شيء عن نفسي
علي عبد الأمير صالح
لا يمكنني اليوم أن ألخص أربعاً وثلاثين سنة من الكتابة.. كما لا يمكنني أن ألخص أربعاً وخمسين سنة من حياتي.
عبر هذه السنوات الطويلة كلها كان في داخلي شاب طموح يرفض أن يموت.. وحتى حين أنهيتُ دراستي الجامعية سنة 1978، يومذاك كنتُ في سنتي الثالثة والعشرين، كنتُ مقتنعاً أنه عليَّ أن لا أتجاهل هذا الكائن المتمرد الذي يسكنني..
كان بمستطاع مهنتي، طب الأسنان، أن تقتل جذوة الإبداع في كياني، وكان بوسعي أن أهمل عمداً الذات الأخرى التي تختبئ طوراً وتظهر طوراً آخر..
لكنني، اكتشفت أنني كي أعيش في سلام لا بد لي أن أصغي لما يعتمل في داخلي.. لا بد لي أن أضع آلاتي المدببة جانباً وأرهف السمع لأنفاس توأمي وهو نائم.. أدنو منه وأداعب خصلات شعره الأسود الكثيف.. أداعبه برفق كي لا يفيق من النوم.. لأدعه يحلم، هكذا كنتُ أحدث نفسي وأنا أمارس مهنتي في مستشفى عسكري، في السنتين اللتين أعقبتا تخرجي في الجامعة..
بدأتْ اهتماماتي الأدبية في عمر مبكر، حينما كنتُ في المرحلة الثانية في كلية طب الأسنان.. بدأتُ مسيرتي بكتابة القصص القصيرة وقصص الأطفال، وفي ما كان أساتذتي يلقون المحاضرات كنتُ أدوّن مسوّدات قصصي على حافات أوراق المحاضرات.. وحينما أعود إلى شقتي في (باب الآغا) أعيد صياغتها من جديد..
يومذاك، لم يكن يخطر ببالي أن تتحول تلك الهوامش إلى متون، وتصبح الكتابة شيئاً رئيساً في حياتي..
طيلة العقود الثلاثة الأخيرة لم يكن بوسعي التخليّ عن عاداتي الأثيرة: القراءة والكتابة والترجمة..
يقول ريكله: إذا كنتَ تعتقد أنكَ تستطيع العيش من دون كتابة فلا تكتب..
أنا إنسان لا أستطيع العيش من دون كتابة.
وإذا كان ماركيز قد كتب : "عشتُ لأروي" فأنا أقول : "عشتُ لأطبب وأكتب".. لم أفكرْ يوماً بأن أتخلى عن الطب وأتفرغ للكتابة.. أحب مهنتي، وأحب مرضاي ومريضاتي.. حوّلت مرضاي إلى أصدقاء.. وحوّلتُ مريضاتي إلى بطلات لقصصي ورواياتي..
لا بد للكاتب، أن يعيش حياةً غنيةً طافحةً بالحب والأمل والجوع واليأس والهجران واللوعة والعذاب كي تكون تجاربه هذه عوناً له في الكتابة السردية..
كتّاب كثيرون بدأوا الكتابة بعد الأربعين.. ومنهم الكسندر سولجينستين.. مع أن بعضهم كتبَ في أثناء سنوات مراهقته ومنهم آرثور رامبو..
الكتابة حرفة مقدسة .
الكتابة لن تجلب المال ولا الحياة الهانئة . كتبَ يفتوشنكو في "سيرة ذاتية مبكرة": "يبدو أن المال كان وما يزال الوسيلة التي تجعل الناس عبيداً. الذين لا يملكون المال عبيد لأنهم يحتاجونه من أجل العيش. والذين يملكونه يضحون بأعصابهم وطاقاتهم كي يكسبوا المزيد أو في الأقل الحفاظ على ما بحوزتهم، فهم إذاً عبيد بالقدر نفسه"
كان يشرفني دوماً، أن أتشبث بقلمي تشبث لثة الطفل بثدي أمه.. وكان يحلو لي أن أجعل أبطالي يحلمون..
في قصتي (النار الزرقاء) يخاطب خالد حبيبته نجلاء قائلاً: "يخيل لي، غالباً، أنني رأيتك وأحببتكِ من زمن بعيد؛ كنتُ أنام تحت شجرة التوت القريبة من دارنا.. كان التوت الأحمر، حلو المذاق، يسقط على رأسي وفي حضني حينما تهب الريح.. تخيلي يا نجلاء، غلام صغير يرتدي دشداشة مقلمة ينام تحت شجرة توت ويحلم.. هذا الغلام الصغير جالس الآن أمامكِ يتفلسف."
الكتب أحلام.. هكذا يقول امبرتو ايكو..
والكتب التي ندونها ما هي إلا أحلام.. ليست أحلام الكاتب وحده، بل أحلام أبناء جيله، ومعاصريه..
ليس هذا فحسب..
فالكتب هي صرخاتنا المكبوتة، هي لوعاتنا، هي لوعاتي ولوعاتكم، هي ضروب الحرمان العديدة التي عانينا منها، هي أغانينا الطافحة بالعشق والأمل وحب الحياة..
تقول أناييس نن: "إن لم تتنفس عبر الكتابة، إن لم تصرخ في الكتابة، أو تغني في الكتابة، إذاً لا تكتب؛ لأن ثقافتنا ليستْ بحاجة إلى هكذا كتابة."
في كتاباتي السردية إدانة واضحة للحروب.. ليست لأنها أخذتْ أعز أبنائنا وأخواتنا، وحوّلت نساءنا إلى أرامل وأطفالنا إلى أيتام.. بل لأنها هشمتْ فينا كل المرايا الجميلة..
كما يتجلى في كتاباتي ميل واضح للفانتازيا والانثيالات اللغوية.. وأعتقد أن غرائبية النصوص وانفتاحها كلاهما يتيحان للقارئ حرية التأويل وتجعلان من كل قراءة للنص القصصي والروائي كتابة جديدة، لا بل طازجة له. إن الكتابة المبدعة، أو الخلاقة، يجب أن تصدم أفق انتظار القارئ.. أي بمعنى أن على الكاتب أن يبتعد عن المواضيع الجاهزة والأساليب المملة التي ألفناها في السنوات الأخيرة..
أما بشأن إنجازاتي في الترجمة فأعتقد أن الروايات المهمة التي ترجمتها قد منحتني ثقافة موسوعية واطلاعاً جيداً على عوالم جديدة، وتعرّفتُ على ثقافات مختلفة وأناس يحملون فلسفات وأفكاراً وعادات وهويات مختلفة.. كما أن هذه الروايات ألهبت مخيلتي وطوّرت أدواتي الإبداعية.. منحتني الترجمة القدرة على التحليق بعيدا ًعن الواقع.. مما سهل عليّ ولوج عالم الفانتازيا.. كما يتضح ذلك في كتاباتي بعد سنة 1994، حين ترجمتُ (قل لي كم مضى على رحيل القطار) لـ جيمس بولدوين. وبشكل أكثر وضوحاً بعد ترجمتي لـ (طبل من صفيح) لـ غونتر غراس. كما أنني أنظر إلى الترجمة بوصفها حواراً مع الآخر، وانفتاحاً على الآخر.
تابعتُ كتابات زملائي الشعراء والقصاصين في واسط.. وكتبتُ عن محسن ناصر الكناني، وحميد حسن جعفر، ونوفل أبو رغيف، وإسماعيل سكران.. والقاص والروائي الشهيد حميد ناصر الجيلاوي. كما كتبتُ عن زملائي عبد الستار ناصر في روايته (الشماعية) وحميد العقابي في روايته (الضلع) وعلي بدر في روايته (مصابيح أورشليم).. كما كتبتُ عن زميلنا وأستاذنا القاص محمد خضير.
يقول باولو كويلو: إذا أردتَ أن تعرف روح شعب ما فاقرأ رواياته وقصصه، أو اقرأ أدبه عموماً..
علي عبد الأمير صالح
لا يمكنني اليوم أن ألخص أربعاً وثلاثين سنة من الكتابة.. كما لا يمكنني أن ألخص أربعاً وخمسين سنة من حياتي.
عبر هذه السنوات الطويلة كلها كان في داخلي شاب طموح يرفض أن يموت.. وحتى حين أنهيتُ دراستي الجامعية سنة 1978، يومذاك كنتُ في سنتي الثالثة والعشرين، كنتُ مقتنعاً أنه عليَّ أن لا أتجاهل هذا الكائن المتمرد الذي يسكنني..
كان بمستطاع مهنتي، طب الأسنان، أن تقتل جذوة الإبداع في كياني، وكان بوسعي أن أهمل عمداً الذات الأخرى التي تختبئ طوراً وتظهر طوراً آخر..
لكنني، اكتشفت أنني كي أعيش في سلام لا بد لي أن أصغي لما يعتمل في داخلي.. لا بد لي أن أضع آلاتي المدببة جانباً وأرهف السمع لأنفاس توأمي وهو نائم.. أدنو منه وأداعب خصلات شعره الأسود الكثيف.. أداعبه برفق كي لا يفيق من النوم.. لأدعه يحلم، هكذا كنتُ أحدث نفسي وأنا أمارس مهنتي في مستشفى عسكري، في السنتين اللتين أعقبتا تخرجي في الجامعة..
بدأتْ اهتماماتي الأدبية في عمر مبكر، حينما كنتُ في المرحلة الثانية في كلية طب الأسنان.. بدأتُ مسيرتي بكتابة القصص القصيرة وقصص الأطفال، وفي ما كان أساتذتي يلقون المحاضرات كنتُ أدوّن مسوّدات قصصي على حافات أوراق المحاضرات.. وحينما أعود إلى شقتي في (باب الآغا) أعيد صياغتها من جديد..
يومذاك، لم يكن يخطر ببالي أن تتحول تلك الهوامش إلى متون، وتصبح الكتابة شيئاً رئيساً في حياتي..
طيلة العقود الثلاثة الأخيرة لم يكن بوسعي التخليّ عن عاداتي الأثيرة: القراءة والكتابة والترجمة..
يقول ريكله: إذا كنتَ تعتقد أنكَ تستطيع العيش من دون كتابة فلا تكتب..
أنا إنسان لا أستطيع العيش من دون كتابة.
وإذا كان ماركيز قد كتب : "عشتُ لأروي" فأنا أقول : "عشتُ لأطبب وأكتب".. لم أفكرْ يوماً بأن أتخلى عن الطب وأتفرغ للكتابة.. أحب مهنتي، وأحب مرضاي ومريضاتي.. حوّلت مرضاي إلى أصدقاء.. وحوّلتُ مريضاتي إلى بطلات لقصصي ورواياتي..
لا بد للكاتب، أن يعيش حياةً غنيةً طافحةً بالحب والأمل والجوع واليأس والهجران واللوعة والعذاب كي تكون تجاربه هذه عوناً له في الكتابة السردية..
كتّاب كثيرون بدأوا الكتابة بعد الأربعين.. ومنهم الكسندر سولجينستين.. مع أن بعضهم كتبَ في أثناء سنوات مراهقته ومنهم آرثور رامبو..
الكتابة حرفة مقدسة .
الكتابة لن تجلب المال ولا الحياة الهانئة . كتبَ يفتوشنكو في "سيرة ذاتية مبكرة": "يبدو أن المال كان وما يزال الوسيلة التي تجعل الناس عبيداً. الذين لا يملكون المال عبيد لأنهم يحتاجونه من أجل العيش. والذين يملكونه يضحون بأعصابهم وطاقاتهم كي يكسبوا المزيد أو في الأقل الحفاظ على ما بحوزتهم، فهم إذاً عبيد بالقدر نفسه"
كان يشرفني دوماً، أن أتشبث بقلمي تشبث لثة الطفل بثدي أمه.. وكان يحلو لي أن أجعل أبطالي يحلمون..
في قصتي (النار الزرقاء) يخاطب خالد حبيبته نجلاء قائلاً: "يخيل لي، غالباً، أنني رأيتك وأحببتكِ من زمن بعيد؛ كنتُ أنام تحت شجرة التوت القريبة من دارنا.. كان التوت الأحمر، حلو المذاق، يسقط على رأسي وفي حضني حينما تهب الريح.. تخيلي يا نجلاء، غلام صغير يرتدي دشداشة مقلمة ينام تحت شجرة توت ويحلم.. هذا الغلام الصغير جالس الآن أمامكِ يتفلسف."
الكتب أحلام.. هكذا يقول امبرتو ايكو..
والكتب التي ندونها ما هي إلا أحلام.. ليست أحلام الكاتب وحده، بل أحلام أبناء جيله، ومعاصريه..
ليس هذا فحسب..
فالكتب هي صرخاتنا المكبوتة، هي لوعاتنا، هي لوعاتي ولوعاتكم، هي ضروب الحرمان العديدة التي عانينا منها، هي أغانينا الطافحة بالعشق والأمل وحب الحياة..
تقول أناييس نن: "إن لم تتنفس عبر الكتابة، إن لم تصرخ في الكتابة، أو تغني في الكتابة، إذاً لا تكتب؛ لأن ثقافتنا ليستْ بحاجة إلى هكذا كتابة."
في كتاباتي السردية إدانة واضحة للحروب.. ليست لأنها أخذتْ أعز أبنائنا وأخواتنا، وحوّلت نساءنا إلى أرامل وأطفالنا إلى أيتام.. بل لأنها هشمتْ فينا كل المرايا الجميلة..
كما يتجلى في كتاباتي ميل واضح للفانتازيا والانثيالات اللغوية.. وأعتقد أن غرائبية النصوص وانفتاحها كلاهما يتيحان للقارئ حرية التأويل وتجعلان من كل قراءة للنص القصصي والروائي كتابة جديدة، لا بل طازجة له. إن الكتابة المبدعة، أو الخلاقة، يجب أن تصدم أفق انتظار القارئ.. أي بمعنى أن على الكاتب أن يبتعد عن المواضيع الجاهزة والأساليب المملة التي ألفناها في السنوات الأخيرة..
أما بشأن إنجازاتي في الترجمة فأعتقد أن الروايات المهمة التي ترجمتها قد منحتني ثقافة موسوعية واطلاعاً جيداً على عوالم جديدة، وتعرّفتُ على ثقافات مختلفة وأناس يحملون فلسفات وأفكاراً وعادات وهويات مختلفة.. كما أن هذه الروايات ألهبت مخيلتي وطوّرت أدواتي الإبداعية.. منحتني الترجمة القدرة على التحليق بعيدا ًعن الواقع.. مما سهل عليّ ولوج عالم الفانتازيا.. كما يتضح ذلك في كتاباتي بعد سنة 1994، حين ترجمتُ (قل لي كم مضى على رحيل القطار) لـ جيمس بولدوين. وبشكل أكثر وضوحاً بعد ترجمتي لـ (طبل من صفيح) لـ غونتر غراس. كما أنني أنظر إلى الترجمة بوصفها حواراً مع الآخر، وانفتاحاً على الآخر.
تابعتُ كتابات زملائي الشعراء والقصاصين في واسط.. وكتبتُ عن محسن ناصر الكناني، وحميد حسن جعفر، ونوفل أبو رغيف، وإسماعيل سكران.. والقاص والروائي الشهيد حميد ناصر الجيلاوي. كما كتبتُ عن زملائي عبد الستار ناصر في روايته (الشماعية) وحميد العقابي في روايته (الضلع) وعلي بدر في روايته (مصابيح أورشليم).. كما كتبتُ عن زميلنا وأستاذنا القاص محمد خضير.
يقول باولو كويلو: إذا أردتَ أن تعرف روح شعب ما فاقرأ رواياته وقصصه، أو اقرأ أدبه عموماً..