بحث هذه المدونة الإلكترونية

إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الثلاثاء، 17 أغسطس 2010

في نصوص د.غالب المسعودي-جماليات التجربة بين المخفيات والحضور-بقلم عادل كامل





في نصوص د. غالب المسعودي

جماليات التجربة بين المخفيات والحضور

عادل كامل

[1] لامرئيات الاثر وديناميته

هذا الانشغال الرمزي، والواقعي، قد يلخص علاقة الانسان بممتلكاته، أشياءه، بصفتها الجسر بين الجهد، وعلاماته، الى جانب هذا الذي يعبر، من زمن الى زمن،لإستكمال كل ما لا يمكن البوح به، هو، العمل الفني، بديالكتيك الخامات وأشكالها.

فليس لا وعيا ً عميقا ً، أو بدوافع نائية، وقد تكون لا شعورية، نفسيا ً، قد إختار الابجدية السومرية، في نصوصه الفنية فحسب، بل قصدا ً سمح له أن يبحث عن خامات هي من صنعه، بالدرجة الاولى.

وهنا يأتي إختيار الفنان لخاماته، ليس بسبب عدم توفرها، أو حتى إمكانية إستيرادها، بل لتحقيق ذات الآليات التي جعلت الفنان الرافديني ينجزها قبل ستة الآف سنة. فإذا كان الطين قد لخص مأوى وحي الآلهة، وهيئة الانسان بعد أن وحدّ (ووازن) ما بين التاريخ المفتوح وبين رسالة الانسان في الوجود، فإن خامة الطين، ستوّحد، وتدمج المرئيات بمحركاتها: عبر تنوع الأشكال، والمعالجات، والابعاد الجمالية.


فإذا كان حكماء العراق القديم يأملون بديمومة معابدهم، (2) كجسر ما بين خلود الالهة، وفناء الانسان الساعي للعثور على مفاتيح يعالج فيها ظلمات عالم ما بعد الموت، فان حكماء ذلك الزمن، قاموا بتثبيت المعابد في الأرض عن طريق تماثيل (الاسس) التي تجمع في شكلها بين رمزية الالهة، وبين هيئة الانسان. ففي (المسمار) الشكل قوة سحرية، إضافة الى عمله الوظيفي في التثبيت. وثمة اعتقاد أن دق المسمار في الجدار يقضي على الأرواح الشريرة، أو يقوم بتسميرها في مكانها حتى ان (الخنجر) مازل يستعمل لهذا الغرض في بعض الحضارات.



وهنا لا يخفي الرسام أنه يحفر، ولا يضيف شيئا ً إلى السطح، بل يبني، بمواده المصّنعة، والمعالجة في مختبره الخاص، بالمنحى ذاته على صعيد اكتشاف حكماء وادي الرافدين في الرليف، المتداخلة بجذور اللغة العربية (الجزرية)، في الارباسك، الامر الذي منح الفنان دافعا ً للقراءة المستحدثة لتاريخ الخطوط، بدءا ً بالسمارية، واللغات البابلية، والاشورية، وانتهاء ًبفك اسرار انظمة الخطوط العربية، بصفتها ليست وسيلة نفعية مباشرة ومحددة، وإنما بما تحققه من نظام مقابل لنظام: الدفن ـ البعث. فالتضاريس، والدوائر، والخطوط المتداخلة، لن تنفصل عن الطبقات غير المرئية: ظلمات العالم ما تحت الوعي ـ الموت الذي يؤدي دور الميلاد المؤجل/ المنتظر ـ كي يشتغل المعادل الموضوعي، داخليا ً، ومجفرا ً، بين العلامات ومخفياتها، لتحقيق الجسر بين الازمنة، وبين الدلالات، وأخيرا ً، بعدم منح الفن صياغة الاعلان، او براغميته، وإنما بما تعمل عليه الخامات، وقد وجدت بين أشكالها ومعانيها المستترة، بنائية غايتها ان تحافظ على ديناميتها، وإمتدادها.

إن تحول الجهد الى عملة، والعملة، ذاتها، الى سلعة، فانها ستعيد للقوة سحرها الملغز: محو الرأفة لصالح ضرب من التجريد يصعب تحديد دوافعه النهائية. فالفنون ـ وليست البصرية منفصلة عنها ـ منذ كفت أن تؤدي دورها التضامني، والروحي بحسب (هيغل)، فانها ستشترك في رسم مسار غدى فيه الفن شيئا ً بين أشياء، كي يتحول الخطاب، من جسر/ علاقة، مرسل ومستقبل، إلى اداة خالصة. فلم تعد آليات إنتاج الفنون تشترط اشباع غائيات نائية للفنان، وللمجتمع، وإنما لحصد المزيد من المنافع، على حساب التعبير ـ والصدق. والفنان غالب المسعودي، لم يهمل ان احد سمات الفن (الحديث) وصولا ً الى (الحداثة)، والدخول في مساحات جغرافية ـ سياسية خالية من الضوابط ، في نظام(العولمة) ان الفنان يعمل باكبر قدر من الاستقلالية، بصفته هاو ٍ، او محترف، وانما لانه يشتغل في اكثر البدائيات امتدادا ً، ودينامية. وهنا كان ارثه ـ والارث البشري للحضارات كافة ـ علامة في الدورة، وليس علامة للتداول ـ الاستهلاك. فلم يجهد اصابعه ـ ولا وعيه بالدخول في سوق الفن، ومضارباته، مع حفنة من تجار صغار، ومزورين، ومروجي اقنعة، بل اعتكف، أسوة باساتذة كبار، كرسول علوان، وصالح القره غولي، وعيدان الشيخلي، ود.نوري مصطفى بهجت، ود. سامي حقي، ومحمد على شاكر..الخ لينجز الرسالة ذاتها الكامنة في الختم ـ في الارسال ـ وفي ديالكتيك ـ علاقة ـ اللامحدود بالأشكال. فعندما كان عمل (الختم)، شبيه بعمل تماثيل الأسس، كوحدة الاجزاء، والحفاظ على رمزية المطلق في الدال البشري، كأشتغال لاواع ٍ أو مجّفر، إلى جانب البعد التقني ـ الوظيفي، للفن، فإن الختم ـ والتمثال، وكل معالجة للسطوح، ستحافظ على هذا الترابط، في إطار يحقق الاشباع والتأمل.

إن استعادة الفنان لحرية حواسه، ورهافتها، من عمل الاصابع، الى الومضات البصرية، وانشغاله بمراقة اطياف المخفيات، الشبيهة بعادات افراد احرار بلغ العمل اقاصي نقائهة، وتجردة من التبعية، لأجل مساراتها في التسامي، سيجعل من الفن غاية شبيهة بحضور الإنسان نفسه، لا من أجل أن يغدو شيئا ً، بل على العكس، في إستعادته لهويته (من البعد الجمعي الى الذات، ومن التاريخ الى الفعل، ومن المطلق الى المرئيات)، بصفتها علامة بين علامات، وليس (ماركة) للتضارب، أو غواية في سوق المنافسات، والاشتباك.

فالأسطورة هنا تتزه، ببراءة (شبيه بمن تحرر تماما، باستثناء إستحالة تحرره من قيود حريته، أو براءته) تامة الشروط، ولن تتحول الى أداة غايتهاالقطيعة مع: الأرض ـ الواقع ـ ومآزق الذات في مواجهة المحو ـ والاندماج.

والمسعودي ـ الذي طالما رأى انه آخر السومرين ـ لن يغرد منفردا ً خارج الاشتباك ـ التصادم، وخارج زمن الصدمات، والعشوائيات، الحاصلة في الوسط الثقافي والفني، أو على الصعيدالاجتماعي، بل يرى انه ينتمي إلى إرثه (النحتي) منذ عصر ظهور النقش في فخارات الوركاء، الى الأشكال الهندسية في جداريات بابل، مرورا ً بالعبقرية العربية الاسلامية التي حققت في الارباسك (4)، ذات الديالكتيك بين العلة التي لا علة لها، وبين تحولها الى كيانات جمالية ـ ومعرفية ـ لا يمكن عزلها عن المعمار الاجتماعي، وصولا ً الى التجريد، وهو يشتغل في حقل الاشتباكات التأملية، بعيدا ً عن تحوله الى علامة في سوق، أو الى كنز في متحف.

فالفنان ـ هنا ـ يحدّث (يجدد) في مسار تداخل التيارات والاساليب،إرثه، كالبنّاءالسومري وهو يجدد معالم معابدها الروحية، وكالحكيم الذي يواصل عمله لا في تقصي تماثيل الاسس التي شيدها قبله حكماء الازمنة السابقة فحسب(5)، بل في (تجديد/ تحديث) الفلسفة ذاتها، وهي تأبى أن تكون تاريخا ً بلغ خاتمته.

فالامتداد: إمتداد استدراج الخامات المحلية، من الحجر الى الطين، الى اللدائن، والى الاخشاب والاصماغ ..الخ وإستحالة تحول المتراكمات الى أشياء ـ سلع ـ لأجل المضاربة، والتنافس، وإمتدادا ً: للعناصر وقد عاصرت حضارة بلا جدران، أو قرى معزولة، وهي تنبني بما يجعل مسارات (الغاية) قائمة على دحض تحولها الى (سلعة/ اشياء)، وإمدادا لهذه العوامل ـ من الخامة الى الرؤية ـ ستجعل النص الفني يشتغل للحفاظ على أعقد إشكالية إنبثقت مع ـ اللغة ـ ألا وهي المعادل بين كل ما لا يمكن تحديد جوهره، وبين التطبيقات التي ستشكل إمتدادا ً له.(6) فالفنان د. غالب المسعودي، كي لا يستجدي (بسبب ان مهنة الفن قد أدركته، كما أدركت بعض زملائه من الادباء وحولتهم الى كتبة وليس إلى كتّاب، وليس الى فقراء بل إلى شحاذين)، سستساعده مهنته كطبيب مميز، وجراح ممتاز، لاداء خدمات توفر له حماية كرامته الشخصية، فيما ستكون مهمات الفن، عنده، انشغالا ً بحماية ذات الرهافة التي صاغ خطابها فنان المغارات، وفنان المعابد في سومر، وحكماء الازمنة السحيقة. لأن (الحكيم) هنا، ليس الملك أو العاهل، أو الخبير في شؤون الاقدار والمصائر، أو سلامة الجسد، أو المكلف ببناء مجتمع تتوفر فيه اسبقيات، وفي مقدمتها العدالة فحسب، بل الصانع، والصائغ لـ (سلع) مضادة لها، ليس في التكنيك بمعزل عن الغاية فحسب، بل في إستحالة تحولها الى (وثن). فالحكيم إذا ً سيختار الدرب الذي لن يختتم بخاتمة، أو يكون وحده نهاية الطريق، وإنما ليشكل واحدا ً من مسارات إغناء الجسد ـ وحمايته ـ بالفكر والرؤية، والمرونة في تتبع المحركات النائية، الى جانب كل ما يمكن ملامسته بالانامل، ومشاهدتها بالبصر، وتذوقه برهافة المجسات التي لم تخمد فيها جذوة الومضات، وإنشغالات المخيال/ الحلم/ والشعر.

بحسب خبرة مؤرخي الفنون، فان المليون سنة التي صاغت علاماتها،(7) من الخرز الى الاختام، ومن القلائد الى زخارف جدران المدافن، ومن الاقراط الى رسومات جدران المعابد ..الخ لم تكن منفصلة عن: محنة الجسد. فالجسد الذي غدا مأوى لمكونات العالم باتساعه، والطبيعة بمخاطرها، والمجموعات السكانية ذاتها في تجاورها، وفي تصادمها ..الخ هذا الجسد، المحمي بدفاعات ذاتية ومشفرات بالغة التعقيد ـ والدقة، هو ذاته الذي صاغ ما تضمنته المتاحف من كنوز، والمدن من ممتلكات، والعقول من معارف، والحضارة من حكمة، هو ذاته لخص ديالكتيك: الخطر ـ والديمومة. فالمقاومة ليست كلمة ملتبسة الدلالة، إنما تكاد، لواقعيتها، أن تمتلك أدق تعريف للذي: لا يعّرف: الميتافيزيقا. فالوجود نفسه غدا ـ بصفته لا معقولا ً، ولا يمتلك مفاتيحا ً لفك مغاليقه ـ معقولا ً كضربة نرد لا تحكمها خطة عشوائية. ود.غالب المسعودي، بنزعة شرقية غير مثقلة بالزوائد، يتوهج بما تمتلكه خاماته من لا مرئيات داخلة في تكوين ذرات عناصره الفنية، يعادل، ويوازن، بين جسد (دينامي/ متيقظ) وغير خامل، في استقصاء المسافات وقد كفت أن تكون لها حافات، وبين نصوص فنية عليها أن لا تفقد ذروتها.

إن الفنان غير معني بالجسد، إلا بصفته المأوى تارة، وبصفته قد أكتسب مهارات تؤدي إلى اكتناز مهارات نائية، وبصفته ممرا ً بين القاع والأعالي، ثالثة، ورمزا ًمبنيا ً بالمشفرات وعملها كي لا يرتد، وكي يحافظ على دينامية أنه ليس ابديا ً.

وإذا كان الفنان قد مارس ـ كما رسم شاكر حسن الجسد المجرد في خمسينيات القرن الماضي، ومن ثم تم التخلي عنه ـ معالجة الجسد بما يمتلك من مرونة، وتعقيدات، وملغزات، فانه ـ بدافع تقصيه للمحركات ـ سيدمجه باشكال اختزلت حد القطيعة مع مصادرها، في رؤيته التجريدية، للنصوص، وقد دمج الرسم بالنحت، والطباعة بما تمثله من واجهات المباني، أو شواهد المدافن، والأثر بتحديثاته ..الخ كي تغدو النصوص، كالأختام، وتماثيل الاسس، والارابسك، دون إهمال ثراء التجريد التعبيري، والهندسي، ودوافعه: التطهرية/ السحرية/ الميتافيزيقية/ والرياضية ..الخ ذات مسار يكون الجسد عليه ـ في ذاته ـ ولكن ليس على حساب التجريب، والمرئيات، ورهافات التداول بين الذات وعالمها المحيطي. فالجسد سيتوارى، ليدفن، حتى يكاد الفنان أن يصنع لنا مواكبا ً احتفالية خالصة، والجسد يكف أن يكون إشكالية وجود، كي يستحيل إلى إشكالية تعبير، لا عن غيابه، بل عن امتداد حضوره هذا في الغياب. فثمة تزامن لوقائع تحدث داخل مكونات النص الفني، ولن يدعها تغادر، لكن الجسد يرفرف، كومضات ضوء في العتمة، وقدام ليل الانسان، ليستكمل لغز (الفن) في علاقته مع الصانع، وفي علاقته مع المتلقي. مما سيسمح للفنان أن يستعيد عمليات البناء ـ من الداخل ـ باستعارة الخامات القادرة على تحقيق مقاربة مع غياب الجسد ـ وحضوره. فنصوصه تفصح عن مشاهد أفقية، أختزلت المساحات، واعادت توحيد منبهاتها، داخل السطح، بمتعرجاته، وملامسه المتباينة. فالتجريد الذي غدا كتابة، يحافظ عى مشفرات (الحروف) ذات الأصل: الالهي ـ البشري، معا ً. فهو لم يعلن عن إنحياز لمنهج لا يمكن فصله عنه، بل سيستحدثه في نهاية المطاف، دامجا ً التصّورات، بمسار المشاهدات الواقعية، عبر المعادل ذاته الذي انجزه رسام المغارات، أو صانع الاختام السومري. فالانسان لم يصدر شيئا ً منفصلا ً عن تعبيرية المعالجة ومغزاها، بل غاب فيها ـ كما ينزل الراحل إلى اعماق الارض التي لن يعود منها ـ كي يؤدي طقسا ً بانتظار الانبثاق. إننا إزاء تأولات ربما لن توسع مهمات المتلقي كثيرا ً، لكنها لن تدعه يتمهل بلذائذ طالما انها قائمة على أن الفن: ليس تسلية، أو إمتاعا ً بمعزل عن مراراته الأبدية. ففي هذا المعادل قد لا يقول النص الفني إلا ما توارى فيه، كمقبرة سوتها الريح، وكالزمن آتى على ممالك، وامبراطوريات، إنما ـ في الآن ـ هناك المراقب، المتلقي، بكامل وعيه، وحضوره، وبجسده حتى لو كان قد استحال الى ظل، أو رمز، أو ومضة، فانه ليس إلا صانعا ً لوجود يجدد فيه، ذات الطاقة التي تمنحنا إياها الاجساد التي توارت، ليس في التراب، أو في باقي العناصر فحسب، لكن التي أصبحت تسكننا، وكأنها لن تعمل إلا على تحدي الغياب، وبالدرجة الأولى على مجد الثبات، أو المقاومة، كمعادل بين المحو، وإنبثاق ومضات الوجود.


1 ـ يكتب فراس السواح، في حقل المعتقدات في تاريخ بلاد سومر: " تقدم لنا ديانة بلاد الرافدين النموذج الأمثل عن مفهوم التاريخ المفتوح،حيث نستطيع تمييز مراحل للتاريخ المقدس تكشف عنها الأسطورة. المرحلة الأولى هي السرمدية الساكنة عندما كانت الألوهة منكفئة على نفسها مكتفية بذاتها. المرحلة الثانية هي الزمن الكوزموغوني، أو زمن الخلق والتكوين، عندما خرجت الألوهة من كمونها فأطلقت الزمان ومدت المكان وحركت دارة الوجود. المرحلة الثالثة هي زمن الأصول والتنظيم، عندما عمد الآلهة إلى تنظيم شؤون العالم والمجتمع الإنساني، من خلال عدد من الفعاليات المبدعة التي نشطت عند جذور التاريخ الإنساني. المرحلة الرابعة هي زمن البر الفتوح على اللانهاية" أنظر: فراس السواح [الرحمن والشيطان ـ الثنوية الكونية ولاهوت التاريخ في الديانات الشرقية] دار علاء الدين للنشر والتوزيع والترجمة ـ دمشق/2000 ص23

[2]ـ كان من امنيات ملوك العراق القديم ان تبقى المعابد التي يشيدونها خالدة الى الأبد. لذلك قام الملوك بتثبيت المعابد في الارض عن طريق تماثيل الاسس التي تجمع في شكلها بين المسمار والاله أو الملك. أنظر: د. صبحي أنور رشيد [تماثيل الأسس السومرية] وزارة الثقافة والاعلام ـ الجمهورية العراقية 1980 ص6

[3] في تاريخ دولة لارسا تصادفنا ظاهرة نادرة الحدوث في التاريخ العراقي، ذلك أن أحد ملوك هذه الدولة والمدعو (كودورمبوك) الذي كان يقيم في منطقة تقع شرق بابل بعد استيلائه على السلطة في لارسا بتنصيب ابنه (وارادسين) حاكما ً على البلاد " وبقي هو في خيام قبيلته واكتفى بلقب شيخ أو أب لكنه احتفظ من بعيد بالقيادة في يده من خلال تحديد سياسة وارادسين" إذ ليس من المألوف في تاريخ العراق أن يزهد حاكم بالسلطة ويبتعد طواعية ولو على هذا اشكل. انظر: باقر ياسين [تاريخ العنف الدموي في العراق/ الوقاءع ـ الدوافع ـ الحلول] توزيع دار الكنوز الادبية. بيروت ـ لبنان. 1999 ص44

[4] الأرابسك: فنون زخرفية إبداعية تلقائية موحية، إنبثقت من حضارة الشرق القديمة، وتبلورت في الفنون الاسلامية، تناولت الحقائق والجوهر والروح بتعبير رمزي، فأحالت الشكل الخارجي والمظاهر العرضية الى رموز وأسرار، مضامينها صوفية تأملية، واشكالها تعتمد التوازن والتقابل والتناسب والتكرار، استعاضت عن التجسيم بالعمق الوجداني. انتقلت إلى الفنون الغربية المعاصرة كعنصر تزويقي، تستلهم الحروف أحيانا ً. وقد أطلق الجماليون عليها (الفزع من الفراغ). انظر: عباس الصراف [آفاق النقد التشكيلي] وزارة الثقافة والاعلام ـ بغداد ـ 1979ـ ص163

[5] كذلك استمر التقليد راسخا ً في العصر السومري الحديث بنوع يعرف بـ (الحيوان ـ المسمار) الذي استعمل في عصر فجر السلالات الثالث ولكن بكل ثور جالس فوق مسمار. كما واستمر استعمال النوع المعروف بـ (الانسان ـ المسمار) الذي ظهر لأول مرة في عصر فجر السلالات الثاني، حوالي 2600ق.م. أنظر: د. صبحي رشيد [تماثيل الأسس السومرية] مصدر ساب. ص14

[6] ـ بمعنى ان للبشر غاية لا تمحى بالفناء، كما يرد في احكام اقدار الالهة لهم، وإلا لماذا منحوا، في حدود مصائرهم، تعالميها، حتى لو كانت قد كتبت من قبل البشر أنفسهم. فالديالكتك ـ ضمن الزمن المفتوح ـ يسمح باستحالة محو المعنى، أو جعله عدما ً ممتداً.

[7] يذكر هنري هودجز: "هذا، وعلى الرغم من ظهور الانسان الصانع للأداة قبل عدة ملايين من السنين، إلا أننا نستطيع أن نتتبع تاريخ صناعة الادوات إلى مليوني سنة مضت" أنظر: هنري هودجز [التقنية في العالم القديم] ترجمة: رندة قاقيش. الدار العربية للتوزيع والنشر. عمان ـ الأردن. 1988، ص25

مقابلات-تزفيتيان تودوروف-الحياة في حد ذاتها اثر فني




مقابلات
تزفيتان تودوروف : الحياة في حدّ ذاتها أثر فنّي






ترجمة المنتصر الحملي


في كتابه "التّوقيع البشريّ"La Signature humaine ، يتحدّث تزفيتان تودوروف عن نفسه من خلال شخصيّات بارزة في الفنون والفكر. يرافقه في ذلك حدس بأنّ الإنسان لا ينشئ معنى إلاّ انطلاقا من تاريخه الخاصّ.

طيف طويل، نظرة بهيجة، تعبير متمهّل موسيقيّ : ذاك هو تزفيتان تودوروف، حضور قبل كلّ شيء. بانتباه وحماسة، يعيش حياته في شقّته البسيطة حيث استقبلنا. حدّثنا عن طفولته في بلغاريا، عن الاستبداد الشّيوعيّ، عن نفيه إلى فرنسا، عن أعماله الأولى حول الأشكال السّرديّة في الأدب رفقة رولان بارط. أراد في ذلك الزّمن أن يبني نظريّة علميّة عن الأدب وليس أقلّ من ذلك، سائرا على الدّرب الثّنائيّ، للشّكلانيين الرّوس واللّسانيات البنيويّة، على منوال ميخاييل باختين وريمان جاكبسون. لقد أصبحت كتبه : "مقدّمة للأدب العجائبيّ" (1970) و"شعريّة النّثر" (1971) و"نظريّات العلامة" (1977) كلاسيكيّات في الدّراسات الأدبيّة منذ نشرها.
"ثمّ تغيّرت الأمور" كما يبيّن هو ببساطة. فبعد أن قضّى عشرين سنة في الدّراسة الدّقيقة للأشكال الرّمزيّة، تحمّس للنّظر في العمق. ومن مؤرّخ للغزو الإسباني إلى مفسّر لمونتانيي Montaigne وشارح للرّسامين الفلامنديين وباحث في الأخلاق ومفكّر في التّنوّع الثّقافيّ، تخلّى تباعا عن النّظريّة البنيويّة ليلج مواضيع سياسيّة وأخلاقيّة. "إنّ مجادلة الأفكار، الممنوعة في بلغاريا زمن طفولتي، قد غادرت المنطقة الحمراء"، كما همس لنا.

كتابه الجديد، "التّوقيع البشريّ. مقالات 1983-2008" (سوي، 2009)، يشبهه : فهو مكهرب، ذاتيّ، وثاقب. يرمي بالقارئ في صميم وجود شخصيات نموذجيّة : جرمان تيلّيون Germaine Tillion، ريمون آرون Raymond Aron، إدوارد سعيد Edward Saïd، ريمان جاكبسون R. Jakobson،ميخاييل باختين M. Bakhtine ،وأيضا لا روشفوكو La Rochefoucauld وموزار Mozart وستندال Stendhal وغوته Goethe. ومن خلال هذه اللّقاءات، يرسم تودوروف ضمنيّا، صورته الشّخصيّة - "رسما صينيّا" - يتشكّل من ميوله إلى الآخرين. وهو يؤكّد أنّنا "لا نفكّر إلاّ انعكاسا لآخر". بإمكاننا أن نقرأ هذا الكتاب على أنّه رواق لرسوم شخصياتِ رجال ونساء من الرّفاق الجيّدين، على أنّه معبد شخصيّ مخصَّص للهواة المثقّفين. ولكنّ ما هو جوهريّ يكمن في مكان آخر. فتودوروف يعرض في هذا الكتاب أطروحة قويّة : وهي أنّ الباحث في العلوم الإنسانيّة، مثل الكاتب، لا يحلّل الوقائع إلاّ انطلاقا من حياته المعيشة الشّخصيّة. وبخلاف الباحث في العلوم الطّبيعيّة، يجب عليه أن يزيل الجدار الفاصل بين حياته وعمله. لا يعني هذا مطلقا أن يستسلم لسراب التّأمّل الباطنيّ وأن يسعى وراء "أنا" أصيلة. ينبغي عليه فقط أن يراعي بوضوح اللّقاءات الّتي تشكّلنا : "نحن بالكامل نتاج للآخرين، لما قدّموه لنا، لانطباعاتهم وردود أفعالهم. لا وجود للأنا العميق".

تودوروف، الّذي ما عاد حقّا عالم علامات و"ليس فيلسوفا بأتمّ معنى الكلمة"، يتميّز دائما بمواهبه في التّأويل : فهو يضع ذكاءه كلّه في خدمة آثار الآخرين. ولأنّ تفكيره مشغول بالشّكّ فهو مؤثّر. إنّ انعطافاته النّظريّة، من السّيميوطيقا إلى الإنسيّة، واستطراداته حول الشّرّ، وابتداهاته (من البديهة) في الفنّ أو في الحبّ، وحماسته ومعاركه، كلّ هذا يمنحه صوتا متفرّدا في المشهد الفكريّ الأوروبّيّ. يقترن لديه التّواضع الفعليّ بطموح يفوق الحدّ، فهو يريد المسك بجوهر الإنسانيّة، لأنّه مقتنع بأنّ الحكمة البشريّة مرتهنة بهذه المعرفة. كان بإمكانه الآن، وهو في السّبعين من عمره، أن يتوقّف وأن يهتمّ بحديقته. لكنّه لا يفعل، بل يلزم نفسه على الدّوام بمشاريع جديدة، بندوات، وأبحاث، وكتب. "يبدو لي أنّه يمكننا السّير قدما في فهم البشر إلى ما هو أبعد. كلّ هذا مازال حتّى الآن غير واضح تماما". إنّه عازم إلى أقصى حدّ على تقصّي وجهات نظرنا نحن البشر وانكساراتنا ونتوءاتنا. إليكم هذا اللّقاء.

ما مدلول عنوان كتابك الجديد : "التّوقيع البشريّ"؟

كنت قد فكّرت من قبل في هذه الصّيغة : "التّوقيع البشريّ"، حين وجدتها في كتاب لجرمان تيلّيون. لقد أثّر فيّ هذا التّعبير لأنّه كان يلخّص، إذا صحّ القول، مسيرتي الخاصّة. فأنا أجد فيه نقطة انطلاقي، أي العلامة، ونقطة وصولي، أي الإنسان! كنت أريد أن أتفحّص وجوهها من خلال نظريّة للّغة، للأدب، للفنون. ثمّ سعيت إلى البحث عمّا يختبئ خلف العلامات. شعرت أنّني منجذب إلى فهم السّلوكيات البشريّة ذاتها، وليس فقط إلى فهم أشكال تعبيرها. وفي ذات الوقت، وجدت نفسي صمن تقليد فلسفيّ هو الحركة الإنسانيّة. أنا أتساءل دائما عن طبيعة الاختيارات البشريّة، السّياسيّة والأخلاقيّة والاجتماعيّة. ولكنّي مع ذلك لا أملك تعريفا مطلقا للإنسان، فأنا أدرس بالأحرى المواقف الكبرى الّتي يتّخذها النّاس في مواجهة التّحدّيات الّتي تعترضهم طوال وجودهم.

ترسم في هذا الكتاب سلسلة من الصّور الشّخصيّة لجرمان تيلّيون وريمون آرون وريمان جاكبسون وميخاييل باختين الخ… فهل إنّ حياة الكتّاب بإمكانها أن تلقي الضّوء على مؤلّفاتهم؟


حين كنت طالبا، كان هناك شكل من الاعتقاد الدّوغمائيّ بأنّه لا بدّ لنا من معرفة "الإنسان" و"الأثر". كان أساتذتنا يسلّمون بوجود علاقة سببيّة بين المصير الفرديّ لكاتب مّا ومضمون كتبه. بيد أنّ جيلنا اعترض على هذا الاعتقاد. وكنّا في السّتّينات نعتبر أنّ حياة كاتب مّا، مهما كانت، تساعدنا قليلا في القراءة : كنّا جميعا، مثل مارسيل بروست، "ضدّ سان بوف Sainte-Beuve"…ففي المنظور البنيويّ، ينصبّ الاهتمام على القوانين الّتي تفعل فعلها في الحكايات، على معاني القصيد الاستعاريّة، أمّا المرجعيّة السّيريّة فكانت تبدو لنا غير ذات جدوى. وأنا اليوم مازلت لا أرى أنّ الحياة تفسّر الأثر، بل أرى أنّ "الحياة" بدورها أثر فنّيّ. بل إنّ حياتنا ليست سوى سلسلة من الأعمال، بعضها شفويّ وبعضها الآخر سلوكيّ، وإنّ التّفاعل بينها يحمل دلالة قويّة.

بأيّ شكل؟


تُعتبر جرمان تيلّيون مثالا واضحا على ذلك. فقد قامت خلال الثّلاثينات بدراسات في علم الأعراق، ثمّ عملت ميدانيّا في الجزائر. وبعد الهزيمة، انخرطت في المقاومة، فتمّ إيقافها وسجنها ثمّ ترحيلها إلى معسكر اعتقال. وعند عودتها، طُلب منها إعداد تقرير عن العِرْق الّذي كانت قد قامت بدراسته، الشّاويّة. فتبيّن لها حينئذ أنّه من غير الممكن تكرار أطروحاتها السّابقة للحرب. وذلك على الرّغم من أنّها لم تتلقّ أيّة معلومة جديدة عن هذا العرق! إنّها هي الشّيء الوحيد الّذي تغيّر. فقد تعلّمت من حياتها في رافنزبروك Ravensbrück أن تفسّر السّلوكيات البشريّة بطريقة مغايرة : تأثيرات الجوع، مكانة الشّرف، معنى التّضامن. وهكذا تتدخّل هويّتها في نشاطها العلميّ. كذلك هو الحال في العلوم الإنسانيّة الأخرى. فما يصنع مؤرّخا كبيرا أو عالم اجتماع عظيما أو فضلا عن ذلك كاتبا، ليس هو مجرّد تجميع للوقائع بل هو إقامة العلاقة بينها والمعنى الّذي يضفيه عليها. ولكنّ ربط الصّلة هذه تنجزها الذّات مستعينة بجهاز ذهنيّ هو نتاج لوجودنا نفسه. فدراسة الأثر إذن لا تسمح بعزل هويّة العالم أو الكاتب. هذا ما أحاول إظهاره في "رسومي للصّور الشّخصيّة".

ما الّذي قادك في حياتك الشّخصيّة إلى إعادة توجيه تفكيرك؟


الاندماج الأفضل في الإطار الّذي كنت أعيش فيه، وفي المقام الأوّل تجربة الأبوّة. فعند ميلاد ابني الأوّل سنة 1974 اكتشفت بداخلي مشاعر جديدة، وقويّة بشكل مثير، حاملة معها أيضا مسؤوليّة كبيرة. في حياة شخصٍ بلا مرفأ اجتماعيّ وخصوصا بلا أبناء يظلّ من الممكن التّفكيرُ في العمل - الأطروحة الّتي نكتبها مثلا –وكأنّه عالم قائم بذاته. أمّا إذا كنتَ تشعر دائما بأنّ ابنك يناديك فسيكون من الصّعب عليك أن تحافظ على حدّ عازل بين حياتك وتفكيرك. لقد كنت سعيدا بتجاوز هذه المرحلة من الانغلاق داخل عالم معزول من أجل البحث عن علاقة معبّرة بين ما كنته وما كنت بصدد الاشتغال عليه، دون السّقوط مع ذلك في السّيرة الذّاتيّة. وقد قادني ذلك إلى الاهتمام أكثر بالعالم الّذي أعيش فيه وليس فقط بالمعرفة المجرّدة.

في "التّوقيع البشريّ" تدرس الكتّاب من خلال موشور التّجارب المؤلمة الّتي مرّوا بها : المرض، الحداد، تجربة المعتقلات…فهل لابدّ من المعاناة ليكون التّفكير؟

هذا سؤال خطير لا أجرؤ على تقديم إجابة عليه. لا لشيء إلاّ لأنّي لم أعان كثيرا في حياتي… لكنّي ألاحظ بالفعل وجود ربط مزعج بين الهشاشة والمعاناة وبين القدرة على الذّهاب بعيدا في معرفة الإنسان. كما لو أنّ السّعادة يمكن أن تسدّ الطّريق أمام المعرفة الأكثر توقّدا… فإمّا أن تكون نظريّتي خاطئة وهذا شيء يريحني، وإمّا أن تكون صحيحة فأكون بذلك مفكّرا تافها! قد أكون أحاول التّعويض عن غياب تلك التّجربة المؤلمة عن وجودي الشّخصيّ من خلال شغفي بتجربة الآخرين، وخصوصا منهم الأشخاص الّذين عاشوا خلال مسيرتهم الانسحاق والهشاشة بل والمأساة. لا يستهويني الأبطال ولا "الأشرار". بل أفضّل فهم الأشخاص غير المعصومين عن الخطأ الّذين تكون حياتهم شبيهة بـ "حديقة غير مثاليّة" وفق تعبير مونتانيي. فهم كما يبدون لي يمثّلون أكثر من غيرهم المنزلة الإنسانيّة.

2

مقابلات
تزفيتان تودوروف : الحياة في حدّ ذاتها أثر فنّيّ

ترجمة المنتصر الحملي


2/2


كتبتَ تقول : "كلّ مثقّف هو منفيّ عن منزلته الأصليّة". أنت نفسك قد عشت تجربة المنفى من بلغاريا إلى فرنسا. ففيم يمكن لهذه التّجربة أن تساعد على التّفكير في العالم؟

أعتبر نفسي "رجلا متغرّبا"، ليس فقط لأنّني استبدلت البلد بل كذلك لأنّني أميل إلى نظرة مربكة إلى العالم. بهذا المعنى، يختلف المثقّف عن المناضل. فلا يتمثّل دوره في القيام بعمل في سبيل تحقيق هدف مّا بل في فهم أفضل للعالم، ولهذا لا بدّ له من أن يتخلّص من البديهيات. إنّ المنفيّ لا يقاسم الآخرين نفس العادات، فهو إذن يندهش ممّا يبدو عاديّا لدى أبناء بلده الجديد. يفضي المنفى إلى مسافة بين الذّات والوسط الاجتماعيّ الّذي تعيش فيه، وهي مسافة ملائمة للتّفكير، ولكنّها غير ملزمة! فالكثير من النّاس يشعرون بهذا الانفصال دون أن يكونوا قد خاضوا تجربة المنفى الجسديّ. لنكتف بالقول إنّ استبدال البلد، حين يتمّ بلا مأساة، يساعد على تحقيق الانفصال الضّروريّ لعمل المثقّف، هذا العمل الّذي سيُنجَز بشكل سيّء حين يكون المثقّف متداخلا مع الفاعلين الّذين يقوم بدراستهم.

ما هي علاقتك بالالتزام السّياسيّ؟

كبرت في بلغاريا خلال السّنوات الّتي أعقبت الحرب. ولم تكن الشّموليّة الّتي تسودها تشجّع على الالتزام. فهي لم تكن لتسمح سوى بدربين : فإمّا أن تشقّ طريقك في صلب الحزب الشّيوعيّ وإمّا أن تنصرف تماما عن الحياة السّياسيّة. وأنا اخترت مثل الكثير من البلغار هذا الدّرب الثّاني. كنت أقيم قطيعة جذريّة بينـ "هم"، أعني من كانوا يديرون البلاد، وبيني. وهكذا تلقّيت نوعا من التّلقيح الّذي أبقاني لفترة طويلة بمنأى عن أي اهتمام سياسيّ. ولكنّي تغيّرت بعد سنة 1973، وهي السّنة الّتي تحصّلت فيها على الجنسيّة الفرنسيّة. وبدأت شيئا فشيئا أشعر بأنّي معنيّ بالسّياسة. كانت المسائل المصبوغة بقيم أخلاقيّة وسياسيّة تثير اهتمامي : مثل الالتقاء بالآخرين وأصول العنف وتجربة معسكرات الاعتقال وسوء استعمال الذّاكرة. بل إنّي كتبت كتابا صغيرا عن حرب العراق! ورغم ذلك لم أصبح مناضلا. فأنا لست منخرطا في أيّ حزب سياسيّ ونادرا ما أوقّع على العرائض. ولكن يحدث أن أتّخذ موقفا. من ذلك مثلا أنّي تدخّلت عندما تمّ الإعلان عن مشروع لبعث وزارة الهويّة الوطنيّة، لأنّ هذه الفكرة كما كانت تبدو لي غير متماسكة على الصّعيد الأنتروبولوجيّ وضارّة على المستوىالسّياسيّ.

أنت تعتبر نفسك معتدلا سياسيّا. ألا يمكن أن يكون المرء مفرطا في الاعتدال؟

في التّاريخ الحديث، يمكن أن يكون مؤتمر ميونيخ سنة 1938 المثال النّموذجيّ على "الاعتدال" المفرط. فقد حاولت القوى الغربيّة حينها مداهنة الاعتداء النّازيّ وتنازلت. فهل كان ذلك حقّا موقفا معتدلا؟ لقد كان بالأحرى عملا قصير النّظر. ذلك أنّ تجنّب العنف لا يكون مناسبا إلاّ حيث لا يكون هناك خطر حقيقيّ. بيد أنّ التّهديد الهتلريّ سنة 1938 صار جليّا لكلّ من كان يريد رؤية الحقيقة. أمّا من ناحيتي، فأنا أجد نفسي في شكل آخر من الاعتدال. فلا شرعيّة لأيّة سلطة ليس لها حدود، كما علّمنا مونتسكيو. الاعتدال بمعناه القويّ ليس هو التّراخي بل هو الحدّ من كلّ سلطة من السّلطات من خلال سلطات مضادّة. إنّه تنظيم للفضاء العموميّ يراعى فيه التّنوّع البشريّ. لا تنازل إزاء العنف إذن بل على العكس تماما. وضمن هذا العقل ذاته أدافع عمّا أسمّيه الحضارة، أي عن قدرتنا على الاعتراف باختلافات الآخرين دون تحقيرها بالضّرورة. فهل أكون رغم ذلك مفرطا في اعتدالي؟ أترك لكما الحكم…

تعود مرّات عديدة في كتابك إلى مسألة الشّرّ. ومن وجهة نظرك الشّرّ منغرس عميقا في الطّبيعة الإنسانيّة. فإذا كان الشّرّ في باطن كلّ واحد منّا، فكيف يمكن مقاومته؟

أنا لا أومن بوجود "شرّ" كونيّ وثابت، ولكنّنا في الحقيقة نعثر ثانية على مختلف أشكاله في كلّ مرحلة من مراحل التّاريخ. يتأتّى الشّرّ من أنّ كلّ شخص يحتاج الآخرين ولكنّ هؤلاء لا يعطونه طوعا ما يرغب فيه. إنّ هذه المركزيّة الذّاتيّة تكون خطيرة بشكل خاصّ عندما تصبح جماعيّة. فأفظع الجرائم هي الّتي ارتُكبت في سبيل حماية "ذوينا" من خطر داهم من مواضع أخرى. إنّ هذه المانويّة الّتي تخلط "نحن والآخرين" مع "الصّديق والعدوّ" أو، وهذا الأسوأ، مع "الخير والشّرّ" هي مانويّة قاتلة. لهذا السّبب، أرصد هذه الأشكال وكذلك طرق مقاومتها، وأرويها في كتبي. بهذا المعنى أظلّ قريبا من أفكار الأنوار : أقاوم الشّرّ عن طريق المعرفة.


• الحوار منشور في مجلّة العلوم الإنسانيّة Sciences Humaines الشّهريّة عدد 210، ديسمبر، 2009. تحت عنوان "

الأحد، 15 أغسطس 2010

حوار -وكالة انباء الاعلام العراقي-اجرى الحوار ناظم السعود



| الرئيسية | الاخبار الثقافية
واع/ التشكيلي والباحث غالب المسعودي:طوّعت المقطع المسماري كي يشكّل حرفا عربيا جديدا/ حوار
:

واع/ ناظم السعود
كلما احضر زائرا او عابرا لمدينة الحلة احرص على رؤية الفنان والناقد التشكيلي المعروف د. غالب المسعودي في بيته او عيادته الطبية ( فهو فنان وناقد وطبيب أسنان) ، ومغزى حرصي هذا إنني أجد ما اسمّيه ( بيئة ثقافية ) موسومة باسم المسعودي ولها ملامحها ودلالتها الفكرية والجمالية التي لاشك إنها تجذرت باجتهادات المسعودي ومغامراته المعرفية طوال أكثر من ثلاثين عاما.
في محترفه الفني في بيته أقف مندهشا أمام السمات الفكرية التي يوزعها بنظام دقيق في الزوايا وعلى الرفوف وحتى على السقف المضاء بعناية، تختلط أمامي صور التاريخ بالواقع والحروف باللوحات والتماعات الماضي بإرهاصات الحاضر وبين كل شيء تنتشر العدد والألوان وأوراق الرسم وأفلام الفوتوغراف ضمن سطوح جغرافية مقننة تماما لتدل على رهافة الفنان وصرامة آفاقه وانشغالاته .
اما في عيادته فهناك تجمع عفوي لحشد من الأدباء وفناني المدينة في ندوات ولقاءات حرة عابقة بالجدل والعافية الثقافية ، وفي آخر زيارة لي الى محترفة الحلي ( حيث يتراسل المسعودي مع العالم انطلاقا من تلك البقعة الحلية ) عقدت معه حوارا ضمنته خلاصة التجربة الفنية لدى غالب المسعودي، ولأول مرة احرص على ان يأتي حواري معه موثقا بالصوت بواسطة جهاز التسجيل ذلك لعلمي ان مثل هذا الحوار سيكون ممتدا في حاضنة الزمن ولتنوع وسائل توثيقه وهذا ما سيبقيه أطول :
•ثمة اتجاه فني وفكري تسعى لتجذ يره في حياتنا الثقافية هو هذا الجمع بين الحرفين العربي والسومري في لوحاتك ودراساتك .. فهل كان هذا الاتجاه استمرارا لجهود من سبقك .. ام انه واعز ذاتي محض؟
- الاتجاه الذي أشرت إليه هو الذي يميزني عن الحروفين العرب لأنني اتخذت الحرف شكلا جديدا غير المشاع في الكتابة العربية ،حاولت ان ابتكر حالة اسقاطية لحرف المسماري على الحرف العربي لأنهما من زاوية تراتبية ارث حضاري متواصل .
•ما هي جهودك تحديدا؟
_ أخذت الحروفية العربية بأساساتها كمرجعية تاريخية ،و نحن نعرف ان الأبجديات هي سابقة او موازية للأشكال الكتابية ثم جاء الشكل المسماري وتتطور الى الحروف العربية . وقد وجدت ان الحرف المسماري كان يملك قيما تعبيرية ( اسمّيها قيما تشكيلية ) وحاولت إسقاط هذه القيم على الحرف العربي لغرض بناء شكل جديد للحرف يعنى بالقيم التعبيرية والتشكيلية فضلا عن الدلالية .
* أتعني انك طوعّت الحرف العربي الى الحرف المسماري؟!
- بالعكس أني طوعّت المسماري الى العربي بصوره عامة لان الكتابة المسمارية هي كتابة مقطعية وليست حروفية ولكنها تنتهي بالرمز الذي ينتهي الى التورية في حضارة وادي الرافدين كل هذا يشكل قيما صوتية وإذا أضفنا إليها قيما صوتية أخرى ستعطينا الكلمة في الكتابة المسمارية في الوقت الذي تتكون العربية من حروف منفصلة والتي تشكل لنا الكلمة ولا حظت ان لكل حرف عربي صوتا معينا ..
* ما هو الخلاف تحديدا بين الكتابتين العربية والمسمارية ؟
- الخلاف كبير بينهما لان السومرية مقطعية والعربية حروفية أبجدية إلا ان هذا لا يمنع من القول ان الخطوط العربية تمتلك نوعا من التقارب مع الخط المسماري( كالخط الكوفي الذي يتميز بزواياه الحادة والقريبة من المقاطع المسمارية) وأنا إزاء هذا الإرث الكبير طوعت المقطع المسماري كي يشكل حرفا عربيا جديدا.
•أنت كثيرا ما تعود للحضارات الرافدينية فكيف جاء تعاملك مع الموروث الحضاري ؟.
_ التعامل مع الموروث تعامل عبر الماضي غير ان أية قراءة متعمقة تجعلنا نأخذ ما هو ايجابي وما هو ممكن ان يفيدنا مستقبلا . انا لا أتعامل مع التراث تعاملا سلفيا بل تعاملا بقدر ما يمكن ان ينير المستقبل . ان حضارة وادي الرافدين حضارة تأسيسية بنيت عليها ومن خلالها حضارات أخرى ونحن أولى بتمّثل حضارتنا للحصول على منجزات جديدة
* هل ان تجاربك الجديدة امتدت لتجارب قديمة ( لك او لسواك) ام أنها تمثل قطيعة لما سبقها؟!.
_ هي امتداد لتجارب سابقة ولكن بشكل أكثر عمقا وأكثر تطورا من ناحية الرؤى الفكرية والتقنيات الفنية ولا استطيع ان أقول إنها شكلت قطيعة غير مؤسّسة بل هي مؤسسة فكريا وفلسفيا ورؤيويا من خلال معالجتي التشكيلية والنقدية.
•وجدت في لوحاتك الحروفية الجديدة مضامين فكرية مكتظة بحمامات الدم وبشكل ملفت للنظر..ما السبب؟
__ ان ما يتميز به تاريخنا الحاضر هو هذا التراكم الكمي والنوعي من الوحشية والتنكيل اليومي غير المسبوق ، وما نسمعه ونشاهده من المشاهد الواخزة والصادمة لوجداننا وضمائرنا كل هذا جعلني ادخل ما تسمّية ( حمامات الدم) في لوحاتي الجديدة ، وعلى الفنان ان يعمل على هذه الدلالة وليس على منطق البكائيات ولقد سعيت الى دمج الحروفية الجديدة بالراهن الدموي كي أطلق صرخة تاريخية تمتد من الحاضر الى القادم الموعود!!.