بحث هذه المدونة الإلكترونية

إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

السبت، 12 يوليو 2014

همنجواي في الحلة(8)-مرسوم رئاسي

كتاب في حلقات
همنجواي في الحلة(8)

مرسوم رئاسي
أحمد الحلي
من بين الأمور التي اهتم بها ، تربية البلابل وما يزال يتذكر احدها والذي أعطاه اسماً هو (حيدر) فكان يصطحب معه هذا البلبل أينما ذهب ، وفي إحدى المرات غفل حيدر عن نفسه قليلاً فهجم عليه قط كان متربصاً به ، فحزن كثيراً لفقده وقرر منذ تلك اللحظة ان يقلع عن تربية البلابل ، إلاّ ان ذلك لم يمنعه من أن يقوم بتربية إحدى القطط الشامية ذات الفراء الناعم الجميل ، وأطلق عليها تسمية (ميسون) ، وكانت على درجة عالية من الكياسة والتهذيب واللياقة ، حتى انه كان يعتبرها جزءاً من أسرته ، إلا انه فوجئ ذات يوم ان مجلس قيادة الثورة يصدر مرسوما يقضي بإبادة القطط والكلاب السائبة ، وان على الذين لديهم حيوانات أليفة في بيوتهم ان يذهبوا بها الى دوائر البيطرة القريبة ليُصار إلى حقنها بالمصل الخاص ضد انتشار الأوبئة ، وبدلاً من أن يعطوها المصل زرقوها بحقنة قاتلة ، الأمر الذي أدى ان يدخل في شجار عنيف مع موظفي الدائرة ، ليخرج بعدها حاملاً جثمان (ميسون) ، ثم ليقوم بدفنها وفق مراسيم خاصة .

 
الحبيس العاشق

منذ وقتٍ مبكّر ، وجد نفسه يعشق الطيور المغرّدة ، ولا سيّما البلابل ، التي كان يشعر بنشوة ما بعدها نشوة وهو يصغي إلى تغريدها منطلقاً من أشجار حديقة بيتهم في الكرّادة ، أو من حدائق البيوت المجاورة ، وحين كان يستولي على اهتمامه شيء ، فإنه كان يتقصّى كافة المعلومات المتوفرة عنه ، من خلال قراءة الكتب المتخصصة ، وكذلك سؤال الأشخاص الذين لديهم خبرة ودراية بهذا الأمر ، وعلى سبيل المثال حصل على معلومة ذات قيمة عززت لديه احترامه واهتمامه بالبلابل ، فقد قال له أحد القرويين ، إن البلابل تختلف كلياً عن باقي الطيور ، وهي تعشق الحرية بشكل غريب ، إذْ أنها الطيور الوحيدة لا تتزاوج قط وهي داخل أقفاصها حتى لا تورث العبودية لصغارها ، وعلى أية حال ، وكما يتذكر ، فقد اقتنى في إحدى المرات بلبلاً من النوع الذي يعيش في محافظة ديالى ، وهو نوع مميز بشهادة العارفين ، وكانت النصيحة الثمينة المقدّمة لمن يريد أن يقتني أحد البلابل ، وهذا الأمر ينطبق كذلك على الطيور المغرّدة الأخرى ولا سيّما الكناريات ، هو أن يعمد الشخص إلى وضع البلبل بمفرده في القفص ، فيكون ذلك دافعاً وحافزاً له لكي يغرّد ويجوّد في تغريده ، ربما من أجل أن تسمع البلابل الأخرى نداءه ، أو أن تغريده في مثل هذه الحالة يكون كغناء سجينٍ يرثي نفسه ، على ما آلت إليه أموره ، وفي إحدى الصباحات سمع تغريدة أخرى  شجية صادرة من بلبلٍ آخر ، خرج إلى الطارمة حيث كان القفص  معلّقاً ، فوجد بلبلاً آخر ، فهم أنها أنثى ، لأن الطائر الذي لديه كان ذكراً ، وظلا يتناجيان ويغردان ، غير آبهيْن لشيء من حولهما ، وقد استهواه هذا المشهد الفريد وطرب له ، وبعد مضي أكثر من أسبوع على هذا الحب الجارف بين الطائرين انتبه إلى أنه يضع نفسه في موضع القاسي الذي لا يرحم  ، فقرر أن يطلق سراح البلبل ، وهذا ما حصل ، فطارا معاً وحلّقا بعيداً ....

محرر البلابل

كان الحصار الاقتصادي يشدد الخناق على حياة الناس ، وكان من العسير على الكثيرين الحصول على النقود الكافية لكي ينفق على عائلته أو نفسه ، وقد أدى ذلك في الكثير من الأحيان إلى تفكك عرى العلاقات الاجتماعية ، بل وامتد ذلك إلى الروابط العائلية أيضاً ، فلم يعد الأخ يهتم أو يأبه بأخيه ، أو حتى الأب بأبنائه من حيث توفير المستلزمات الإضافية أو الكمالية بما في ذلك الملابس وبعض الحاجيات الصغيرة ، وفي أحد الأيام ، وبطريقة ما وجد نفسه يحصل على بعض المال ، وبينما كان يتجول ، كعادته في سوق الطيور ، رأى شاباً قروياً يجلس جانباً وبجانبه قفصٌ كبيرٌ  يحتشد بمجموعة كبيرة من البلابل ، وكما يبدو فإن هذا القروي قد نصب لها فخاً واصطادها في القرية التي جاء منها ، لاحظ أن أصحاب محلات بيع الطيور المغردة لم يأبهوا له ، أو هم أظهروا له ذلك ، من أجل أن يتطرق إليه اليأس من الحصول على المبلغ المناسب ، فيبيعهم البلابل بالسعر الذي يحددونه هم لا هو ، انتظر قليلاً ، ثم اقترب منه ، وسأله عن عدد البلابل في قفصه ، قال الشاب ؛ إنها أربعة وثلاثون ، سأله عن السعر الذي يريده ثمناً لها ؟ فكّر الفتى قليلاً ، ثم قال ؛ إنه يريد خمسمائة دينار ثمناً لها ، وبعد أخذ ورد معه ، وافق القروي على مبلغ 200 دينار ، وسلّمه المبلغ ، قال القروي ؛ ولكن كيف ستأخذها ، هل تريد أن تشتري القفص أيضاً ، أم هل ترغب بشراء قفص جديد ؟ أخبره أنه لن يحتاج إلى أي قفصٍ لها ، وطلب منه أن يمهله بعض الوقت ريثما ينتهي الأمر ، وطلب منه أن يمضيا معاً إلى حيث حافة النهر القريبة ، وهناك فتح باب القفص وسط  ذهول واستغراب القروي ، فأسرعت البلابل بالخروج والطيران بعيداً ، وأخيراً لم يتبق سوى بلبل واحد ، وخرج أيضاً وراقبه أبو رياض منتشياً ، ولم يتعجّب من أن هذا الطائر الأخير لم يشأ أن يهرب بذات الطريقة المتعجّلة التي هرب بها رفاقه ، بل رآه يحلق بتمهل ، ثم ليحط على أحد أسلاك الكهرباء فوقهما ، ثم ليطلق تغريدة آسرة  أخيرة قبل أن يحلّق عالياً ، فهم منها أنه يزجي إليه الشكر والعرفان نيابة عن رفاقه ورفيقاته البلابل ، التي يبدو أنها نسيت أن تقوم بهذا الواجب ، وهي في حمى الهرب من الأسر .


صدر للشاعر ناهض الخياط مجموعة ومضات بعنوان ايها البرق..........انت انا ! -



عن المركز الثقافي للطباعة والنشر-بابل-حلة
صدر للشاعر ناهض الخياط مجموعة ومضات بعنوان ايها البرق..........انت انا  !                       

الجمعة، 11 يوليو 2014

همنجواي في الحلة (7)-

همنجواي في الحلة (7)
كتاب في حلقات
عاصمة البلابل
تعد مدينة خانقين التي تبعد حوالي 150 كم إلى شمال شرق مدينة بغداد واحدة من أهم محطات الاستراحة والاستجمام في العراق ، نظراً لوفرة بساتين الفاكهة فيها والمناظر الخلابة واعتدال مناخها ، كما ان هذه المدينة هي عاصمة البلابل بامتياز أو هكذا كنت أسمّيها ، حيث كانت أعداد البلابل بالملايين ، أو هكذا خُيّل إليّ ، وكان تغريدُها لا ينقطع وخاصة حين تبدأ أشعة الشمس بمصافحة وجه الحقول ، بنهر الوند الذي يخترق وسطها ، لاسيّما وأن هذا النهر مليء بالأسماك ، وكنت اقضي أياماً طويلة في الصيد على ضفّتيه ، بالإضافة إلى ذلك كان مصفى الوند والمدينة المصغّرة المشيدة بالقرب منه قد أقامهما الانكليز في أربعينيات القرن الماضي ، وتم تخصيص عدد من الدور للموظفين والمهندسين الانكليز آنذاك ، وهناك كانت تسكن عائلة أخي ، حيث كنت أذهب إليهم بصورة منتظمة ، وغالباً ما يساورني شعور بأن هذا المكان هو الجنة أو على الأقل هو قطعة منها ، ذلك ان كافة بيوت الحي مرتبة ومنظمة تنظيماً هندسياً ينم عن حضارة وذوق رفيع ، حيث أن كل بيت مجهّز بأنابيب الغاز وموقد للتدفئة وفق الطراز الانكليزي ، والغريب في الأمر ان هذه المدينة التي رحل عنها موظفوها الانكليز إبان ثورة 14 تموز عام 1958 قد تم هدمُها بالكامل بعد الحرب العراقية الإيرانية التي اندلع أوارها في العام 1980 لتستمر لمدة ثماني سنوات احترق فيها الأخضر واليابس وأدت إلى تقهقر العراق في الميادين كافة ، في حين كانت الأمم الأخرى كتلك الواقعة في جنوب شرق آسيا تغذ الخطى في هذه المرحلة بالذات لبناء دول ذات طابع عصري ومنتجة صناعياً وبتكلفة اقل بكثير من تكلفة حربنا الجنونية الباهظة ، وعلى أية حال وقع المحظور ووقع الفأس على الرأس كما يقولون ، وقد ورد من السلطات العليا ببغداد أمر بهدم هذه المدينة الصغيرة أو الحُلم كما كانت تتجسّد لي ، وتم تفكيك مصفى الوند الذي يقع بالقرب منها ، بحجة ان هذا المصفى واقع تحت مرمى المدافع الإيرانية ، وإذا كان هذا الكلام ينطبق على المصفى ، فما ذنب بيوت هذه المدينة ، ان يصار الى هدمها وتحويلها إلى أنقاض ، وقد تبين لنا فيما بعد ان إزالة هذه المدينة من الوجود كان أمراً قد دبر بليل ، وانه كان بدوافع سياسية ، إذ ان عدداً كبيراً من سكنتها كانت لديهم ميول سياسية أخرى ، وقد توفرت لدي قرائن عديدة مماثلة في ، أقدمت فيها السلطات على إزالة أماكن بعينها بحجج ما انزل الله بها من سلطان .




صائد مواد احتياطية !
لم يقتصر ما كانت تخرجه سنارته من الماء على الأسماك والسلاحف وأفاعي الماء ، وانما تعدتها الى أشياء وحاجيات أخرى هي جزء من ذاكرة النهر وما يمور به من أسرار وخفايا ،  ففي إحدى المرات علق (الشص) على ضفاف نهر الحلة بشيء ثقيل ، فاستخرجه بعد عناء فإذا به مكواة قديمة الطراز مما كان يعمل على الفحم ، وفي أعقاب غزو الكويت راحت السنارة تستخرج متعلقات الحرب كالبصاطيل وأقنعة الوقاية من الغازات الكيمياوية وفي إحدى المرات استخرجت هيكلاً كاملاً لرشاشة أحادية ، ولعل أطرف ما يتذكره أن سنارته علقت إبان فترة الحصار بـ(جاملغ) أيمن لسيارة نوع مسكوفج ، فركنه الى جانبه واستمر بعملية الصيد ، وبعد قليل توقف احد السائقين بسيارته ، سائلاً إياه عن الثمن الذي يطلبه لهذا الجاملغ ، فرد ضاحكاً ؛ خذه مجاناً ، فانا لست بائع أدوات احتياطية .
وبعد أسبوع تقريباً ، إذا بنفس السائق يتوقف مستفسراً عما إذا كان قد استخرج الجاملغ الأيسر !





طائر الدراج
اعتاد أن يصف طائر (الدرّاج) بأنه طائر ذو لحم شهي  إلا انه مراوغ ماكر وعصي على الاقتناص ، ومع ذلك فانهم فطنوا إلى نقاط ضعفه ، كالأوقات التي تتطارح فيها الغرام والتي تشغلها عما حولها من أخطار ومكائد  ، وكذلك انبهارها بضوء مصباح السيارة عندما يحل الظلام ، فيقترب منه مبهوراً ، وعند ذلك نستطيع الإمساك به بسهولة ، وما زالت تتراءى أمام عينيه واقعة طريفة غير معقولة مع هذا الطائر ، ففي إحدى المرات أصابوا واحداً ببندقية صيد ، فأمسكوا به وأسرعوا إلى قطع رأسه خشية ان ينفق ، فأخذ جسده المقطوع الرأس يرفرف في الدغل القريب وحين جاؤوا لأخذه لم يجدوه ، وفتشوا عنه في الأمكنة القريبة ولكن دون جدوى ، فعلّق على ذلك قائلاً ؛ ان هذا جزء من مهارة الروغان التي يتصف بها هذا الطائر !



رواية جديدة لعادل كامل-عصر اينانا المستعاد-الفصل الثالث

لتحميل الفصل الاول والثاني والثالث يرجى النقر على الرابط ادناه
http://www.4shared.com/account/home.jsp#dir=EwCcFc6N

الأربعاء، 9 يوليو 2014

لأنه يقرأ ويكتب أصبح من حماية الزعيم !!!-حامد كعيد الجبوري

لأنه يقرأ ويكتب أصبح من حماية الزعيم !!!




حامد كعيد الجبوري
     ( حميد جابر عبود عيسى المطيري ) من مواليد بابل الحلة عام 1939 م ، نجح من الثالث المتوسط الى الرابع الإعدادي ، ولظروف خاصة لم يستطع أكمال دراسته ، أبلغ رسميا بوجوب مراجعة دائرة تجنيد الحلة يوم 1 / 1 / 1958 م لغرض السوق للخدمة العسكرية ، بموعده المحدد راجع دائرة التجنيد وبلّغ بموعد سوقه الجديد وهو 2 / 9 / 1958 م ، صبيحة 14 تموز اندلعت ثورة 58 الخالدة بقيادة الرمز العراقي الشريف الزعيم الشهيد عبد الكريم قاسم رحمه الله ، وبنفس موعد سوق الجندي المكلف ( حميد ) ألتحق الى مركز تدريب الحلة وبدأت صفحة جديدة بحياة الجندي المكلف ( حميد المطيري ) .
مركز تدريب الحلة :
   داخل مركز تدريب الحلة ومن اليوم الأول سأل الضابط من فيكم يقرأ ويكتب ؟ ، أكثر من واحد رفع يده دلالة أنه يقرأ ويكتب ، ولأن ( حميد ) خريج الدراسة الابتدائية ولم يكمل المتوسطة كان أكثرهم وجاهة ومقبولية لذلك جعلوه مسئولا عنهم ، أخبره الضابط أن عليه أن يأخذ مجموعته المؤلفة من ستة أشخاص الى أحدى القاعات وأغلقت القاعة عليهم ، يقول بقينا في تلك القاعة لحدود الساعة الثالثة عصرا ، جاء أحد الضباط وهو يحمل معه كتاب نقلنا الى وزارة الدفاع العراقية ، قادونا الى محطة القطار برفقة عريف انضباط مأمور وأنطلق بنا القطار لبغداد ، وصلوا لبغداد ليلا وكانت سيارة عسكرية تنتظرهم مع آخرين في محطة القطار وباتوا ليلتهم الأولى كحماة للوطن في مقر وزارة الدفاع .
( وصفي طاهر ) يلتقي المراتب في وزارة الدفاع العراقية :
      صبيحة يوم الثلاثاء من الشهر التاسع عام 1958 م كنا وكما يقول حميد مجموعة تصل لحدود 50 جنديا من مختلف المحافظات العراقية ، وبخاصة محافظات الوسط والجنوب  ، كلنا نرتدي الملابس المدنية ، أعطونا ملابس عسكرية وحذاء ( بسطال ) موضوعة بكيس كتاني كبير ، قالوا خذوها معكم وحاولوا إصلاح مقاساتها لتتلاءم مع مقاساتكم ،   واستمعنا نحن الجنود لمحاضرة ألقاها ضابط برتبة نقيب تخص الجيش وكتمان الأسرار والضبط العسكري ،  وبعد أن أنهى محاضرته قال لنا سيأتيكم ضابط وبرتبة كبيرة يريد أن يتحدث معكم ، دخل لنا ضابط طويل القامة جميل جدا يرتدي قميصا نصف كم ( نص ردان ) ، ويضع على رأسه ( السدارة ) ، وبيده عصى يسمونها عصى التبختر استطعت تمييزها ،  أنها غصن شجرة النارنج ، ضحك بوجه الجميع وهو يقول أهلا بكم في وزارتكم وزارة الدفاع العراقية ، وبدأ يسأل منا ونحن مجاميع من أين أنتم ؟ ، قلت له من محافظة بابل ، قال رجال كرام وعشائر شريفة ، مدينة علم وعلماء وشعراء ، وقال لآخر من أين أنت ؟ ، أجابه أنا من مدينة الديوانية ، قال عشائر عربية أصيلة وشيوخ ورجال ثورة ، ولآخر أجابه حيا الله أهل السماوة وحيا الله رجال ثورة العشرين الخالدة ، وقال للآخرين بما تستحق محافظاتهم ، وبعد أكمال هذه التساؤلات قال مخاطبا الجميع ، يا أبنائي أنتم صفوة مواليد 1939 ومواليد 1940 ، وأنتم من يعرف القراءة والكتابة ولذلك  تقع عليكم مسؤولية تعليم أخوتكم الفنون العلمية القتالية التي ستتعلمونها هنا  ، وأوصيكم أبنائي بهذا الشعب فهو منكم وأنتم منه ، لا تذهبوا لهذه المنطقة القريبة من وزارة الدفاع – اسماها لهم -  لأنها مشبوهة تسئ لسمعتكم وسمعة عوائلكم وسمعة جيشكم ووطنكم ، وهناك مهمة عليّ نقلها لكم وهي أن السيد الزعيم عبد الكريم قاسم يحتاج لقسم منكم يكونوا من ضمن حظيرة حمايته فمن يرغب فنحن نرحب به ومن لا يرغب فليس مرغما على أداء هذه المهمة ، الكثير منا وافق على هذه المهمة أما ( حميد ) فلم تحمله قدماه لهذه الفرحة الكبيرة ، سيصبح من حماية الزعيم عبد الكريم قاسم ، شئ عجيب لم يتحققوا من هو ، عائلته ، ميوله السياسية ، حبه وعدم حبه لزعيم الجمهورية الفتية ، ثم قال الضابط الكبير سنعطيكم أجازة من اليوم الثلاثاء وحتى الساعة الثانية بعد الظهر من يوم الجمعة القادم ، سيقدمون لكم وجبة غدائكم وتأخذون نماذج أجازاتكم وتذهبون لمحافظاتكم بحفظ الله ، قال أحدهم للضابط ( عمي شلون أروح لهلي أولا ما أندل وثانيا ما عندي فلوس ) ، ضحك الضابط بوجهه وقال ستوصلكم سيارات عسكرية ( لكراج العلاوي ) ومنها كل لمحافظته ، وسيارة أخرى ستأخذكم  لكراج ( النهضة ) وسنعطي لكل جندي ( دينار ) واحد ، قال أحد الجنود أنا لا أقبل الصدقة ؟ ، أجابه الضابط أنها ليست صدقة وإنما هي دين عليكم تعيدون الدينار عند استلام راتبكم الشهري ، قلنا ومن الذي سيقرضنا هذا الدينار أنت ؟ ، قال أنكم تزيدون على الخمسين جنديا وهذا المبلغ كثير علي دفعه ولكننا سنعطيكم من الحانوت ، وأمر الضابط  الكبير ضابطا أقل منه رتبة وقال له أعط لكل جندي دينار وأحرص على أن يتناولوا طعام الغداء وأرسل معهم من يوصلهم بسيارة عسكرية لكراج ( العلاوي ) وكراج ( النهضة ) ، سأل أحد الجنود ذلك الضابط الكبير قائلا من أنت سيدي ؟ ، أجابه ألم يعلمونكم من أنا ؟ ، قال الجندي كلا سيدي ، قال له أنا المقدم ( وصفي طاهر ) وخرج من القاعة وهو يودعنا قائلا أذهبوا لعوائلكم بحفظ الله .
   أصبح ل ( حميد ) دينار عراقي ، عشرون درهما ، أنه عملة ورقية ذا قيمة ليست بالقليلة مقارنة بسعر كيلو غرام من لحم الضأن بسعر ( 160 ) فلسا آنذاك .
   بدأت رحلة حميد التدريبية ونسب الى الفوج الأول لواء 19 ، أنه لواء الزعيم الشهيد عبد الكريم قاسم رحمه الله قبل الثورة ، وأصبح حميد بصنف المخابرة و عامل بدالة في وزارة الدفاع .
وجها لوجه مع الزعيم عبد الكريم قاسم :
  يقول حميد أخبرني مسئول ( البدالة ) أن الهاتف اليدوي الآلي لأحد ضباط الركن عاطلا وعليك أصلاح الهاتف ( التلفون )  بعد نهاية الدوام الرسمي ، يقول حميد أخذت عدتي للتصليح ( بلايس ، كتر ، درنفيس ، درج ، سلك تلفون ) وصعدت الى الطابق العلوي في وزارة الدفاع ولم أكن بقيافتي العسكرية الكاملة ، وأنا أحاول أن أتتبع السلك للتلفون المعطوب سمعت صوتا من أحدى الغرف ينادي ( يا ولد ، يا ولد ) ، وأعرف أني لست المعني بذلك النداء ، تكرر الصوت لأكثر من مرة ولا علاقة لي شخصيا بذلك ، فتحت باب تلك الغرفة وأصبحت وجها لوجه مع الزعيم عبد الكريم قاسم ، ارتعدت من الخوف بعد أن خاطبني بعصبية واضحة من أنت ؟ ، وماذا تفعل هنا ؟ ، قلت له سيدي أنا عامل البدالة ولدي واجب تصليح هاتف أحد ضباط الحركات ، قال ولماذا لم ترتدي قيافتك العسكرية كاملة ؟ ، أجبته سيدي انتهى الدوام الرسمي ؟ ، أجاب مبتسما ليطمئنني ولكنك لم ينتهي دوامك أنت عامل ( البدالة ) الخفر  ؟ ، قلت أعتذر سيدي ، قال كنت أنادي لماذا لا تجيبني ؟ ، قلت لا أعلم أنك تقصدني أنا ، قال نعم لا أقصدك وأريد ( المراسل ) أين هو ؟ ، أجبته لا أعرف أين هو سيدي ، قال أذهب وأخبره أني أريده ، ذهبت الى الحانوت ولم أجده ، الى مطعم الضباط ، مطعم المراتب ولم أجده ، لبست قيافتي كاملة وذهبت لسيادة الزعيم وطرقت الباب وسمعت الأذن بالدخول وقلت له لم أجد المراسل  سيدي ، قال لقد أضر بنفسه أذهب لمطعم الضباط وأتني بصحن ، وفعلا أتيته بالصحن وقال لي قلت لك صحنين ، أجبته ( والعباس سيدي كتلي ماعون وما كلت ماعونين ) ضحك بوجهي وقال لا عليك ولدي ، ناولني الصحن وناولته ذلك الصحن ، فتح الزعيم ( السفر طاس ) وأعتقد أن هذه المفردة تركية تتكون من كلمتين ( السفر ) و ( الطاس ) أدمجت وأصبحت ( السفر طاس ) لأنها تستخدم أثناء السفر والتنقل ، و( سفر طاس ) الزعيم  فيه ثلاثة أدراج ، الدرج الأسفل فيه ( المرق ) ، والدرج الوسط فيه الرز ، والدرج الثالث العلوي فيه قطع من الخيار والطماطم ونصف رأس بصل واليسير من الخضروات ، ورغيف من الخبز فوق ( السفر طاس )  أخذ ملعقته وبدأ يضع شيئا من الرز بذلك الصحن ، وسكب فوقه قليلا من المرق وقال لي خذه وتغذى به ، قلت له أكلت وجبة الغداء سيدي ، قال لي خذه يا ولدي ، رفعت الصحن بيدي فقال لا لا دع الصحن لي وخذ الباقي ، قلت له لا يكفيك هذا سيدي ، قال لا  فيه الكفاية ، يقول حميد أخذت ذلك السفر طاس وجلست لوحدي خوف أن يشاركني فيه أحد ، الرز نوع ( بصمتي ) ، المرق ( باميا ) ، ولحمة الضأن لا يزل طعمها تحت لساني لأنها لقمة شريفة .
اللقاء الثاني مع الزعيم قاسم :
    يقول ( حميد المطيري ) كنت بواجب الحرس فوق بناية وزارة الدفاع العراقية القديمة في باب المعظم ، وكنت أحمل بندقية ( سيمينوف ) محشوة بعشر أطلاقات حية ، سمعت حركة في السلم الذي يفضي الى السطح وما هي ألا ثواني وأنا وجها لوجه مع الزعيم عبد الكريم قاسم ولم يكن برفقته أي شخص آخر ، وقفت بمكاني وأديت له سلام الأمراء ببندقيتي ( السيمينوف ) والزعيم قبالتي وقف بوضع الاستعداد رادا عليّ سلامي بيده اليمنى ويده اليسرى لصيقة بجسده وعصا التبختر تحت إبطه الأيسر وبحركة عسكرية وكأن أمامه ( كاميرات ) تصوير تلفزيوني وقطعة عسكرية كبيرة ، قال ( جنبك سلاح ، أسترح  ) ، قال أسمك ؟ قلت ( نعم أني الرقم 31829 ج م مكلف حميد جابر المنسوب الى ف1 ل 19 سيدي ) ، وبدأ يسير أمامي وعيونه تتنقل مسرعة بيني وبين الجانب البعيد لضفة نهر دجلة حيث منطقة ( الجعيفر ) وبيده اليمنى عصا التبختر يضرب بها ساقه بحيث أسمع صوت سقوط العصا على جسده فأفز مرعوبا مع كل ضربة يضرب بها ساقه ، قال لي حميد من اي محافظة أنت ؟ ، قلت من الحلة سيدي ، قال منذ متى وأنت لم تتمتع بإجازتك الدورية ؟ ، قلت منذ خمسة أيام أتيت من أجازتي سيدي ، قال أذهب الى المقدم  الركن ( قاسم الجنابي ) وليعطك عشرة دنانير هدية ويمنحك عشرة أيام إجازة ، قلت له شكرا لك سيدي ، وعاد يتحرك كما بدأ بخطوات سريعة ذهابا وإيابا ، لمحني واقفا لأني كنت أريده أن ينزل من السطح فأتبعه فصرخ بي قائلا ألم أقل لك أذهب وخذ جائزتك وأجازتك ، يقول حميد كانت صرخته لي وكأن عشرة أشخاص  رفعوني من مكاني  ووجدت نفسي بمنتصف السلم مرعوبا ، حين وصولي الطابق الأرضي وعند نهاية السلم وجدت المقدم الركن ( قاسم الجنابي ) فبادرني بالسؤال ما بك ؟ ، حكيت له ما دار مع الزعيم فرد عليّ قائلا (( من هو ( دو مانك ) في الحراسة )) ؟ ، وتعني من هو بديلك بنوبة الحراسة فقلت له ج م ( فلان ) ، فقال لي أذهب وسلم له البندقية وانتظرني أمام باب غرفتي ، وفعلت ما طلب مني ودخلت لغرفة مرافق الزعيم وسلمني نموذج الأجازة وعشرة دنانير وهو يقول لنفسه ( والله العظيم الزعيم خلص راتبه وبديت أنطي من راتبي ) .
شاعر شعبي حلي يلتقي الزعيم عبد الكريم قاسم :
      يقول الجندي ( حميد جابر المطيري ) وقف بباب وزارة الدفاع شاب وسيم مع صديقه قبالة الباب الرئيسي لوزارة الدفاع مقابل محل لبن ( أربيل ) كما يقول حميد ، سألهما الحرس ما تريدان ؟ ، أجابا سوية نريد مواجهة الزعيم عبد الكريم قاسم ، قال لهما الحرس لديكما موعدا للمقابلة ؟ ، أجابا لا ، قال لهما أذهبا أذن من هذا المكان ، ولكنهما أصرا على البقاء ، حاول أمر الحرس أن يقنعهما بترك المكان ولكنهما أصرا على البقاء ، وبلحظات حوار أمر الحرس مع الشخصيين أتت السيارة التي تقل الزعيم قاسم ، هتف أحد الاثنين ( يعيش الزعيم عبد الكريم قاسم ) ، توقفت سيارة الزعيم ونزل من السيارة وسأل الهاتف من أنت ؟ ، وماذا تريد ؟ ، أجابه الهاتف أنا الشاعر الشعبي ( منير إبراهيم الحلي ) وهذا صديقي من الحلة أيضا وأحببنا أن نلتقي بك  لأننا نحبك يا سيادة الزعيم ، قال لهما أهلا بكما تفضلا معي ، وسار معهما صوب مقر عمله بوزارة الدفاع وهو يقول لدي 15 عشر دقيقة أمنحها لكم لأني على موعد مع صحفي أجنبي ، وأستمع الزعيم بغرفته لقصيدة تتغنى بالعراق أنشدها الشاعر ( منير إبراهيم الحلي ) ، قال له الزعيم شكرا لهذه المشاعر الوطنية ماذا تريد أيضا ؟، قال نريد أن نأخذ صورة معك ، وصورا نفسيهما مع الزعيم الشهيد قاسم ، قال الشاعر ( منير ) أريد صورة منك موقعة من قبلك ، أمر بجلب صورة ووقعها له الزعيم ، ضحك الشاعر بوجه الزعيم وقال أريد منك هذا القلم أيضا ، قال الزعيم أنك تستحقه ، وأمر سائقه الخاص بإيصالهم لكراج العلاوي في الصالحية وأعطى لكل واحد منهم خمسة دنانير ، ويقول حميد بعد أسبوع أعطاني المصور صورتين تجمع الزعيم الشهيد عبد الكريم قاسم مع الشاعر الشعبي ( منير إبراهيم الحلي ) وصديقه ، سألت حميد أين أجد الشاعر ( منير ) ؟ ، قال توفى منذ عشر سنوات وكان متزوجا من امرأة مغربية أخذت أولادها الى المغرب بعد وفاة زوجها وتركوا العراق .
موقف بعد العسكرية :
   يوم 11/7/ 1960 م تسرح الجندي ( حميد ) من الجيش بعد أن أكمل سنة وتسعة أشهر ، وتعلم صنعة تصليح الساعات اليدوية وفتح محلا للتصليح .
   يقول حميد عام 2001 م وقف على باب دكاني رجل يرتدي الملابس العربية ( عقال ، وكوفية ، وعباءة رجالية ) ومعه زوجته يتطلعان للمعروض من الساعات ، وكانت ساعة قديمة ماركة ( بتينا ) بوسطها صورة للزعيم الشهيد عبد الكريم قاسم رحمه الله معروضة مع الساعات ، دخل الرجل لمحلي وسلم وقال ما هو سعر هذه الساعة التي تحمل صورة الزعيم ؟ ، قال له حميد أنها للعرض فقط وليس للبيع ، قال أرجوك أني أريد شرائها ، قلت له أنا معتز بها جدا لذلك لا أرغب ببيعها رغم ما سببته لي الكثير من التساؤلات من جهات كثيرة ، قال الرجل أرجوك أنا من مدينة ( الصويرة ) وكان الزعيم جارنا قديما ، يقول حميد أكراما لهذا الرجل لأبيعها له وعندي غيرها في البيت ،قال حميد للرجل أنها ساعة ثمينة وماركة قديمة وسعرها ثلاثون ألف دينار ، أطرق الرجل وبعد لحظات أخرج لي عشرة آلالاف دينار  وقال هذا عربون الساعة وسأجلب لك المبلغ غدا صباحا بأذن الله ، قال حميد خذ الساعة معك ، فرح الرجل وأخذ الساعة الكنز - كما يعتقد - منتصرا بنشوة الفوز بها  ، صباح اليوم التالي وجدت الرجل جالسا على باب دكاني ينتظر وصولي ، قلت له لماذا تبكر هكذا ؟ ، قال أتيتك لأمرين الأول أن لا أجعلك قلقا بانتظار المبلغ المتبقي ، وثانيا قلت لك أنا جار للزعيم قديما  وهذه الجورة تلزمني بالوفاء بما عاهدتك عليه ، قال حميد للرجل أنك بين خيارين أولهما أن تبقى معي لنأكل طعام الغداء ضيفا عزيزا عليّ ،  أو تأخذ المبلغ المتبقي هدية مني لك ، قال الرجل خياران أحدهما أصعب من الآخر أما البقاء فلا يمكنني ذلك لخشيتي أن تقلق عليّ عائلتي وأعذرني من قبول المبلغ المتبقي وهو حلالك ، أعطى حميد المتبقي من المبلغ لذلك الرجل أكراما للزعيم وهو في قبره المجهول .
   حميد المطيري الآن تاجر يستورد ويبيع السلع المنزلية ، ويتمتع بصحة جيدة ، ويبحث عن كل واردة تقال عن قائده الراحل الزعيم الخالد الشهيد عبد الكريم قاسم رحمه الله .
     
   

الثلاثاء، 8 يوليو 2014

همنجواي في الحلة (6) كتاب في حلقات-كتابة احمد الحلي

همنجواي في الحلة (6)
كتاب في حلقات

رفشان !! *
"بعد أن اضطررت إلى الهرب من العاصمة بغداد بعد أحداث عام 1963 ، استقر رأيي ان استوطن مدينة الحلة ، وهو نوع من التواري عن الأنظار ، بعد ان راجت في بغداد بضاعة كيل الاتهامات بين الناس  آنذاك ، وعقب استقراري في مدينة الحلة الوادعة والمتفتحة فأني شرعت باستئناف ماكنت قد اعتدت عليه من رحلات الصيد ، وفي احد الأيام ذهبت بسيارتي الى قضاء الكفل الذي يتضمن قبر النبي ذي الكفل بالإضافة إلى قبور عدد من أنبياء اليهود منذ عهد نبوخذ نصر وحاخاماتهم ، وعلى ضفة نهر الفرات رميت بسنارتي ، وبعد حوالي الساعة شعرت بآن الخيط يسحبني بقوة غير مألوفة فاعتقدت آن ثمة حوتاً صغيراً عالق بسنارتي ، سحبت الخيط بقوة شديدة ، وذهلت عندما شاهدت (رفشاً) كبيراً عالقاً فيها ، سحبته الى صفة النهر ، ولم استطع السيطرة عليه إلا من خلال جره من أطرافه الخلفية ، وبعد جهد ومشقة استطعت ان أضعه في الخانة الخلفية من سيارتي التي كانت من نوع (موسكو فج ستيشن) ، وفي طريق عودتي ، شاهد الزوار العائدون من النجف هذا المخلوق الغريب الكبير الرابض بسيارتي فتملكهم الفضول لمعرفة ما يكون ، واخذوا يحاذون سيارتي ويسيرون خلفي لكي يمعنوا النظر إليه ، ويبدو ان الرفش قد استمرأ هذا الوضع ، حيث أصبح نجماً فأستعاد ذاته وانتصب على رجليه واخذ يلوّح للزائرين من خلال زجاج السيارة ، واستمر هذا الاستعراض الذي هو اقرب شبهاً بزفة عرس الى حين وصولي الى تقاطع الحلة / نجف في مدينة الحلة ، وأخيراً وصلت إلى داري الكائن في منطقة الماشطة وخلال إنزالي لهذا المخلوق احتشد جمهور كبير من الناس ، كباراً وصغاراً ، رجالاً ونساءً يدفعهم الفضول لرؤية مأثرة ابو رياض الجديدة ..
وأخيراً استطعت إنزاله وسحبته إلى وسط حديقة بيتي وربطته بسلسلة حديدية هناك ، وأوصيت زوجتي بالاعتناء به طيلة فترة دوامي في مصلحة نقل الركاب التي كنت اعمل فيها سائقاً لإحدى حافلاتها ، على أمل أن أقدمه هدية إلى حديقة الزوراء في بغداد في وقت لاحق ، وفي احد الأيام عاد ثملاً إلى البيت فتراءى له الرفش تحت جنح الظلام حصاناً ، فامتطاه ، فإذا به يمشي به ، وامسك بعصا قطرها نصف انج وقربها من فمه فإذا به يقطعها بأسنانه الحادة بأسرع من لمح البصر ، " وما إن شاهدت أم رياض هذا المشهد المروع حتى صاحت بي ؛ " لو الرفش يبقى في البيت لو آني " وقررت المغادرة ، وفي حقيقة الأمر ، فإنها بعد ان رأت قوة أسنانه فإنها خافت على أولادنا من بطشه ، فوافقتها الرأي وهدأت من روعها وقلت لها اطمئني سوف اقتل هذا المخلوق ونتخلص منه ، وبالفعل أحضرت عصا غليظة وضربته على رأسه ، ولكنني سرعان ما ندمت على هذا التصرف الطائش الذي ينم عن جبن ، وقررت ان أعود به إلى النهر ، وهذا ما حصل .
احد الأطفال من منطقة مجاورة ممن شاهد الرفش حكى لأخيه الأصغر سناً ما شاهده ، فاخذ هذا يبكي في الليل مطالباً أمه وأباه بأن يذهبوا به لمشاهدة هذا الكائن الغريب ، " وقد علمت بعد ذهابي الى الدوام ، بأن أم الصبي جلبت ابنها معها في الصباح الباكر ، وأخيراً أوصلوها إلى بيتنا ،  دقت المرأة الباب ، فخرجت زوجتي ، فسألتها ؛ عيني ، هذا بيت ابو رفش ؟! قالت لها زوجتي متبرمة ؛ عيني ، عندنا في البيت رفشان ، رفش ذهب الى دائرته ، والرفش الآخر ذهب إلى النهر فأي منهما تريدين ؟!
ــــــــــــــــــــــــــــ
*الرفش هو ذكر السلحفاة حينما يصبح كبيرا  في السن ، وقد أشيع في الموروث الشعبي العراقي عن قوته وقدرته على إغراق السباحين الماهرين أساطير كثيرة .

تشكيل الباب المفتوح... وحدات اللوحة التشكيلية وخفاياها - جاسم عاصي

   

تشكيل

               الباب المفتوح...
                       وحدات اللوحة التشكيلية وخفاياها





 جاسم عاصي


ينشغل النص ، مهما كان جنسه في مسألة مهمة تُشكّل صيرورته التي تُثير الحوار ؛ ألا وهي ماذا وراء كل هذا ...؟ هذا السؤال يُجيب عليه المنتِج للنص من خلال الحوار الدائر بين النص والمستقِبل له . وهي جدلية لا تقل أهميتها عن جدلية إقامة صُرح النص باعتباره معمار شهِد مراحل عديدة لإنتاجه . ولعل أهمها التأمل في ما هو ظاهر ، وكيفية عكس ماهو باطن . من هذا يكون ... التجريد مثلا ً يشكّل إقصاء لمظاهر المرئيات وخصائصها الجزئية والحسية (1) وهو خير تعبير عن خفايا النفس البشرية ، ذلك لأن المقدس ـ وكما أكد الموسوي ـ أو ـ اللامرئي ـ منذ القدم كان محور بحث شامل ، والذي دفع من حوله( الديانة والفن والأدب ) للتعلق برمز ما ورائي ، مخفي .. وبهذا يكون الجدل القائم بين الظواهر والأفكار ما يؤكد الأولوية المتحكمة بالإنتاج . فالأساطير التي تُسجل الوعي واللاوعي الإنساني في آن واحد .. يجري العمل من خلالهما على إزاحة هذا المفهوم أو الحراك ، من مبدأ الدفاع عن الصيرورة ثقافيا ً. وبهذا يمكن القول أنها ـ أي الأسطورة ـ باعتبارها واحدة من منظومات الفكر الأول ، اشتملت على حقائق يمكن أن تنكشف بوضوح إذا ما عرفنا كيف نفسرها ..(2) وبالتالي كيف نوظفها ، نحو قناع ثقافي الآن ، حيث شكّلت واحدا ً مركزياً لمظان المعرفة آنذاك ، ويتم ترحيل عناصرها على وفق جدلية الوجود واللاوجود ، والملائم أو غير الملائم ثقافيا ً ، فالثقافة ملك الأجيال المتعاقبة ، ويكون تداولها من باب مبدأ الحرية في الاستقبال والبث ، ناهيك عن تداولها من حيث إثبات الوجود وأحقيته . من هذا التأثر ينطلق المنتج ، سواء كان هذا التأثر بالأساطير أو جملة المفاهيم التي تُحدد مدارات تداول المعرفة ، على أساس تحقيق الثنائية في الوجود ( الأعلى وألأسفل ، السماء والأرض ، الروح والجسد الحسي المجسد والمخفي المتواري خلف الرموز والأشكال ) هذه الثنائيات تقود في النهاية إلى مستويين من النظرة ، تحددها نظرة واحدة جدلية هي ؛ المرئي واللامرئي . بمعنى ثمة سطح وآخر قاع . وهنالك مجسّد وآخر مُضمَر . وبهذا يمكن أن نحكم على حيوية النص أو عدمها من خلال غناه هذا . فالتجريد ، هو النظر إلى ما وراء الظواهر ، محاولين تأكيد رموز الظاهر ، على أنها دالات لما هو مخفي . من هذا يكون الضابط لفعل التجريد هو المتن الفكري ، الذي ينظر إلى كل مستويات المعرفة بموازين جدلية فاحصة ، وبالتالي يؤلف بينها ويوظفها بانضباط مبدئي معرفي . فالأسطورة مثلا ً هي متداول تتوفر عليه الأحداث والظواهر من خلال قنوات مجريات الواقعة ، لكن المهم في هذا هو كيفية اقتناصها لتحل كمكوّن معرفي وإنتاجي ، يُسهم في بلورة مفاهيم ذات مساس بالواقعى على شتى حراكاته وبناه .
على هذا الأساس يمكن فحص لوحات الدكتور الفنان ( شوقي الموسوي ) على أنها مجموعة رؤى متداخلة ، رائدها التجريب ، والتجريب للأشكال والبنى واحد من المجالات الحيوية التي يمارس من خلالها العمل على تحقيق الذات الإنسانية . فالفنان يخضع لضغط بيئي يخص النشأة ، ومعرفي يتعلق بكشف أسرار الأشياء والظواهر ، ذلك لأنه ومن خلال رسالتيه ( المرئي واللامرئي في الفن الإسلامي و  جغرافية الجدل في الفكر والفلسفة والفن ) وجدناه  يتحرك ضمن ضوابط فكرية واضحة ، وينحو باتجاه الحفر في ما هو مُضَمر في الموروث عبر اللوحة . فالذي جسده معرفيا ً وثقافيا ً في رسالتيه ومقالاته المنشورة التي تتناول الفن وحراكه من خلال رؤى المفاهيم والمتون الموروثة ، تكون محاولته هذه المرة لتأكيد ما هو متأمَلٌ فيه ، عاكسا ً آلية ذاتية لتوليف العناصر المشكّلة للنص ، مرورا ً بعناصر المعرفة عبر إدراك داخلها ومحركها الذاتي ، فالرموز عنده ما يؤكد هذا . إن لوحة الفنان ( شوقي الموسوي ) يتوجب النظر إليها من خلال قنوات عدة ، لأنها في الأساس تولدت من مثل هذه الدوافع والضواغط الإنتاجية .
البيئة والنشأة /

تشكّل البيئة في رسومات الفنان(شوقي الموسوي) مركزا ً. فهو وان اعتمد المخيّال في صوغ وحدات لوحته وبناها الشكلية والموضوعية ، إلا أنه يركن إلى الدلالة المنبثقة من خزينه المعرفي البيئي.ولعل أبرز ما يظهر على السطح من أشكال دالة على وفق مستويين : الأول /
بيئي بحت . بمعنى متعلق بالمستوى الريفي للمدينة . حيث نجد انعكاس خصائص البيئة على تشكلات لوحته ، تعكسها الألوان دون الدخول إلى التفاصيل . فالفنان يحاول أن يؤسطر اللون بإيجاد منطقة تفاعل بين الألوان المنبثقة أساسا ً من لون الشجر والنخيل والأزهار وحيوات بيئة الريف عموما ً وبين تصوراته لتأثيراتها ودلالاتها ، محاولا ً أن يخلق من اللون الأحمر كدالة على الشهادة كما في المثيولوجيا الإسلامية ، في إعطائه دلالة الأسطورة في كونه دالاً على التخصيب . وبهذا يولف بين متون التاريخ ، معتمداً جذراً مخصبا ً كرمز في شخصية الإله ( دموزي ـ تموز ) في الأساطير السومرية و( الحسين ) في المثيولوجيا الإسلامية .  فالترعرع بين أحضان مدينة مسورة بالريف ، ومتمسكة بخاصية العطاء الاخصابي بين البيئتين المدينية والريفية ، شكّل وحدة تعبيرية من شأنها أن تتعامل مع الألوان على نحو يشي بالنظرة الأسطورية ، أي أنه يتمسك بما يمنحه المخيّال الفني من جواز التعامل مع وحدات البيئة على هذا النحو . إن الفنان يعمد إلى أسطره اللون على وفق تدرجه وإيقاعه .
والثاني /
 مثيولوجي خالص . وهذا واضح من أسلوب التعامل مع الثوابت القدسية للمدينة ( كربلاء ) باعتبارها مدينة مزارات ، ومدينة تستقبل المتغيّر والمتبدل من خلال توافد الزوار ، وبالتالي تمارس في كل المواسم طقوس خاصة ، لا تشهدها المدن الأخرى . والفنان الذي ترعرع بين أحضانها وأثّرت فيه البيئة المحيطة ، بما شكّل محور إنتاجه الفني . لذا غدت هذه الشواهد والرموز تبحث عن حيزها الروحي  والابستمولوجي في اللوحة من خلال شفرات وعلامات مؤكدة على هذا  المنحى . الأمر الذي فعّل سطح اللوحة ، وقادنا على ما أكده الفنان باحثا ً فيه عبر مصطلح ( المرئي واللامرئي ) . ونحن إذ نجد مثل هذا التأثير الواضح في خلق حراك اللوحة .
إن تعامل الفنان مع وحدات البيئتين ، لم ينعكس بآلية أو سكونية تسجيلية ، بقدر ما مازج بين الرؤية الأسطورية ، والرؤية المشيولوجية ـ الدينية ـ ، الأمر الذي دفعه إلى تخليق النمط المتحرك والقابل للتفسير بسبب المعرفي الذي يُخصّب المنهج الفني .. وبما يشعره بأن طاقة الرؤية لايمكن أن تتجاوز فيض القياس ، إلا بالوصول عبر تبديات الألوان والإيقاعات التي تقترب من الموسيقى في شدة تآلفها وانسجامها ، وبما تبعثه من حراك نغمي لحظة النظر والمشاهدة . وهنا لابد من الذكر في أن هذا الحراك الدال على المعادل الفني ، يكون أكثر تأثيراً على الذات التي تستقبل اللوحة بكل تفاصيلها بمعرفة منتجة وفاحصة ومرتبطة أيضاً بمخيّال فني خالص  . فالشكل واللاشكل ، الحلم والواقع ،  يوصلان  إلى ذروة الإحساس بالزمن ...  (3) . وكما أكد الفنان (نوري الراوي) على قدرة التواشج مع الضوء في ميلودية لا تنفك أبداً عن ترديد أنغامها ، عبر صور وتعبيرات تتمرأى بصقيل سكون الماء ...(4) وهنا لابد من التأكيد على ما ذكره الفنان ( الراوي ) من أن الماء بسكونه ، وارتباطه بالتاريخ المثيولوجي للمدينة من خلال واقعة الطف والشهادة ، كوّن في لوحات ( شوقي ) إقنيماً يمكن أن نستشف خصائصه وتأثيراته من خلال ضربة الفرشاة ، التي تترك أثرها الطيفي الذي يتواصل بحركته  مع جريان المياه ، وكأنه بذلك يحاول  تحقيق معادلا ً تعويضيا ً عن مشهد العطش ،بإتباع إنارة السطح بانسياب الأزرق وخريره . فالبيئة والنشأة المتمثلة في خزين الذاكرة ، استطاعت أن تُشكّل مهيمنة معرفية . فالفنان يشتغل على اللاوعي الواعي . ذلك لأن التحولات الأبدية التي شهدتها المادة ـ بما فيها البيئة ـ خارج الوعي وداخله ، بحكم قانون لا علاقة له بالحرية أو الضرورة ، وإنما هو قانون متجانس بين الحدود ، كي يأخذ المشهد الجمالي في لحظة وجود وحدة الزمن . . (5)
من هذا كله يمكننا القول أن الفنان استطاع أن يتعامل مع الذاكرة الجمعية والفردية بإمكانية تنحو لعكس ما هو متمثل للواقع والتاريخ والفلسفة . وأرى أن رسوماته لا تنفصل عن أطروحاته في متون بحوثه ودراساته المعنية بالفن ، وبالأخص رسالتي الماجستير والدكتوراه ، حيث اهتمتا في هذا الضرب من المعرفة ، والمعرفة الاستقرائية لواقع تأثير التاريخ على الفن ، بكل تلك الإمكانيات التي يمتلكها التاريخ الأسطوري والمثيولوجي وفن العمارة الإسلامية وتعاشقها مع فن العمارة عند الشعوب الأخرى . وبهذا اكتسب الخاصية المعرفية التي أعانته في صياغة منهجه في الرسم .

التشكيلات والرموز /


لعل ما ذكره ( مارسيا إلياد ) في العود الأبدي ، واحياء ما اختزنه الإنسان في الذاكرة الفردية والجمعية ، شكّل  الحنين الطاغي إلى البدايات ، وذلك بعودة الحيوية إلى الأسطورة من جديد . وهنا نجد أن الفنان وسواه من الفنانين يتعامل مع الموروث من باب التوظيف والإحياء لما هو دال ومؤكد على حيوية كل المُعينات للوحة . فإذا ما درب عليه النص الأدبي من توظيف لذلك لأسباب فنية وموضوعية ، فإن التشكيل يتعامل بحذر مع مثل هذه المتون في حالة التوظيف ، ذلك لأن التعبير باللوحة محدد بجملة آليات ، لعل الخط واللون والظل والضوء تشكّل المساحة التي بإمكان الفنان التحرك في مجالها . غير أن حدود هذه الآليات تنفتح من خلال الموهبة المدعومة بالمعرفة وسعة الرؤية ، بما يجعلها قادرة على توظيف الرموز والأيقونات بكيفيات متعددة ومتباينة . والفنان ( شوقي الموسوي ) يتعامل مع الرمز باعتباره الآلية التي تُجيد المعنى . فما زال المعنى يتخذ له حرية واسعة لكي يتجسد على السطح ، فأن ذلك يكفل حيوية الرمز . إذ من الملاحظ على لوحات الفنان أنها تتعامل مع الرموز باعتبارها سرديات ذات محمولات تتعلق بمجموع المعاني التي تُشكّل المعنى المراد عكسه في اللوحة . لذا نرى ثمة تقنية تشتغل من أجل هذا ، بحيث ينبثق الرمز بحيوية ذاتية ، ليشكّل له موضعاً في اللوحة . ومن الرموز التي يتعامل معها هي الرموز الأسطورية المنبثقة أساساً من رحم المدينة النشأة ومركزها اللون الأحمر رمز الفداء والاستشهاد . غير أن الفنان يأتي على هذا الرمز من منطلق الانفتاح على دلالات أخرى ، تتشاكل مع منطق الحياة وحركة الكون . أي إعطائه بعدا ً كونيا ً من خلال ربطه برمز الخصب ، فالدم هنا رمز قادر على التكيّف في الدلالة ، فهو المخصِّب والمعطِّل لكل عوامل موت الحياة من خلال رمز تجددها ، سيّما ما يعكسه من فعالية الألوان التي هي الأخرى معنية على مستويين : الأول بعلاقتها مع بعض ، وثانيهما تشكيلها لإيقونة ذاتية . وهذا مما يدفع بالحيوية التي تختزنها إلى تجميع الدلالات في دلالة واحدة . وهكذا فعل الفنان مع الخطوط والظل والضوء ، فجعلها أكثر قدرة على إشباع المجالات داخل اللوحة . وذلك بتحويل العتمة إلى فسحة من الضوء الذي يحث على ترسيخ الأمل ضمن الظواهر في الحياة . وفي هذا يعمد الفنان إلى استثمار عناصر الطبيعة لتشكّل رموزاً أخرى مضافة . وهذا يشير إلى جدلية العلاقة الأولى في تشكيل الكون ، وينّم عن طبيعة الصراع الأزلي الذي حفل فيه الوجود ، متمثلا ً في أحداث تناولتها كتب البحث والكتب المقدسة ، على أنها نوع من التاريخ ، غير أنها في خلاصتها تشكّل نوعاً من الرموز التي استقر عليه الوجود . ولعل تشكيل الكون في قصة الخليقة البالية ، وصراع قابيل وهابيل ، والطوفان وغيرها من ( أحداث ـ رموز ) التاريخ البشري الذي غدا عنواناً حيوياً ومجالاً للاستثمار وتحقيق الدلالة بما تضمره هذه الرموز من حيوية ونشاط التعبير عن المعنى العام . فصراع الأضداد مثلا ً قد توفرت عليه لوحة الفنان ، معتبرا ً المقولة التي تؤكد أن الفنان الذي لا يضبط الحركة داخل اللوحة يفقد مكوناتها . بمعنى أن الفنان هنا معني بمرونة ما يطرح ، بحيث يوفر الكيفية التي يتحرك من خلالها الرمز المنبثق من مرونة عناصر الطبيعة . إن إضفاء حيوية عناصر الطبيعة على اللوحة يعني هنا خلق نوع من الوشائج داخلها ، والمحددة بحرية التعبير ، أوما يُطلق عليه بحيوية الجدل المطلق الذي يتحكم ويسيّر الأشياء . خاصة الأزمنة والأمكنة داخل اللوحة ، فالفنان هنا ملزم بإتباع الرمز الذي يُحيله إلى مجموعة انتماءات لأيقونات مستلة من الحاضر والماضي والوقائع التاريخية بصياغات يتحكم فيها المخيّال الفني ، القادر على ضبط الحركة وأسس التوائم بين الرموز التي غدت بمثابة رموز أزلية ، كالألوان ودلالاتها ، والقباب والمنائر والعلّيات بشكل عام ودرجة قدسيتها , وهذا يسحبنا إلى أن نحدس ما تضمره اللوحة من الكيفية التي يتعامل بها الفنان مع رموز المكان مثلا ً ، بحيث يُحولها إلى أماكن فنية خالصة ، مبتعداً عن تفاصيلها الانطباعية ، والاكتفاء بعناصرها المعبّرة كالأبواب والشبابيك ، والأشكال الهندسية كالمثلث والدائرة والمربع والحروف ، والعمل على تكييف دلالاتها على وفق الزمان والمكان لتكون مثار الأسئلة من خلال المنظور المكتَشَف بالملاحظة . وهنا نجد أن الفنان يعمد إلى تحويل اللوحة إلى جدار لمدونة ينوي تسجيل تأملاته عليه . فالحروفية مثلا ً اختلفت في دلالتها المستخدمة عما كان الفنان ( شاكر حسن آل سعيد ) يعني بها  ، واعتبار المدونة ـ الجدار ـ ذات بُعد صوفي  مثيولوجي على وفق العلاقات القائمة بين الرموز ، سواء كانت حروفية أو أشكال أخرى . فالعلاقة هنا ذات حراك سردي يُعين الأشكال على بلورة نوع من الدراما في اللوحة . فالأشكال غير متنافرة ، بل يجمعها إيقاع موسيقي واضح ، يمكن أن نشخصه بالتوافق الهرموني من جهة ، ومن جهة أخرى بحيوية الموسيقى في اللوحة . فالصمت الذي يبدو على اللوحة باعتبارها جدار ، أصبحت ذات صوت عكست العلاقات بين الخطوط والألوان ، وعمل فيه عنصر التكثيف والاختزال والتجريد دورا ً في خلق التوازن داخل مكونات اللوحة . فجداري ( شاكر وشوقي ) يمتلكان حيوية التدوين من خلال إطلاق الأنثيالات والانطباعات بما يشكّل ذاكرة زاخرة بتقادم الزمن .
وهنا لابد من التأكيد على أن الفنان ( الموسوي ) خضع في تشكيل محتويات لوحته ـ جداره ـ على مكون موروث استله من البيئة كما ذكرنا ، في حين نجد ( آل سعيد ) قد شكّل جداره على وفق تأملات صوفية خالصة . ولا نُبعد ( الموسوي ) عن حسه الصوفي هنا ، بل نراه يتعامل مع المكوّن بروحانية خالصة تقترب من روحانيات ( آل سعيد ) . وفي مجال الرموز نجد أن الفنان يولي أهمية لرمز الهلال باعتباره رمزا للقمر ( الإله سين ) ، ودال على الخصب ، يُرفد ذلك باقترانه باللون الأخضر والأحمر الذي هو لون رداء ( النبي يوسف ، سرجون الأكدي ، والإله تموزي ) وهو دال على الخصب حسب ما تقوله الأسطورة .
من هذا نجد أن كل هذه الفعاليات في التعامل مع الرمز ، هي بنى سايكولوجية عند الفنان ، تدفعه إلى البحث عن اللامرئي في المرئي . فالفنان يفترض دائما ً أن هنالك ظاهر ومُضمَر ، مرئي ولا مرئي  منظور وغير منظور . لذا كان بحثه الدائم في الأشكال والظواهر والرموز لها دليل على حيوية هذه النظرة الفلسفية المعتمدة على جدلية الوجود والمجسَدة في ثنائية الحياة والموت . وهو إنما لا يركن إلى الموت كظاهرة فناء بقدر ما يجعلها وينظر إليها على أنها ظاهرة بقاء وديمومة . وهنا لابد من التأكيد على أن الفنان لا يعتمد تبئيراً واحدا ً في اللوحة ، بل نلحظه يعتمد جملة تبئيرات في تشكيل المشهد العام .



الجسد كأيقونة /




يعتمد الفنان في بلورة صورة الجسد من رمز الشهادة حصرا ً ، وهذا التعامل أراه مجسَداً على وفق الخطاطة التالية :
                                                     ــ الحسين
            الشهادة = الرمز + إخصاب ======
                                                      ــ دموزي

من هذا نرى أن الفنان يستحضر الجسد في اللوحة بشكل غير تقليدي ، وإنما بشكله التعبيري ، وعلى وفق ما تتطلبه الضرورة لتجسيد ما تدّخره الذاكرة من مشاهد ، متعاشقة مع المكون الفكري الفلسفي  . فالجسد هنا ، يدخل من باب الاحتمال النصّي الذي يتوجب من خلاله التعبير وحل الإشكال في المشهد . كما وأنه نوع من الذاكرة التي تُعطي رمزها الدال على مركز وجود الأشياء والظواهر وطبيعتها . وهنا قد يكتفي الفنان بأجزاء من الجسد كالكف والقدم واليد والعين ، وبما يُضفي نشاطاً دالاً جديداً على محركات اللوحة .لكنه يترك ظلاله خلف اللوحة أو ضمن كادرها بشكل عام  ، لكن هذا يجسد أيضاً معنى الشهادة أولاً ، ويضفي على المعنى حراكاً آخر معني بكل التشكلات الواقعية وتشوهات الحياة جرّاء الحروب ثانياً، وبما يوحي بندرة الاستقرار السايكولوجي للفرد والجماعة . من هذا يتجسد مظهر الجسد في مشاهد كثيرة على وفق نظرته التي لا تبتعد عن منطق التاريخ ومروياته . ولعل واقعة الطف واحدة من العلامات التي يبني عليها الفنان معمار معانية ، عاكساً كل سوداوية الواقع ، عبر قناع التاريخ هذا ، دون الاعتماد على التفاصيل أو التقليدية في الطرح . فرؤيته لكل هذا الخزين الذي يحييه المشهد الآني ، يعتمد الاختزال والتكثيف في ما يراه الفنان في التاريخ وحركته ، لا رؤيته حسب مكتشفات المروية التاريخية . والذي يُشير إلى ذلك ويعمّـقه ، هي الحركة الموسيقية التي عليها مكونات اللوحة ، بما يُضفي نوعا ً من السردية التي تُحرك الأشياء والمحتويات ، لا أن تضعها في قالب جاهز مؤطر . وهنا يبرز تأثير الوقائع ذات الخاصية القدسية على ذاكرة الفنان ، وبما يخلق بعداً أسطورياً في كل ما يراه ويتعامل معه . فالجسد في اللوحة يتخذ له رمز الإخصاب والديمومة والانبعاث ، وهو ما درجت عليه أساطير وادي الرافدين حصرا ً . إذ نلحظ أن التعامل مع الجسد لا يتم على وفق فضاء محدود وضيّق من الناحية الفكرية ، بقدر ما نجده يُطلق العنان للذاكرة المعرفية ، والذاكرة البيئية وذاكرة المرويات الخاصة والعامة ، أي الذاتية والموضوعية أي تشكيله ثقافياً باعتباره يمثل منظومة فكرية خالصة . فالجسد في هذا المجال متداول معرفي ، يجري التعامل معه كأي مصدر ثقافي آخر كالمكان والزمان ومفردات الكونية ، تضاف إليها الذكورة وخصائصها . ألأمر الذي يقودنا إلى أن نكون متوازنين في التعامل مع الجسد ، سيّما الأنثوي منه . وهذا ما وجدناه متمثلاً في تخطيطات الفنان بحيث شكّل مشهدا ً دالاً على الخصب ، على الرغم من تشظيه ، مبقياً العلامات الدالة على الخصب ماثلة كالأثداء والأفخاذ ، وبقية الرموز الأخرى المعينة في تجسيد دالة الجسد الأنثوي . أما في جانب الجسد الذكوري ، فأنه كثيرا ً ما نجده متشظياً ، متأثرا ً بواقعة الطف . وهي استجابة للمكوّن المحرّك ، وليس للممكن المروي فقط . بمعنى يكون الاختيار العفوي للرموز يتم عبر الأثر والتأثير ، واعتبار سطح اللوحة الفارغ قادر على خلق المحركات وليس مجسدا ً لها فقط . أي لا يلعب السطح عند الفنان استجابة لجوّانيته فحسب ، وإنما يعتمد التخاطر والاستجابة . فهو بمثابة المستقبل والباث في آن واحد . لذا نرى أن العفوية في وضع الرموز ، يستند إلى نوع من التحاور بين الجدار ـ السطح ـ وبين الذات والموضوع . وكلاهما لا يخضع إلاّ إلى العفوية المنطلقة من البُعد المعرفي ، سواء للواقع المعبّر عنه ، أو للمتن التاريخي الذي ما زال يشغل الفنان ويمده بالطاقات التعبيرية . وهنا لابد من الإشارة إلى أن التجريد للأشياء لم يأت هنا على شكل إيماءات في التعبير فحسب ، بل أنها مستويات من التعشيق بين الخطوط والألوان في كل تدرجاتها ، مع ثيمة الصورة التي يُراد تجسيدها في اللوحة . ولعل البُعد المثيولوجي أعان الفنان على أن تكون الأشكال والرموز ذات بنية متحركة ، وحيوية في الدلالة . سيّما ذلك التخاطر الذي يشي بنوع من سعة النظرة ، كتعاشق وتناظر المئذنة مع الصليب ، ثم تعاشق الرموز العديدة كالمثلث والمربع والدائرة والهلال ، لتأخذ دورها في التعبير عن مظان خفية ، لكن اتحادها ووجودها على وفق حركة اللوحة التي كثيرا ً ما ترتبط بالبعد الموسيقي المعبّر عن حركة الزمن . وهو ما عبّر عنه ( الراوي ) في استثارة المتضادات ، في التوفر على الصمت والصوت .(6)  لوضع تشكيلات اللوحة في بُعدها الدرامي في التعبير ، أو بُعدها الملحمي ، لأن مكوناتها تستدعي بؤر التاريخ وحراك الواقع ، ومجموع العلامات الدالة على أبعاد تاريخية واسعة ، على الرغم من اختزال الفنان للسردية التاريخية وتحويلها إلى شفرات دالة يمكن جمعها في تبئير واحد . وفي ذلك تأكيد على ما ذكره الناقد ( عادل كامل ) (7) في كون الفنان لا يتخلى عن المعنى ، إلا بمنحه روح الموسيقى . وهذا يتصل بالطبع بالصمت و الصوت ، وحركة الداخل ، فهو يعمد إلى أن يُحيي تاريخ الأصوات بين جهاز السمع والصوت في فرضية فنية لا تنقطع عن القدرة الذاتية للفنان والطبيعة. إن البناء الدرامي للوحة ، أو ما يصطلح عليه البانوراما ، يتطلب محصلة رؤيوية للتاريخ ، ورؤية متفتحة تستند إلى معرفة ، بما يجعلها قادرة على خلق وشائج ، بين المشاهِد والظواهر ، سواء كانت هذه من عنديات التاريخ أو التأريخ التراجيدي ، أو أنها من رؤية الحاضر في كل إشكالاته .
إن تعامل الفنان مع الجسد بصورته التراجيدية يتشكل عبر مستويين ـ خاصة في تخطيطاته ـ . فهو بين التعبير عن الجسد المقموع ، الذي شكّل في الذاكرة والتاريخ رمزاً للتضحية . وهذا ما تقوم عليه نتاجاته كمؤثر في معظم لوحات الفنان . أو أنه يجسد الايروتيك الجسدي الأنثوي . غير أنه أيضاً يتعامل معه من باب رمز التخصيب . وهو ـ أي الجسد الأنوثوي ـ يعمل على كسر النمط الذي عليه شكل الواقع عبر تجسيد رموز الخصب كالأثداء والأفخاذ والبطن المنتفخة ، وهي رموز تستجيب لبعضها من أجل كسر الجمود وتصعيد الدلالة . أو كما ذكر الناقد ( عادل كامل ) .. التعبير عن حركة الداخل بين الموت والحياة ..(8) . ولعل تعاشق الرموز الأخرى مع الجسد الأنثوي ، دال على استكمال المشهد الذي يستجيب إلى الجوّاني عند الفنان ، وهي وجود الطير كعلامة على براءة الوجود وفطرته ، وحركة الخطوط الدائرية الدالة على حركة الزمن ، وبما يوحي بموسيقى تفيض على بانوراما اللوحة ، كاسرة الجمود المفترض من قبل المشاهِد . إن مجموع المؤثرات في اللوحة تستقبل الأسئلة الضمنية والمتوقعة ، وما ورود الرموز إلا استجابة تُقدم من خلالها العلة والمعلول ، السبب والنتيجة . وبالتالي تفتح آفاقاً واسعة ثرية من رموز المَشاهد والظواهر . وفي هذا نتوقف كثيرا ً ونحن نشاهد لوحات ( الموسوي ) في كونها لا تركن إلى السكون ، بقدر ما تتداخل مع حركة الطبيعة ، والحراك الموسيقي الكوني  ، الذي تلعب فيه الخطوط والألوان دوراً أساسيا ً. وهذا جميعه يُساعد على ترك الانطباع الدال على سعة رؤية الفنان المجسِدة للتفاؤل على الرغم من سوداوية الواقعة في اللوحة . وفي لوحة ضمن تخطيطات الفنان يضع صورة الآلهة بديلا ً متعاشقاً مع صورة الجسد الأيروتيكي . وهذا المعادل أيضا ً يحقق نظرة الفنان إلى الجسد الأنثوي وقدسيته ، باعتباره يجسد رمز الخصب ويعطيه سعة مساهمة في كسر جمود الحياة وسكونيتها  أو انحرافها . فالعقم مرادف للإخصاب . وهنا تكمن محاولة الفنان ؛ في كونه يعبّر عن هذا بالعلامات التي هي من أساسيات الفن  . لذا فالجسد في منظوره فهو رمز للعطاء ، ومخصِّب للحياة . ومن خلال هذا يُعيد دورة ظهور ( دموزي ) في مواسم الخصب والنماء ، متماثلا ً مع ظهور ( الحسين ) في عاشوراء . فالفنان كثيراً ما يستعير من كلا المستويين الأسطوري والديني ، وبهذا لا يحصر تجربته في ممارسة الفن في حيز محدود ، بقدر ما يفتح المعرفة طريقاً للتعبير.





المستويات الأخرى في التعبير /  




من الموضوعات التي اشتغل عليها  الفنان في لوحاته ، إضافة إلى ما ذكرنا ؛ هي ثيمات ذكرناها أيضاً  تتعلق بالرموز الموظَفة في الفن  ، لكن من خصائص اشتغالات الفنان ، أنه يُغيّر من نظرته وممارسته مع هذا الرمز أو ذاك فجدلية النظرة والفحص والتلقي المعرفي ، تواكب مثيلها في ممارسة الفعل الفني التطبيقي ، انطلاقاً ليس من  حساب إزاحة مؤثراته وخصائصه ، بقدر ما تنبع هذه الممارسة من الكيفية التي يتعامل بها مع مكونها  . فهو ينظر إلى الرمز على وفق حركته وحيوية مجاله المعرفي والدلالي . لذا نجده يُغيّر من طبيعة تعاشق الرمز مع المراد التعبير عنه بالفن . وبهذا يحقق الكيفية التي تتم بها العلاقة بين المتضادات ، التي تشكّل عنصر الصراع الذي يراه الفنان من زاوية نظره . هذه المتضادات المؤطرة بمجموعة تشكلات ذات حركة دائمة ، متكررة ومغيّرة لفعل موقعها داخل اللوحة ، بما تنتج دلالة تدفع باتجاه التخلص من هذا التبئير الذي يُحدثه الصراع بين المتضادات التي تعبّر عن حيثيات الوجود المكاني والزماني . هذا الاشتداد يخلق نوعا من الانفراج المتمثل في الأبواب والشبابيك والبؤر الضوئية أو الخضراء . فإذا كان الشباك يمثل فسحة من التطلع ، فإن الباب يفضي لمتغيّر . أي يوصل الخارج بالداخل من باب الانفتاح على الأوسع . فالأبواب عتبات تؤدي إلى داخل أكثر استقراراً وثراء . ومعظم أبواب الفنان تمتلك نوعاً من الهيبة والقدسية ، لأنها تقترن بالضوء الوافر أو الأخضر اليانع والداكن . وكلاهما إشارات للتخصيب . أما في تعامله مع  الرموز الاخرى كالقباب والمنائر والهلال ، فإنه يركن إليها ليحقق من خلالها تأثير العلّيات كما هي في المثيولوجيا والأديان القديمة والمعاصرة ، فالجبل والمذبح ، والزقورات تحولت على وفق النحت في الرمز إلى عليّات أخرى هي المآذن والقباب . وهذا يقودنا بطبيعة الحال إلى تأثيرات الأسطورة على الواقع ومن ثم على  الفنان . هذا التأثير توفر عليه من مجال السعة في الدلالة والتعامل ، وبما يتوافق مع سحر الأسطورة والعودة إليها حسب رؤية ( إلياد )  في العود الأبدي . فالفنان هنا بعودته إلى المتن الأسطوري ، إنما يحايث مطلقها ، ويجاور نظرته للواقع زمانا ً ومكانا ً . وهذا يتجسد بحيوية الذاكرة الفردية التي تعتمد في كل الأحوال على الذاكرة الجمعية ، انطلاقاً من الطقسية ورموزها المجسَدة في اللوحات . ومنها على سبيل المثال ( الرماح ، واقيات الرؤوس عند الفرسان ، الهلال المثبت على الرايات ، الدرع عند الفارس ، السيف ، الخيام ) وغيرها . كل هذه الرموز لها علاقة بمتن الماضي ، يتعامل معها الفنان على أنها دالات أسطورية مؤثرة ، يركن إليها حين تكون جدلية الصراع وشدته موكولة بآلية تعبير من هذا النوع . وكما ذكرنا فأنها من متعلقات الذاكرة وتبدياتها ، حيث تتجسد بأشكال متباينة تتخذ لها موقعا ً على وفق المعنى المراد التعبير عنه . وهي في مجملها تشكيلات موسيقية ، لأنها حافظت على حركتها ودلالتها ، حيث بدت مثلا ً الأجساد ـ في التخطيطات ـ على وفق تدوير وتداخل لولبي يشي بالحركة الموسيقية التي تُنشّط ذهن المشاهِد ، محركة معارفه وانطباعاته من خلال المشاهَدة . وهي رموز لا تبتعد عن رموز الشهادة التي هي رموز الخصب . وفي هذا يتغيّر اللون الأحمر وتتبدل دلالاته حسب موقعه مع بقية الألوان وعلى وفق متغيّر المعنى وحركته داخل سردية اللوحة . من هذا نرى أن الجسد لا يستقر على حال . بمعنى أنه لم يكن بمثابة بورتريت ، بقدر ما يمتلك حيوية مضافة إلى حركة حيوات اللوحة . وتكون الحركة في معظمها دائرية ، تستكمل دورانها من خلال رموزها . في حين يبرز اللون كقوة مؤثرة ، بما يمتلكه من قوة في بعض اللوحات ، على الرغم من حيادية الألوان في لوحات(الموسوي) والتي تترك للمشاهِد هامشا ً للاستنتاج والرؤية من خارج اللوحة نحو داخلها ، بتلق جدلي واضح . فالتعاشق بين الألوان كان محايدا ً أيضا ً فقلما تتوفر اللوحة على لون صارخ يُطغي على الأخريات . وهذا ما أكسب الألوان مرونة وانفتاحاً دلاليا ً .وأرى أن العفوية المعرفية ، واحدة من الأسباب التي قادت الفنان إلى مثل هذه الصياغة .
وبمثل ما فعل في معظم اشتغالا ته  ، فأنه أيضا ً حاول أن يُفرغ ما في ذاكرته على سطح اللوحة ، في ما يخص الرموز المتمثلة في الوجوه .  فالأقنعة هي استعارات لدلالات ، حاول الفنان أن يمنحها بعداً تناصّياً مع وجوه التاريخ وبما ينسجم مع الثيمة المراد التعبير عنها . وإن بدت أقرب إلى تشوهات وجوه ( بيكاسو) في تخطيطاته . فالقناع تعبير مجازي يُراد به الحلول في التعبير عن حالات متباينة . وفي اشتغال ( الموسوي ) نجد أن القناع في تناصّاته ، يتخذ له ناصية مثيولوجية قدسية من خلال توارد الخواطر . وما مجموعة الأقنعة التي حصلت عليها متغيرات دلالية واضحة ، فقد كانت تُحافظ على ذاتيتها ، إلا أن وجه المقدس بدا واضحا ً كتماثل صورة السيد المسيح ورأس الحسين ، في تناصّ تاريخي مبحوث سلفا ً . ليس من باب التشابه في الملامح ، وإنما هو دالة على شدة المخيّال الفني في تلقي المشهد ، وتأثير الروحي على الجسدي ، وتشخيصه على وفق محتوى الذاكرة . وهكذا فعل الفنان في مجموع سرديات الأقنعة التي أراها نصا ً تشكيليا ً واحدة ، يُكمل كل قطعة ـ لوحة ـ ما سبقها ويوصلها بما يلحقها . وهذا فعل درامي جسّدته اللوحة التشكيلية على أبهى صورها .
ما نريد أن نضعه خلاصة إلى تشوفاتنا للوحات الفنان ( شوقي الموسوي ) في كونه من الفنانين الذين يستجيبون إلى الذاكرة المعرفية والكونية ، لتكون مادة ثراء للفن . والموسوي ـ كما رأيناه ـ في لوحاته ،  استجاب لذاكرته التي هي ذاكرة المكان ذو القدسية المتمثل في مدينة ( كربلاء ) بما حفلت به عبر التاريخ القديم والمعاصر من مآثر وصور وحراك ، استحقت أن تكون مادة خصبة للإبداع . وفي هذا فعل الفنانون ومنهم
( جواد سليم ، محمد غني حكمت ، كاظم حيدر ، شاكر حسن آل سعيد ، فتاح الترك ) في كونهم استجابوا للمكون المعرفي الروحي الذي تربّوا عليه . كذلك تجسد ذلك بوضوح في لوحات الفنانين من كل الأجيال ومنهم الفنان الدكتور ( شوقي الموسوي ) .            


    --------------------------------------------------
هوامش /

1 ـ د. شوقي الموسوي / المرئي واللامرئي / رسالة دكتوراه .
2 ـ سيد القمني / الأسطورة والتراث / المركز المصري لبحوث الحضارة ـ القاهرة 1999  ص25ـ26
3 ـ نوري الراوي تصريح له في عام 2003 حول لوحات الفنان د. شوقي الموسوي .
4 ـ نفس المصدر .
5 ـ عادل كامل / جريدة العرب اللندنية العالمية 2001
6 ـ نفس المصدر أعلاه .
7 ـ مصدر سابق .
8 ـ نفس المصدر أعلاه .





قصة قصيرة-بلقيس الدوسكي

قصة قصيرة


الكتاب المفقود


بلقيس الدوسكي
    بحث كثيرا ً عن مسودات الكتاب الأسود الذي ينوي طبعه، والذي سهر الليالي الطوال في تأليفه، ولكن من غير جدوى، حيث لا يتذكر أين وضعها، أو ربما تكون قد سرقت ...؟
ان الكتاب الأسود يتحدث عن مرحلة عاشها مع جدته التي بلغت الثمانين من العمر، وكانت تروي له الحكايات الأسطورية، وجعلت منه طفلا ً خرافيا ً! وبعد رحيل جدته استعاد أساطيرها وراح يدونها حتى بلغت المئات من الصفحات، وأطلق عليها عنوان: الكتاب الأسود.
    كانت أساطير جدته مرعبة، ومن هذه الأساطير واحدة تحكي:
ـ ان ابنة الجيران طلبت منه ان يعيرها كتابا ً عن السحر، فأعارها  الكتاب وطلب منها ان تعيده له خلال يومين. لكنها ماتت في اليوم الثاني، فسار مع المشيعين إلى مثواها الأخير، وظل يبكي عليها ليل نهار لأنه كان يحبها حبا ً عميقا ً.
        وفي إحدى الليالي الحالكة الظلام، وكانت في تلك الليلة عاصفة هوجاء مخيفة أسقطت الكثير من الأشجار وهدمت الكثير من الدور، وكان الشاب يجلس في غرفته المظلمة، وإذا أحس بيد ٍ تمسك به...
    دبّ الرعب في قلبه وقال وهو يرتعش خوفا ً:
ـ من أنت..؟
ـ أنا حبيبتك الراحلة، أنا وردة!
ـ وردة...؟ كيف خرجت من قبرك...؟
ـ جئت أعيد الكتاب لك. فانا لن أخون الأمانة، ثم ان حبي إليك هو الذي أعاد لي الحياة!
ـ لكنني لم أرك ِ.
ـ ستراني في ذات يوم.
    ثم اختفت فجأة واختفى صوتها في العتمة، فخرج كالمجنون وراح يجوب شوارع المدينة المظلمة.
ـ أين أنت ِ يا حبيبتي وردة..؟
   جاء الصوت عبر الظلام:
ـ سأعود إلى قبري!
   وفي اليوم الثاني بدأ في كتابة أساطير جدته المخيفة التي عقدته منذ الطفولة، واسماه: الكتاب الأسود. وعندما فقده، ظل يصرخ بصوت رهيب:
ـ أين مسودات هذا الكتاب، من سرقها، وأين اختفت؟!

همنجواي في الحلة-ح 5-كتابة احمد الحلي

همنجواي في الحلة(5)
كتاب في حلقات
رزق البزازين عــالمَعثرات

ومن بين الصور الأخرى ، أن ذلك الأمر تزامن مع تصاعد وتيرة العداء والضغينة التي صار يحملها المواطنون المسلمون تجاه إخوانهم من اليهود العراقيين المقيمين معهم على ذات الثرى منذ أقدم العصور، والذين تشاركوا معهم في السراء والضراء وفي الأوقات العصيبة كافة ، وكان وجود هذه الشريحة الفاعلة يشكل عصب الحياة الاقتصادية والفكرية آنذاك ، لاسيما وأنه برز منهم عددٌ لا يُستهان به ممن خدم البلاد في المجالات العلمية والفكرية والأدبية والفنية في بدايات إنشاء الدولة العراقية ، وإزاء تصاعد وتيرة الضغوطات الشعبية ضدهم ، لم يجد هؤلاء أمامهم سبيلاً سوى الانكفاء والتقوقع  ثم ليحصل (الفرهود)  بعد ذلك ، وهو عمليات السلب والنهب التي جرت لممتلكاتهم أمام أنظارهم وأنظار الحكومة التي تقاعست عن القيام بواجبها ومسؤوليتها في توفير الحماية لمواطنيها ، فأضطر عددٌ من هؤلاء الى ترك بيوتهم ومغادرة البلاد قبل أن تتطور الأمور الى ما لا يُحمد عقباه ، وقد عرض هؤلاء حاجياتهم ومقتنياتهم النفيسة ليُصار الى بيعها في مزادات علنية أقيمت في منطقة البتاويين القريبة، قبل أن تتخذ السلطات قرارها المتعسف الآخر الذي ينص على أنه لا يُسمَح للعائلة اليهودية  وكذلك الأفراد الذين يقررون المغادرة بأن يحملوا معهم أكثر من 30 دولارا ، ولما كان غالبية اليهود المغادرين هم من كبار تجار الشورجة ، فقد آثر هؤلاء أن يتخلوا عن أموالهم لخدمهم وعمالهم من المسلمين ممن يضعون ثقتهم فيهم ، وبذلك فقد نشأت في بغداد وباقي مدن العراق طائفةٌ جديدة من الأثرياء الذين هطلت عليهم النعمة من حيث لا يحتسبون وتماشيا مع القول المأثور ؛ "ما رأيت نعمة موفورة إلا وبجانبها حقٌ مضيّع" ! والمثل الشعبي الرائج ؛ رزق البزازين عالمعثرات !
 
                                
صالح الفتلاوي
وثمة صورة أخرى مازالت عالقة في ذهنه ، وهي صورة التاجر اليهودي المعروف صالح الفتلاوي الذي كان يمتلك بيتاً فخماً جداً مبنياً وفق الطراز الإنكليزي ، فحين خرج ذات صباح بأناقته المعهودة ، فإنه وجد بيته محاصراً بالمياه من كل جانب ، فظل وافقاً لبرهة من الوقت ، وقد بدت علامات الحيرة على وجهه ، ورآه الناس من المنطقة المجاورة وهو على هذه الحال ، فتهامسوا فيما بينهم ثم نادوا عليه بأنهم سيرسلون له زورقاً يقلّه الى مكان آمن يستطيع الذهاب منه الى متجره في الشورجة ، وبالفعل أرسلوا زورقاً يقوده أحد الأشخاص ، وما أن صعد صالح فيه وصار في وسط المياه حتى أخذ سائقه يهزه بعنف يميناً وشمالاً حتى انقلب بهما ،  فتعالى الضحك والصفير من لدن الناس الذين تآمروا على هذا المقلب القبيح وهم يرون  كل أناقة وهندام  صالح الفتلاوي وهي تُمرّغ هكذا  .
ولم ينقض أكثرُ من شهر حتى حزم صالح الفتلاوي أمره وقرر الرحيل هو وعائلته ، ولم تسمح له السلطات أن يصطحب معه سوى مبلغ ضئيل من المال وبعض الملابس ، فاستولت أمانة العاصمة على بيته ومحتوياته ليتم تحويله الى مدرسة ابتدائية مختلطة باسم (مدرسة الحرية) ، وكانت أول مدرسة مختلطة يتم افتتاحها في منطقة الكرادة ، كما أنها المدرسة الأولى في العراق آنذاك التي تسمى بهذا الاسم الذي ظل هاجساً مستمراً للممسكين بزمام السلطة بعد ذلك ، ثم ليتم تجييره على نطاق واسع لخدمة أهداف وأغراض قراصنة السياسة والشعارات الطنانة التي لم تحصد منها البلاد ولا العباد  سوى المزيد من الخيبات والمرارة .





قيم الركاع من ديرة عفج-الشاعر ملا عبود الكرخي

رحم الله الشاعر الشعبي عبود الكرخي..قصيدة قالها قبل اكثر من70 سنه كأنه يصف حالنا اليوم..(قيّم الرگاع من ديرة عفج)..
تشوفه هيبة وعنده لحية مسرحة
يشتم بلا خجل وبلا مستحه
من يحس المقعد اشوية اندحج
قيم الركاع من ديرة عفج
برلمان أهل المحابس والمدس
عكب ما جانوا يدورون الفلس
هسه هم يرتشي وهم يختلس
ولو نقص من راتبه سنت انعقج
قيم الركاع من ديرة عفج
أتشوف واحدهم معكل بالوقار
وبالاصل تاريخه أسود كله عار
بظرف تلث سنين مليونير صار
ايريد علوادم يعبره جلج
قيم الركاع من ديرة عفج
كمت ما اعرف حماها من الرجل
ياهو ال تكظه هو يمثل العدل
وكمنه نستوردالشلغم والفجل
لان كله ضلت ادور ودج
قيم الركاع من ديرة عفج
والله ضيعنه الصدك من الجذب
تشوفه هيبة وحجية المصفط عذب
ياخذك ويردك بشرق وغرب
وبسجاجينه يدجك حيل دج
قيم الركاع من ديرة عفج
حيل دوخني الحجي الي ماله ربط
وصار عندي سكر وحصبه وضغط
نفترش عاكول ونتغطه ابحسج
قيم الركاع من ديرة عفج
كمت ما اميز الذيب من الحمل
امنين ما ألتفت كلبي يشتعل
انه ما شايف شعب يتبع خبل
شاب راسي وتيهت كل السجج
قيم الركاع من ديرة عفج
ياحكومتنا الرشيدة ام الوقار
الفساد المالي عنوان الج صار
ندري جابوكم بدبابه وقطار
ليش ظليتوا سمج ياكل سمج
قيم الركاع من ديرة عفج
لازم انميز الزين من الزلم
وننتخب كلمن شهم صاحب علم
ونرفض الي يجي يوميه بفلم
من يشوف المنصب اشويه اندرج
قيم الركاع من ديرة عفج
LikeLike ·  · 

راهن الثقافة العربية بعيداً عن نقد الواقع ومواجهة أزماته-وليد خالد أحمد حسن

راهن الثقافة العربية
بعيداً عن نقد الواقع ومواجهة أزماته

وليد خالد أحمد حسن

تتضح أبعاد الأزمة الفكرية الراهنة في الوطن العربي ، عند اتهام الثقافة العربية بالبعد عن الواقع فيما تكتب أو تعالج . وقد تبدو في بعض طروحاتها نموذجاً حياً للفكر الغربي . إنها وجهة نظر مبنية على قناعة معينة لكنها بالتأكيد ليست تعبيراً عن فكر عربي لكونها تفترض استعارة فكر أخر يبنى على مقاييسه نقد الواقع العربي ومحاولة تغيير هذا الواقع في ضوء المقاييس الناقدة والمستعارة نفسها . وهذا ما يجعل من مشكلة الثقافة العربية تتجسد في لجوئها إلى الفكر الغربي في تعويض نقص عدم تمكنها من لغة الفكر العربي لا بمعنى عدم معرفة قراءته وإنما بمعنى التعمق اللغوي في مدلول ألفاظها ومعانيها . وهو أمر بقدر ما يبهم القصد يساعد على انحراف معناه ويتجه به إلى غير المراد فيأتي الفكر ضعيفاً وهزيلاً وعاجزاً عن التأثير وفاقداً للصفة العلمية التي تميز الفكر عن الأدب . وهذا مبني على قناعة مبدئية بعلمية الفكر الغربي ولغته ، وهي علمية زائفة لكنها قادرة على التأثير باستعمالها لألفاظ مباشرة تصيب المرمى عبر خط مستقيم ، فيستسهلها القارئ العربي ويقتنع بها ويحاول في ضوئها صيانة تصوراته الإصلاحية والسياسية ، مكتفياً بلقب مثقف ، وعاملاً على تعميم ثقافته تلك في بيئته ومحيطه ووطنه ، حيث يظهر بثقافته متميزاً عن الآخرين ممن يلفهم جهل التقاليد والأفكار الموروثة ، طارحاً بذلك ميزاناً سياسياً بين الرجعية والتقدمية ، وميزاناً اجتماعياً بين الجهل والعلم . وهو طرح خاطئ دون شك .
من هنا دار التساؤل الآتي :- هل لنا ثقافة أصيلة متميزة ذات سمات خاصة ، أم ثقافة مستعارة مهلهلة ؟
الإجابة عن هذا السؤال ، تأتي من خلال التعرض للهوية الثقافية التي تمثل بلاشك مركز الدائرة بالنسبة للهوية العربية أو الشخصية العربية إذا أردنا لها أن تكون في حاضرنا ومستقبلنا كما كانت لنا في ماضينا .
في اعتقادي ، أن هناك قضية ، هي جوهر تلك القضية العامة ، ألا وهي موقفنا من النتاج الفكري للحضارة الغربية المعاصرة ، وهي قضية كثر الحديث حولها حتى بلغنا فيها درجة الملل ، وذلك الملل في اعتقادي يرجع إلى إننا لخصناها في إطار قضية قتلت بحثاً دون جدوى ، وهي الأصالة والمعاصرة ، حيث تتابعت أحاديث المتحدثين وكتابة المتخصصين حول المواقف الثلاثة المحتملة . فإما أن يقفوا موقف المتقوقع داخل ذاته الرافضة للتراث الغربي القديم منه والحديث ، وإما أن يقف موقف المنبهر بالثقافة الغربية ومنجزاتها ، فيطالبوا بأن نكون غربيين منهجاً وموضوعاً . وإما الموقف الثالث والذي يمثله المعتدلون من المفكرين ، فهو محاولة المزج بين الموقفين السابقين ، حيث يرون ضرورة أن نكون معاصرين في تصوراتنا ومنهجنا ، وأصلاء في إحياء ما هو صالح من تراثنا للحفاظ على هويتنا الحضارية .
ولكني أرى أن للقضية وجهاً آخر ، يبدو إذا ما نظرنا إليها من زاوية نظرية المعرفة ، حيث أننا نميز فيها بين عارف ومعروف ، بين ذات هي التي تعرف ، وموضوع هو الذي نعرفه ، سواء كانت أداة المعرفة هي الحواس أو العقل أو الحدس أو بها جميعاً . وإذا ما طبقنا ذلك على معرفتنا بجوانب الحضارة الغربية المعاصرة لكان من الضروري أن نميز بين ذاتية العارف وموضوعية المعروف أو بين ذاتية الشارح وموضوعية المشروح . فما أنتجه التراث الغربي الحديث والمعاصر يمثل بالنسبة لنا باستمرار مادة موضوع المعرفة . وقد درجنا على أن ننقل هذا الموضوع بكافة مضامينه وأشكاله ونتوحد معه خاصة في العلوم الإنسانية .
وإذا كان هناك من يعي خطورة هذه المسألة ويحاول البدء في دراسات من واقعنا الاجتماعي أو الاقتصادي أو التاريخي ، فإنهم قلة لم يتوافر لهم المناخ المناسب للعمل كفريق مؤثر في مجال دراساتهم . وخطورة هذا التيار العام السائد الذي يتوحد فيه الدارسون مع الدراسات الغربية ، ويتخذونها كأنموذج ينبغي أن تبنى عليه دراساتهم التي تبدو مما في هذا الاتجاه من عدم التمييز بين موضوعية المعروف وذاتية العارف. فإن كان علينا أن نلم إلماماً واسعاً بالدراسات الغربية في مختلف مجالات العلوم الإنسانية ، فلايجب أن يمثل هذا الإلمام عائقاً أمام معرفتنا واكتشافنا لذاتنا ، والتركيز على إفراز نظريات ومدارس خاصة بنا ندرس من خلالها مجتمعنا واقتصادنا وتاريخنا .
في تصوري ، أننا لن نصل إلى هذه الدرجة الناضجة من العلم إلا بعد إدراك تلك الحقيقة المهمة المتمثلة في ما قدمه التراث الغربي من نظريات ، هي في عمومها نظريات غير صالحة للتطبيق علينا ، وعدم صلاحيتها نابع من أن لكل مجتمع ظروفه الخاصة وسيكولوجيته الخاصة وفكره الخاص ، بالإضافة إلى أن لكل مجتمع عاداته وتقاليده وقيمة الخاصة .
إن ثمة فارقاً هاماً بين أن ندرس تلك النظريات الغربية لنتمثلها ونهضمها ونفيد منها على المستوى النظري ، وبين أن ندركها ونفسر أنفسنا من خلالها ، أي أن نتخذها قوالب نضع أنفسنا داخلها . وربما يكون من المفيد هنا ، أن نعود إلى مثل حضاري نتفهم القضية من خلاله ، وأوضح مثل لدينا هو حضارتنا الإسلامية في العصر الوسيط . لقد كان إمام العلماء والفلاسفة المسلمين تراث غربي زاخر ، هو التراث اليوناني ، ولاشك أنهم قد شغلتهم القضية التي تشغلنا الآن . أينقلون عن اليونانيين إبداعاتهم أم يتقوقعون داخل ذاتهم ؟
وكان الحل لديهم ايجابياً وفعالاً ، فنقلوا معظم الإبداعات اليونانية في مجال العلوم المختلفة ولكن ، هل نقلوها قيداً إمام إبداعاتهم هم ؟
عند النظر فيما أنتجوه ، يؤكد أنهم أدركوا هذا التمييز بين موضوعية المشروح وذاتية الشارح . وإذا ما أخذنا مجال الفلسفة كمثال ، فسنجد أن الفلاسفة الإسلاميين قد شرحوا أرسطو . لكن هل كانت شروحهم لأرسطو مجرد شروح لفيلسوف يوناني انبهروا بفلسفته وبمنطقه ، كما انبهر به جميع مفكري العصر الوسيط ؟
إن الناظر لتلك الشروح يكتشف بوضوح ذاتية الشارح . فهم لم يقبلوا من أرسطو إلا ما وجدوا انه يتفق مع نظريتهم إلى الأشياء ، وما رأوا انه يتفق مع ما أتى به دينهم الحنيف .
والسؤال الآن :- أين نحن من نقل التراث الغربي الحديث المعاصر ؟  
إننا لم نتجاوز بعد مرحلة النقل والتبعية لما ننقل ، لأننا إذا نقلنا وشرحنا فلانجد صدى واضحاً للذاتية في ذلك النقل والشرح ، بل إننا ننقل تلك النظريات الغربية ونطبقها على واقعنا الخاص دون فحص ودون تدقيق ، فكانت النتيجة الحتمية أن فقدنا هويتنا أمام زحف تلك النظريات الغربية وتسلسلها لتعشعش داخل – أدمغتنا أولاً وواقعنا ثانياً  ، ومن ثم أصبحنا تابعين للغرب شكلاً وموضوعاً .
إذن ، ماهي الأسباب الكامنة وراء عجز ثقافتنا عن مواجهة أزماتها وأزمات مجتمعاتها ؟ ما هي الإجابات التي سنحصل عليها في حال طرحنا السؤال السابق له ، لكن بصيغة أخرى :- هل تمر الثقافة العربية في أزمة الآن ؟
كلنا يعرف أن هذا السؤال مطروح منذ زمن على المثقف العربي . ولو عدنا طرحه الآن طمعاً في الحصول على إجابة عليه ، لعدنا بسهولة ويسر إلى اجترار تلك الإجابات القديمة ، ولوجدنا أن الهيمنة السلطوية والقمع المخابراتي والتخلف الذي ورثنا إياه الاستعمار ، والخلل البنيوي للعقلية العربية ، وكون أزمة الثقافة جزءاً من أزمة عامة تعيشها المجتمعات العربية ، لوجدنا أن تلك الأسباب تقف وراء وجود هذه الأزمة .
الواقع ، أن البحث عن الأسباب الكامنة خلف الأزمة الثقافية التي يعاني منها الواقع العربي المعاصر، سيقودنا إلى التنقيب في طبقات الوعي الثقافي الدفينة للتعرف على المنابع التي ترتوي منها أكثر مشكلات واقعنا الثقافي إلحاحاً وأشدها استعصاء على العلاج ، بدءاً من إشكاليات التناقض التاريخي الحاد بين المثقف والمؤسسة السائدة ، سواء كانت مؤسسة السلطة أو غيرها من المؤسسات الاجتماعية الراسخة ، حتى مشاكل حرية التعبير وعزلة الكاتب عن جماهير الشعب العريضة وإخفاق الحركة العقلية في تحويل إنجازاتها إلى مؤسسة تبني الأجيال اللاحقة فيها على إنجازات الأجيال السابقة ، ولاتحتاج إلى إعادة خوض معاركها من جديد وفي ظروف أسوأ عادة .
إننا لو نظرنا إلى التشخيص الذي وضعه المثقفون العرب للحالة المرضية التي تعصف بالجسد الثقافي العربي ، لوجدناه صحيحاً . فالحرية شرط من شروط تطور المجتمعات البشرية وخاصة جوانبها الثقافية . والوعي شرط آخر ، وحل المعضلات الحضارية التي يعيشها شعب أو أمة ما شرط ثالث ، وبنية العقل على أسس علمية شرط رابع من شروط تطور المجتمعات البشرية وامتلاكها لأدوات إنتاجها والأدوات الثقافية منها .
إذن ، إذا كانت هناك أزمة في ثقافتنا ، ما هي ملامح هذه الأزمة ؟ هل هناك علاقة بين أزمة الثقافة وبين الأزمات الأخرى التي يعاني منها المجتمع العربي من أزمة الحريات .. أزمة عدم وضوح الرؤية .. وغياب مايسمى بالمشروع الحضاري ؟ أو عن كيفية الخروج من هذه الأزمات ؟ والعقبات التي تقف إمام تحقيق أهداف السياسة الثقافية ؟ عموماً ، نقول ومن وجهة نظرنا الخاصة :- بأن أزمتنا الثقافية ناجمة عن:-
1- الاختلاف في تفسير إبعاد الأهداف وفلسفتها والتي تتطلب منا عقلاً مفتوحاً ونوايا حسنة تتلمس الايجابيات وتتفادى السلبيات . وقد لعبت الكثير من العوامل الداخلية والخارجية والتي لايستبعد بالنسبة لبعضها على الأقل سوء النية ، دوراً كبيراً في تعظيم التعارف بين الثنائيات ، مثل القومية والقطرية ، الاصالة والمعاصرة ، النقل والإبداع ... هي أكثر الثنائيات فاعلية وحساسية .
2- تصنيف المثقفين حسب انتماءاتهم واستبعاد الكثير منهم وإقصاؤهم بعيداً عن مراكز السلطة واتخاذ القرارات ، بل وحرمانهم من إشكال النشاط والإنتاج بناء على هذا التصنيف ، ومن ثم حرمان المجتمع من عطائهم وإبداعهم وقدرتهم المكثفة لدفع عجلة تقدم أوطانهم .
3- التغريب والتخلف ، وقد جمعتهما لارتباطهما العضوي . فنحن لانفزع إلا بإحساسنا بالتخلف . ولايبدو توازن نفسي إلا بالقناعة عند عقلائنا تتمثل في أن لدينا من حكمة لاتقل أهمية عما لدينا من تقاليد ، وان مقاييس التقدم والتخلف لاتعتمد فقط عليهما . فنحن نمثل حضارة قديمة نعرف أنها مريضة في بعض مكوناتها ونريد أن تتشفى . ولا شك ، أن للتوحيد الأثر البالغ على بناء الإنسان وتكوينه الثقافي لمواجهة تحديات مصيرية مشروعة نابعة من ظروفنا ، ودون دعوة إلى الانفصال عن ثقافة العصر . لذلك ، نرجو أن تأخذ الثقافة العربية فرصتها الكاملة للمشاركة في بناء أجيال جديدة حتى يحدث التوازن المطلوب .
4- الربط المتخلف الناجم عن تعرض بدون فهم لمهاجمة بعض النظريات العلمية ، وإلقاء الشك على جدوى التقدم العلمي أو التخوف من أثاره المختلفة ، وفي المرحلة الحالية يستهدف التقدم العلمي والتكنولوجي بشكل أو بأخر إنسانية الإنسان وبالتالي ثقافته .
5- الانبهار الساذج بالغرب ، فيجب أن نفهم جيداً انه لايوجد في الشرق والغرب إلا ماهو ممكن ، ولايوجد هناك المستحيل ، مع ملاحظة التبسيط الذي قد يؤدي إلى الفهم الخاطئ .
6- أزمة لغة ، أي أزمة في أداة التفكير والتعبير والمدخل الأول والأكبر للنهضة الثقافية في الأقطار العربية هي النهوض باللغة .
7- أزمة التعليم بمختلف مراحله الدراسية الذي أصبح تقليدياً لاينمي روح الابتكار والتجديد وبالتالي لاينمي طلب الثقافة .
8- اتساع الفجوة بين الفكر والسلوك ، القول والفعل ، سواء على مستوى الأجهزة أو الأفراد .
9- زيادة عدد الأميين في اغلب أقطار الوطن العربي .
10- الهيمنة السلطوية بكل مؤسساتها ، والقمع المخابراتي ، وفقدان الحرية ...
ولكن ، إذا ماتتوفر عكس هذه النقاط التي ذكرتها آنفاً ، ألا تنتج المجتمعات ثقافتها المتطورة القادرة على مقاومة أسباب انعدام هذه النقاط ؟
أرى ، أن هذا الأمر ممكن ، بل أرى انه رد الفعل الطبيعي ضمن قوانين إدارة الصراع بين نقيضين . ومن التجارب التاريخية المعاصرة ، نرى القمع السلطوي لم يقدر من منع ظهور وسيطرة ثقافة المقاومة في روسيا القيصيرية – ديستويفسكي ، تشيخوف ، تورجنيف – وفي اسبانيا الفرانكوية – لوركا – وفي تركيا – ناظم حكمت ، عزيز نيسين ، كمال يشار – ونرى أن التخلف الحضاري في أمريكا اللاتينية لم يمنع ظهور كتاب من أمثال – ماركيز وامادو .. – ونرى أيضاً أن المجتمعات الأوربية الغربية التي تعيش أزماتها العنيفة والخاصة بها ولدت ثقافتها المتطورة . ونجد أن هناك بلداناً لا تختلف بنيتها العقلية عن بنية العقل العربي ، أنتجت ثقافتها المؤثرة واستطاعت تلك الشعوب والأمم أن تحل مشكلتها الثقافية وتتحدى أسباب عدم توفر شروط بيئة نمو المنتج الثقافي .
وفي الاستشهادات السابقة ، نستنتج أن انعدام توفر الشروط البيئية الصحية لخلق ثقافة إنسانية متطورة يدفع باتجاه خلق هذه الثقافة كرد فعل طبيعي واع على أسباب عدم توفر تلك الشروط . فجاء رد الروائيين الروس على قمع القياصرة وسلطتهم ، وجاء رد الكتاب الأسبان والأتراك على القمع الذي ساد بلادهم ، وجاء رد كتاب أمريكا اللاتينية التقدميين على التخلف الذي يسيطر على مجتمعات بلدانهم ، وجاء رد الكتاب الأوربيين التقدميين أيضاً عنيفاً في مواجهة الأزمات الحضارية التي تعيشها مجتمعاتهم .
والأسماء التي ذكرناها لم يتوقف تأثيرها في زمان إنتاجها ومكان كتابتها ، بل أنها اقتحمت قلاع الثقافات الأخرى وتفاعلت معها وأثرت فيها تأثيراً واضحاً . ومن ضمن هذه الثقافات الثقافة العربية .
إن التفاعل الذي خلفته النتاجات الأدبية التي استشهدنا بأسماء كاتبيها ، والذي وصل إلى درجة التأثير الايجابي في الثقافات الأخرى ، لهو خير دليل على قيمتها أولاً وحلها للمعضلات التي ولدت في كنفها.
وبعد ، أليس من حقنا أن نسأل عن الأسباب الكامنة وراء جعل الثقافة العربية استثناء في هذا المجال، فلماذا لاتزال ثقافتنا عاجزة عن مواجهة أزماتها وأزمات مجتمعاتها ؟
إن هذا السؤال يستحق أن يحمل علامة تعجب خاصة وإننا نتحدث عن أزمة طال عمرها وطال الحديث عنها ، وأشبعت من الحديث والكتابة مادة قد توازي مادة ثقافة كاملة بحد ذاتها ، ولكننا لازلنا نطرح الأسئلة ولازلنا لانبصر يوماً قد نكف به عن السؤال ، ولازلنا نسمع تلك الإجابات التي سمعناها منذ اغتصاب فلسطين ، هذا الحادث الذي وضع ثقافتنا على المحك منذ عام 1948 . نسمع أن انعدام الحريات وانتعاش القمع المخابراتي وازدياد التخلف وسيطرة الغيبيات على عقولنا .. هي السبب ، وكأن الحريات كانت مقدمة للكتاب الذين ذكرنا أسماءهم قدمت لهم على طبق من الحلوى ، وكأن التخلف قضى عليه فرمان سلطاني .
وبعد انقضاء هذا العمر لم نوجه الاتهام لأنفسنا ولو لمرة واحدة ، ولم نبحث عن خلل ما قد يكون موجوداً فينا نحن منتجي هذه الثقافة .
والسؤال الذي سنطرحه الآن هو :- لماذا لم يستطع المثقف العربي أن ينتزع حريته وينتج ؟ ولماذا لم يعيد المثقف العربي بناء عقليته على أسس عملية ؟ ولماذا لم ينتج هذا المثقف مادته النقيضة للتخلف ؟
إن الأزمة التي تعيشها ثقافتنا الآن ، لا أقول أن المثقف هو الذي خلقها وإنما أقول أن المثقف لم يعمل كما يجب ليخرج منها ويتجاوزها . فالمشكلة / الأزمة يقع حلها على عاتق منتج هذه الثقافة .
إن القمع والتخلف يولدان رد فعل طبيعي واع لدى المثقف ، فلماذا لايبادر المثقف بشكل جاد للتصدي لأسباب انعدام توفر شروط البيئة الصحيحة لإنتاج الثقافة ؟ ولماذا لايضع المثقف نفسه داخل دوائر عمله الحقيقية ويعمل بوعي لبناء ثقافته بعيداً عن الخوف والشراك المنصوبة له لكي يقع فيها وكأنه مربوط من يده التي يكتب بها بخيط طرفه الأخر في يد السلطة .
إن كل ما نحتاجه الآن هو إعادة صياغة الأسئلة حول الأزمة وإعادة صياغة الأجوبة أيضاً .


الاثنين، 7 يوليو 2014

همنجواي في الحلة-ح4- كتابة احمد الحلي

قنابل الزينة
ما يزال يتذكر بوضوح ، بأنه بين عامي 1948 و 1949 وتحديداً بين شهري نيسان وأيار من العام 1949 ان المظاهرات الصاخبة كانت تجوب شوارع بغداد ، وفي منطقة الكرادة الشرقية حيث ولد ونشاً ، وكان عمره آنذاك لا يتجاوز العشرة سنوات حين وقعت عيناه للمرة الأولى على أول تظاهرة تخرج من دار تطبيقات المعلمين وهي تهتف ؛ ( فلسطين عربية فلتسقط الصهيونية)  ، وفي تلك الأجواء الملبدة أعلنت الأحكام العرفية ، وتم قمع المظاهرات ، إلّا ان زمام الأمور كان يفلت في بعض الأحيان فحصل الفرهود لبيوت اليهود الموسرين من قبل بعض الناس ، وبالنظر الى ان السلطات اتخذت آنذاك اجراءً يخولها تفتيش كافة البيوت ، فقد ؛ " طلب مني ابي أن انقل قنبلتين كنا نحتفظ بهما على عادة الكثيرين من أهالي بغداد آنذاك لأغراض الزينة ، وأمرنا انا وابن عمتي الذي كان يكبرني بعامين بأن نتخلص منهما والقاءهما في نهر دجلة القريب ، والذي كانت مناسيب المياه فيه تنذر بفيضان وشيك ، حتى ان الماء ارتفع الى أعلى السدة في منطقة السبع قصور، وعندما شاهدنا أفرادٌ من العوائل اليهودية ، ونحن نسير بهذه الوضعية ، اخذوا يتصايحون بان ابو فايق والذي هو ابي ، يريد تفجير السدة ليُغرق اليهود ، وشعر ابن عمتي بالخوف والهلع ، فطرح قنبلته في الشارع المؤدي الى نهر دجلة قريباً من بيت مدير أمن بغداد المرحوم بهجت العطية ، وولى هارباً ، فالتقطت قنبلته وحملتها على كاهلي ، وبذلك أصبحت احمل قنبلتين على كتفيَّ الصغيرين ... "
وبعد ان يصل الى حافة النهر ، يقوم بإلقائهما ، فلم يحدث أي انفجار مثلما كان يتوجس ، وبعد مرور حوالي نصف ساعة على هذه الواقعة يمتلئ الشارع برجال الشرطة والجيش والأمن ؛ " وجلبوا معهم صياداً كي يرمي شبكته في المكان الذي ألقيت فيه قنابلي ، ثم ألقي القبض عليّ واقتادوني إلى مركز الشرطة القريب بصحبة والدي للتحقيق ، وبعد أن أوضح لهم ابي بأنه هو من كلفني بهذا العمل ، تم الإفراج عني وبقي هو موقوفاً لبضع ساعات ليتم الإفراج عنه بعدها بكفالة ، لا سيّما وأنه استطاع إقناعهم بأن القنبلتين كانتا موجودتين في البيت لأغراض الزينة كما كان يفعل بعض الناس آنذاك ، وكان الذي اشرف على التحقيق معه بهجت العطية بنفسه وكان حق الجيرة يحتم عليه أن يفعل ذلك ، وعلى ما يتذكّر ، فان العطية كانت لديه عائلة تعيش ظروفاً اقتصادية متواضعة على الرغم من المنصب الرفيع الذي يشغله  ، فلم يكن يمتلك بيتاً وانما كان يسكن بالإيجار ، مع الأخذ بنظر الاعتبار انه متزوج من امرأتين أحداهما تسكن معه في الكرادة الشرقية والأخرى أو الأولى فكانت تقطن في عرصات الهندية ، " ومن المفجع حقاً ان أتذكر ، ان أبا غسان تم إعدامه بعد سقوط الملكية على يد محكمة المهداوي التهريجية في العام 1959" ، وكان مقتنعاً ان هذا الحكم انطوى على كثير من الظلم والتعسف حيث عرف عن بهجت العطية بين أهالي بغداد بأنه كان نزيهاً ومخلصاً ووطنياً في عمله ، بالإضافة إلى انه لم يتقدم ضده لتعضيد إدانته سوى شاهد واحد كان بيته مجاوراً لبيت العطية ومن بين المآخذ التي سجلها ضدّه شاهد الزور هذا أن العطية  كانت لديه ثلاجة كهربائية في بيته .
وبعد تنفيذ الإعدام بحقه اضطرت عائلته في الكرادة ان تعيش وضعاً صعباً للغاية ، حيث لم تكن تمتلك ثمن الخبز الذي تقتات به ، وكانوا يعتاشون على ما يقدمه الناس إليهم من صدقات ، كما ان والده الذي يمتلك شركة سيارات الحرية ، كان يقدم لهم العون المادي بين الفينة والأخرى ، أما هو نفسه فقد وجد في نفسه الحكمة الكافية لأن يبكّر في الخروج لصيد السمك يومياً في نهر دجلة ليعطي ما يحصل عليه الى هذه العائلة المنكوبة .
 على الرغم من مرور وقت طويل ، إلا أن ذاكرته تحتشد بالكثير من الصور حول حادث الفيضان آنف الذكر ، من بينها اعتقادٌ ترسّخ لديه ولدى غيره من أبناء جيله  أن الحكومة آنذاك  قد أسهمت بهذا القدر أو ذاك في وقوع الكارثة في أماكن محددة ، ذلك أنها عمدت الى استعمال حيلة قاسية لمواجهة سيل التظاهرات العارمة التي كانت تخرج الى الشوارع منددةً بالاتفاقية التي تم التوقيع عليها في العام 1948 بين العراق وبريطانيا ، وعلى خلفية إعلان قيام الدولة اليهودية في ذات العام ، وقد جرت العادة أن هذه التظاهرات كانت تخرج من دار المعلمين المسماة آنذاك بــ (التطبيقات) ، والواقعة في المنطقة المحصورة بين الجسر المعلق ومنطقة السبع قصور ، كانت بناية المعهد نقطة انطلاق للتظاهرات الصاخبة ، ومحفزاً لباقي المدارس الثانوية بل وحتى الابتدائية لكي يخرج طلبتها للتظاهر ، وسرعان ما ينضم إليهم أيضاً بعض الشبان المتحمسين ، ويبدو واضحاً أن القوى الوطنية المعارضة للسلطة هي من كان يقف وراء تأجيج الموقف بين الشارع والحكومة ، وهو يرى أن الحكومة انتهزت ارتفاع مناسيب المياه في نهر دجلة منذرة بحدوث الفيضان ، لتُحدث (كسرة) أي فتحة في النهر في جانب الكرادة تحت ذريعة التخفيف من ضغط الفيضان ، وقد أدى ذلك الى غرق أغلب مناطق الكرادة ، وأتى على مبنى دار المعلمين الذي إنهار بالكامل ، فاتخذت الحكومة ذلك ذريعة لنقل (الدار) الى منطقة أبو غريب البعيدة عن مركز العاصمة .
وهناك عددٌ من الصور المتفرعة عن هذه الحوادث الجسام ، ومن ضمنها أن أهالي الكرادة الذين نكبوا بالفيضان ، حيث أن أغلبية بيوتهم التي دخلتها المياه قد تهدمت بالكامل ، كانوا يعمدون الى استعمال الزوارق الصغيرة في تنقلاتهم ، وأن أصحاب الدكاكين من عطارين وبقالين وسواهم  قد ملأوا الزوارق ببضاعتهم وأخذوا يتجولون بها بين المنازل ، فأصبحت الكرادة بين ليلة وضحاها أشبه بــ (فينيسيا) ، ولكن بالمقلوب !