنيوية في الغرب وتطورت إلى أن أخذت شكلها الحالي بعد أن مرت وطوال قرون بصراعات حادة وعنيفة وخصوصا مع الكنيسة والنظام البابوي ويدرك الجميع أن الدور البشع الذي لعبته الكنيسة في عصور الانحطاط قد دفع بأوروبا إلى الوراء كثيرا ولم يكن بإمكانها الخروج من ظلامية عصر الكنيسة إلا بالاتجاه نحو الاكتشافات العلمية ولذا خلق التناحر بين العلماء والمكتشفين في العلم بكل أوجهه وبين طبقة الكهنوت الذين راحوا يكفرون العلماء والفلاسفة ويطبقون بحقهم أبشع العقوبات بما في ذلك التكفير والقتل. ومحاكم التفتيش التي أقامتها البابوية في العصر الوسيط ماثلة للعيان.وقد بلغت بشاعة هذه المحاكم حدا لا مثيل له من قطع الأوصال وحرق الأحياء وقد انشأ في الفاتيكان مكتبا أو إدارة خاصة لتحريم قراءة الكتب وقد ظلت هذه الإدارة قائمة حتى عام 1965م وقد أحرقت حاكم التفتيش الصلح التشيكي الراهب جان هوس وكان عيدا لجامعة براغ لاتهامه بالقول أن الكنيسة خرجت عن تعاليم الدين المسيحي واتهامه رجال الدين بالفساد وتغليب مصالحهم الشخصية والاستغلال المادي للفقراء والفيلسوف الايطالي جيورادنو برينو مثل أمام محاكم التفتيش واجبر العالم جاليليو على التراجع عن نظريته العلمية العظيمة عن دوران الأرض فلم ينفذ فيه الإعدام وتم تحويله إلى الإقامة الجبرية في فلورنسا ولم تتراجع الكنيسة عن موقفها من جاليليو إلا بعد ثلاثمائة عام وكذلك أحرقت محاكم التفتيش الفيلسوف ميشيل سيرفيه حيا في جنيف كما أن محاكم التفتيش كفرت المصلح مارتن لوثر وطردته من الكنيسة, وكذلك فعلت بقة النبلاء الفرنسية فلم يرق لها الفكر النقدي لفولتير مثلا فزجت به في سجن الباستيل ونفته إلى الخارج ووصل الأمر بالكنيسة الى حد رفض دفنه في المقابر الكنسية بعد وفاته وقد فعل ذلك أصدقاءه خلسة
كان من الضروري إذن للثورة الصناعية في الغرب أن يواكبها ثورة في الفكر ولذا وجد الغرب نفسه مضطرا للتخلص من كل العقد والذهاب بإخلاص إلى منابع الفكر والعلم أيا كانت مصادرها ومشاربها فهو لم يجد خجلا في الاعتماد على الفلسفة الإغريقية واليونانية ولم يجد حرجا أبدا في أن يكون ابن رشد واحد من أعمدة الفلسفة الإنسانية التي وجد الغرب بها ضالته ويبدو واضحا هنا أن التغيرات الفكرية والفلسفية في الغرب لم تأت لمجرد الرغبات أو لتطور الوعي الفردي عند البعض وإنما لحاجة اقتصادية اجتماعية واكبت التغيرات الجذرية في المجتمعات الغربية والتي دفعتها بالتالي إلى الثورة على الفكر الكنسي البابوي لا الفكر الديني وكان ذلك هو الطريق للثورة على العولمة الشرقية التي غزت الأرض وفي مقدمتها العولمة الإسلامية العربية والتي قامت على أسس الاقتصاد التجاري ولذا جاءت متغيراتها وتأثيراتها أفقية ولم يكن مها لها تجذير هذه التغيرات والتطورات عموديا فالتاجر في طبيعته متغير متنقل باحث عن السوق وهو يشبه إلى حد بعيد الراعي الباحث أبدا عن العشب والماء حيثما وجدا وهو لا يشبه بشيء الزارع أو الصانع الملتصق بالأرض فالانتقال الغربي جاء من النظام الإقطاعي الزراعي المرتبط بالأرض والمكان والمنتج للسلع الزراعية إلى النظام الصناعي والذي يمكن اعتباره نظام موحد للأنشطة الاقتصادية البشرية بجملها فالصناعي هو محول للزراعي لا لاغي له وهو أيضا استفاد من الاقتصاد الصحراوي الرعوي المنتج للثروة الحيوانية بكل أشكالها وجعل منها جزءا مها ومغذيا لاقتصاده الصناعي الثوري وهذه الثورة الاقتصادية كانت بحاجة إلى دعامات فكرية ومن يتقن الاستفادة من كل مصادر الثروة للانطلاق إلى الأمام قادر بهذا الشكل أو ذاك أيضا أن يسخر الفكر البشري بمجمله لصالحه دون خشية من شيء أو إحساس بالنقص.
هذه الحقائق مختلفة إلى حد بعيد في الحال العربي ولأسباب عديدة من أهمها:
أن الإسلام بكونه الفكر المشكل للعقلية العربية والشرقية بالمجل فيما بعد فهو يتميز بأنه جاء مختلفا عن اليهودية التي نشأت كثورة على نظام الرق والعبودية, وكذا المسيحية التي نشأت في بلاد زراعية فلاحية انتقلت في أثناءها إلى حالة الإقطاع فقد جاء الاسلام في ارض صحراوية رعوية متنقلة واقتصادها الرئيس إلى جانب الرعي هو التجارة التي تعتبر الأقرب إلى واقع الاقتصاد البرجوازي لكنها ليست منه ويبقى دورها مكملا لا رئيسيا ولذا اشتغل العرب كوسطاء بين الشرق والغرب ومشترين بائعين متنقلين لا مالكين منتجين مقيمين, وأعود هنا إلى مقالتي التي أشرت إليها سابقا بعنوان وعي الفعل والتي ذكرت فيها أن منتج السلعة ينتج فكرها ومستهلك السلعة يستهلك فكرها أيضا بينما يبقى الوسيط بينهما مشتتا بين حاجته لفكره الخاص والتزامه بالسلعة التي يحمل والتي تتسم قطعا بسمات صاحبها الأب أي منتجها وحاجته لترويجها والدفاع عنها, وهذا ما يخلق حالة من الضياع والتشتت الفكري ولهذا لم يكن العرب بحاجة لفكر مختلف عن الفكر الديني لسبب بسيط أنهم لم يغيروا مكانتهم الاقتصادية عبر القرون بل احتفظوا بدورهم كتجار أو لتقديم الخدمات التجارية كوسطاء بين الشرق والغرب, والإسلام الذي شكل ثورة عظيمة ضد الجهل والتخلف الذي عاشه البدو الرحل والحياة الرعوية لصالح مجتمع التجار الذي مثلته قريش الأكثر رقيا وتقدما جاء أيضا مختلفا عن اليهودية التي أشغلتها الحروب وأساطير الأنبياء والمسيحية التي انشغلت بشعارات التسامح والبناء الاجتماعي في حين جاء الإسلام بأسس ولو جنينية لنظام اقتصادي اجتماعي أكثر وضوحا وتماسكا وبالتالي أصبح الوقوف بوجه الإسلام ليس له ما يبرره عند دعاته وقدم لهم الدين نفسه القدرة على مواجهة خصومهم معتمدين على النظام الاقتصادي الاجتماعي في الإسلام ومنظومة الأحكام الأكثر وضوحا التي جاء بها وبقي القرآن يشكل دستورا واضحا لأتباعه بينما انقسمت الأناجيل والعهد القديم لتصبح تفسيراتها جزءا منها واخذ الكهنة دور صناعة الدين بينما كبل القرآن أيدي رجاله وحد ن قدرتهم على التلاعب فيه أو الاقتراب منه ومن أحكامه.
شكلت العولمة الإسلامية مفترقا رئيسا في حياة الشعوب الشرقية وتحديدا ما بات يعرف فيما بعد بالوطن العربي وتمكن الإسلام كفكر عربي قادم من الجزيرة العربية إلى الحلول مكان الفكر المسيحي او الوثني الذي كان مسيطرا قبله وهذا جعل حالة القلق والتشتت الفكري متواصلة في المنطقة فالذين اعتنقوا الإسلام من المسيحيين وغيرهم ظلوا في قرارة أنفسهم يدركون انه دين أولئك الذين أخضعوهم بالقوة وما يتواصل اليوم في السودان هو دلالة أكيدة على عمق هذا الصراع وقد يفسر ذلك أيضا كون الغالبية العظمى من حملة راية العلمانية واليسارية والاشتراكية والقومية في العالم العربي هم من المسيحيين العرب الذين يحق لهم الدفاع عن مواطنتهم وحقهم المساوي للمسلمين في وطنهم فكانت العلمانية واليسارية والليبرالية والشيوعية ملاذهم لذلك.
أن الإسلام نفسه دين اقرب إلى الواقعية الدنيوية في نصوصه من الأديان الأخرى وقد قدمت العديد من الدراسات لإثبات ذلك ومنها كتاب جورج طرابيشي بعنوان " هرطقات عن الديمقراطية والعلمانية والممانعة العربية" الصادر عن دار الساقي اللبنانية عام 2006وكذلك دراستي بعنوان " التأصيل في مواجهة تحديات التحديث" وهناك فرق شاسع بين المؤسسة الدينية الإسلامية والمؤسسة الدينية المسيحية فقد ظل النظام البابوي حتى النهضة الأوروبية والثورة الصناعية هو صاحب السلة المطلقة في التشريع وسن القوانين وهو مثل الله على الأرض بينما لم تقم المؤسسة الدينية الإسلامية بهذا الدور أبدا وعلى العكس من ذلك جاءت المؤسسة الدينية كناظم فكري للمؤسسة السياسية الاقتصادية الاجتماعية وقام المسجد بدور دار الحكم لا صانع الحكم وبينما غطت الكنيسة كليا على كافة نواحي الحياة ظل السجد يقوم بدور ديني لا أكثر وان حاول البعض فيما بعد توجيهه باتجاه آخر وفي حين كفرت الأحزاب والحركات العلمية في الديانة المسيحية جاء الإسلام مبشرا وداعيا ومثمنا لدور العلم والعلماء وظهر العديد من المفكرين الإسلاميين الذين حاولوا جاهدين إثبات أن لا تعارض بين العلم والدين وحتى في البدايات الأولى ظهرت مدارس فلسفية ورؤى ومذاهب إسلامية مختلفة مما فتح الباب واسعا أمام قدرة الدين الإسلامي على احتواء الجميع بلا استثناء. كما آن الإسلام في العصر الحديث وظف لصالح الدولة الوطنية كتابع لها وليس العكس واستخدم العرب الدين نفسه كأحد الروافع القومية لدى العديد من السياسيين والمفكرين وقد سعى رواد النهضة العربية من المسلمين غالى تقديم الدين كحاو للقومية وقابل بها وليس العكس كما هو الحال في المسيحية. كما أن العديد من المفكرين والإصلاحيين العرب من المسيحيين أنفسهم اعتبروا أنفسهم جزء من الحضارة الإسلامية العربية ويبدو ذلك جليا في كتابات الغالبية العظمى منهم
بسبب من سيطرة الدين الإسلامي المطلقة في العالم العربي وعدم القدرة على استيعاب الآخرين والسعي للتقليل من شأنهم لجأ هؤلاء إلى الفكر اليساري والشيوعي والقومي كمخرج لهم لكن ظهور القضية الفلسطينية وترافق ذلك مع انتشار الشيوعية وقيام الشيوعيين اليهود بدور رئيسي في التأسيس للشيوعية في العالم العربي وما تبع ذلك من واقف خرقاء للشيوعيين العرب من القضية الفلسطينية ومنها مثلا ما أعلنه الحزب الشيوعي العراقي آنذاك قائلا "الشعب العراقي يرفض بإباء أن يحارب الشعب الإسرائيلي الشقيق! لا مصلحة في الحرب للكادحين العرب واليهود بل للبرجوازية العربية العفنة!] ألا يوجد برجوازية يهودية عفنة؟" وقد ورد ذلك في كتاب صفحات مجهولة من تاريخ الأحزاب الشيوعية العربية، من تأليف شيوعيين سابقين هما: محمد على الزرقا، وإلباس مرقص كما وجاء في كتاب (أضواء على القضية الفلسطينية) الذي أصدره الشيوعيون في العراق ما يلي: «فلتسقط الحرب بين العرب واليهود لإحباط خطط الاستعمار والرجعية ولْتَحْيَ ا لصداقة العربية اليهودية!». كما يمكن مراجعة كتابي عن فكر البقة العاملة في فلسين حتى عام 1948 وتتبع الشعارات الشيوعية عن أخوة العامل اليهودي مع العامل العربي وعن الترجمة الغبية لاسم الحزب في بداياته باس الحزب الاباحي الفلسطيني ويمكن أن يزول العجب إذا تذكرنا أن معظم –إن لم نقل كل- مؤسسي وقادة الأحزاب الشيوعية في الوطن العربي كانوا من اليهود: ففي مصر مثلاً كان هناك أربعة تنظيمات شيوعية، رؤساؤها كلهم يهود: «هنري كورييل»، «إبلي شوارتز»، «أوديت» وزوجها «سلامون سدني»، «يوسف درويش» و«ريمون دويك». كذلك فإن السكرتير العام للجنة المركزية للحزب الشيوعي اللبناني السوري «جاكوب تيبر» يهودي جاء من فلسطين ليترأس الحزب ليون سلطان : يهودي مغربي ، مؤسس الحزب الشيوعي بالمغرب عام 1943 م أبراهام السرفاتي : شمعون ليفي : يهوديان مغربيان أسهما أيضاً في إنشاء الحزب الشيوعي بالمغرب تحت رئاسة ( ليون سلطان ) السابق الذكر ، وهما عضوان في حزب التقدم والاشتراكية . ،يعقوب كوجمان : يهودي عراقي ، من مؤسسي الحزب الشيوعي في العراق . هلل شفارتس : مؤسس منظمة ( الأيسكرا ) في مصر . مرسيل إسرائيل مؤسس منظمة الشعب الماركسي في مصر . جاك تيبر شامي : رئيس الحزب الشيوعي في سورية ولبنان ، وهو يهودي روسي الأصل من فلسطين . وقد حد ذلك من قدرة الفكر اليساري والشيوعي وبالتالي الليبرالية والعلمانية من الانتشار أكثر في الوطن العربي وتمكن العديد من أعداء الانتقال نحو أي فكر جديد من ربط هذه الأفكار بالحركة الصهيونية وبالتالي بالموقف العربي والإسلامي من احتلال فلسطين
تماما كما حمل اليهود راية الفكر الشيوعي فقد حمل المسيحيون العرب راية الفكر الليبرالي القومي وكان من أبرزهم سلامة موسى وشبلي شميل قسطنطين زريق ,خليل مطران، جرجي زيدان، مارون النقاش, فارس الخوري وجورج حبش ونايف حواتمة وجورج جبور وميشال عفلق ومكرم عبيد وغيرهم وغيرهم الكثير وقد جعل ذلك البعض يخلط ويزج بهؤلاء رغما عنهم في معظم الأحيان بأديانهم ويصورهم على أنهم يمثلون مصالح تلك الأديان خالقا حالة من التعارض بينهم وبين الإسلام وفي بعض الأحيان حاول البعض توحيد الإسلام مع العروبة فقط من اجل عزلهم وعزل الفكر العلماني معهم.
لقد شكل الإسلام مواصلة للقومية في الجزيرة العربية والخليج العربي وبقي وحيدا في شمال إفريقيا العربية بينما لم يتمكن من ذلك في وادي النيل وبلاد الهلال الخصيب ومن هنا ظهرت الإشكالية أكثر في تلك الجهات ولم تبرز في البلدان التي بقي الإسلام فيها السيد المطلق تقريبا ويفتخر العرب بان القرآن جاء بلغتهم وانه بلغ لهم بواسطة نبي عربي وهو ما يجعلهم أكثر حرصا على الخلط بين الإسلام والقومية العربية ويجعل مهمة الفصل مهمة صعبة جدا
لجوء العديد من العلمانيين العرب الى محاولة التوفيق بين الدين والعلانية مستفيدين مما في الدين الإسلامي من واقعية حقيقية في البنية الاقتصادية والاجتماعية ومن التاريخ الشخصي للنبي محمد " ص"
لقد ارتبط الفكر العلماني في الوطن العربي بالغرب الاستعماري وظهرت بوادره اول ما ظهرت مع بدايات القرن العشرين وسيرة الاستعمار الغربي على جمل الوطن العربي وبأشكال مختلفة وبذا ظل الشعور بان هذا الوافد الفكري يشبه ويكمل ذاك الوافد العسكري المحتل والناهب للأرض وخيرات شعوبها وكان الأبرز في ذلك قضية فلسطين.
انشغل العالم العربي طوال النصف الأول من القرن العشرين تقريبا بمعارك الاستقلال ومحاربة المستعمرين وذلك ساعد على غياب المعركة الفكرية كليا وجعل المعركة مع الاستعمار هي الأولى ولكون الاستعمار الأوروبي ممثلا للفكر التنويري العلماني كان العداء لهذا الفكر نابعا من العداء لأصحابه ودعاته ولم يعد أي معنى لأي حركة تنوير تستخدم الفكر الغربي دليلا ومرشدا لها
بعكس الفكر الديني المسيحي الذي احكم السيطرة على السلطات جميعها وباتت الكنيسة هي الحاكم المطلق بأمر الله وخضع السياسيين للكهنة فان السلطة السياسية في العالم العربي تمكنت من إخضاع المؤسسة الدينية لصالحها ويعتبر الجامع الأزهر المؤسسة الدينية الأولى في العالم الإسلامي وهو تابع للسلة السياسية التي تعين أمامه والذي يعتبر المفتي الأول في العالم الإسلامي وهو بذلك تراجع عن دوره الثوري الذي ابتدأه النبي محمد " ص " من خلال أحاديثه معتمدا على القرآن الكريم وتعاليم السماء التي اعترفت بالأديان السابقة ويكفي أن نعرف أن الإسلام يدين بكل من سبقوه من الأنبياء بدون تحفظ ويؤمن بالتوراة والإنجيل والحديث الشريف القائل اطلبوا العلم ولو في الصين البوذية يدلل على مدى انفتاح الإسلام العربي على الثقافات والأفكار الأخرى, لكن ما علق بالإسلام من أيام الانحطاط من شروحات وهرطقات جعلته يتقوقع في داخل فكر مؤسسة مسيطر عليها من السياسيين وليس العكس وجعلت دعاة الفكر العلماني الحديث حائرين بين مؤسسة دينية مجمدة ومؤسسة سياسية ترفع الشعارات القومية وتمارس الحكم بأسس وقوانين دنيوية بغطاء ديني شكلي كبل أيدي المفكرين وجعلهم يحاربون على جبهتين غير واضحتين فالجبهة الدينية الفاعلة هي غير حاكمة ومعاقبة ومحظورة كالحركات السياسية الدينية والنظام السياسي يستخدم الدين لفظا ويمارس العلمانية ولذا وجد الشيوعيون العرب والإخوان المسلمين لنفسهم في مواجهة مشتركة وخندق واحد ضد النظام السياسي ولعل ابرز تعقيدات هذه الحالة كانت في مصر في ظل حك الضباط الأحرار برئاسة عبد الناصر الذي قد نفسه على انه قومي تقدمي وطبق بعضا مجتزءا من أشكال الاشتراكية ورفع شعارات ثورية وصادق الدول الاشتراكية وتحالف معها وفي المقدمة الاتحاد السوفيتي آنذاك وشكل مجلسا لقيادة الثورة يضم ضباطا من أصول يسارية ومن الإخوان المسلمين وعقد عبد الناصر في البداية اتفاقيات مع الإخوان المسلمين ثم استدار إلى اليساريين وكان اليساريين المصريين ويعتقلون ويعذبون إلى جانب الإخوان المسلمين بل ويقتلون كذلك وفي نفس الوقت يعلنون تأييدهم للثورة ولإجراءاتها التقدمية, هذا التناقض العجيب جعل من أية حركة فكرية في مصر قلب العالم العربي عرجاء وغير قادرة على التأثير . وقد وفر ذلك حالة من خلط عجيب للأوراق في الوطن العربي وجاءت حركة الانقلابات العسكرية ورفع الشعارات القومية كنظام عبد الكري قاسم والقذافي وغيرهم ثم نجاح حزب البعث في كم سوريا والعراق وتنامي نشاه في العديد من الدول العربية كحزب علماني قومي تقدمي يحل في شعاراته الاشتراكية والحرية




الشرق صانع الحضارة الغربية الحديثة:
عادة ما يقدم الفكر الغربي نفسه على انه فكر عذري نشأ وتطور بمعزل عن التزاوج مع الآخرين وهي نظرية عنصرية من طراز رفيع لكن الذي ساعد على انتشارها هو التراجع البشع للحضارة الشرقية بعد عام 1500م والتقدم الذي أحرزته الحارة الغربية بما في ذلك السيطرة على المقدرات المادية والفكرية للشرق, ومن الضروري التأكيد ان التاريخ الإنساني بمجله يؤكد انه لا وجود لعرق أو جنس أو فكر نقي وان أية أفكار تندرج في هذا الإطار هي أفكار عنصرية بامتياز وفي هذا تقول روث بينديكت "إن التاريخ لا يمكن كتابته كما لو كان ينتمي إلى جماعة واحدة من الناس. والحضارة تم بناؤها تدريجياً نتيجة مساهمات إحدى الجماعات في وقت ما، وجماعات أخرى في أوقات أخرى. فعندما تعزى الحضارة جلها إلى الأوروبيين يتشابه الادعاء مع ما يمكن أن يسمعه أي عالم انتروبولوجيا في يوم من الأيام من القبائل البدائية..." ويعتقد مفكروا الغرب أصحاب فكرة النقاء الفكري وعذرية الحضارة الغربية إن التطور أصابهم من داخلهم وان روما ولدت من رحم اليونان متناسين التزاوج بين الثقافة اليونانية والثقافة الفينيقية والبابلية والكنعانية ومتناسين أن أول من وضع ترجمات أرسطو وقدمها للغرب هو الفيلسوف العربي ابن رشد والذي قدم قراءة لأرسطو أكثر من ترجمة حرفية ثم روما انجبت أوروبا المسيحية والمسيحية في جذورها هي شرقية بامتياز ولا احد ينكر ان المسيحية ولدت بمولد نبيها في الشرق وفي فلسطين تحديدا ثم أن أوروبا المسيحية انجبت عصر النهضة الأوروبية الحديثة وان تور التزاوج بين الصناعة الحديثة وفكرها الرأسمالي المتمثل بالديمقراطية والليبرالية الحديثة أنجبا الولايات المتحدة مؤسسة العولمة الحديثة, ويتناسى أصحاب هذا الرأي أن الشرق هو صاحب العولمة حتى عام 1500م وان الدولة الشرقية والإمبراطوريات بما فيها الصين والهند والدولة الإسلامية كانت هي صاحبة الباع الأول في قطبي صياغة الحضارة الإنسانية الثروة وفكرها وحتى عام 1800م ظل الشرق يتقدم على الغرب رغم أن التراجع بدأ عام 1492م وفي كل الفترة الممتدة بين 500م-1500م كان الشرق هو المزود الرئيس للغرب بالثروة والسلع وبالفكر أيضا وحول ذلك يقول جون ام هوبسون صاحب كتاب الجذور الشرقية للحضارة الغربية "تضمنت الصورة الشائعة للعالم قبل 1500 م التي قدمها مؤيدو المركزية الأوروبية ملمحين أساسيين:
الأول: عالم غارق فيما يسمى "التقاليد" الراكدة. والثاني عالم مجزأ مقسم إلى مناطق حضارية منعزلة ومتخلفة تحكمها دول طاغية " لا عقلانية " (أساساً في الشرق) وبالتالي فإن تخيل عالم فيه اعتماد متبادل فيما بينه في أي وقت قبل عام 1500 م يعد شيئاً لا يمكن تصوره" تباعاً تفترض فكرة المركزية الأوروبية أن بزوغ أوروبا كحضارة متقدمة بدأ حوالي عام 1500 م، وأطلق عليه عصر الاستكشاف الأوروبي. وقد أدى هذا بدوره إلى إزالة الحواجز التي فصلت الحضارات الرئيسية، وبالتالي أفسحت الطريق أمام عصر العولمة الغربية المقبل الذي بزغ في القرن التاسع عشر ونضج بعد عام 1945 م.
إن اقتصاداً عالمياً - أنهى عزلة حضارية - كان قد بدأها فعلياً في القرن السادس خلال عصر الاستكشاف الأفرو- آسيوي..... ولقد دخل ما يطلق عليهم " الرواد الأوربيون " تلك الدائرة العالمية - الموجودة بالفعل - بشروط أملاها عرب الشرق الأوسط والفرس والأفارقة." ويتابع هوبسون في نفس الكتاب "إن نشأة حكم تانج في الصين (618 - 907 )، والإمبراطورية الأموية والعباسية الإسلامية في الشرق الأوسط (661- 1258م ) والفاطميين في شمال أفريقيا (909 - 1171 م ) كان لها اكبر الأثر في ظهور شبكة تجارة عالمية"، وكما يشير فيليب كورتي: "لقد أدى تزامن قوة العباسيين و"التانج" في نفس الوقت إلى أن تبدو المسافات الطويلة بالنسبة للتجارة سهلة نسبياً للقيام بكامل الرحلة عبر آسيا وشمال إفريقيا". كما أن ما قاله الراهب البريطاني الفرنسيسكاني روجي باكون ، الذي بزّ جميع معاصريه في مدى إلمامه بتاريخ الفلسفة عند اليونان والعرب، والذي حاول في كتابه الأكبر Opus Majus ما ترجمته : وقد طمست فلسفة أرسطو وانقطع خبرها ، في الغالب ، إمّا لضياع مصادرها أو ندرتها ، أو لصعوبتها أو للغيرة منها أو من جراء الحروب في الشرق ، حتّى مجيء محمّد (النبي) ، حين كشف ابن سينا وابن رشد وسواهما عن فلسفة أرسطو تلك وجلوها جلاء تاماً في شروحهم .. فقد ألّف ابن سينا ، الذي اقتدى بمذهب أرسطو ، وفسره ، وكمّل فلسفته بقدر المستطاع ، ثلاثة كتب فلسفية ، كما يقول في مقدّمة كتاب الشفاء ... وجاء بعده ابن رشد ، وهو من أرسخ الناس قدماً في الحكمة ، فنقّح أقوال الأوائل وأضاف إليها.مما جعله" يؤيد بقوة ووضوح ما رآه هوبسون وخلاصة القول أن ابن خلدون والفارابي والكندي وابن سينا وابن رشد كان لهم الإسهام الأبرز في تقديم الفلسفة اليونانية والعربية إلى الغرب الأوروبي وهم الصناع الحقيقيين لأسس الفكر الأوروبي الحديث وان هؤلاء الفلاسفة العرب هم من أسسوا انوية العلمانية الغربية حين أمعن الفلاسفة الأوروبيين بعيدا بها بعد أن توقف تطور الفلسفة العربية في عصور الانحطاط والولوج بدل الفلسفة والعلوم إلى الهرطقة والسفسطة وما إلى ذلك‏



أصالة العلمانية عند العرب:
يمكن القول أن نشوء العلمانية عند العرب بدأت بذورها قبل ظهور الإسلام ويذكر التاريخ الشاعر عروة بن الورد كنموذج للشاعر المتمرد على النظام القبلي وقد عرف عنه انه كان يسرق ليطعم الفقراء وهو واحد من صعاليك العرب في جاهليتهم وكان الصعاليك دون غيرهم ينتمون إلى أكثر من قبيلة ولا يعترفون بسلطتها وهم اقرب في التعبيرات اللغوية الحديثة إلى الثوار وقد أشتهر هؤلاء بغزو القبائل قاصدين الأخذ من الفقراء لإعطاء المنبوذين والفقراء وكان منهم أيضا السليك بن السليكة وتأبط شر والشنفري الأزدي ومن الخطباء كان أيضا قس بن ساعده وهو من أعجب به النبي محمد وحدث عنه كثيرا ونسبوا إلى قس بن ساعده قوله: "كلا بل هو إله واحد، ليس بمولود ولا والد، أعاد وأبدى، وإليه المآب غدا". وقوله: "كلا بل هو الله الواحد المعبود، ليس بوالد ولا مولود". وهذا مطابق لسورة الإخلاص معنى وليس لفظا وبلاغة.
يسجل التاريخ العربي قبل الإسلام أيضا قصة حلف الفضول وهو حلف من قبائل من قريش، اجتمعوا له في دار عبد الله بن جدعان بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة بن كعب بن لؤي ، لشرفه وسنه ، فكان‏‏ حلفهم عنده ‏‏‏:‏‏‏ بنو هاشم ، وبنو المطلب ، وأسد بن عبد العزى ، وزهرة بن كلاب ، وتيم بن مرة ‏‏‏.‏‏‏
فتعاقدوا وتعاهدوا على أن لا يجدوا بمكة مظلوما من أهلها وغيرهم ممن دخلها من سائر الناس إلا قاموا معه ، وكانوا على من ظلمه حتى ترد عليه مظلمته ، فسمت قريش ذلك الحلف حلف الفضول ‏‏‏.‏‏‏‏‏
روى الحميدي عن سفيان عن عبدالله عن محمد وعبد الرحمن ابني أبي بكر قالا : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفا لو دعيت به في الإسلام لأجبت . تحالفوا أن ترد الفضول على أهلها ، وألا يعز ظالم مظلوما .
وقد جاء الإسلام بعد ذلك عاملا رئيسا على نقل مجتمع مغرق في الجاهلية إلى النور وأخرجهم من هرطقات عبادة الأصنام إلى عبادة الله الوعي الشامل والكامل ووضع نظم وأسس وقوانين للحياة وانشأ الدولة بديلا للعشيرة وجعل الدين فكرا بديلا للتبعية العصبية للقبيلة وكما عايش الشاعر حسان بن ثابت الإسلام ودخل فيه ودافع عنه فقد وقف الشاعر أمية بن أبي الصلت ناقدا رافضا ولم يدخل الإسلام رغم انه كان من الحنفاء وفي العصر الأموي كان غيلان الدمشقي ومعبد الجهني وعمر المقصوص والجعد بن درهم مدافعين أشداء عن حرية الإنسان رافضين للقدرية وقد قتل معبد الجهني سنة 80 هجرية وقتل غيلان الدمشقي سنة 125 هجرية وقد رفض غيلان شرط القرشية للولاية واعتبرها حق لكل مسلم شريطة إجماع الأمة وقد وجد الخليفة عمر بن عبد العزيز في غيلان ضالته لمساعدته في العدل والقوامة وقد تعرض غيلان لأبشع المؤامرات في التاريخ وحادثة محاكمته من القاضي الاوزاعي بطلب من هشام بن عبد الملك كارثية وقد حكم عليه بقطع يديه ورجليه ولكن غيلان اكتفى بلسانه وراح يثير الرأي العام ضد الأمويين الذين أمروا بقطع لسانه وتوفي مقتولا من رجال الحكم واعتبر غيلان مؤسسا للفكر النقدي في العالم العربي والإسلامي كما أن حركة الباطنيين والخوارج وما إليهما ويمكن اعتبار القرامطة وثورتهم ضد الدولة العباسية واحدة من أكثر الحركات ثورية في البلاد العربية ويعتبرها العديد من الباحثين أول ثورة اشتراكية في التاريخ وقد تجرأت حتى على سرقة الحجر الأسود وهو من أهم المقدسات عند المسلمين وكل تلك الحركات وغيرها ما كانت إلا تعبيرات حية عن الحركة النقدية للسلطة الحاكمة وفي العصر العباسي قدم عبدا لله بن المقفع حياته ثمنا لموقفه النقدي من الحكم ورجاله وقد عرف التاريخ العربي فلاسفة عظماء كابن خلدون والفارابي والكندي وابن رشد وقد استفاد الغرب كثيرا من هؤلاء وخصوصا ابن رشد الذي يعتبر أبو الفكر الأوروبي النقدي الحديث. تماما كالأدوار التي أداها علماء عظام مثل ابن سينا.




العرب والعلوم:
لم يكن العرب يوما خارج دائرة الفعل كما هم عليه الآن فقد أسهموا الكثير في العلوم كنظام العد في الرياضيات وتأسيس علم الجبر وتطوير علم الكيمياء وكذا كان لهم دور بارز في مجال الطب واكتشاف ابن النفيس للدورة الدموية الصغرى وابتكر أبو بكر الرازي خيوط الجراحة المعروفة بالقصاب ويعتبر أبو القاسم الزهراوي واضع قوانين الجراحة ومكتشف المقص والمشرط والمبضع وواضع علم المناظير الجراحية والعالم بأسره يعلم عبقرية ابن سينا في الطب واكتشافاته العظيمة بما فيها العديد من الامراض وطرق العدوى وكذلك الرازي والعمارة ودورهم الفاعل في علم الفلك واختراع الإسطرلاب وكذا العلوم التطبيقية وقياس الزمن واختراع المزاول والساعات والخرائط الجغرافية وخرائط الإبحار كل هذه الانجازات تمت في ظل سيطرة الفكر الإسلامي وازدهاره ولذا لم يكن هناك صراع بين العلم والمكتشفات العلمية وبين الدين أو بين المؤسسة العلمية الدنيوية إن جاز التعبير وبين المؤسسة الدينية والسلطة من جهة أخرى لذا فان من المفيد الإدراك أن هناك اختلاف شديد بين مسيرة العلمانية في الغرب وأهميتها ومسيرتها في العالم العربي والإمكانية التامة للتغلب عليها بخطر اقل وهو ما اضعف موقف الحركات التنويرية أو الدنيوية المالية بفصل الدين عن الدولة واعتبره البعض تقليد لا داعي له وقد ظهر من التنويريين في العصر الحديث الكثير كمحمد عبده ورفاعة الطهطاوي وعباس العقاد ورغم ما لقيه العلماء والنقديون المسلمون من قمع إلا انه لم يصل أبدا إلى المستوى الذي وصل إليه الحال في الغرب البابوي أبدا وبالتالي وبعد انهيار الدولة العباسية وتفكك الإمبراطورية الإسلامية بدأت الحركة النقدية العربية بالأفول ولم تعاود الظهور بشكل معقول إلا مع نهايات السلطنة العثمانية وبدء ظهور الاتجاهات القومية التركية ذاتها وهو ما ربط أيضا بين التوجهات التركية والمشروع النهضوي العربي وظهر التناقض جليا بين دعاة القومية العربية آنذاك ومؤيدي استمرار الخلافة العثمانية كنموذج للحكم الإسلامي ومع انهيار الحكم العثماني الذي تلازم مع بدء الاستعمار الأوروبي كان أي محاولة للانتقال للفكر النقدي الغربي يوصف بأنه موالاة للمستعمرين ولذا وجد العرب في الفكر اليساري والشيوعية ملاذهم للتعارض القائم بينها وبين الفكر الرأسمالي والبلدان الأوروبية الاستعمارية وظلت الأخطاء على حالها ويمكن اختصارها بما يلي:
ان المفكرين العرب لم يستفيدوا أبدا من التراث العربي في النقد والتحديث والفلسفة وترفعوا عن ذلك وبذا ظهروا وكأنهم يبدأون من الفراغ
ظلت الحركة اليسارية العربية حركة تابعة ولم ترق إلى مستوى الثورة وارتهنت بالمواقف الرسمية للاتحاد السوفيتي والمنظومة الاشتراكية آنذاك ولذا أصابها الانهيار فورا عند انهيار الحامي الرسمي لها
لم يشكل اليساريون العرب مدرسة يسارية خاصة كما فعل الصينيون أو الكوريون أو السلاف أو الرومان أو حتى الكوبيون والفيتناميون.
الموقف من الشيوعيين والحركات اليسارية الأخرى هو نفسه الموقف من التقليد الببغائي للفكر الليبرالي الغربي وتماما كما اخفق العرب اليساريون في بناء مدرسته اخفق الليبراليون في بناء مدرستهم ولم يشكلوا حليفا مساويا لليبرالية الغربية بل تابعا لا رأي له ظهر بمظهر المؤيد للاستعمار لا أكثر وغابت صورته كمحدث أو ناقد فالمشترك هو مع الجهة المستعمرة ولم يعد مهما مضمونه
لم يتمكن الليبراليون ولا اليساريون في نقل جوهر فكرهم جيدا إلى الشارع في حين تمكن أعداء الرفين من تقديهم بأسوأ الصور فظهر الليبرالي على انه انحلالي فوضوي مؤيد للمستعمر وظهر الشيوعي على انه ملحد كافر اباحي والى حد ا لم تكن العامة لتفرق بين الشيوعي والليبرالي وهذا ما قصده أعدائه ونجحوا فيه.
لو ان كلا الطرفين تمكن من التأصيل لفكره من خلال السلف من أمثال ابن رشد وغيلان الدمشقي وغيرهم وحاول الاستفادة من الفلسفات والعلوم الكونية الأخرى لتتمكن من الوقوف في وجه آلة الإعلام المعادية والتحريضية ولكنه تنكر لتاريخه قولا وعملا وأقصى ما فعله هو التقديم النقدي الرافض لهذا التاريخ رغ ان البعض تنبه إلى ذلك فيما بعد متأخرا فراح يذكر بالقرامطة أو يقدم قراءة مادية للتاريخ الإسلامي وليست تلك الطريقة المطلوبة فلا رفض التراث بمجله صحيا ولا التمسح به كذلك إن الرؤيا الصحيحة هي تطويره ونقده فلا فكر خالص الايجابية بالمطلق ولا فكر خالص السلبية بالمطلقِِ
الفكر العلماني العربي الحديث:
احد لا يستطيع ان يقفز عن الثورة العرابية عند البحث في الجذور النهضوية والاصلاحية في التاريخ العربي فقد جاءت المطالب التي تقدم بها احمد عرابي للخديوي توفيق اساسا للثورة التي قادها ضد الحكم المطلق وقد حددت الثورة مطالبها بما يلي:
1. زيادة عدد الجيش إلى 18000 جندي.
2. تشكيل مجلس شورى النواب على النسق الأوروبي .
3. عزل وزارة رياض باشا .
وقد رد احمد عرابي على صلف الخديوي توفيق في رفض المطالب بقوله " لقد خلقنا الله أحرارًا، ولم يخلقنا تراثًا أو عقارًا؛ فوالله الذي لا إله إلا هو، لا نُورَّث، ولا نُستعبَد بعد اليوم."
وكذا يسجل التاريخ لمحمد علي باشا وابنه ابراهيم بانهم بناة الدولة العربية الحديثة بكل المقاييس واعتبر حكم محمد علي اساسا لتشوء الدولة القومية في العالم العربي وقد سعى جهده لتحقيق ذلك وحقق انتصارات عديدة على هذا الطريق الى ان عاد واكتفى بالدولة المصرية التي ارسى اسس نهضتها العصرية الحديثة
وإلى جانب الأنشطة الفردية والليبرالية منها للمفكرين العرب في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين فقد شكلت الأنشطة القومية في نهايات الحقبة التركية البدايات الجنينية للنشاط العلماني في مواجهة الخلافة العثمانية آنذاك إلا أن الانتقال السريع بالدولة التركية نفسها الى العلمانية وسيطرة الاستعمار الأوروبي على البلدان العربية بمجملها جعل التحول نحو الكفاح الوطني والقومي هو الأساس وفيا بعد بدأت تظهر الحركات العلمانية بشكل منظم ويمكن تحديد بعض هذه التيارات ومنها:
التيار الشيوعي: والذي تحدثنا بالتفصيل عن اشكالياته ومصادر ضعفه التيار القومي السوري: وهو الأبرز تنظيما في الحركات العلمانية والاكثرها مواجهة وهو وحده الذي ابرز أهمية العلمانية مع انه لم يدعو رسما إلى الإقصاء المطلق للدين.وكذا قد يكون الحزب العلماني الوحيد الذي مارس الديمقراطية والانتقال السلمي للسلطة في مؤسساته الحزبية وخصوصا المنصب الأول
التيار القومي العربي: وهو في بدايات القرن ظل مفككا إلى أن تم توحيده بعد نكبة فلسطين في حركة القوميين العرب وبسبب من إلحاقها الرسمي والعملي مع حكم الرئيس جمال عبد الناصر فقد ارتهنت بإرادته إلى أن انشغلت بالقضية الفلسطينية وتحولت إلى حركة مقاومة – الجبهة الشعبية - تم تفكيكها فيما بعد إلى حركات عدة واضعف دورها.كما أن تجربة التحول إلى دولة يسارية في اليمن الديمقراطي تم التآمر عليها وإنهائها وإلحاقها كليا بالنظام اليمني الشمالي المحافظ.
البعث وهو التيار الأوفر حظا بين التيارات العلمانية العربية والذي تمكن من إدارة الحكم في بلدين عربيين هما سوريا والعراق وقدرة على التأثير في العديد من البلدان الأخرى.



مفكرو الحداثة العرب في العصر الحديث:
لم يتوقف الفكر الإصلاحي والنقدي العربي عند القدماء او في الفكر الأندلسي بل تواصل أيضا في العصر الحديث وكان من ابرز دعاته
الشيخ حسن محمد العطار من مواليد القاهرة سنة 1766 وقد كان احد أهم دعاة نهضة مصر الحديثة وقد كان اول من طالب علنا بإصلاح الأزهر الشريف وإخراج علماء الأزهر من عزلتهم وانشغالهم بالمعارف الفقهية البحتة وترديدها ومناقشتها ومعاودة تلخيصها وشرحها وما إلى ذلك من سفسطات لغوية لا علاقة لها بالفكر والتطوير أو الأصالة
رفاعة الطهطاوي ولد في طهطا عام 1801 م وهو مؤسس ومدير ومدرس في مدرسة الألسن وقائد حركة الترجمة وصاحب جريدة الوقائع الصادرة بالعربية بدل التركية وهو الذي دفع مطبعة بولاق لإعادة نشر أمهات الكتب في التراث العربي, وقائد حملة محو الأمية في مصر ومترجم للعديد من كتب الفلسفة والفكر والأدب وهو أيضا من اصدر أول مجلة ثقافية عربية " روضة المدارس ".
خير الدين التونسي وهو من مواليد تونس سنة 1820م وقد بدء حياته طفلا يباع في سوق العبيد في اسطنبول الى ان وصل مملوكا الى احمد باشا باي الذي قربه منه وعلمه الى ان اصبح احد وزراء الحكم ويعتبر كتابه " اقوم المسالك في معرفة احوال الممالك " الذي صدر بتونس سنة 1867م واحدا من اهم المؤلفات في ذلك العصر الداعية ادخال الاصلاحات والتنظيمات في الدول الاسلامية . وتاثر بافكار ادولف تيير المؤرخ والمفكر الفرنسي ، ومونتيسكيو . وقارن بين النظم الاوربية الحديثة والنظم الاسلامية ، وراى انه لابد من الاقتباس عن المؤسسات الاوروبية التي لاتعارض جوهر العقيدة الاسلامية
جمال الدين الافغاني من مواليد اسعد اباد في افغانستان سنة 1838م وهو من الناحية الفكرية والروحية يعتبر أبو الثورة العرابية، وكثير من أقطابها هم من تلاميذه أو مريديه، والثورة في ذاتها هي استمرار للحركة السياسية التي كان لجمال الدين الفضل الكبير في ظهورها على عهد إسماعيل, وخلال وجوده في مصر اقدم الافغاني على شرح الكثير من كتب الفلسفة وعلم الكلام والمنطق مما ساهم في استعادة الحياة الفكرية في مصر والعالم العربي مكانتها وقد اسس الافغاني في مصر اول التنظيمات الحزبية السياسية وهو الحزب الوطني الحر.
الشيخ محمد عبده وهو من مواليد محلة نصر في الريف المصري عام 1849م ورغم انتمائه الى التيار المحافظ في الحركة الاصلاحية الا انه كان صاحب اكثر الآراء نقدية وجراة فالشيخ محمد عبده تحت عنوان – حجاب النساء من الوجهة الدينية – يقول " لو أن في الشريعة الإسلامية نصوصا تقضي بالحجاب على ما هو معروف الآن عند بعض المسلمين لوجب علي اجتناب البحث فيه ولما كتبت حرفا يخالف تلك النصوص مهما كانت مضرة في ظاهر الأمر لأن الأوامر الإلهية يجب الإذعان لها بدون بحث ولا مناقشة. لكننا لا نجد في الشريعة نصا يوجب الحجاب على هذه الطريقة المعهودة وإنما هي عادة عرضت عليهم من مخالطة بعض الأمم فاستحسنوها وأخذوا بها وبالغوا فيها وألبسوها لباس الدين كسائر العادات الضارة التي تمكنت في الناس باسم الدين والدين منها براء".
ويتابع آراءه النقدية قائلا "كيف لامرأة محجوبة أن تعمل بصناعة أو تجارة.. وكيف يمكن لخادمة محجوبة أن تقوم بخدمة بمنزل فيه رجال.. وكيف لامرأة محجوبة أن تدير تجارتها بين الرجال أو تمارس الزراعة أو الحصاد في مجتمع فيه رجال".
رشيد رضا من مواليد قرية القلمون في لبنان سنة 1865م وقد بدء حياته الفكرية تلميذا على يد الشيخ المصلح محمد عبده في مصر واختار الصحافة منبرا للتغيير والاصلاح وقد اصدر العدد الاول من مجلته المنار في القاعرة سنة 1879م وقد كتب في احد مقالاته يقول "إذا رأيت الكذب والزور والرياء والنفاق والحقد والحسد وأشباهها من الرذائل فاشية في أمة، فاحكم على أمرائها وحكامها بالظلم والاستبداد وعلى علمائها ومرشديها بالبدع والفساد، والعكس بالعكس". وقد راى راى ان الاسلام والمدنية الحديثة نجمعها مبادئ مشتركة ، وهاجم التقليد والجمود عند علماء المسلمين ودعا المسلمين الى دراسة العلوم الحديثة وقبول المدنية الغربية للخروج من التخلف والضعف وبلوغ القوة والتقدم . ونبه رشيد رضا الى الخلل الذي اعترى منهج اهل الحديث القدامى الذين ركزوا نقدهم على السند دون المتن ، وتكذيبهم بعض الصحابة والتابعين ، ووضع رضا معايير لتقييم المتن منها : عدم مخالفته للواقع ولما يقره العلم ، وعدم معارضته للقران الكريم
شكيب ارسلان وهو من مواليد قرية الشويفات اللبنانية عام 1869م وهو من ابرز رافعي راية القومية العربية ولذا استحق غضب الجميع عليه فقد عاش مطاردا من قبل تركيا لرفضه حكم الخلافة العثمانية على العرب وبريطانيا وفرنسا طاردتاه ايضا لدعوته لتحرر الامة العربية من استعمار الحلفاء.
عبد الرحمن الكواكبي وهو من مواليد حلب سنة 1854م كان احد اهم رواد النهضة العربية بل وكان من بين دعاة الخلافة العربية بديلا للخلافة التركية وكان داعية اصلاحي ناشط في الدعوة لاصلاح الحكم ومسئولية الحكم عن الرعية ومن اعم كتبه " طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد " ومما جاء فيه " الاستبداد أعظم بلاء لأنه وباء دائم بالفتن, وجدب مستمر بتعطيل الأعمال حريق متواصل بالسلب والغصب, وسيل جارف للعمران, وخوف يقطع القلوب, وظلام يعمي الأبصار, وألم لا يفتر, وصائل لايرحم, وقصة سوء لا تنتهي) ويتابع الكواكبي قائلا في نفس الكتاب ( أن الاستبداد داء أشد وطأة من الوباء, أكثر هولاً من الحريق, أعظم تخريباً من السيل, أذل للنفوس من السؤال, داءٌُ إذا نزل بقوم سمعت أرواحهم هاتف السماء ينادي القضاء القضاء, والأرض تناجي ربها بكشف البلاء).
قاسم أمين من مواليد بلدة طرة في مصر 1863م وهو صاحب كتاب تحرير المرأة الذي نشر عام 1899م وقد كان صاحب الدعوة للثورة في اللغة العربية وتحريرها من السجع والشكليات وعصرنتها وقد كان مجددا جريئا وناقدا عالما لا يخشى الاقتراب من القضايا الساخنة وهو القائل في موضوع المرأة " لو أن في الشريعة الإسلامية نصوصاً تقضي بالحجاب، على ماهو معروف الآن عند بعض المسلمين، لوجب عليّ اجتناب البحث فيه، ولما كتبت حرفاً يخالف تلك النصوص مهما كانت مضرة في ظاهر الأمر، لأن الأوامر الإلهية يجب الإذعان لها بدون بحث ولامناقشة. لكننا لانجد نصاً في الشريعة يوجب الحجاب على هذه الطريقة المعهودة، وإنما هي عادة عرضت عليهم من مخالطة بعض الأمم فاستحسنوها وأخذوا بها وبالغوا فيها وألبسوها لباس الدين كسائر العادات الضارة التي تمكنت في الناس باسم الدين والدين براء منها."
احمد لطفي السيد من مواليد 1872م في قرية برقين في الريف المصري وقد وصفه عباس محمود العقاد بانه افلاطون الادب العربي وقد اطلق عليه لقب ابو الليبرالية المصرية وهو الذي حمل راية جمع التبرعات لاول جامهة اهلية في مصر آنذاك وهي جامعة القاهرة حاليا, قرا ارسطو وتاثر به ونقل بعض اعماله الى العربية وجاهر برفض انشاء المدارس الدينية الاسلامية والمسيحية على حد سواء, في عام 1907 اسس حزب الامة المصري الذي طالب بالاستقلال التام والحكم الدستوري.

ساطع الحصري من مواليد صنعاء سنة 1879م ورغم انه بدء حياته الفكرية من دعاة التتريك وكتب داعيا لذلك في المجلة التركية " تورك اوجني" الا انه تحول داعية للقومية العربية وقد عمل على علمنة التعليم في العراق ابان عمله وزيرا للمعارف في حكومة الملك وقد خلى كتابه " القراءة الخلدونية " للصف الاول الابتدائي في المدارس العراقية من اية نصوص او اشارات دينية وفد اعتبر الحصري الاسلام عاملا مساعدا للوحدة العربية التي اعتبرها الاساس وليس الوحدة الاسلامية وقاوم كل الافكار الاقليمية اة الانقسامية التي نظرت للدولة الوطنية خصوصا الدعوات لمصر فرعونية او لسوريا كقومية مستقلة عن العرب
عباس محمود العقاد وهو من مواليد اسوان عام 1989م ويكفي ان ننقل بعضا من اقواله في كتابه " التفكير فريضة اسلامية " فقد كتب يقول عن سماحة الاسلام " ولا تثريب على عقيدة تخالفها بعض العقول ، لأن العقائد لا تُطالب بموافقة كل عقلة على سواء أو على انحرفا.وحسبها من سماة أنها لا تصد عقلاً عن سواه." وحول ظاهرة الخوف من التشبه بالآخرين او الاستفادة من فكرهم او صناعتهم فقد قال العقاد في نفس الكتاب " في هذه الفترة كثر التساؤل عن أمور لم تكن موضع سؤال في صدر الإسلام وليست هي موضع سؤال في هذه الأيام .، وسمع الاستفتاء بعد الاستفتاء في الكبريت هل يجود قدحه؟….ولاح هؤلاء المتحرجين كأنهم يعيشون في هذا العالم في سجن مغلق يخشون أن يمدوا أصبعاً إلى شيء فيه فينطلق منه شيطان متربص أو مارد محبوس..ولم تدم هذا الغاشية إلا ريثما تجددت الثقة في النفوس وثبتت الأقدام على منهج الاصلاح فخفت وطأة الحرج الذي استمده المسلمون من حصانة دينهم وأيقنوا أن طرق التقدم وطرق العلم الحديث لا تفترقان وأن المسلم أولى من غير المسلم بكل علم من علوم المعرفة لأنه مأمور بالبحث عن أسرار الخلق مطالب بالفهم والتفكير ، وتخلفت مع الجهل والخمول رواسب من الجمود تخلق الإحراج في غير حرج كلما اضطرت المتعجلين إلى بعض الروية والأناة قبل الهجوم على كل شيء جديد ، لغير نفع فيه إلا أنه يخالف القديم."
علال الفاسي من مواليد مدينة فاس في المغرب سنة 1910م وهو مؤسس حزب الاستقلال المغربي واحد اعمدة الكفاح ضد الاستعمار ومن اقواله الاصلاحية الشهيرة " يجب ان نختار العقيدة التي نريدها والمنهج الذي ننتحله ، ثم لا علينا بعد في المصادر التي نستقي عناصرنا منها ، ناخذ من القديم احسنه ومن الحاضر افضله ونحاول المتابعة في التقدم بما نستجده نحن من تجاربنا مما ليس في القديم ولا في الحديث ولم لا ؟ انهم رجال ونحن رجال يجب ان ننزع عنا عقده النقص التي تمنعنا من الوقوف امام امثالنا موقف الند للند."
قسطنطين زريق وهو من مواليد دمشق سنة 1909م ويعتبر زريق من أبرز المفكرين القوميين العرب وقد اهتبره القوميون العرب اباهم الروحي، ومع بداية القرن العشرين، بعد سقوط الإمبراطورية العثمانية، بدات تباشير الحركة القومية العربية الحديثة بالظهور وكان من ابرز منشطاتها التفاف مجموعة من القوميين الذين عُرفوا بجماعة الكتاب الأحمر من حول قسطنطين زريق, فعلى يده دخلت مبادئ (الكتاب الأحمر) وهي مبادئ قومية إلى الجامعة الأمريكية في بيروت في أوائل الثلاثينات، واستجاب لها عدد غير قليل من الطلاب العرب من بلاد الشام والعراق والجزيرة خاصة.


خاتمة:
لقد هدفت هذه الورقة الى تقديم الاثباتات الى ان العلمانية حسب التعبير الشائع او الدنيوية حسب التعبير الذي ارجحه هنا هي اصيلة وثابتة في الفكر العربي وان ذلك لا يتناقض ابدا مع الاسلام روحا ونصا وان الماساة التي يعشها العرب اليوم هي في رفض الدنيوية فكرا وسلوكا لدى اولئك الذين يدعون الوصاية على الاسلام ويدعون النطق باسمه ونحن هنا نعيدهم للقرآن الكريم واسلوب ادارة الحكم في حياة النبي محمد عليه السلام وفيما اتى به الفلاسفة والمفكرين القدماء والمعاصرين

نصر حامد ابو زيد-ومحنة التفكير-د.عبد الحسين شعبان


نصر حامد أبو زيد ومحنة التفكير والتكفير!


عبد الحسين شعبان
dr_shaban21@hotmail.com

تحدّيان أساسيان واجههما نصر حامد أبو زيد في العقد ونصف العقد الأخير من القرن الماضي، التحدي الأول: كيف يمكنه الصمود أمام غلاة التكفير، الذين اتهمومه بالمروق والإلحاد والخروج على الدين والمساس بالمقدسات، أما التحدي الثاني فهو يتعلق بقراءته للإسلام وتعاليمه، فكيف يمكن له أن يقدّمه بعيداً عن التعصب والتطرف والغلو، بل بما ينسجم مع روح العصر من خلال تأويل النص الديني.
ولعل مواجهة التحدي الأول جعلته يدخل معركتين في آن واحد، المعركة الأولى ضد التخلف والتأثيم والتحريم والتجريم، أما المعركة الثانية فهي من أجل التنوير من خلال تحرير النص الديني من قراءات وتفسيرات مسبقة بعيداً عن إضفاء نوع من القداسة والسكونية عليه بما يؤدي إلى سلب روحه وإهمال لُبّه!
وكان التحدي الأول قد واجهه أبو زيد من داخل المؤسسة الجامعية والوسط الأكاديمي، يوم أراد الحصول على ترقية جامعية ضمن تقاليد العمل الجامعي، فكتب بحثاً كان السبب وراء تفجير الضجّة التي بدأت في حياته ويبدو أنها لا تنتهي بعد رحيله، لاسيَّما تهمة الإلحاد. وكان وراء إثارة تلك الزوبعة تقرير كتبه رئيس لجنة الترقيات الدكتور عبدالصبور شاهين ضد بحث نصر حامد أبو زيد، الذي أصبح كتاباً فيما بعد. وكان شاهين ضمن اجتهاده وقراءته «الإسلامية» قد اتهم أبو زيد بالردّة، مشيراً إلى أن الأخير شديد العداوة لنصوص القرآن والسنّة النبوية والدعوة المحمدية، وأنه حاول النيل منها بإنكار المصدر الإلهي للقرآن الكريم وكذلك النيل من بعض الصحابة، وهو بذلك يروّج للعلمانية ويبرر لسلمان رشدي وروايته الشهيرة «آيات شيطانية»!
ووفقاً لما تقدّم وبسبب ملابسات قانونية تتعلق بحرية التعبير وحرية البحث العلمي، فإن الثغرة التي تم الدخول إليها لمقاضاة أبو زيد كانت «محكمة الأحوال الشخصية» التي قامت بإصدار حكم يقضي بتفريقه عن زوجته الدكتورة ابتهال يونس أستاذة الأدب الفرنسي في جامعة القاهرة، استناداً إلى نصوص فقهية للإمام أبي حنيفة النعمان، ووفقاً لما يسمى بالحسبة، على أساس أنه لا يجوز للمرأة المسلمة الزواج من غير المسلم، أو البقاء على ذمته بعد ارتداده. وقد رفض أبو زيد الحكم كما رفض الإدلاء بالشهادتين معتبراً ذلك بمثابة تفتيش للضمائر، وأعلن تمسكه بزوجته مثلما تمسكت السيدة يونس بزوجها «أبو زيد».
وبما أن حياتهما أصبحت في خطر، لاسيَّما بمواجهته الغوغاء الاجتماعية والتحريض المعلن والمستتر ضد أبو زيد من المؤسسة الدينية أو من بعض أطرافها، لاسيَّما بعض رجال الدين، إضافة إلى اشتباكه مع المؤسسة الأكاديمية-الجامعية، وفيما بعد مع القضاء، فقد اضطر إلى اختيار المنفى، وصادف أن عرضت عليه جامعة لايدن في هولندا أن يكون أستاذاً زائراً في قسم الدراسات الإسلامية، ويقوم بالإشراف على طلبة قسم الدكتوراه في العلوم الإسلامية، وهو ما حصل فعلاً، واستطاع مفكر التنوير أن ينجو من ملاحقة فكر التكفير.
لكن أبو زيد الذي خرج من بلاده «هارباً» لم ينتقل إلى الضفة الأخرى ولم يرغب أن يعطي لفكر التكفير الحجة للمزيد من الاتهامات، بل دافع عن فهمه الحضاري للإسلام في المحافل الأكاديمية والعلمية في هولندا وأوروبا بل وفي العالم أجمع، لاسيَّما بعد أن أصبح أحد رموز التنوير والتفكير الحر، وأحد ضحايا حرية التعبير. وقد طوّر دراساته وأبحاثه وقراءاته التأويلية للنص الديني في إطار الانفتاح والجدل والبحث عن الحقيقة. ورغم إدراكه وتفهمه وقناعته للخصوصية الإسلامية، لكنه رفض توظيفها بما يؤدي إلى الانغلاق أو التحجر، ورفض اختصار هوية الإنسان ببعد واحد، كالدين مثلاً، فالهوية تأخذ أبعاداً متعددة وتتقدم بعضها في أوضاع معينة على البعض الآخر. فالهوية أحياناً تبدو مثل الطبقات الجيولوجية، فما أن تزيل طبقة حتى تظهر أخرى، وكلما انخفض بعدُ ارتفع آخر، كما أن تقدّم أي بعد لأسباب خاصة وظروف معينة، فإن ذلك لا يلغي الأبعاد أو العناصر الأخرى التي قد تتقدم في ظرف آخر! وهكذا فالهوية لا يمكن إلغاؤها أو إنشاؤها أو إحياؤها بقرار دون توفر الظروف الموضوعية والذاتية للتعبير عنها، وكان أبو زيد مع هوية منفتحة متعددة، لاسيَّما من خلال ردّه على أصحاب الخطاب الديني السائد والمهيمن، ويقصدون بها الانغلاق وعدم التفاعل مع الآخر بحجة النقاوة والتميّز والخوف من تأثيرات الغير، الأمر الذي يُسهم في إفقار الهوية ويساعد في عزلها عن التطور الإنساني.
إن مشكلة التكفير تكمن في إدعاء بعض الجماعات السياسية احتكار الحقيقة والأفضليات وحق النطق باسم الدين وباسم «الإسلام» ، بل تنصيب نفسها أحياناً ودون تخويل من أحد تمثيل «الله» وبالتالي تجيز لنفسها وخارج نطاق القوانين السائدة ملاحقة من تفترض فيهم مخالفة وجهات نظرها، بل وإنزال العقاب بهم، ولعل مثل هذه القراءات المخطوءة هي التي قادت بعض جماعات الإسلام السياسي إلى ممارسة الإرهاب واستخدام العنف وسيلة لحل النزاعات السياسية، بل وخلقت حالة من الفوضى النظرية والعملية.
لا يكفي المرء أن يكون منتمياً إلى جماعة إسلامية أو حزب أو تيار إسلامي، للادعاء بأنه الحكم في تطبيق الشريعة، وهو في الوقت ذاته الخصم أيضاً، لاسيَّما تعارضه مع تيار التفكير والتنوير والاجتهاد والنقد، سواءً كان لفرد أو جماعة، وفي حالة أبو زيد فإن التفكير والنقد والاجتهاد هي من حقوق الباحث التي تكفلها القوانين والأنظمة، لاسيَّما المتعلقة بحرية البحث العلمي، وأظن أن تاريخنا العربي - الإسلامي حافل بالكثير من الاجتهادات والقراءات التأويلية والجدلية للنصوص الدينية، ولعلها هي التي كانت السبب وراء ظهور مذاهب وتيارات فكرية ومدارس فقهية أسهمت في النهضة الحضارية التي كان الإسلام عمودها الفقري، لاسيَّما بتوفّر حرية البحث والنقد والاجتهادات المختلفة.
لقد أسهم التيار الإسلامي المتشدد والمتعصب بما يملك من وسائل دعائية وإعلامية ديماغوجية التأثير على الكثير من السياسات العامة وعلى تراجع الحريات الأكاديمية بشكل خاص والحريات بشكل عام، وحاولت بعض الحكومات مجاراته وتجنّب الصدام معه، خصوصاً أن صعوده كتيار بارز ارتبط بتراجع ونكوص التيار اليساري، الماركسي والقومي، وقد استغل هو بالذات ضعف الوعي والجانب العاطفي في مسألة الدين والحاجة الروحية إليه إضافة إلى الأوضاع المزرية التي تعيشها الكثير من المجتمعات الإسلامية، لاسيَّما باستشراء الفقر وتفشي الأمية والبطالة وانعدام الظروف الصحية الطبيعية، فعمد إلى إعلاء سقف مطالبه بفرض أنماط جديدة من الحجاب وإملاء برامج دينية معينة واستخدام أجهزة الدولة أحياناً للقيام ببعض الأنشطة السياسية «باسم الإسلام» بحيث أدى إلى ضعف تدريجي للطابع المدني للدولة، ناهيكم عن تصدّر الواجهات والمظاهر والأزياء والشعارات الإسلامية.
وبدلاً من توسيع دائرة الحريات والابتعاد عن تديين الدولة ومؤسساتها، فإن السلطات الحاكمة اتجهت إلى منافسة التيارات الإسلامية أحياناً، خصوصاً في بعض الطقوس والشعارات والمناسبات الدينية، كي لا تعطي الانطباع أنها تفعل ذلك نزولاً عند رغبة التيار الإسلامي، بل إنها هي من يحمل راية الإسلام بما يعطيها المزيد من الشرعية، ولعل ذلك سبباً كافياً لمحنة نصر حامد أبو زيد، التي انتقلت من الجامعة إلى القضاء ومنهما إلى الغوغاء، ولاحقته تهم الارتداد والإلحاد والمروق في دولة علمانية يكفل دستورها على أقل تقدير الحريات، دون أن تحرّك ساكناً، في حين كانت مصر ورغم جميع مظاهر النكوص، منارة للفكر والنقد والاجتهاد، امتازت نخبها الفكرية والثقافية والدينية بالحيوية.
ظل أبو زيد وهو في منفاه يفكّر ويتأمل ويكتب بعقلانية وحرّية مستنداً إلى تأويل واجتهاد للنصوص الدينية، وذلك عبر شرح وتفسير امتاز بالجرأة، منتصراً للدولة المدنية ولحرية التعبير على حساب الدولة الثيوقراطية الدينية المعلنة أو المستترة، ورغم عودته لفترة قصيرة إلى مصر وإلقائه محاضرة في مكتبة الإسكندرية، لكن حضوره كان مؤقتاً في حين كان يرنو إلى حضور دائم، وحتى بعد إصابته بفيروس وهو في مهمة أكاديمية في إندونيسيا، لم تكن مصر بعيدة عن تفكيره، وعاد إليها محمولاً على نقّالة مستشفى.
أخيراً رحل أبو زيد لكن أفكاره لن ترحل لأنها مدعاة للتفكير والتسامح والعقلانية في مواجهة التكفير والتعصب والتطرف