بحث هذه المدونة الإلكترونية

إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

السبت، 6 سبتمبر 2014

الخناقون .. قتلوا مليون إنسان بخرقة !


الخناقون .. قتلوا مليون إنسان بخرقة !
الخناقون قتلوا مليون إنسان بخرقة thuggees1.jpg

خليط من الناس و الأديان اندمجوا في منظمة إجرامية لم يعرف لها التاريخ مثيلا ، عدهم البعض طائفة قائمة بحد ذاتها ، أفرادها مجرمون بالفطرة يولدون و يعيشون لهدف واحد .. القتل من دون أية رحمة . أساليبهم و طرقهم في اغتيال الناس شيطانية لا تخطر على بال أدهى الناس ، فهم يتلونون بمائة لون و يبدلون أشكالهم و هيئاتهم باستمرار لكي يتمكنوا من الوصول إلى رقاب ضحاياهم ، إنهم قتلة مجرمون فاقوا بعدد ضحاياهم أي منظمة إرهابية و إجرامية أخرى عرفها التاريخ .. تعال معنا عزيزي القارئ للتعرف على الخناقون"Thuggee" وتأكد بأنك لن تنسى هذا الأسم بسرعة.

"Thuggee " هو أسم طائفة من الخناقين الهنود احترفوا قطع الطريق وسلب وقتل المسافرين ، و منهم جاءت كلمة "Thug " في اللغة الانجليزية ، و معناها السفاح . وتضم هذه الطائفة خليطا متنوعا من الأديان والقوميات ، فيهم الهندوسي والسيخي والمسلم، غير أن الهندوس من أتباع الربة كالي (Kali ) يشكلون الغالبية العظمى من أفراد الطائفة ، وهذه الربة هي آلهة الزمن والموت لدى الهندوس ، يصورنها في معابدهم بهيئة امرأة داكنة البشرة ، بارزة الأنياب ، طويلة الشعر ، تطوق رقبتها قلادة كبيرة من الرؤوس البشرية المقطوعة .
الخناقون قتلوا مليون إنسان بخرقة vampirebg3.jpg
الربة الهندوسية كالي
الخناقون يقتلون الناس تقربا إلى معبودتهم كالي ، و يزعمون أنها هي من أمرتهم بفعل ذلك ، فبحسب الأسطورة كان هناك في بداية الزمان وحش عملاق يلتهم الناس بسرعة حتى كاد أن يقضي على البشرية ، وقد خاضت كالي معركة حامية الوطيس مع هذا الوحش العجيب الذي كانت لديه القدرة على إعادة خلق نفسه ، فكل قطرة دم تسقط من جسده كانت تتحول إلى وحش جديد ، وللقضاء عليه خلقت كالي رجلين وأعطتهما خرقة تدعى الرمال ثم أمرتهم أن يقتلا الوحش خنقا كي لا يتمكن من إعادة خلق نفسه ، وقد أنجزا المهمة بنجاح فقتلا الوحش من دون إراقة قطرة دم واحدة ، وكافأتهما كالي على صنيعهما بأن سمحت لهما بالاحتفاظ بالرمال وإمرتهما أن يتوارثاها في ذريتهما ويستعملاها في قتل كل شخص لا ينتمي إلى طائفتهما.

بالتأكيد جرائم الخانقين لا تقوم على الدافع الديني فقط ، فسرقة أموال المسافرين ونهب ممتلكاتهم تعد هدفا رئيسيا لتلك الجرائم ، ولهذا السبب ضمت الطائفة أتباعا من غير الهندوس. 

وقد نشط الخناقون في الهند منذ منتصف القرن السادس عشر، حاول العديد من الحكام المحليين محاربتهم و القضاء عليهم ، لكن جميع تلك المحاولات باءت بالفشل بسبب حيطة و حذر الخناقين الشديدة ، والسرية التامة التي يحيطون بها تحركاتهم ، فأغلب جرائمهم لا تكتشف إلا بعد مرور وقت طويل على اقترافها ، وقد لا تكتشف أبدا ، وذلك لبراعة الخناقين في إخفاء معالم الجريمة ، وحتى في حال اكتشافها والقبض على بعض الخناقين ، فمن النادر جدا أن يقر أحدهم بجرمه ، ومن الصعوبة بمكان حمله على الوشاية برفاقه حتى لو سلطوا عليه أقسى وسائل العذاب . وهكذا فقد ظل الخناقين مصدر خوف وقلق دائم للمسافرين لقرون طويلة ، خصوصا أولئك الماضون في رحلات طويلة بين المدن والأقاليم ، فهؤلاء كانوا صيد الطائفة المفضل.

الخناقون كانوا يخططون لجرائمهم بدقة كبيرة ، خطوتهم الأولى كانت تتمثل ببث العيون و الجواسيس في النزل والأسواق والمعابد والحمامات .. الخ .. لجمع المعلومات عن المسافرين والقوافل ، بغية تحديد الطريدة الأنسب ، كانوا يبحثون دائما عن المسافرين الأغنياء ، ويلجئون لوسائل عدة للوصول إليهم ، فربما اندسوا في الفنادق والأسواق في هيئة متسولين ، أو تكوموا على قارعة الطرق كالمشردين و ذوي العاهات من المرضى ، كانوا يتنكرون في هذه الهيئات والأشكال المختلفة كي يتجسسوا على المسافرين من دون أن ينتبه إليهم أحد، فكانوا يراقبون كل شاردة وواردة، ويصغون باهتمام بالغ لكل كلمة يتبادلها المسافرين و التجار وحراس القوافل فيما بينهم ، وبهذه الطريقة كانوا يتمكنون من تحديد أفضل القوافل وأسهل الغنائم.
الخناقون قتلوا مليون إنسان بخرقة thugges3.jpg
يتجسسون على القوافل والمسافرين لتحديد الطريدة القادمة
و ما أن يتم جمع المعلومات اللازمة، ويجري تحديد الطريدة الأسهل والأكثر دسومة ، حتى تبدأ المرحلة الثانية ، والتي كانت تناط إلى مجموعة أخرى من الخناقين وظيفتهم الاندساس تحت أي ذريعة وبأي وسيلة داخل القافلة والاختلاط بمسافريها من أجل كسب ثقتهم ، ولهذه الغاية كانوا يتلونون بمختلف الهيئات والأشكال واللبوس ، تارة كتجار ، وحينا كحجاج ، وطورا كرجال دولة ، ولا يتورعون حتى عن اصطحاب نساءهم وأطفالهم معهم لضبط الحيلة وإحكام الخدعة ، و ما أن ينجحوا في الاندساس داخل القافلة حتى يشرعوا في التهيئة للخطوة التالية ، والتي تتمثل في التحضير والتمهيد لساعة الصفر ، أي لحظة الانقضاض على القافلة ، كل ذلك يجري بالتنسيق مع مجموعات مستترة ترافق القافلة عن بعد وتحرص اشد الحرص على أن لا ينتبه إليها احد من الحراس أو المسافرين حتى تحين لحظة الهجوم المنشودة.

وكان لدى الخناقين مناطق ونقاط معينة للقتل يدعونها "بيلي" ، كانوا يفضلون مهاجمة المسافرين فيها لأنهم يعرفون جميع مسالكها و خباياها ، ولأن فيها مجموعة من الآبار أو الكهوف أو الخرائب التي تصلح لإخفاء جثث ضحاياهم ، و ما أن يقتربوا من إحدى هذه النقاط حتى تتهيأ المجموعة المندسة داخل القافلة للإجهاز على رفاق السفر بالتنسيق مع المجموعات الخارجية المتربصة .
في العادة كانوا يهاجمون ليلا ، إشارة بدء الهجوم كانت غالبا ما تكون على شكل غيمة صغيرة من الدخان يطلقها المسافرين المندسين داخل القافلة لينبهوا زملائهم المنتظرين خارج القافلة ، ومع انطلاق الإشارة ، كان المسافرين المندسين يشرعون في العزف والتصفيق والغناء مختلقين أي حجة أو ذريعة ليفعلوا ذلك ، وكان دافعهم إلى ذلك هو صرف انتباه مسافري و حراس القافلة عما يحاك ويدبر لهم في الخفاء ، وفي غضون ذلك تبدأ المجموعات الخارجية بالتسلل إلى داخل القافلة بهدوء وحذر شديدين مع بقاء قسم منهم في الخارج لتطويق القافلة وإحكام الفخ لئلا يتمكن إي مسافر من الإفلات والهرب.
الخناقون قتلوا مليون إنسان بخرقة thugges2.jpg
يحتالون على ضحاياهم ثم يباغتونهم بالخرقة القاتلة
طريقة القتل كانت واحدة لا يحيد عنها الخناقين إلا ما ندر ، فكل فرد من الجماعة لديه خرقة صفراء اللون يسمونها "رمال" ، يلفها حول عضده ويخبأها جيدا تحت ملابسه ، فإذا أزف وقت القتل قام بسحبها بخفة الساحر ثم يمسك طرفيها بكلتا يديه ويتسلل بهدوء على أطراف أصابعه من وراء الضحية الغافل عما يدبر له ، حتى أذا أقترب منه بالقدر الكافي مد يده نحوه بسرعة البرق ولف الخرقة حول رقبته بلمح البصر ، ثم يشرع في خنقه بكل ما أوتي من قوة ولا يتركه إلا وهو جثة هامدة ، و في العادة كان اثنان أو ثلاثة من الخناقين يتعاونون على قتل رجل واحد ، احدهم يخنقه ، والثاني يمسك رأسه ويسحبها للأمام ليعجل موته ، في حين يطبق الثالث على أطرافه لكي يمنعه من المقاومة .

كان الخناقون يقتلون المسافرين الغافلين واحدا تلو الآخر مستغلين ضجة الموسيقى والغناء التي أصطنعها رفاقهم داخل القافلة ، و ما أن ينتهوا من قتل الجميع ومن سلب ونهب أموالهم ، حتى تبدأ المرحلة الأخيرة المتمثلة في إخفاء معالم الجريمة بصورة متقنة لتجنب ملاحقة السلطات ولئلا يثيروا مخاوف بقية القوافل فيصبحوا أكثر حيطة و حذر في المستقبل.

الخناقون قتلوا مليون إنسان بخرقة thugges4.jpg
يتعاونون على قتل الضحية
وقد كان للخناقين مجموعة من الأعراف والقوانين ، بعضها يرتبط بعقائدهم الدينية التي كانت تحرم عليهم قتل شرائح معينة من الناس ، كالمغنين و الراقصين و النجارين و العمال و الكناسين و بائعي الزيوت و الحدادين و النساء ، إلا إن الالتزام بهذه القوانين لم يكن ساريا على الدوام ، فأحيانا كانوا يقتلون النساء في القافلة حتى لا يبقوا على أي شهود ، كما إن العديد منهم لم يكونوا في الحقيقة سوى لصوص و قتلة لا تهمهم الأعراف و لا القوانين بقدر اهتمامهم بالمال و الغنيمة. أما بالنسبة لأطفال القافلة المنكوبة ، فأحيانا كان يجري استثنائهم من القتل ليؤخذوا ويعيشوا مع بعض عائلات الخناقين ، حيث يتم تبنيهم وتدريبهم مع أطفال الخناقين ليصبحوا هم أنفسهم من الخناقين مستقبلا ، ويبدأ تعليم وتدريب هؤلاء الأطفال على الجريمة منذ سن العاشرة ، لكن لا يسمح لهم بالقتل ما لم يتموا عامهم الثامن عشر ، أما قبل ذلك فيسمح لهم بمشاهدة عمليات القتل فقط ، وذلك لكي تقسو قلوبهم فلا يترددون لحظة في خنق وقتل ضحاياهم في المستقبل.

ولا يتورع الخناقون عن استخدام نساءهم للإيقاع بضحاياهم ، خاصة مع المسافرين المنفردين ، فكانوا يستخدمون النساء و الفتيات الحسناوات كطعم حيث تتظاهر الفتاة بتعرضها لحادث ، أو تزعم بأنها ضائعة ، و حين يقترب المسافر المسكين منها و يحاول مساعدتها تبدأ بمشاغلته بالكلام ، وربما أغرته بمفاتنها ، حتى أذا لمحت منه غفلة ، باغتته بخرقتها القاتلة فلفتها حول رقبته بلمح البصر ، ثم يهرع إليها زملائها المتوارين حول المكان بسرعة ليساعدونها في الإجهاز على الضحية.
نهاية الخناقين

بين عامي 1830 – 1840 شرعت القوات البريطانية المحتلة للهند في استخدام أساليب جديدة في تتبع الخناقين و إلقاء القبض عليهم و اخذ الاعترافات منهم . فالضباط البريطاني وليم ساليمان ، أستخدم حيلا و كمائن تشبه تلك التي يستخدمها الخانقون أنفسهم . فجهز قافلة كاملة من الشرطة المتنكرين بزي التجار ، وجعل معهم عددا قليلا من الحراس من أجل أغراء الخناقين على الهجوم ، وقد نجحت حيلته في الإيقاع بهم ، وما أن هاجموا القافلة حتى أخرج رجال الشرطة المتنكرين أسلحتهم المخفية بعناية فقتلوا قسما من المهاجمين وألقوا القبض على البقية.
ومع ازدياد إعداد الخانقين الذين تم إلقاء القبض عليهم ، توالت الاعترافات ، وبدأت الشرطة تكتشف بالتدريج حجم وفداحة الجرائم التي اقترفتها الجماعة ، فعلى سبيل المثال ، اعترفت خلية واحدة تتكون من 20 رجلا بقتلها لـ 5200 رجل خلال عقدين من الزمان ! .. و احد الزعماء أقر بقتله لـ 931 رجلا لوحده خلال 40 سنة ! ، وهكذا فأن مجموع الذين قتلهم الخناقين خلال أربعة قرون من الزمان ربما جاوز المليون إنسان.

وبحلول عام 1870 تم القضاء على الخناقين تماما ، و قد تبجح البريطانيون طويلا بتخليص الهند من شرورهم . لكن بعض المؤرخين الهنود يعتقدون بأن القوات البريطانية أفرطت في تضخيم حجم مشكلة الخناقين واتخذتها ذريعة لتعزيز نفوذها في الهند ، فتهمة الانتماء للخناقين أصبحت خير حجة للتنكيل بمعارضي الوجود البريطاني في الهند ، وتحولت هذه التهمة إلى وسيلة لإرعاب وإرهاب المجتمع الهندي ، فألقي القبض على عائلات كاملة ، و اعدم الكثير من الرجال والشباب لمجرد الشبهة ، ومعظمهم كانوا أبرياء .
الخناقون العرب

يبقى أن ننوه أخيرا بأن تاريخنا العربي لم يخلو من جماعات إجرامية شبيهة ، فالخناقين العرب أقدم من نظرائهم الهنود بقرون طويلة ، وقد ذكرهم الجاحظ في كتابه "الحيوان" ، وكانوا منتشرين في البصرة وبغداد على عهده وقال عنهم: "إنهم لا يسكنون في البلاد إلا معاً ولا يسافرون إلا معاً، فلربّما استولوا على الدرب بأسره ولا ينزلون إلا في طريقٍ نافذ ويكون خلف دورهم أما صحارى او بساتين واشباه ذلك تسهيلاً للهرب اذا حوصروا. وكان لهم دربٌ ببغداد يسمى "درب الخناقين" حيث يقتادون الضحية إلى دربهم وقد جعلوا على ابوابهم مُعَلِّماً منهم ومعه صبيان يعلّمهم الهجاء والقراءة والحساب. وفي كلِّ دارٍ لهم كلاب مربوطة تشترك كذلك في العملية. ولدى نسائهم دفوف وطبول وصنوج. فاذا أراد أهل دار منهم خنقَ انسانٍ ضربت النساء بالطبول والدفوف والصنوج وأطلقن الزغاريد وصاح المعلّم بالصبيان أن ارفعوا اصواتكم بالقراءة وهيّجوا الكلاب. فلو كان للمخنوق صوتُ حمارٍ لما شعر بمكانه أحد كما أن الناس إذا سمعوا تلك الجلبة لم يشكّوا ان عرساً يجري في دورهم او فرحاً. (الحيوان / 2/ 264).

وذكرهم ابن الجوزي في المنتظم وبتفاصيل أشمل فقال : ((وفى يوم الخميس ثلاث عشرة ليلة بقيت من جمادى الأولى اخذ خناق ينزل درب الاقفاص من باب الشام خنق جماعة ودفنهم فى عدة دور سكنها وكان يحتال على النساء يكتب لهن كتاب العطف ويدعى عندهن علم النجوم والعزائم فيقصدنه فاذا حصلت المرأة عنده سلبها ووضع وترا له فى عنقها ورفس ظهرها واعانته امرأته وابنه فاذا ماتت حفر لها ودفنها فعلم بذلك فكبست الدار فاخرج منها بضع عشرة امرأة مقتولة ثم ظهر عليه عدة دور كان يسكنها مملوءة بالقتلى من النساء خاصة فطلب فهرب الى الانبار فأنفذ اليها من طلبه فوجده فقبض عليه وحمل الى بغداد فضرب الف سوط وصلب وهو حى ومات)) .... ولاحظ هنا مشاركة المرأة والابن في هذه الجريمة يدل على أن هذه العائلة قد اتخذت حرفة الخناقة لسلب الناس أموالهم !

و في القاهرة , ذكر بدر الدين العيني في كتابه عقد الجمان في تاريخ أهل الزمان في حوادث سنة 662 هـ عن امرأة خناقة أسمها غازية الخناقة حيث يقول : (( ومنها: أنه وجدت بظاهر القاهرة، خارج باب الشعرية، أمرأة تتحيل على الناس، وتدخلهم بيتا لها هناك، وقد أعدت فيه رجالا يطابقونها على سوء فعلها، فيخنقون من تأتى به فقتلت خلقا كثيراً من رجال ونساء، فأمر بها فسُمرت.

وكان أسم هذه المرأة السيئة غازية الخناقة، وكانت ذات حسن وجمال، وكانت تمشى بالمدينة ومعها عجوز تطمع الناس في نفسها، وكان من طمع فيها وطلبها تقول له العجوز: أنها لا يمكنها التوجه إلى أحد، ولكن تعال أنت إلى بيتها، فيجىء ، فيطلع له رجلان، فيقتلانه ويأخذون ما معه، وكانوا ينتقلون من مكان إلى مكان، فاتفق أن العجوز أتت إلى بعض المواشط، وأمرتها أن تأخذ ما تقدر عليه من الحلى والحلل، وتمضى معها لعروسة عندها، ففعلت الماشطة، واستصحبت معها جارية لها، ولما دخلت الماشطة منزلهم،

رجعت الجارية إلى مكانها، فقتلوا الماشطة، وأخذوا ما معها، فاستبطأتها جاريتها، فجاءت إليهم وطلبتها، فانكروها وادعوا أنها خرجت من يومها، فمضت وأتتهم بصاحب الشرطة، فإحتاط عليهم وعذبهم، فأقروا بما كانوا يفعلون، وأطلعوا في بيتهم على حفرة فيها خلق عظيم مقتولين، وكان بعض الطوابين قد اتفق معهم، وجعلوا يحضرون إليه القتلى مختفياً، فيحرقهم في أقمنة الطوب، فأمسكوا جميعاً وسمروا، وكانوا خمسة أنفس، وأما المرأة فإنها بعد التسمير أطلقت، فأقامت يومين، ثم ماتت، عليها ما تستحق. )).

عباس علي العلي - التاريخ بين الأسطورة والتزييف

لاءات بعدد حبّات الرمل والحصى-احمد الحلي


لاءات بعدد حبّات الرمل والحصى


لا الماءُ
   يُطفئُ ظمأ الصادي
   لا العطرُ
   لا الموسيقى
   لا زرقةُ السماءِ
   لا الخمائلُ
   لا الشروقُ لا الأصائل
   لا النجومُ  لا الجداول
   لا البحارُ لا المحيطاتُ
   لا الطلاسمُ لا مفاتيحُ الكنوزِ
   لا لذةُ الاكتشافاتِ
   لا عجائبُ ابنةِ العنقودِ
   لا الجغرافيا لا الخرائطُ
   لا الحقائبُ لا السفرْ
   لا المواسم لا المكائد
   لا العروش لا الألقاب لا التيجانُ
   لا الدُرَرْ
   لا الصهيلُ لا النسائمُ
   لا البشارات
   لا الانهيارات لا الانبهارات
   لا نكهةُ الدموع لحظةَ
   يستبدلُ الأفقُ شمسَهُ
   لا الثلوجُ لا المطرْ
لا الربيعُ لا الزهرْ
لا الفراشاتُ لا الحقولُ
لا النساءُ لا الشجرْ
تضارعُ مباهجُها
نشوتي ...
بلقائكِ !!






الجمعة، 5 سبتمبر 2014

كتاب في حلقات همنجواي في الحلة 18-أحمد الحلي

كتاب في حلقات
همنجواي في الحلة 18
وقائع غير عادية في سيرة جندي عادي جداً
أحمد الحلي
توطّدت علاقتي بخطّاط الوحدة المجاورة ، وأخذنا نتزاور كلما أتيحت لنا فرصة ، وعلى الرغم من أنني أجده في معظم الأوقات ناقماً ومتذمراً ، إلا أنني رأيت فيه ميلاً متأصّلاً لاصطناع النكتة واسترسالاً بالمواضيع الطريفة الشيقة التي تتعلّق بحياة الجنود ، وعلاقتهم مع بعض ومع نواب الضباط والضبّاط أيضاً .
وبعد عدة لقاءات اكتشفت أن أحد الجنود المكلفين ، واسمه باسم هو الذي يحوز ويهيمن على الشطر الأعظم من أحاديث وحدتهم الشيّقة ، إلا أنني لم أستطع أن أُحظى بفرصة الالتقاء به ، لأنه هرب من الخدمة قبل حوالي شهرين .
1
في أحد الأيام وبعد أن اتخذت وحدتهم العسكرية التي هي كتيبة مدفعية موضعها الجديد ، وتصوّروا أنهم بوسعهم  أن ينالوا قسطاً من الراحة ، حتى جاءت الأوامر ، التي تقضي بضرورة التحرك الفوري للوحدة لمسافة 20 متراً إلى اليمين ، أي أن كل العمل الذي قاموا به قد ذهب هباءً ، وأنه يتوجب على الجميع القيام بنفس خطوات العمل السابق ، كان على باسم المتذمر  أن ينصاع  وينفّذ الأوامر أسوة بالجميع ، كانت مهمته أن يقوم بحفر الأرض بواسطة ( القزمة) ، ثم يستعمل المجرفة لإزاحة التراب ، لاحظ أنه كان إلى جواره أحد الجنود يقوم بالعمل ذاته بهمة ونشاط  وهو مغتبط ومنشرح الصدر وكأنه يعمل في تشييد أركان بيته الخاص ، قال الجندي ؛ " شكد حلوة هاي الكاع " ، فاستشاط  باسم غضباً ، وتوقف عن العمل ليقول لرفيقه مزمجراً ، وهل أنت تقوم بحراثة  أرضك التي ستزرعها يا ابن الـقحبة ؟  وحمل القزمة ورماها باتجاهه ، فذُعر الآخر واضطر إلى الهرب للعمل في مكانٍ آخر ...
2
عُرف عن باسم أنه سائق ناقلة جنود من الطراز الممتاز ، كونه قد دخل دورة دروع وبحكم صنفه فقد كان بوسعه أن يقود دبابة قتالية أيضاً .
في إحدى المرات تناهى إلى سمعنا في مكاننا الجديد  أن هناك دبابة عراقية صالحة الاستعمال متروكة في الأرض الحرام منذ ما يزيد على سنة ، وغالباً ما كان بعض الجنود الإيرانيين يتسللون تحت جنح الظلام إليها ويرصدون تحركات قطعاتنا ومواقعها ، ثم ينسحبون إلى أماكنهم ، الأمر الذي كان يتسبب بإيقاع بعض الخسائر بين صفوف قواتنا في الخطوط الأمامية ، وعبثاً حاول كبار الضباط إغراء جنودنا  من صنف الدروع وإثارة حميتهم من أجل التسلل إلى هذه الدبابة وسحبها من مكانها ، وفي أحد الأيام سمعنا أن باسم الذي كان قد عاد للتو من سبعة أيام قضّاها في معسكر الضبط جرّاء مخالفاته المستمرة وتشاجره مع أحد الضباط ، مستعد للتسلل إلى الأرض الحرام وإنقاذ الدبابة ، ولم نستغرب ذلك ، فقد تعوّدنا منه على القيام بأعمال  يتردد عن القيام بها الكثيرون ممن يعدون شجعاناً وأبطالاً ، وتتطلّب قدراً استثنائياً من الشهامة والجسارة .
بعد أن حل الظلام تسلل باسم بخفة ذئب يسابق الريح إلى حيث ترقد الدبابة ، وتفحّص برجها فوجد أن هناك إطلاقه مهيّأة ، فضغط على زر الرمي وقذف بها باتجاه العدو ثم هرع إلى مكان قيادة الدبابة وقادها باتجاه قطعاتنا ، وسط  زغاريد وهلاهل جنودنا في الخطوط الأمامية ... ومنذ ذلك الحين أخذ الجميع يحسبون لباسم ألف حساب .
3
جاءت الأوامر إلينا  ، ونحن في القَدَمَة الإدارية ، من مقر الفرقة أن نقوم بإخراج كافة العتاد السابق من الملاجئ المخصصة ، من أجل استبداله بعتاد  حديث جديد وصل للتو إلى مخازن الفرقة ، وكانت مهمة شاقة حقاً ، على الرغم من حشد عدد كبير من الجنود لهذا الأمر ، وقد اقتضى ذلك أن يأخذوني للعمل معهم أسوة بالجنود الآخرين الذين كان يُطلق عليهم (جنود شغل) ، وبينما اللغط يتصاعد وأوامر نوّاب الضبّاط والضباط  تنهال علينا بنقل هذا الصف من الصناديق ووضعها هناك وفق خطة مرسومة ، وإذا بنا نرى عدداً كبيراً من الجنود والمراتب وبينهم بعض الضباط بقاماتهم المديدة وهم يركضون قادمين باتجاهنا وعلائم الذعر والهلع بادية على وجوههم ، وحين استفسرنا منهم عن الأمر ، قالوا لنا بنفاد صبر ؛ هيا على الجميع أن يخلوا المكان ويهربوا !
حين ألقينا نظرة على المكان الذي قدموا منه رأينا عموداً من الدخان الأبيض يتصاعد وتتسع رقعته ، وفهمنا بعد ذلك أن أحد صناديق العتاد يوشك أن ينفجر وسط أكداس هائلة من البارود وإطلاقات المدفعية الثقيلة ، وبينما الجميع منهمكون في حمّى الهرب ، رأيت باسم وهو يركض بالاتجاه المعاكس أي نحو الجهة التي يتصاعد منها الدخان ، ثم  ليقوم  وسط دهشة واستغراب الجميع بفتح الصندوق واستخراج الخرطوشة التي يتصاعد منها الدخان محتضناً إياها ليذهب بها بعيداً خلف أحد السواتر ويقوم بدفنها ، ليعود بعد ذلك ، ماشياً الهوينى  نحونا  وقد عقد الذهول ألسنة الجميع ، ملتمساً من رأس عرفاء الوحدة  أن يطمئن الجميع بأن الخطر قد زال !
4
من بين مآثر باسم التي سردها على سمعي صديقي الخطاط ، حكاية تتضمن قدراً من الطرافة والفكاهة ، فبعد أن أمطرت السماء مدراراً لمدة ثلاثة أيام متتالية من أيام الشتاء ، امتلأت الأمكنة بالطين والوحول ومستنقعات الماء ، حتى أن السيارة التي تحمل تنكر الماء المخصص للشرب لم تستطع أن تصل إلى الكثير من حظائر الجنود ، الأمر الذي اضطر هؤلاء إلى استعمال  مياه البرك الصغيرة التي خلّفتها الأمطار .
في ذلك اليوم الذي كانت برودته شديدة  واستثنائية ، بحيث جعلت العظام تطقطق ، أحضروا لنا ورقة الأوامر المتعلّقة بالواجبات ، كان تسلسل باسم الثالث ، أي أنه يتوجب عليه الجلوس في خندقه القتالي الذي يقع على بعد حوالي عشرة أمتار أمام ملجأ الجنود بكامل عدته القتالية من بندقية وقناع وقاية وزمزمية ، وأن يبقى يقظاً مفتوح العينين لمدة ثلاث ساعات متواصلة بعد الساعة الثانية عشرة ليلاً .
أشار الجميع عليه أن يبقى في الملجأ ينعم بالدفء أسوة بهم ، وحاولوا إقناعه باستحالة أن يقوم ضابط الخفر بجولته التفتيشية في مثل هذا الجو  شديد البرد والعاصف ، خاصة وأن مسافاتٍ من الوحول والمطبّات تفصل بينه وبينهم ، إلا أن باسم لم يأبه لهم ، ارتدى ملابسه وتقلّد عدّته القتالية واتجه صوب الخندق الذي كان نصفه يمتلئ بالماء ، وبقي هناك ، كان الخيار خياره ، ولا أحد يستطيع إقناعه بالعدول عنه . مرّت حوالي الساعتان والنصف ، ولم يتبق من واجب باسم سوى ساعة واحدة ، وإذا بنا نسمع لغطاً وصياحاً ، وتبيّن لنا أن الضابط الخفر يقف فوق رأسه بكل كبرياء وصلف ، حيث عثر عليه متلبّساً بجرم النوم ، وقد وجدها الضابط فرصة للنيل من شهامة ونخوة باسم ، قائلاً له بلهجة الشامت ؛ ها ، نايم ؟
فلم يكن من باسم  سوى أن يرد بسخرية وحزم على صفاقة هذا الضابط  الغر ؛
أي نايم ، وين آني نايم ، قابل بالشيراتون !
فلم يجد الضابط  بداً  من أن يبتسم وينسحب ويتوارى خجلاً ..

الخميس، 4 سبتمبر 2014

تجارب كرافيك تعود للعام 1967 لعادل كامل-نازحون-مهجرون- مشردون

هذه تجارب تعود الى عام 1967 موضوعها هو ذاته موضوع اليوم: نازحون ومهجرون ومشردون...، بالكرافيك...

عادل كامل








نصب الحرية لجواد سليم ملحمة شعب وذاكرة حضارة -تأليف: عادل كامل



نصب الحرية لجواد سليم
ملحمة شعب وذاكرة حضارة



تأليف: عادل كامل
     ضمن سلسلة الكتب الفنية، التي أصدرتها دار الأديب، صدر كتاب الفنان والكاتب عادل كامل [نصب الحرية لجواد سليم ... ملحمة شعب وذاكرة حضارة] في عمان، مؤخرا ً. جاء في المقدمة: "    لم تكن أهداف غزو التتار لبغداد (1258)، هي إسقاط السلطة السياسة للخلافة العباسية، حسب، بل محو علاماتها، وما أنتجته في مجال الحضارة. وربما لم ينبهر (هولاكو)، وهو يقترب من بغداد، إلا بمنائرها، وببساتينها، وببقايا قصورها،  وبأسوارها  المتهالكة، غير الصالحة حتى لحمايتها من الضواري، ولكن، بعد تهديم العاصمة، ودك معالمها، وفي مقدمتها العمرانية، والثقافية، كاد يعزلها عن الزمن، وعن العالم.  فقد استطاع الغازي ان يجمد لغز تكوّنها، ولكنه لم يستطع ان يمحوها من الوجود. كانت علامات بغداد الحضارية هي امتداد للنسق ذاته الذي تأسست عليه حضارات وادي الرافدين: سومر، أكد، آشور، بابل، الحضر ..الخ، فلا علامة من غير مركز، بمعنى من غير سلطة. فثمة اقتران جدلي/ بنيوي، بينهما، لا يوجد إلا بوجود الآخر، ولا يغيب إلا بغيابه.
   وعندما كلفت لجنة نصب 14 تموز، الأستاذ جبرا إبراهيم جبرا، عام 1961، التعريف بالنصب، وجد انه يتحدث عن علامة اقترنت بتحول بدأ بالسلطة السياسية ليمتد أثره في مجالات الحياة كافة؛ علامة لم يكن لها ان تتكون خلال غياب بغداد ـ حاضرة الأمس ـ إلا بما سيشكل حدا ً فاصلا ً بين مدينة غابت عنها الحضارة، ومدينة وجدت انها في مواجهة عالم تكونه الحداثات، فالنصب ليس محض (لافتة) تخص الحدث السياسي بالتحول من النظام الملكي إلى النظام الجمهوري، كما ذكر المهندس المعماري رفعة الجادرجي، مصمم النصب، وإنما لأن العلامة تضمنت محركاتها الكامنة وهي تستحدث وجودها في الحاضر، على صعيد مفهوم البناء، والخطاب الفني الحديث.
     فإذا كانت بغداد قد عاشت أزمنة تراكمت فيها العلامات، وتكدست، حد الاختفاء، والاندثار، حتى كادت تفقد هويتها، أو ان تكون من غير علامة، فان تجددها اقترن بنسق يسمح للحريات الكامنة، والمدفونة، ان تأخذ مداها في الحضور، وان تمتد ـ تلك المخفيات ـ لتأخذ مكانتها بين العلامات المعاصرة.
  كانت إشارة جبرا إبراهيم جبرا، استذكارا ًلمفهوم انبثاق (النص) بنسق اشترط عوامله الموضوعية، والذاتية، كي يمتلك دينامية تتجاوز مفهوم (التعبير) و (الانعكاس) و (الإعلان)، نحو مفهوم الخطاب الفني، وعناصره الفنية، البنائية، الرمزية، والجمالية.
    فالمخيال المجّمد للمدينة، سمح للذاكرة ان تتكون بنظام تأسس مع نشوء المدن في حضارة وادي الرافدين الأولى: المسمار؛ علامة الكتابة، والعدد، وتمثلها بموت البذرة، وخروج ديموزي من العالم السفلي." إلى جانب فصول تناول فيها: النصب ـ العلامة، البدايات، المركز ـ المحيط، ذاكرة النصب، تمرين في الرؤية ـ في الحرية، الرؤية والتحولات، الجذور والتواصل، قراءات ـ مقاربة مع النصب، المرأة ـ دينامية التواصل....، إلى جانب شهادات ووثائق لـ: جبرا إبراهيم جبرا/ عباس الصراف/ شاكر حسن آل سعيد/ إسماعيل الشيخلي/ د. شمس الدين فارس/ د. محمد صادق رحيم/ عدنان المبارك/ أ.د. تيسير عبد الجبار الآلوسي/ د. خالد القصاب/ عادل ناجي/ د. شوقي الموسوي. ضم الكتاب صورا ً نادرة للنصب في مراحله المختلفة، بتصميم وإخراج الفنان كفاح فاضل آل شبيب، وبإشراف الفنان هيثم فتح الله.


كتاب في حلقات أسماء غرائبية/ 18 أحمد الحلي -


كتاب في حلقات
أسماء غرائبية/ 18
أحمد الحلي

ثمة حكايات كثيرة رواها له صديقه خطاط الوحدة العسكرية ، الذي يبدو أن ذاكرته والوقائع الحياتية التي عاشها أو عايشها إبّان فترة الحرب العراقية الإيرانية  تشكل منجماً ثميناً من المرويات  والهواجس والهموم الشخصية التي قلما يجدها في مكان آخر ، وهو اعتاد أن يدوّنها على شكل رؤوس أقلام في دفتر صغير ، من بين ما أفضى به إليه  في إحدى المرات ؛
"يضطر من يخدم في الجيش ، ولا سيما أثناء قادسية صدام ، إلى التعرّف والتعايش مع أساليب حياتية لم يألفها من قبل ، بالإضافة إلى ذلك فإنه يرى نفسه ملزماً بمسايرة أمزجة وعادات وطبائع مختلفة كلياً عما كان يألفه في محيطه الاجتماعي ، يصبح جميع هؤلاء زملاء وأصدقاء له شاء ذلك أم أبى ، بحكم التواجد اليومي في ذات الملجأ المخصص للمبيت والسكن وتناول وجبات الطعام ، وقد يصل عدد أفراد الجنود الذين يعيش معهم  في ذات المكان إلى حوالي 8 أفراد يُطلق عليهم تسمية حظيرة ، وبحكم النظام الصارم المعمول به في الجيش ، لا يستطيع أي فرد من هذه الحظيرة أن يتميز على رفاقه ، مهما يكن يحمل من مؤهلات دراسية أو موهبة ثقافية أو فنية ، فهو واحد منهم يقوم بتنفيذ المهام الموكلة إليه أسوة بالآخرين ..."
من بين الأمور التي  ربما سيتفاجأ بها هذا الوافد الجديد ، ولا سيما إذا كان قادماً من المدن الكبيرة ، غرابة الأسماء التي يحملها بعض المراتب ، وفي أحدى المراحل أتيح له أن يتعرّف على شخص قادم من الأهوار اسمه "عفن" ، وقيل له أن له أخٌ أكبر منه سناً يخدم في وحدة عسكرية أخرى اسمه " تبن" .
في إحدى المرات جاء إلى وحدتهم منقولاً من وحدة أخرى شخص اسمه " مجيد عبد الواحد سمير" ، وقد اعتاد هذا الشخص أن يتبختر مزهوّاً أمام الجنود مدِلّاً باسمه ولا سيما اسم جده " سمير" حين تتم المناداة عليه في ساحة العرضات على الرغم من أنه كان قادماً من منطقة نائية في أهوار الجبايش ، وبالإضافة إلى ذلك فقد كانت سحنته وهيئته  والطريقة الفجة التي يتحدث بها لا تسوّغ أن يكون  جدّه حاملاً لهذا الاسم  الذي يتضمن شيئاً من الحداثة ، في أحد المرات  طلب مساعد الوحدة على عجلٍ أن يمثل مجيد أمامه ، وحين حضر ، قال له بحدة ، فقط  أسالك سؤالاً واحداً ، وعليك أن تجيبني إجابة صريحة وإلا فسوف يكون مصيرك السجن ؛ هل أن اسم جدَّك هو سمير أم سْمير ( بميم مفخّمة) ؟؟ طأطأ مجيد رأسه وقد أسقط في يده ، قال ؛ نعم سيدي إن اسم جدي هو سْمير ... فلم يجرؤ على التبجح بعد ذلك أبداً .
......................
عادت به غرائبية أسماء بعض الجنود ، التي حدثه عنها صديقه إلى واقعة غريبة  من ذات النوع حدثت في الحي الشعبي الذي نزل فيه هو وعائلته الصغيرة مستأجراً بعد هروبه من بغداد ومكائدها إبان فترة الستينات ، فعلى مقربة من بيتهم العتيق كان ثمة امرأة وزوجها الطاعنان في السن يعيشون في بيت فسيح  ينم عن ثراء ونعمة ، وشاء القدر أن لا يرزقهما الله من الأبناء سوى بابن واحد بعد مضي أكثر من خمسة عشر عاماً على زواجهما ، ومن الطبيعي أن يعيش هذا الابن مدللاً ، ولاسيما وأن أباه كان ميسور الحال وكذلك أمه وأخواله ،  ونما الطفل الذي أسمياه "حمزة" تيمناً باسم الإمام الذي  دأبا على التبرّك بزيارته في كل أسبوع متضرّعين إليه بأن يهبهما ولداً .
نشأ الصبي الذي كان يتمتع ببنية بدنية رائقة ؛ بشرة بيضاء وعينان زرقاوان أخذهما من أمه
في بحبوحة قل نظيرها بين أقرانه ، ولاسيما في ذات المنطقة التي تتسم حياة غالبية قاطنيها بالفقر والعوز ، كان الأب والأم يُحسان بنوازع الحسد والغيرة في عيون الآباء وكذلك الصبية الذين لم يسمح لهم  بالالتقاء بابنهم إلا في بعض أوقات نادرة .
كان الأب والأم يساورهما قلق كبير بشأن تأخر ابنهما في النطق ، ويوماً بعد يوم اكتشفا أنه يصعب عليه كثيراً تشكيل جمل مفيدة ، وواظبا على الذهاب إلى "الحمزة"  الذي اتخذاه عرّاباً لابنهما ، وكانا يحرصان في كل زيارة على أن يشتريا خروفاً ويقدماه نذراً لإمامهما ... إلا أنهما ما لبثا أن أصيبا باليأس والقنوط ، ذلك أن ابنهما لم تتحسن حاله ، بل أنه غالباً ما كان يصاب بنوبات من الصرع والهلع ، فيأخذ بالصراخ والعويل وينتفض جسده ، وعند ذاك  أزجى بعضهم النصيحة للأبوين منكودي الطالع بأن يسمحا للصبي بأن يقيم بعض الصداقات مع أقرانه من صبيان الحي ، وأن يتم ذلك تحت رعايتهما ، إلا أن وضع حمزة لم يصب شيئاً من التحسن
في إحدى المرات قدم إلى الحي شخصٌ قيل إنه يجيد قراءة الطالع وكشف المستور ، وقد اعتاد الناس على إطلاق تسمية " فتّاح الفال" على هذا الشخص ، قرر الأبوان أنها فرصة لا تعوّض لكي يدلو بدلوه  ويخبرهما عن علة ابنهما ، وبعد أن أجرى عليه كشوفاته المعتادة وهو يحوطه بدخان أنواع نادرة من البخور التي تتطاير من مبخرة فضية يحملها  متمتماً بأدعية وطلاسم لم يسمعا بها من قبل ، وفي نهاية المطاف ، تهلل وجهه وأشرق وأخبرهما أنه وقع على علّة ابنهما وأن بعض الجن أطلعوه على سبب معاناته وبالتالي معاناتهما ، تهلل وجه الأبوين بشراً وسروراً وهما يريان أن سفينتهما المنهكة التي تتقاذفها الأمواج العاتية توشك على الرسو في بر الأمان ، لم يشأ فتّاح الفأل أن يخبر الأبوين في بادئ الأمر ، وظل يماطل ويسوّف ، وأخيراً علم الأبوان أنه يريد منهما أن ينفحاه مبلغاً طائلاً من المال حتى يخبرهما بما توصل إليه ، وأخيراً جلبا إليه المال ، فتهلل وجهه وأخبرهما أن زعيماً من الجن المنسوب إلى إحدى قبائل الجن الموكلة بأسماء البشر تطوّع بإخباره بأن هناك خطأً فادحاً في اسم ابنهما ، وأنه من أجل أن تجري الأمور على ما يرام بالنسبة لهذه العائلة فإنه ينبغي لهم أن يقوموا بتغيير اسمه .
شكر الأبوان فتّاح الفال الطيّب وهو يُطلعهما على هذا السر الذي لم يشأ أحدٌ في السابق أن يفكر فيه  ، إلا أنهما توسّلا إليه أن يتصل بمصدره من أجل أن يعطيهما الاسم البديل ، فطلب منهما أن يتركاه وحيداً مع ابنهما ومبخرته ، ووقفا إلى جانب الباب يصغيان إلى ولولته وأدعيته ، وأخيراً دعاهما إلى الدخول وقد أشرق وجهه كرة أخرى ، قال من الآن فصاعداً يتوجب على الجميع أن يأخذوا بمناداته بـ" صادق" وأن يكفوا عن مناداته بـ " حمزة" ...
وتمر الأيام وتتلوها السنوات ، وحمزة أو صادق لم يزل مرمياً في ذات الحفرة التي وجد نفسه فيها ، بل وازداد وضعه سوءاً ، وأخيراً وجد نفسه واحداً من نزلاء مستشفى الشماعية ...


الأربعاء، 3 سبتمبر 2014

قصص قصيرة جدا ً- عادل كامل

قصص قصيرة جدا ً






عادل كامل
[1] هدية
     ليس لأن صاحب الجريدة، التي عمل فيها سنوات غير قليلة، لم يسدد له أجوره، لأشهر عديدة، وقرر ان يترك العمل فيها، بل لأنه شعر بما لا يوصف من المهانة، والإذلال، انه اختار المهنة الوحيدة التي كان عليه أن لا يختارها...
   فكتب إلى صاحب الجريدة، رسالة، جاء فيها: كنت أفضل ان أولد من غير أصابع، كي لا اعمل في جريدتك، بل كي لا ارتكب إثم الكتابة....، ولكن....، عندما لا يكون للآسف قيمة، ومعنى، وأهمية، فانا لم أجد أفضل هدية أقدمها إلى جريدتكم الغراء، إلا أصابعي، مرفقة مع هذه الكلمات، كي لا أعود إلى ارتكاب الآثام!

[2] ممرات
   عندما وصل إلى المدينة، وتلمس جسده، من الرأس إلى باقي الأجزاء، لم يصدق انه اجتاز العقبات كافة، ولم يفقد جزءا ً من أجزاء جسده!  فعندما نجا من المجموعة الأولى، ظن ان الثانية ـ كما شاهد ما كانت تفعله ـ ستحسم أمر حياته، لكنه، بعد ان اجتاز المجموعة الثالثة، لم يعد يكترث ان عاش أو مات. إنما وجد نفسه شارد الذهن، يتمتم، وهو يفكر في طريق الرجوع إلى البيت: هل سيحصل الأمر نفسه ....، ويسمح له بالعودة من غير خسائر، أم ان حياته لا تساوي شيئا ً، حتى إنها بدت لهم فائضة ـ فكر مع نفسه ـ أم إنها لا تساوي شيئا ً؟

[3] غرابة
    غريب...، سأل العجوز المحتضر نفسه، لو لم يكن هناك ظلام فمن ذا يستطيع ان يعرف ان هناك نورا ً......، ولو لم يكن ثمة تراب وصخور ومستنقعات كيف كان باستطاعتي ان اعرف ان هناك رياحا ً، وغيوما ً، ونجوما ً....، ولو لم يكن هناك أشرار فمن ذا يميزهم عن الناس الطيبين....، ورغم تلعثمه أضاف: ولو لم يكن هناك غياب فمن ذا كان يستطيع ان يلفت نظرنا إلى هذا الحضور...؟  لم يغلق فمه، بل وجد انه يتمتم: بل الأكثر غرابة ....، لو لم يكن هناك نور...، ولو لم تكن هناك وحول وحجارة ومياه آسنة...، ولو لم تكن هناك نسمات، وعطور، وناس بسطاء، شرفاء...، ولو لم أكن أمضيت حياتي ابحث عن هذا الذي لا وجود له ....، من ذا كان باستطاعته ان يعرف انه امضي العمر كله متنقلا ً بينهما، وانه سيرحل، وكأنه لم ير النور، وكأن الظلمات لا وجود لها!

[4] كتب
     ليس لأنه أصبح واهن البصر، ووحيدا ً، أو بعدم جدوى القراءة أو الاستمتاع بها، قرر ان يتخلى عن الكتب التي اقتناها، وجمعها، طوال حياته....، بل حزن حد الشرود ان يكون مصيرها ـ بعد موته ـ  الذهاب إلى مكان مجهول....، عند جامعي المستهلكات، أو ان يتم إتلافها، أو تركها للأرضة، والغبار، أو توضع في حاويات النفايات.
   ولكنه حزن أكثر، بذهول، انه لم يجد أحدا ً يرغب بها، هدية منه، وهي الكتب التي اقتناها، بعناية، خلال عقود، وانفق عليها الكثير من موارده، رغم شحتها....، لا كتب الأدب، ولا كتب التاريخ، ولا كتب الفلسفة، ولا كتب العلوم ........، فقد كان يستمع إلى كلماتهم:
ـ ماذا نفعل بها، وبيوتنا ضيقة...
 وقال آخر:
ـ ربما تكون من الكتب المفسدة، أو الممنوعة، أو ....
وقال آخر:
ـ لا احد لدينا لديه وقت للقراءة...
وسمع الآخر يقول:
ـ حرام ...، ان نضّيع زمننا في القراءة، وهل لدينا وقت نهدره، ولكن وااسفاه كم أنفقت من المال عليها!
وسمع آخر يقول له:
ـ وهل لدينا مجانين يهدرون وقتهم في قراءتها....
      وهو يتلمسها، بأصابع مرتجفة، الكتاب بعد الآخر، مستعيدا ً لحظات الاقتناء، وزمن القراءة الأولى، تاريخها، والقراءات الثانية، الكتب التي اعتنى بتجليدها، وحفظها، حتى انه راح يستنشق عطر كل كتاب، يميزه عن الكتاب الآخر، وهو يستعيد بعض الصفحات، وتأشيراته، بقلم الرصاص، تحت بعض السطور، أو في مواضع متفرقة....، فقال لنفسه:
ـ هل حقا ً لا احد بحاجة لها، وإنني لم استطع ان اضمن لها مصير لائق! لكن من ذا سيمحوها من روحي، حتى فقدت الذاكرة..؟

14/8/2014

السومريون واللغة السومرية-منشد مطلق المنشداوي / ماجستير اثار

السومريون واللغة السومرية
منشد مطلق المنشداوي / ماجستير اثار 
أولاً- السومريون :-
الاسم – الأصل – الموطن
       إن اسم السومريين الذي ظهر في ألقاب ملوك بلاد وادي الرافدين والتي ظهرت من خلال اللقب ( ملك بلاد سومر وبلاد أكد ) ، حيث ظهرت هذه التسمية المزدوجة من بعد العهد الجوتي ؛ والعلامات المسمارية التي يكتب بها اسم سومر ( كي . إين . جي  KI.EN.GI  ) والتي تعني حرفياً ( أرض . سيد . القصب )( 1 ) ؛ ويُكتب هذا المصطلح باللغة الأكدية على هيئة ( مات شوميرم  mat shumerim   ) أي ( بلاد السومريين ) ( 2 ) . وظهرت التسمية الأولى في نصوص تعود لكل من ( إي – أناتوم ) و ( لوجال – زاجيزي ) .
       كما أن هناك آراء قيلت في معنى اسم سومر أي أنه مشتق من أحد أسماء مدينة ( نفر ) التي كانت مقراً دينياً عند السومريين ، إضافة إلى كونها أول مدينة في الحد الشمالي من بلاد سومر ؛ فعلى هذا الأساس فإن تسمية السومريين مأخوذة من طبيعة المنطقة التي استقرَ فيها السومريين آلا وهي منطقة السهل الرسوبي من بلاد وادي الرافدين . أي أن أسم السومريين تسمية لاحقة للاستيطان ومشتقة من اسم مدينة سومر ولا تحمل مدلولاً قومياً .
       أما فيما يتعلق بأصل اللغة السومرية وموطنها الأول بقيا مثار نقاشات وآراء متضاربة . ومن بين الأسباب التي تكمن وراء ذلك أن اللغة السومرية ليست من اللغات الجزرية وهي فضلاً عن ذلك ، لغة ليست لها ما يشابهها من اللغات المنقرضة أو المتداولة ؛ مما حمل المستشرقين على تقديم افتراضات متعددة بخصوص الموطن الأصلي للسومريين . فمن بينها أن السومريين لم يأتوا من جهات بعيدة خارج حدود بلاد وادي الرافدين ، وإنما كانوا أحد الأقوام الذين عاشوا في جهة ما من بلاد وادي الرافدين في عصور ما قبل التاريخ ثم في السهل الرسوبي منه ( 3 ).
       وبعبارة أخرى فإن السومريين هم من جملة الأقوام المحلية التي كانت تسكن في العراق منذ أقدم العصور وأنها لم تأتِ من خارج القطر بل أنها نزحت من جهة الشمال إلى الجنوب واستقرت في القسم الجنوبي من العراق منذ عصور ما قبل التاريخ وامتزجت مع بقية سكان البلاد وأن اسم السومريين مشتق من اسم البلاد التي استقروا فيها ( بلاد سومر ) ، شأنهم في ذلك شأن الأكديين والبابليين ( 4 ) . ومهما يكن من أصل السومريين وطرق مجيئهم إلى القسم الجنوبي من العراق فمما لا ريب فيه إنهم ساهموا مساهمة فعالة في خلق وازدهار حضارة العراق وأضفوا عليها طابعاً خاصاً مميزاً إلى درجة إنها نسبت إليهم وعرفت باسمهم ولو أن هناك من الباحثين لا يؤيد هذه التسمية لأن الحضارات التي قامت في العراق القديم لم تكن من نتاج السومريين فقط بل ساهمت في تكوينها وتطورها وازدهارها جميع الأقوام التي استقرت في هذا الجزء سواء أكانوا من السومريين أو الأكديين أو غيرهم إلى درجة يصعب تمييز العناصر الحضارية السومرية أو الأكدية من غيرها من العناصر الحضارية .


ثانياً- اللغة السومرية :-

       هي لغة الأقوام السومرية التي استقرت في القسم الجنوبي من العراق وبرزت على المسرح التاريخي والسياسي في حضارة بلاد الرافدين ومع أهمية الأقوام السومرية في تاريخ العراق القديم ومساهمتها الكبيرة في وضع أسس الحضارة العراقية فإن التعرف إليها وإلى لغتها لم يتم إلا في فترة متأخرة نسبياً .
       تعد اللغة السومرية أقدم اللغات العراقية ، بل العالمية من حيث تاريخ التدوين فقد تمكن الباحثون من تحليل العلامات الصورية البسيطة على ألواح الطين المكتشفة في كل من الوركاء والعقير وجمدة نصر والتي يرقى بتاريخها إلى أواخر الألف الرابع قبل الميلاد وتبين بأنها تمثل أول المحاولات في تدوين اللغة السومرية ( 5 ) . وإنها أي العلامات المنقوشة على هذه الألواح عبارة عن ثلاث علامات صورية بسيطة متكررة عدة مرات ترمز إلى اسم الإله السومري ( إنليل  EN.LIL  ) إله الجو والهواء ( 6 ) ، والفعل ( يعيش ، يمنح الحياة )( 7 ) .
       تشير الدراسات اللغوية التي تمت إلى اللغة السومرية بأنها لغة منفردة لا تشبه اللغة الأكدية ( البابلية و الآشورية ) أو غيرها من اللغات التي عُرفت بالعراق القديم سواء في التراكيب والقواعد اللغوية أم المفردات أو حتى الأصوات . بل أن اللغة السومرية لا تنتمي إلى أية عائلة من العائلات اللغوية المعروفة حتى الآن ( 8 ) ، وقد نتج عن هذا الغموض الذي يكتنف أصل اللغة السومرية وعدم انتمائها إلى أية من العائلات اللغوية وأن أختلف الباحثون في تحديد أصل السومريين وموطنهم الأول وظهرت آراء ونظريات عدة حول ذلك وكان اعتماد جل تلك الآراء إلى وجود بعض أوجه الشبه بين اللغة السومرية وبين بعض اللغات العالمية الأخرى ، غير أن أوجه الشبه في جميع الحالات لا ترقى إلى درجة القرابة أو الانتماء إلى عائلة لغوية قديمة كانت فروعها معروفة في المنطقة ثم انقرضت فروع تلك العائلة اللغوية ( 9 ) ومن بعد أصبح من الممكن تحديد لغة ألواح الوركاء وجمدة نصر باللغة السومرية ( 10 ) ، ( Sumerian language ) وتكتب بالسومرية " إمي . كو  كي . اين . جي . را " وبالأكدية " ليشان شوميرم " ( Lishan - shumerim   ) ( 11 ) .
       كانت الكتابة في بدايتها بسيطة وصورية وكانت العلامات الصورية المستخدمة كثيرة يتجاوز عددها الألفين علامة ثم اختزلت أشكال العلامات الصورية تدريجياً وتغير اتجاه الكتابة والعلامات ( 12 ) ، وكانت الطريقة المتبعة هي رسم الشيء المادي الذي يراد التعبير عنه على قطعة من الطين الطري بواسطة قلم مدبب .     

ثالثاً- أهم خصائص اللغة السومرية :-

1- اللغة السومرية من اللغات التي تتصف بظاهرة الإلصاق ( 13 ) ، والإلصاق هو القدرة على تكوين ألفاظ ذات معانٍ جديدة بلصق كلمتين أو أكثر إلى بعضها البعض مثال :- تُصاغ كلمة ( لوجال Lugal  ) السومرية وتعني ملك من كلمة ( لو Lu  ) بمعنى رجل و ( جال  Gal ) بمعنى عظيم فتصبح الرجل العظيم أو الكبير أي الملك. 
2- إن اللغة السومرية لغة غير قابلة للتصرف كاللغات العربية القديمة . وجذورها بصورة عامة لا تتغير، ومن قواعد اللغة السومرية الصوتية إسقاط الحرف الصحيح إن هو جاء في نهاية الكلمة ولم تتبعه أداة نحوية تبدأ بحرف ، أما إذا أعقبته أداة نحوية تبدأ بحرف علة يتكون من الحرف الصحيح وحرف العلة مقطع صوتي جديد ، مثال :- قصر ملك أور " أي . جال  لوجال  أوريم . أك . أك " (Uri(m).ak.ak  E.gal   Lugal ) فيكون لفظها على النحو الآتي :- " أي . جال  لوجال  أوري . ما. كا " ( E.gal   Lugal  Uri.ma.ka   ) ( 14 ) .
3- وتتألف الجذور السومرية بصورة عامة من مقطع واحد وان كانت هناك جذور مؤلفة من أكثر من مقطع واحد . كما أن اللغة السومرية لا تفرق بين الاسم المذكر والاسم المؤنث فمثلاً :- المقطع " نن " ( Nin ) ، يدل على المذكر والمؤنث ، في حين أن هناك تفريق واضح بين العاقل مثل البشر ، وغير العاقل مثل الحيوان ، أما العدد فليس  هناك سوى المفرد والجمع وللإشارة إلى الجمع يُضعف الاسم أو تضاف أداة نحوية خاصة بالجمع " ميش " ( mesh ) ( 15 ) . وتعتمد اللغة السومرية على الحروف الصحيحة وحروف العلة ( 16 ) .
4- تتألف الجملة السومرية من جزئين رئيسيين يضم الأول جملة الاسم والثاني جملة الفعل وسوابقه وحشواته وملحقاته ، وتأتي وحدة الفعل في نهاية الجملة ، وقد أثرت هذه الحقيقة بالذات على الفعل في اللغة الأكدية فجاء غالباً في نهاية الجملة خلافاً للأسلوب المتبع في بقية اللغات الجزرية ( كالعربية ) ( 17 ) .
       كان أول استخدام للغة السومرية للتدوين منذ أواخر الألف الرابع قبل الميلاد ، وهو تاريخ ألواح الوركاء ، إلا أن اللغة السومرية لابد وان كانت في الاستخدام قبل هذا التاريخ بفترة تتزامن وتاريخ استقرار السومريين في القسم الجنوبي من العراق القديم وخلال النصف الأول من الألف الثالث قبل الميلاد وحتى قيام الدولة الأكدية ( 2371 ق .م ) ، كانت اللغة السومرية هي اللغة الرئيسة السائدة على النطاق الشعبي والرسمي ولغة المكاتبات الرسمية والشخصية والدينية ( 18 ) ، وجاءت آلاف من النصوص السومرية مدونة خلال تلك الفترة والتي تضمنت مختلف المواضيع فمنها الوثائق الإدارية والاقتصادية والنصوص الملكية والتأليف الأدبية كالترانيم والمراثي والرقى والصلوات والشرائع القانونية والقرارات القضائية ( 19 ) . ثم بدأ استخدام اللغة الأكدية إلى جانب السومرية مع مجيء الأقوام الأكدية بفترة غير معروفة على وجه الدقة ، إلا أن الانتقال من اللغة السومرية إلى الأكدية بدأ بعد أن تم تأسيس الدولة الأكدية وأصبحت اللغة الرسمية في البلاد هي اللغة الأكدية إلى جانب السومرية ومن الطبيعي أن الانتقال إلى اللغة الأكدية حدث بصورة تدريجية فظهرت أولاً مجاميع معينة من النصوص ، لاسيما تلك الصادرة عن القصر الملكي كالقوانين والنصوص الملكية بصورة عامة ، مدونة باللغة الأكدية ، وزودت نصوص سومرية بترجمات أكدية بين السطور كالرقي والتعاويذ وتدريجياً بدأ استخدام اللغة الأكدية يتسع على حساب تقلص استخدام اللغة السومرية على حقول معينة من الحياة كالإدارة وأنواع معينة من الآداب وغيرها ( 20 ) .                   
       وبظهور سلالة إيسن ولارسا في أعقاب سقوط سلالة أور الثالثة ، ثم قيام سلالة بابل الأولى وضح التحول اللغوي إلى الأكدية حيث حلت محل السومرية حتى في النصوص الأدبية وقد زاد في هذا التحول تدفق أقوام جزرية جديدة إلى المنطقة تتكلم لغة شبيهة باللغة الأكدية هي الأقوام الأمورية . ومع ذلك فإن الانتقال لم يكن كاملاً إلى الأكدية فقد احتفظوا بالنصوص السومرية على أنها من جملة التقاليد الأدبية الموروثة وحافظ الكتبة عليها وعلى استنساخها في العصور التالية كما حافظ على ثنائيتهم اللغوية بحيث أنهم كانوا يكتبون نصوصاً ملكية بأسلوب أور الثالثة حتى عهد آشور – بانيبال في القرن السابع قبل الميلاد لاعتبارات سياسية أو غيرها وهذا يدل على أنهم ظلوا يتعلمون المفردات والمصطلحات السومرية وما يقابلها بالأكدية لأكثر من ألف وخمسمائة سنة حيث أنهم زودوا النصوص السومرية بتوضيحات وتعليقات أكدية ولفظية وهكذا ظلت اللغة السومرية حية في النصوص العلمية ومقدسة في بعض النصوص الأدبية ، بعد أن كانت قد اختفت لغة رسمية منذ الثلث الأول من الألف الثاني قبل الميلاد ( 21 ) .                           
       ومن أجل ذلك نظمت قوائم بالمفردات والمصطلحات السومرية وما يقابلها في اللغة الأكدية تمثل أقدم المحاولات في تنظيم المعاجم اللغوية ن وظلت بعض النصوص السومرية تكتب أو تحفظ إلى القرون القليلة الأخيرة قبل التاريخ الميلادي ( 22 ) .        
       ولما طرأت على اللغة السومرية من تغييرات عبر العصور التي مرت بها واختلاف اللغة المدونة حسب الفترات الزمنية التي تعود إليها النصوص المكتشفة ، وأن كان الاختلاف بسيطاً ، فيمكن تمييز عدد من المراحل التي مرت بها اللغة السومرية استناداً إلى النصوص المكتشفة وهي كالآتي :-

      1 ) النصوص البدائية 3000- 2600 ق . م  Archaic texts       

              تعود إليها النصوص المكتشفة في مدينة الوركاء والتي تؤرخ بحدود (                          3000 ق . م ) ، ويعود إلى هذه المرحلة أيضاً أخرى متأخرة عنها نسبياً ( 2600 ق. م ) ، عثر عليها في مواقع عديدة مثل جمدة نصر والعقير وشروباك وكيش ، ومعظم نصوص هذه المرحلة مقتضبة وذات طابع اقتصادي ( 23 ) .

2 ) النصوص السومرية القديمة 2500 – 2350 ق.م Old Sumerian       

              تشمل نصوص هذه المرحلة الكتابات التاريخية لسلالة لجش الأولى وبعضها نصوص طويلة مثل مسلة العقبان للأمير السومري ( إي – أناتم ) وكذلك كتابات ( إنتمينا ) ، التي تسلط الأضواء على الأوضاع السياسية في سومر في عصر فجر السلالات . ويقع ضمن هذه المجموعة من الكتابات ، نص الإصلاحات الاجتماعية والاقتصادية ( لاورو – إنمكينا ) ، آخر ملوك سلالة لجش الأولى ، كما تعود لهذه المرحلة بضعة آلاف من النصوص الإدارية . أما النصوص الأدبية كالأساطير والملاحم فهي قليلة جداً في هذا العصر إذ لم يتجاوز عدد التآليف الأدبية التي تم تشخيصها إلى حد الآن عن ثلاث ( 24 ) .

3 ) نصوص العصرين السرجوني والجوتي 2350- 2140 ق.م Sargonic and Gutian
             
              أصبحت اللغة الأكدية في هذه المرحلة لغة البلاد الرسمية أما في العصر الجوتي الذي تلا العصر الأكدي ، فإن أهم ما وصلنا  من وثائق يكاد ينحصر في الكتابات السومرية لأمراء سلالة لجش الثانية التي عاصرت الجزء الأخير من حكم الجوتيين ، فضلاً عن المخاريط الطينية التي تسجل منجزات عمرانية لعدد من أمراء هذه السلالة فإن أهم وثائق لجش الثانية الاسطوانتان العائدتان لجودية واللتان سجل عليها بأسلوب أدبي رفيع وصفاً لمراحل بناء معبد الإله ننجرسو ، يُضاف إلى ذلك عدد من الكتابات المنقوشة على تماثيل هذا الأمير . وتُعد نصوص جودية على الاسطوانتين من أطول النصوص السومرية التي وصلتنا إلى حد الآن ، كما أن لها أهمية خاصة في دراسة قواعد اللغة السومرية في عصرها الكلاسيكي ( 25 ) .

4 ) نصوص سلالة أور الثالثة    Ur           Third dynasty of    

              وصل إلينا من عصر سلالة أور الثالثة مجموعة كبيرة من الوثائق الإدارية والاقتصادية والقضائية . وتمثل الوثائق الأخيرة مجموعة الأحكام القضائية التي أصدرتها المحاكم السومرية في مختلف القضايا المتنازع عليها ، وهي لذلك ذات فائدة كبيرة لدراسة المجتمع السومري في هذا العصر . وضمت المتاحف العالمية مجموعة من المراسلات التي تم تبادلها بين بعض الملوك وحكام المدن ، وتُعد الرسائل التي تعود للملك أبي – سين ( 26 ) ، على قدر كبير من الأهمية لأنها تسلط الأضواء على الأسباب الكامنة وراء سقوط هذه السلالة ( 27 ) .

5 ) نصوص العهد البابلي القديم  2000 – 1595 ق.م  Old  Babylonian        

       وهي المرحلة التي أعقبت سلالة أور الثالثة وانتهت بسقوط سلالة بابل في حدود ( 1595 ق.م ) ، ومعروف أن اللغة السومرية أخذت بالزوال بعد سقوط سلالة أور الثالثة لتحل محلها البابلية التي أصبحت اللغة الرسمية ولغة التخاطب اليومي في البلاد وعلى الرغم من سيادة اللغة البابلية على هذا الجزء ، فقد تم في هذا العصر تدوين واستنساخ نصوص كثيرة باللغة السومرية والتي يمكن تصنيفها إلى صنفين أساسيين ، الأول وهو الكتابات التذكارية لملوك سلالتي إيسن ولارسا ، أما كتابات ملوك سلالة بابل الأولى فإن القسم الأعظم منها دون بالبابلية وقليل منها بالسومرية ، أما الصنف الثاني فإنه يشتمل على النصوص الأدبية كالملاحم والأساطير  والصلوات والتعاويذ والمناظرات والأمثال ومجموعة من الرسائل الرسمية والشخصية. والراجح أن هذه النصوص الأدبية دونت خلال القرنين الفاصلين بين حكم ريم – سن ملك لارسا ، وحكم أمي – صدوقا ملك بابل ( 1646 – 1626 ق.م ) ( 28 ) . ولابد من التنويه هنا بدور المدرسة البابلية والنساخ البابليين في حفظ التراث السومري في هذا العصر عن طريق استنساخ الوثائق السومرية القديمة ( 29 ) .
              
6 ) نصوص ما بعد العهد البابلي القديم     Post  old Babylonian       

              بقيت النصوص السومرية متداولة في نطاق المراكز الثقافية والدينية بعد سقوط بابل عام ( 539 ق. م ) إلى مرحلة متأخرة حتى العهد السلوقي ( القرن الثاني الميلادي ) ، وتشمل نصوص هذه المرحلة على التعاويذ والأمثال وعلى الأناشيد والمناحات ( 30 ) .
              وفي السومرية لهجتان أساسيتان الأولى وهي الفصحى ( إمي – جر ) " eme –gir  " ( حرفياً : اللسان الأميري أو اللسان الضخم ) ، والثانية وتعرف في السومرية بمصطلح ( إمي – سال ) " eme – sal  " ( حرفياً : لسان النسوة ) ، ومن الباحثين من يعد المقطع ( سال ) " sal  " مـرادف لـلـكـلـمـة الأكـدية ( راقو ) " Raqqu  " بـمـعـنـى ( رقَ ، لانَ ) فيكون المعنى ( اللسان الرقيق ) في حين يرى آخرون أن الـكـلـمـة تعني ( اللسان المائل أو المنحرف ) أي ( اللسان الغريب أو الشاذ ) .
       وعلى أية حال فإن أقدم النصوص المدونة باللهجة الثانية أي لهجة " eme – sal  " ( 31 ) ، وهي أناشيد دينية كتبت في العصر البابلي القديم ( 32 )  ، وجدير بالذكر أن هذه الأناشيد تُعد الضرب الأدبي السومري الوحيد الذي أستمر في الوجود بعد هذا العصر فقد وصلت نماذج منه دونت في العصر الآشوري الحديث ، كما يعود تاريخ بعضها إلى أزمان متأخرة كالعصر السلوقي . فضلاً عن الأناشيد الدينية فقد كتبت تآليف أدبية أخرى بهذه اللهجة .
       ومما تجدر الإشارة إليه بخصوص لهجة " eme – sal  " ، إنها تستعمل في النصوص الأدبية عندما يأتي الكلام على لسان البشر أو الآلهة ( 33 ) . وقد لاحظ بعض الباحثين أيضاً أن الفرق بين لهجة " eme – gir  " و " eme – sal  " في اللغة السومرية هي ذاتها التي تميز لغة الرجال عن لغة النساء في حضارات أخرى في مجال التغييرات الحاصلة في اللفظ والمفردات ولكن ليس في القواعد ( 34 ) .

رابعاً- المرحل التطورية :-

       لم يقتصر السومريون على اختراعهم أسلوب الكتابة بل طوروها وجعلوا منها أداة نافعة للتدوين ونقل الأفكار ومرت هذه الكتابة بمراحل هي كالآتي :-

1 ) المرحلة الصورية                                               Pictographic  
     
       لقد بدأ الخط المسماري بهيئة صورية قوامها علامات تمثل الأشياء المراد تدوينها ، أي أن كل صورة تمثل كلمة ( 35 ) ، فمثلاً عبر الكاتب العراقي القديم عن كلمة سمكة برسم صورة لها كما عبر الكاتب عن كلمة قدم برسم صورة للقدم ، ولكن إذا أراد الكاتب التعبير عن إنسان رسم صورة موجزة وهكذا .
       وتعتبر هذه المرحلة من أقدم المراحل في تاريخ الكتابة وقد وصلتنا نماذج منها من الطبقة الرابعة من الوركاء ومدونة بهذا النوع وتتضمن نصوصاً اقتصادية وجداول بأسماء المواد التي كانت كافية لتؤدي الغرض المطلوب وعُثر أيضاً على لوح من الحجر عليه كتابة صورية يضم نصاً اقتصادياً من مدينة كيش ( تل الأحيمر ) ( 36 ) .

2 ) المرحلة الرمزية                                Logogram / Ideogram      
     
       اهتدى الكاتب العراقي إلى ابتكار الطريقة الرمزية لكي يتمكن بواسطتها من تدوين الأفكار والأشياء المعنوية وذلك برسم صورة لها بهيئة مختصرة ، فأصبحت العلامات لا تعبر عن الشيء الذي تصوره فقط بل تعبر عن أفكار ذات صلة بما تمثله تلك العلامة أو بعبارة أخرى استخدم الكاتب قيماً جديدة لعلامات كانت قائمة سابقاً ، مصدرها أفكار تتعلق بالمعنى الأصلي للشيء ذاته ( 37 ) ، فمثلا أصبحت صورة القدم لا تستخدم لتدوين القدم أو الرجل بل اتخذت لها معانٍ جديدة مستمدة من معناها الأصلي مثل ( ذهبَ ، وقفَ ، مشى ، قامَ ، أتى ) ، وصارت صورة الشمس تُعبر أيضاً عن المعاني المشتقة منها كالضوء والحرارة والليل والنهار ، وبالمثل أصبحت علامة المحراث تُعبر عن معانٍ أخرى مثل الفعل ( حَرَثَ ) وكذلك تُعبر عن كل فلاح ( 38 ) . كما قاموا بدمج علامتين أو أكثر فمثلاً إذا أراد الكاتب التعبير عن الفعل ( أكَلَ ) رسم صورة الفم وبداخله قطعة من الخبز ، وإذا أراد التعبير عن الفعل ( شربَ ) رسم صورة الفم وبداخله صورة الماء وبجمع المرحلتين الرمزية والصورية صار بالإمكان التعبير عن معاني وجمل كثيرة ولكن بقيت الكتابة ناقصة بسبب استحالة التعبير بهذه الطريقة عن مختلف شؤون الحياة ( 39 ) . فدعتهم الحاجة لتلافي هذا النقص باستخدام العلامات بهيئة مقاطع لكتابة الكلمات والجمل المختلفة وهذه المرحلة هي :


3 ) المرحلة الصوتية                                                       Phonetic         

       تمثل هذه المرحلة آخر مراحل التطور التي توصل إليها النساخ العراقي في استخدام الخط المسماري لأنهم لم يصلوا إلى الطور الهجائي ( Alphabetic ) أي استخدم الحروف الهجائية والمقصود بالمرحلة الصوتية هو إعطاء أصوات للعلامات تتناسب ولغتهم مجردة عن مدلولاتها الصورية والرمزية ( 40 ) ، وهذه المرحلة ظهرت في الطبقة الثالثة من عصر الوركاء إذ كُشف في هذه الطبقة على نص مسماري استخدم فيه المصطلح السومري ( ti ) لكي يدل على كلمة ( سهم ) كما استخدم لفظ أو صوت العلامة لأداء معنى كلمة ( حياة ) ومن هنا يتضح إن لكل من العلامتين ( سهم وحياة ) لفظاً متطابقاً بالرغم من اختلاف معانيها ( 41 ) .
       وبهذه الطريقة استطاعوا السومريون كتابة الأسماء والأشياء على هيئة مقاطع صوتية فمثلاً إذا أرادوا أن يكتبوا اسم ( حسين ) كتبوه بهيئة مقطعية ( خو – سي – إين ) "hu – se – en    "  فالعلامة " خو hu   " تعني سمكة والعلامة " سي se " تعني قرن والعلامة " إين en  " تعني سيد وهذا يعني أنهم أخذوا لفظ أو صوت العلامة بغض النظر عن معانيها في كتابة الاسم .
       ومما ساعد على نشوء التطور المقطعي الصوتي هو أن العلامات من حيث قيمتها الصوتية كانت تضم نوعين من العلامات المتعددة الألفاظ بعضها ذو معنى وبعضها الآخر مجرد مقاطع صوتية ليس لها أي مدلول ، ونذكر على سبيل المثال أن العلامة الدالة على الفم لها ألفاظ ومعانٍ متعددة فتقرأ " كا Ka  " وتعني ( فم ) وتقرأ " إنيم Inim  " وتعني ( كلمة ) وكثير من العلامات المقطعية كان لها عدة أصوات أي أن المقطع كان يقرأ قراءتين أو أكثر فالمقطع " آ a  " يقرأ " آ a  " ويقرأ " أبلو ablu  " الأبن البكر( 42 ) .
       أما النوع الثاني فهي العلامات المختلفة صورة والمتفقة صوتاً وتُعرف ( أحادي الصوت ) ، على سبيل المثال توجد عشرون علامة ذات أشكال مختلفة في القيمة الصوتية " دو Du  " ولما كان للعلامة المسمارية الواحدة قراءات عديدة وكل قراءة تدل على معنى خاص لذلك أصبح لعدد كبير من العلامات المسمارية قراءات متشابهة ولتمييز الفرق بين العلامات ذات القراءات المتشابهة وضع علماء الدراسات المسمارية أسلوباً خاصاً وهو إعطاء العلامات المتشابهة أرقاماً للدلالة على تسلسلها بالنسبة للقراءة فمثلاً أن العلامة " آو u  " أعطيت لها الأرقام ( 1 ، 2 ، 3 ، 4 ، 5 ) وهكذا ( 43 ) . وبالنظر لصعوبة الكتابة المسمارية واحتوائها على هذا العدد الضخم من العلامات أضطر الكتبة القدماء إلى استخدام بعض الوسائل التوضيحية للاستعانة بها في مهمة تعلم الكتابة وقراءة النصوص فاستخدموا ( العلامات الدالة ) وهي علامات ورد البعض منها قبل الكلمات والبعض الآخر بعد الكلمات لتعيين المراد منها دون أن تقرأ في سياق الكلام وأهم هذه العلامات هي التي تسبق أسماء الآلهة والبلدان والشعوب وأسماء الأعلام من ذكور وإناث وأسماء الأنهار ( 44 ) . أما العلامات الدالة اللاحقة فتستخدم للدلالة على أسماء المدن والمناطق وأسماء أنواع الأسماك والطيور وأسماء الخضروات وتوجد أيضاً علامات تدل على الجمع ( 45 ) ، كما استخدم الكاتب ( المتمم اللفظي ) وكان الغرض منه تحديد اللفظ الذي أرادَ تدوينه من قراءة العلامة وبمعنى آخر إنه استخدم النهايات الصوتية وغيرها من وسائل الإيضاح . بالإضافة إلى ما أسلفنا من مراحل التطور التي مرت بها الكتابة فقد حدثت تغييرات أخرى في شكلها فأخذت العلامات تفقد شكلها الصوري وذلك بسبب استخدام الكتبة قلماً من القصب مثلث الرأس فبعد الشبه بين أشكالها وأشكال الأشياء التي كانت تمثلها فأصبحت العلامات تشبه المسامير ومن هنا جاءت التسمية بالكتابة المسمارية ( cuneiform  ) ( 46 ) .  




الـــمــراجــع : -


1- طه باقر ، مقدمة في تاريخ الحضارات القديمة ، ج 1 ، بغداد – 1973 ، ص 58.
2- إن من أهم المدن في بلاد سومر ونفر و الوركاء و لارسا و إيسن وأدب وشروباك ولجش واوما وأور واريدو ، حول ذلك ينظر :
عامر سليمان وأحمد مالك الفتيان ، محاضرات في التاريخ القديم ، بغداد – 1985 ، ص 25 .
3- طه باقر ، المرجع السابق ، ص 26 .
4- عامر سليمان وأحمد مالك الفتيان ، المرجع السابق ، ص ص 75 – 76 .
5- عامر سليمان ، " التراث اللغوي " ، حضارة العراق ، ج 1 ، بغداد – 1985 ، ص 278 .
6- المعنى الحرفي للعلامة الأولى تقرأ في السومرية ( أين = EN   بمعنى سيد ) في حين تعني العلامة ( ليل LIL  ) هواء أو جو فيكون معنى العلامتين سيد الهواء ، يُنظر :  عامر سليمان ، اللغة الأكدية " الآشورية والبابلية " تاريخها وتدوينها وقواعدها ، الموصل – 1991 ، ص 27 .                                                             
7- وتلفظ بالسومرية " تي  Ti " وتعني سهم ، ومن معانيها يُعطي الحياة ، يُنظر :
     عامر سليمان ، اللغة الأكدية ، المرجع نفسه ، ص 28 .
8- فاضل عبد الواحد علي ، من ألواح سومر إلى التوراة ، بغداد – 1989 ، ص 39.
9- طه باقر ، مقدمة في تاريخ الحضارات القديمة ، المرجع السابق ، ص 60 .
10- هاري ساكز ، عظمة بابل ، ترجمة عامر سليمان ، الموصل – 1979 ، ص 62 .
11- فوزي رشيد ، قواعد اللغة السومرية ، بغداد – 1972 ، ص 27 .
12- عامر سليمان وأحمد مالك الفتيان ، محاضرات في التاريخ القديم ، المرجع السابق ، ص 64 .
13- عامر سليمان وأحمد مالك الفتيان ، المرجع نفسه ، ص 74 .
14- طه باقر ، مقدمة في تاريخ الحضارات القديمة ، المرجع السابق ، ص ص 59 – 60 .
15- عامر سليمان ، حضارة العراق ، المرجع السابق ، ص 281 .
16- فاضل عبد الواحد علي ، من ألواح سومر إلى التوراة ، المرجع السابق ، ص 49 .
17- طه باقر ، مقدمة في تاريخ الحضارات القديمة ، المرجع السابق ، ص 59 .
18- عامر سليمان ، اللغة الأكدية ، المرجع السابق ، ص 33 .
19- حول هذه النصوص ، يراجع : عامر سليمان ، القانون في العراق القديم ، الموصل – 1977 .
20- عامر سليمان ، اللغة الأكدية ، المرجع السابق ، ص 34 .
21- عامر سليمان ، حضارة العراق ، المرجع السابق ، ص 282 .
22- دونت هذه النصوص بحقلين متقابلين أهم المفردات والمصطلحات السومرية التي وردت وإلى جانبها ما يقابلها باللغة الأكدية ، ولهذه المعاجم أهمية كبيرة فهي توضح معاني كثير من المفردات والمصطلحات السومرية التي استخدمت في النصوص المسمارية ، حول تفصيل ذلك يراجع :- عامر سليمان ، القانون في العراق القديم ، المرجع السابق ، ص ص 115 – 117 .
23- فاضل عبد الواحد علي ، من ألواح سومر إلى التوراة ، المرجع السابق ، ص 42 .
24- عامر سليمان ، حضارة العراق ، المرجع السابق ، ص 283 .
25- جين بوترو وآخرون ، الشرق الأدنى الحضارات المبكرة ، ترجمة عامر سليمان ، الموصل – 1986 ، ص 127 .
26- هو آخر ملوك سلالة أور الثالثة ( 2028- 2004 ق.م ) حيث سقطت بعدها هذه السلالة على يد الأموريين حول هذه السلالة يُراجع : طه باقر ، مقدمة في تاريخ الحضارات القديمة ، المرجع السابق ، ص ص 378 – 399 .
27- فاضل عبد الواحد علي ، من ألواح سومر إلى التوراة ، ص 43 .
28- طه باقر ، مقدمة في تاريخ الحضارات القديمة ، المرجع السابق ، ص ص 413 – 414 ، 432 .
29- عامر سليمان ، اللغة الأكدية ، المرجع السابق ، ص 35 .
30- عامر سليمان ، حضارة العراق ، المرجع السابق ، ص 283 .
31- فاضل عبد الواحد علي ، من ألواح سومر ، المرجع السابق ، ص 40 .
32- بهيجة خليل إسماعيل ، " الكتابة " ، حضارة العراق ، ج 1 ، بغداد – 1985 ، ص 228 .
33- يُطلق عليه باللغة الأكدية مصطلح لغة العراك ( ليشان صليت ) " lishan siliti  " . ، يُنظر :
       عامر سليمان ، حضارة العراق ، المرجع السابق ، ص 284 .
34- فاضل عبد الواحد علي ، من ألواح سومر إلى التوراة ، ص 41 .
35- عامر سليمان وأحمد مالك الفتيان ، محاضرات في التاريخ القديم ، المرجع السابق ، ص 64 .
36- بهيجة خليل إسماعيل ، حضارة العراق ، المرجع السابق ، ص 223 .
37- جين بوترو وآخرون ، الشرق الأدنى الحضارات المبكرة ، المرجع السابق ، ص 54 .
38- بهيجة خليل إسماعيل ، حضارة العراق ، المرجع السابق ، ص ص 123 – 124 .
39- بهيجة خليل إسماعيل ، المرجع نفسه .
40- عامر سليمان وأحمد مالك الفتيان ، محاضرات في التاريخ القديم ، المرجع السابق ، ص 64 .
41- بهيجة خليل إسماعيل ، حضارة العراق ، المرجع السابق ، ص 224 .
42- بهيجة خليل إسماعيل ، المرجع نفسه ، ص 225 .
43- بهيجة خليل إسماعيل ، المرجع نفسه .
44- طه باقر ، مقدمة في تاريخ الحضارات القديمة ، المرجع السابق ، ص 241 .
45- بهيجة خليل إسماعيل ، المرجع السابق ، ص 226 .

46- بهيجة خليل إسماعيل ، المرجع السابق ، 228 .