بحث هذه المدونة الإلكترونية

إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

السبت، 26 مايو 2012

عرب آيدُل على ماذا يدل ؟؟- كاظم فنجان الحمامي.

عرب آيدُل على ماذا يدل ؟؟ جريدة المستقبل العراقي في 15/5/2012
لم يضف الياباني (نولواكي نوتوهارا) شيئا جديدا لنا عندما تحدث عنا في كتابه (العرب من وجهة نظر يابانية), فقال عنا: (العرب. متدينون جداً, فاسقون جداً), فالازدواجية صفة متأصلة في شريحة كبيرة منا, رصدها قبله الدكتور علي الوردي, وشخصها تشخيصا تحليليا دقيقا, نعم هكذا تماما, يتصرف بعضنا في المساجد وكأنهم من نجوم فلم الرسالة, ويتصرفون في الأسواق وكأنهم من تلاميذ مدرسة المشاغبين, فتراهم يتأرجحون دائما في بندول السلوك العام بين وسطين متناقضين, بين الوسط الذي يتمسك بعناوين التدبير والتوفير والتقشف, وبين الوسط الذي يتباهي بالإسراف والتبذير والبذخ, ففي الوقت الذي لا توجد فيه قاعدة منصفة لصرف الرواتب التقاعدية للذين افنوا زهرة شبابهم بالخدمة في عموم أقطار الوطن العربي من المضيق إلى المضيق, وفي الوقت الذي تلجأ فيه الأنظمة العربية إلى التقتير والترشيد, تلجأ الأنظمة نفسها إلى السخاء والكرم الحاتمي لتغطية نفقات مهرجاناتها ومؤتمراتها الفاشلة, ويلجأ كبار القوم إلى الإسراف على العزائم والولائم, فيذبحون قطعان الأغنام والماعز لتكريم شخص واحد تكفيه بضعة تمرات ورشفة من اللبن الزبادي, حتى اتسعت مساحات المناسف بالطول والعرض فتجاوزت أبعاد الحلبة للملاكمة, وربما تزيد مساحاتها على مساحة المسابح الاولمبية, في الوقت الذي يعيش فيه الناس تحت خط الفقر, ومنهم من حجز له كوخا صغيرا بين قبور الموتى, واضطر بعضهم للعيش في المزابل ومكبات القمامة, وتحولت ظاهر (الحواسم) في العراق, إلى حقيقة مفزعة تستفز مؤسسات الإسكان والتعمير منذ تسع سنوات. . لقد بلغ ما صرفته حكومة قطر حتى ألان من المبالغ الطائلة بالعملة الصعبة على استقطاب اللاعبين الأجانب أضعاف ما تستحقه البطون الخاوية في القرى اليمنية والقرى الموريتانية, ووصل بها الكرم الحاتمي إلى منحهم الجنسية القطرية (تجنيسهم), في الوقت الذي طردت فيه ستة آلاف مواطن قطري من قبيلة الغفران. ألا تدل هذه المواقف المتناقضة على الاستبداد والتعسف, إن لم تكن تدل على سوء التصرف ؟. . ووصل الخبث ببعض العواصم العربية والإسلامية إلى إغراق المنظمات الإرهابية بالأموال والمغريات المادية والمعنوية, لتجنيدهم في تنفيذ سلسلة من التفجيرات والاغتيالات في بلد عربي مجاور لها, في الوقت الذي يتحسر فيه أبناء شعبها على منحة دراسية يفجرون فيها طاقاتهم الإبداعية في العلوم والفنون والآداب. . ألا تدل هذه المواقف المتناقضة على الظلم والإجرام, إن لم تكن تدل على الخسة والنذالة ؟. . يقول المهرج (بول برايمر): ((كان كبار القوم في العراق يتهافتون على توجيه الدعوات لي ولحاشيتي, يدعونني لتناول افاطح (مفطح) لحوم الغزلان, التي ارتوت بماء الهيل المحلى بعسل السدر)), في الوقت الذي كانت فيه العبوات الناسفة تقتلع جسور دجلة من جذورها, وتعصف بأسواق بغداد ومدارسها في عز النهار. . ألا تدل هذه المواقف المتناقضة على الازدواجية والخيانة, إن لم تكن تدل على انعدام الحس الوطني ؟. . والانكى من ذلك كله إن معظم الأقطار العربية تشترك بتخصيص الحصة الأكبر من ميزانيتها لشراء الأسلحة, وتعزيز ترسانتها الحربية, وتترك الحصة الأقل للتعليم والعناية الطبية والرعاية الاجتماعية, في الوقت الذي تنحصر مهمة جيوشها بالمشاركة في الاستعراضات السنوية, التي تقيمها الدولة في المناسبات الوطنية, وأحيانا تستعين بها في التصدي للعصيان المدني, أو لكبح التظاهرات المناوئة لها. ألا يدل ذلك على الازدواجية في التحكم بالموارد المالية والإفراط في تسليح الجيوش التي لم تشترك حتى الآن في حرب فعليه ترفع الراس؟. . أخيرا جاء برنامج (عرب آيدُل) ليرسم صورة مفزعة لما وصل إليه الإسراف والتبذير والبذخ في الديار العربية, ويؤكد بما لا يقبل الشك والتأويل على استعداد بعض المؤسسات لصرف مدخراتنا كلها على البرامج التلفزيونية التافهة, في حين يصعب عليهم التبرع بنصف هذا المبلغ لتطوير قدرات جامعة القاهرة, التي تعد الأكبر والأقدم بين الجامعات العربية, فقد بلغ سعر الفستان الذي ارتدته المطربة أحلام في الحلقة الأخيرة من برنامج (عرب أيدُل) حوالي (300) ألف دولار عدا ونقدا, وتبرع تاجر إماراتي بمبلغ (850) ألف دولار لتغطية نفقات الرسائل التي بعثها للتصويت لصالح المرشحة المغربية (دنيا بطمة), وتبرع الفنان الإماراتي المراهق (عبد الله بالخير) بمبلغ مليون دولار فقط لتغطية نفقات الرسائل التي بعثها للتصويت للمرشحة المصرية (كارمن سليمان), وكسرت معدلات الأصوات في الحلقة الأخيرة من البرنامج الأرقام القياسية, إذ صوت المصريون بنحو (20) مليون صوت, وعشرة ملايين صوت أخرى وردت للبرنامج من المغرب والجزائر وتونس, وعشرة ملايين صوت وردت من الأقطار العربية الأخرى, ولما كانت قيمة الصوت الواحد تساوي دولارا واحدا, فان مجموع ما خسره الشعب المصري يزيد على عشرين مليون دولار في ليلة واحدة, وخسر المغربيون والجزائريون والتونسيون عشرة ملايين دولار في تلك الليلة, في حين تبرع النشامى العرب بعشرة ملايين دولار أخرى استفادت منها شركات الخدمة الهاتفية بالتناصف مع إدارة البرنامج. . ألا يدل ذلك على ضعف عقول شريحة كبيرة من الناس يصل تعدادهم إلى ما يزيد على أربعين مليون عربي ؟؟. . ان هذه الملايين (40 مليون دولار) كفيلة بإصلاح الأوضاع الاجتماعية البائسة في الصومال, وكفيلة بانتشال ثلاثة ملايين مشرد في المدن العربية, وكفيلة بتحسين المنظومة الكهربائية لمدينة غزة وضواحيها. . وهذا هو طريق الخير الذي لم يسلكه عبد الله بلخير حتى الآن. . .

الأربعاء، 23 مايو 2012

الماركة المسجلة- مشعل السديري

الماركة المسجلة
-  إن (أبا حاتم السجستاني) البصري دخل أحد مساجد بغداد يوما، فسأله بعض الحاضرين عن قوله تعالى (قوا أنفسكم) ما يقال للواحد؟ فقال: (ق)، فقيل له: فما تقول عن الاثنين؟ قال: (قيا)، فقيل له: وما تقول في الجمع، قال: (قوا)، ثم قال أبو حاتم لهم: اجمعوا لي الثلاثة فقالوا (ق، قيا، قوا)، فقال لهم أعيدوها، وأخذوا يرددونها عشرات المرات بحماسة منقطعة النظير لكي يحفظوها، ومع ارتفاع أصواتهم العالية، أخذ صداها يتردد ويلجلج في جنبات المسجد (بالقأقأة). وكان في ناصية المسجد رجل أعرابي بريء وساذج قادم لتوه من الصحراء، وبيده بعض الملابس، فقال لأحد أصحابه: احتفظ بهذه الثياب حتى أجيء، ثم مضى إلى صاحب الشرطة وقال: إني ظفرت بقوم من الزنادقة يقرأون القرآن على صياح الديكة. ولا أدري ماذا سوف يقول ذلك الأعرابي الساذج لو أنه كان حاضرا بيننا الآن وسمع مثقفينا ومعلقينا السياسيين في محطاتنا الفضائية اليوم وهم (يقأقئون)، فإلى من يلجأ من رجال الشرطة لكي يخرسهم؟! ولكي أبرئ ضميري، لا بد أن أستثني من تلك (القأقأة) رجال البرلمان، خصوصا أعضاء الأحزاب الدينية ممن يكاد يكون كلامهم همسا، فلولا أنني أرفع مؤشر صوت التلفزيون على الآخر، فلن أسمع منهم كلمة واحدة. ومع احترامي الشديد لهم، إلا أن هناك سؤالا يعتمل في صدري منذ فترة طويلة وأتردد في طرحه عليهم مخافة أن يساء الظن بي، ولكنني الآن مضطر أن أستجمع شجاعتي وأسأل عن حكاية (الزبيبة) التي أجد أنها واضحة على أكثر من (70 في المائة) من جباه النواب في تلك الأحزاب وكأنها (ماركة مسجلة) تخصهم. إنني لست ضد ذلك، بل قد أكون معجبا بها، خصوصا إذا توسطت جبينا أصبح، وكل ما هنالك أنني أسألهم: من أين تأتّى لهم الحصول على ذلك؟! ومساجد مصر وزواياها والحمد لله مفروشة كلها (بالموكيت) أو السجاد أو حتى الحصير، وعهد الحصا والرمل ولى إلى غير رجعة،!!!!! وإذا كان هناك أحد يقول: إنه حصل من كثرة السجود والتسنن، فجوابه هذا يجعلني أكثر حيرة وتساؤلا: إذن كيف لا تظهر هذه (الزبيبة) على جباه النساء الفاضلات المحجبات الراكعات الساجدات؟! (اشمعنى يعني) تظهر على جباه الرجال فقط؟؟؟؟! ..... وعلى كثرة ما شاهدت أنا من جباه النساء المحجبات لم أشاهد ولا (لطعة) سوداء واحدة، مع أنه يفترض أن بشرتهن هي أرق من جباه (الخناشير)، إذن فمن باب أولى أن (تتلطع) جباههن (!!). أحدهم قال لي وأتمنى أنه يكذب، قال: إن الواحد من هؤلاء إذا سجد أخذ (يفحس ويفرك) جبينه عنوة على الأرض أكثر من اهتمامه بالدعاء: سبحان ربي الأعلى، سبحان ربي الأعلى. والآخر قال لي مؤكدا وأتمنى كذلك أنه يكذب عندما قال: إن هناك أناسا متخصصين (بدمغة) تلك (الزبيبات) بواسطة (عطبة) النار لقاء ثمن معين، وهم لا يختلفون عن أصحاب (الوشم) الذين يشمون الشباب على صدورهم وسواعدهم لقاء ثمن معين. صدق الله العظيم الذي قال: «سيماهم في وجوههم من أثر السجود». هذا صحيح ولكن ليس (بالفحس والفرك)، وليس (بالعطبة) كذلك، انتبهوا.. هذه النماذج (المركبة) العجيبة، لا أدري هي تضحك على مين، ولّا مين، ولّا مين؟!

قصص قصيرة جدا-عادل كامل

قصص قصيرة جدا
[ذاكرة الليل] عادت الطيور إلى الشجرة مساء ً، كما في أماسي الصيف. وكنت، أنا الآخر، قد بلغت مكاني، في نهاية النهار، متعبا ً، وجلست حيث اجلس عادة في المكان نفسه، تحت الشجرة. فكرت لبرهة: "لقد تعبت كثيرا ً من نفسي، إذ ْ لا يطاردني إلا ..." وساد الصمت بيني وبين نفسي، والشمس كانت تجرجر بقاياها الملتهبة حيث كل يوم تنتهي بدورتها ومكانها وحيث لا احد له حق فهم مثل تلك القضايا. ودار بخلدي: " منذ سنوات وأنا في الجبل ازرع بعض الورود، وطعامي هو ماء الينابيع، ولا أتنفس إلا هواء الوديان .." وتخيلت أنني مازال في مدينتي، حيث كنت امضي حياتي بصعوبة بالغة فيها حيث لا احد كان يعرف كيف كانت تجري أموره، وكيف كان يشيخ، بهدوء. وتعجبت وأنا ألاحظ، أنني الآن قد بلغت نهاية المطاف، كنهاية سفينة صغيرة بلغت ساحلها الأخير. ولكن كلا، قلت: " مازال هناك زمن آخر للبدء، وللحياة، ولا معنى لهذا الانشغال. ." ابتسمت، بينما كانت الطيور تزقزق في عتمة الهواء الجذل. ولكني قلت: اصمت أيها الرجل. لأنني انشغلت بتأمل النجوم النائية، والمسافات الشاسعة الفاصلة بينها، تأملت ان ما من أمر سهل قط في المدينة، أو في الجبل، يمكن تجاهله، وأنا أصبحت مثل محارب فر من الحرب، ومثل من وجد سلواه في الهزيمة! فحاولت الرقاد، وتجنب إثارة الأسئلة، مثلما يفعل بعض من وجده حياته تنفصل عنه، في غبار المدينة، أو في فضاءات البرية. فليس ثمة جدوى أبدا، من سفر آخر، وليست هناك من جدوى، من تأمل ما تبقى من هذه الرحلة، إلا ان الليل وحده، في مساء تموز الملتهب، في أعالي الجبل، أثار في راسي هذه الانشغالات، وكأن صخرة سيزيف هي العقبة! رفعت جسدي ومشيت نحو الوادي. كانت الشجرة تختفي بهدوء، حتى زالت. صرت وحيدا ً في الوادي تاما ً، والليل وحده كان قد ملأ المكان، من أعالي القمم إلى المنحدرات، أما الليل الآخر، الذي امتد داخل فضاءات راسي، فقد بدأت أراه يتسع، بلا حافات، وأنا أدرك استحالة مغادرته، فاستسلمت للريح، وأنا أراها تمحو آخر ما تبقى من إشعاعات شمس النهار، وذاكرنها. [1970] [ولادة] كل نهار يأتينا، يعقبه نهار آخر، بأتعاب مضافة. ذلك ما دار بخلدي، عند الباب، وأنا أخاطب زوجتي: ـ ستكون ولادة سهلة. وتابعت النقر بأصابعي على خشب الباب. كنت أحدق فيها متذكرا ً خطاها الباردة القديمة. خطى امرأة مشت فوق الماء. امرأة الرمل. قلت لها: حسنا ً، ستكونين، بعد أيام، شجرة مثمرة! وكدت ابتسم ساخرا ً لولا أنها قاطعتني بابتسامة غامضة، ارتسمت فيها مخاوف كائن يشرف على الموت. قالت: ـ تعال هنا، انظر كم صار كبيرا ً هذا الكائن! ـ حتما ً، لقد كبر، مثل متاعبنا، كبر، وسيخرج إلى الدنيا.. ـ اوووف، أيها الرجل. ـ أعرف، كان يجب ان لا يحدث هذا، وكان علي ّ ان انهي حياتي منذ زمن بعيد، لا لشيء، إلا لأن هذا الرجل، كبر كثيرا ً، هرم، وبلغ ذروته، وآن له ان يغادر، يا عزيزتي، وعندما لم يحصل ذلك، وجدنا، أنا وأنت، نصنع كائنا ً سنترك له متاعبنا، لا كي يخلصنا منها، بل كي يراها تكبر معه، مثلما فعل أسلافنا، معنا، ومنذ أول جرثومة حملت ومضات الخلق، وأصبحت لا تعرف ماذا تفعل بها..! [1970] [ بقية حياة] قبل سنوات، كنت اعتدت كتابة رسائل إلى فتاة كنت أحبها، ولم يكن لدي ّ أمر ما أكثر أهمية من ان امسك القلم، واجلس ساعات طويلة، والكتابة إليها في أدق التفاصيل، وفي الأشياء كلها، وفي اللا أشياء أيضا ً،ثم الذهاب بالرسائل إليها. أما كيف حدث وتوقفت عن الكتابة، وأنني أدركت ان حياتي قد ضاعت قطعا ً، وانه يتحتم علي ّ، منذ ذلك الوقت، الكف عن كل شكوى. ولا اعرف تماما ً كيف حدث ذلك، ولا حتى الطريقة التي حدثت فيها، فانا اعتدت كتابة الرسائل، إلا أنني لم أكن على علاقة إلا بكائن آخر: شجرة في الطريق العام؛ شجرة يابسة، جرداء، ومهملة، ولا تلفت نظر احد. وها أنا انقل إليكم نص واحدة من تلك الرسائل، التي كتبتها في هذا المساء: " يا سيدتي، انه الأمر الوحيد الذي طالما تكلمنا عنه، هو أننا نشترك في أمر واحد، يخصني ويخصك أيضا ً، انه هذا الذي يحدث لك ولي، فكلانا أصبح خارج الحياة" وتابعت الكتابة بعد ذلك: " وقد بدت الأمور واضحة لدي ّ، ففي الشيخوخة لم يعد لدينا ما نبحث عنه، أو ما يبهرنا، وما ننجذب إليه. فلم نعد ننشغل بمن يذهب، أو بمن يأتي، لا بالغبار، ولا بالأمطار. أما طفولتنا وأيامنا الذهبية فإنها لم تعد إلا صفحات لا وجود لها، وكأنها، في الأخير، لم تحدث" وذهبت، في ذلك المساء، ووضعت الرسائل في شق من شقوق الشجرة، تحت أوراقها الجافة، كي أعود مسرعا ً إلى غرفتي، وأنا أكثر حماسة في متابعة الكتابة إليها. في الصباح، عندما ذهبت إليها، رأيتها تحترق. كان عندي بضع رسائل أمضيت الليل حتى الفجر في كتابتها، فاقتربت منها، وقلت لها: هذا كل ما استطيع عمله. ولم أغادرها إلا وأنا المح دخان الكلمات السود يتوحد بلهب دخان ابيض، ويتلاشيان مع الريح. [1970] [قصة حب] ركبت العربة الصغيرة وأغلقت الباب. كانت تريد ان اصرخ: " ان تقول لي: لا تذهبي، ولا تذهب هذه القصة ككل القصص" كان السائق ينتظر أيضا ً، ان أقوم بعمل من الأعمال. " كنت انتظرك ان تصرخ. فماذا تبقى لي غير هذا الأثر يعلن عن غيابه " ابتسمت. وابتسم السائق، لأنني تحركت قليلا ً: " تصوّرت انك تناديني، وانك تقترب مني، ثم اكتشفت انك تبتعد عني، وصارت الحركة لا تعني إلا ذلك. قلت في نفسي: هناك حدود لهذا اللهب تبلغ درجة الصفر، كثافة كأنها العدم! فقلت: آنذاك غير مهم ان نكون أحياء، أو أموات، إنما، في الأخير، يبقى يدرك استحالة ان يحافظ على ما هو عليه، وآنذاك ليس لديك ما ترغب ان تجهله، أو تود ان تعرفه" كانت العربة قد تحركت " ولما وصلت إلى المنزل جرجرت جسدي بهدوء إلى غرفتي، ومن النافذة تابعت التفكير، اثر حركة الضوء المناسبة، وقلت لنفسي: هل اصدق انه بلغ ذلك الحد، ذلك الذهول، الصفر! وجاءت أمي. قالت: هل كل هذا من اجل رجل سيموت! فخيل إلي ّ انك تغرق. آووه، وتصوّرت موتك حل في ّ، فانا فقدت حدود جسدي. فخرجت وركبت العربية ذاتها، وبحثت عنك" ـ حسنا ً.. ـ ماذا تفعلين ..؟ ـ لم أكن أفكر ان نفعل شيئا ً، لكنني كنت رايتك تغيب، قبل ان أراك هنا معي، هل كنت حقا ً معي! ابتسمنا. هل ابتسمنا حقا ً..؟ إنما كانت هناك ومضات لا اعرف إن كانت تبتعد،أم أنها كانت تقترب منا، لكنني لم اعد امتلك قدرة ان اعرف من أكون، ومن هو أنت، وماذا يريد كل منا من الآخر! [1970] [قصة واقعية جدا ً] "يا يدي الحبيبة!" ومددتها قليلا ً متفحصا ً الأصابع النحيلة المكسوة بجلد ابيض، ونظرت إليها، كأنني سأفقدها حالا ً، وحاولت الإمساك بها، بنفس اليد. قلت: ـ كلا، أنت كل ما تبقى لدي ّ.. أنت أنا.. أنت غيري! وكأنني أصغي إلى من يبتسم بسخرية باردة، سمعتها، وهي تتقلص وتنبسط. ـ أنت حبيبتي منذ الآن .. وبصمت جرجرت الأصابع ووضعتها في مكان آخر. ـ انك حبيبتي، سأقول ذلك، فرجل مثلي يمتلك مثل هذا الحب، يعلن عنه بهدوء، في بداية حياة جديدة. [1970] [حب] أنا لا امتلك غير بضع أشجار اعتدت ان اسقيها ماء ً وأغذيها من سنوات بعيدة. كنت افعل ذلك لأن الأشجار، والأشجار وحدها جديرة بالحب والوفاء، مما جعلني احلم ان أصير شجرة، في يوم من الأيام. كان عملي كله قد وضّح لي استحالة تحقيق مثل هذا الحلم. فبكيت. إلا أنني منذ ذلك الوقت صرت بستانيا ً يزرع مزيدا ً من الأشجار. وعندما تحتم قطع عدد منها، لمرور طريق سريع، صرت لا افهم كيف سلبوا مني كل ما امتلك. وصرت لا اعرف كيف أتوازن وأنا أودع أحلام حياتي برمتها. فكرت برهة، وأنا أرى بعض الأشجار يتم اقتلاعها بقسوة، ان الأشجار، هي الأخرى، غير جديرة بالحب أيضا ً، فجلست ابكي. قالت واحدة من الأشجار تخاطبني: ـ لا تبك، أنت نفسك حان دورك. ـ ماذا ..؟ ـ تعال معنا. آنذاك أدركت ان من يحب، يفقد الذاكرة، ولا يمتلك إلا ان يغادر بهدوء، وصمت. وهكذا، منذ زمن بعيد، لم اعد أرى شيئا ً. [1970] [الصدى] " لم ْ اكبر كثيرا ً كي أصاب برهاب الموت، بل الأشياء من حولي هي التي شاخت: سريري، جدران البيت، الغرفة، الكتب، هرم الكرسي، والنافذة لم تعد شفافة، ثم، تلك الشجرة، التي أراها أمامي، أصبحت دارا ً للطيور الميتة. ذلك العمر الذي امتد كثيرا ً يتحرك بهدوء الصدى مع ذاته ويمشي بلا مبالاة متتبعا ً ظله. التراب الذي لا اعرف هل استبدلني بنفسي، أم أنا استبدلته بنفسه، التراب الذي صرته أنا. التراب الذي صار عاشقي. التراب الذي سمعناه يغني بجنون. التراب هو الذي بلغ ذروته، ولم يعد يحتمل. ولابد اذا ً، في هذا السياق، بعد هذا كله، ان أهشم الأشكال واذهب بها إلى مقبرتنا الكبيرة، لتأخذ الدورة فاتحة لخاتمتها. اووووف. أيها الصدى، أنت مثل الزمن، لِم َأصبحت تمشي تتعكز بالظلال..وأنا، مثلك، امشي خلف آثار لا أرى مقدماتها، وها أنت تراني، لا أستدير، ولا أتذمر، بل وها أنا لا أتعكز حتى بما تركته لي. ـ تحرك. ـ نعم، ها أنت تراني، أتحرك، تارة ازحف، وتارة أدب، وتارة أهرول، وتارة ... أكوم الأصوات فوق الأصوات، والأصداء أراها تتجمع! ـ انظر، ها هو صداك يمشي خلفك، وهذا كل ما تبقى لديك! ـ أنا لا أرى إلا العدد، وقد بلغ ذروته: الصفر! [1970] نشرت في المجموعة القصصية الأولى [صوت الغابة] عن وزارة الثقافة والإعلام ـ بغداد 1979 . الصفحات33 ـ 39 [غبار] هل ستطلق الرصاصة، في رأسك، أم لا ..؟ إنها ليست لعبة نرد، بل أنت صغتها حتى نهايتها! ودار بخلده سؤال، ومازال إصبعه يلامس الزناد، هل ستكون الخاتمة مناسبة لمقدماتها؟ فجأة لمح ستارة النافذة تتحرك، وتتجه نحوه، مستنشقا ً رائحة زنابق كان سقاها في الصباح، في حديقة المنزل، وثمة نسمات هواء بارد داعبت محياه، فلم يجد أصابعه تنصاع لقراره الأخير: نفذ! فتركها تنبسط أمامه من غير عقاب، بل تركها تمسك برأسه، وقد استحال إلى غبار. 1970 [حركة] طلبوا منه ان يتوقف، فتوقف. وطلبوا منه ان يتحرك، فتحرك. بعد عقود سأل نفسه: أكان باستطاعتي ان لا أتوقف، وفي المرة الثانية: أكان باستطاعتي ان أجد ملاذا ً ما غير ان أتسمر، وأنا لا استطيع إلا ان أتحرك! [....] لا حظ، كلما أسرع في الركض، ان ظله يتقلص، ثم رأى، وهو يتوقف، ان ظله يمتد. آفاق، وراح يجري، كي لا يرى شيئا ً، فتوقف، فوجد جسده قد تلاشى تماما ً. 1970 [نقاط] في النقطة التي كان يقف فيها، نظر الشاب إلى الأمام، شاهد بقعة زرقاء تبتعد عنه. وعندما نظر إلى الخلف، شاهد بقعة مماثلة لكنها حمراء وهي تقترب منه. فسأل نفسه: ما الذي حدث في المشهد الأول...، وما الذي حدث في المشهد الثاني؟ بعد لحظات أدرك ان موقعه لم يعد ثابتا ً، فالنقطة الحمراء ازرقت، والزرقاء أصبحت بيضاء حتى انه لم يعد يستطيع ان يحدد موقعه بينها، فراح يرى الزرقاء تستحيل إلى حمراء، والحمراء تتوارى تاركة لونا ً رماديا ً، فيما كان لا يرى شيئا ً، وهو يكف عن المراقبة! 1970 [متاهات] ما المسافة، بين أن أكون منفيا ً واطرد من منفاي، وبين منفي يعثر على منفاه بالمصادفة..؟ وأي منفي هذا الذي لا عمل لديه، إلا البحث عن منفى لن يتخلى عنه..؟ ابتسم الشاب، وهو يخطط لمصيره، من غير عاطفة زائدة، مرددا ً الكلمات ذاتها التي نطق بها في منفاه القديم: أنا لست سوى حبة رمل في هذا الساحل العظيم، فان أواني منفاي، أو طردني، فما ـ هي ـ المسافة ـ وقد اتسعت ـ بيني وبين نفسي...، إن كنت منفيا ً بلا منفى، أو كنت في مكان بلا منفيين؟ مستعيدا ً كلمات والده وقد حفرت فيه هاجس الأسئلة: انك تتساءل ما معنى ان يكون لك عقل تحرص ان لا تستخدمه، وبين بحثك عن عقل سلب منك؟ فانا أتذكر ان جدي قال لي: طالما حلمت ان اخفي أحلامي، كي لا يراها احد، ولكن ما ان اكتشفت أنها قد توارت، حتى رحت ابحث عنها. قال الشاب، مع نفسه، وقد اجتاز خطر الموت، إنها ليست إلا ومضات، ومضات لا حدود لها، مثل المسافة وقد بلغت ذروتها: ان تجد ظلا ً تسكنه، وان لم تجده، تتركه يسكنك! وأنت ان لم تجد الموت الذي تبحث عنه، فهو وحده لن يتخلى عنك! 1970

الثلاثاء، 22 مايو 2012

الطرق على آنية الخراب-د. غالب المسعودي

الطرق على آنية الخراب
يذكرني هذا العنوان بكتاب للناقد اسامة الشحماني ,عن تجربة الشاعر الكبير محمود البريكان, حيث يشير في الإهداء لهذا الكتاب الى الشاعر( الذي لم يتعب من نحت صمته متأملا عتمة المشهد ونزق الادوار..).وهكذا يعود السياب الى بويبه وأخرون الى تأملاتهم ,حينما يكون الزمن صفرا ,والتقدم يتحول الى تراجع, و الصمت الى هذيان ,وتكون فلسفة التأويل عند كادامير عصية على الفهم ,والتناهي الذاتي لا يكشف عن تجربة تاريخية ,ويرتفع المشكل الى ان يتحول الى تخبط في المطلق ,وتتدحرج الاحكام المسبقة ,المتجذرة في الزمانية رغم عجزها في ان تبلور نمطا معرفيا يتميز بالخصوبة, و الكثير من الناس تمتحن تجاربها لكشف العيوب والنواقص على منصة الواقع , للوصول الى مرتبة اعلى انسانيا ,وان تطور السلوك الاجتماعي هو حاجة أبدية, ومن يحاول الابقاء على سلوك معين أراه ينفخ في قربة مقطوعة, لذا علينا ان نقلع عما يجرنا الى وراء, ونتفهم روح العصر, وخلاف ذلك سنكون كالذي يقرأ واجبات الانسان ,ويذكر بنصح الامة وهو في قبره لم يكدر له شراب ,وذلك بما منح من شمولية وحصانة وجوامع مصالح , التي يؤطرها بالعجائب والآيات الخارقة ,وقد تواجه الاضطهاد الاخير احيانا, الذي يخرجها عن اطار الحكمة وان اقتضى الامر الى تكاثر المظلومين, ومن اكل ربا من ذي قبل ,قد مني بتثبيته, وهكذا نستضيف عصرنا بإهدار حقوق الأنسان, بالتشدد والقساوة واظهار خلاف الصورة ,عليك ان لا ترفع صوتك ,لان التشدد والتسامح يسير حسب الامزجة او باعتراف رسمي ,وهناك الكثير من ينسب التطور العلمي والنهوض الثقافي الى مذهب ما ,الا اننا لا نجد حضورا ملحوظا وليس هناك ما يفيد في تحديد التاريخ والتعبير عن تقدمية الحياة, سواء في الكتابة او السلوك, و انفصال الكلمة والكلمة ينبوع سرمدي تزهر في الواقع بأعيادها المستمرة, تخفف الآم الطواعين والاوبئة والمجاعة وتخرجها من خزائن الرؤوس لتجدد نشوة الانتصار. ان اتهام الشعراء والادباء وهم الذين كتبوا رقيق الكلام وهم صاحبو الابتسامة الرقيقة والذين خصوا بالجمال والانفتاح الاجتماعي وتساموا عن ضجيج الاسواق واستأنسوا خرير مساقط المياه واثروا عزلة الطريق, بانهم لا يمكن ان يصبحوا روادا ولا يمكن ان يدانوا الذين يلبسون قلائد الجمان ويتزينون بالأقمشة الفاخرة, بالرغم من عمق الهوة ,وهم لا يزالون موزعين بين المعارضة والاستلاب, وان كان الجمهور لا يزال يصفق ,فلكل مهديه في لجة حماس الاخرين.وبعيدا عن الروايات والبحث في الخلافات الشديدة ,والتي تتكلم بلسان مكسور ويجري فيها الاضطراب, ويوحدها دورها في التراجع الفكري بخلقها المقالات الخاصة ,ودرع الاهتداء السليم ,وهو طموح شاذ اكثر منه واقع حي , يأتي الحدث الاكثر غرابة وهو ايقاظ النعرات الخبيئة تحت ابتسامة ماكرة, تشعر المتفرج بالسعادة والطيب حين تمتلئ العيون بالدموع ,انه لشيء مفزع ,وتهمهم متسائلا أابتسم....؟ ام تصرخ متسائلا بشفتيك, والمائدة مغطاة بالوان العتمة والظالمون يحومون من حولك ومحيطك ممتلئ بزجاجات فارغة ,ياله من وضع جميل ,وانت مندهش من تعابير الوجوه, الا ان عليك ان لا تتعامل بالعنف, وحينما يخفت ضوء النهار فان السماء تتدخل ,وعليك ان تستعيد هدوئك وتركض مرات ومرات الى ان ينتهي التساؤل, لان ذلك اسهل من فك رموز الساعة الخامدة, وثقب الغيوم ,و السر لا يمكن الاحتفاظ به ,والتحدث بلغة العقل تجر المشاهد الى المسرحية المتواصلة, وكأننا نسير في ساحة ,وصرافو العملة منتشرين على نحو متواصل ويتلصصون على احشاء المدينة ,ككلاب اسيئ تدريبها ,وهم يرون ماسحوا الاحذية يشقون طريقهم رغم انهم كانوا واقفين على اطراف اصابعهم لعقود طويلة, حيث بدت عورتاهم اكثر اثارة عن المألوف, وقد يقال ان هذه مبالغة ,الا انه كان من الصعب عدم الضحك عندما يتكرر المشهد ,والكل يسافر بنفس القطار, وعندما يرفع بصره قليلا سيجد طغاة عراة يخوضون في مياه نتنة والسماء شاحبة ,وهناك طير ناري يحلق هو الانسان ,يركض بعد رشقات المطر بين اكمات الزهور المتلألئة وكأنه الولد الصغير الذي لم يكبر, الا انه لا يزال يشعر بنفسه غريبا ,وهذاهو الشيء الاستثنائي

غالب المسعودي - الطرق على آنية الخراب