بحث هذه المدونة الإلكترونية

إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الجمعة، 2 مارس 2012

حينما تفيض صدورنا غيضا نلجأ بأحزاننا في العراق الى المقابر -حامد كعيد الجبوري


حينما تفيض صدورنا غيضا نلجأ بأحزاننا في العراق الى المقابر
حامد كعيد الجبوري
( هموم وكبر )
وحشه دياركم سكان الكبور
بقت بس الأسامي وكومة حجار
نمتوا بالأمان وماكو ناطور
ولا تعرف حزن وهموم تحتار
ولا بالك تشغله اتحيطك أنمور
ولا تسمع البينه أشصار ما صار
تناخه الدود بيكم ياكل أبدور
بعيون الورد وخدود جمار
يوميه طبك كل ساع عاشور
وزفينه الشباب شموس واقمار
من يهيج حزني أتضيك الصدور
نحجي للكبر ما يكشف أسرار
هم عدكم قوائم تعرف الزور
متروك الأصيل وتصعد أشرار
متحزمه المنيه جفوف ناعور
عميه وما تعرف زغار وكبار
عفتو للأهل مليتوا القصور
جيرانك كبر ويزورك الجار
هم عدكم مصيبه وكلكم حضور
وتسمعون النواعي أحزان وأشعار



الخدمتك ما أجوا ولدان والحور
بصوانيهم يفوح الهيل وأزهار
دنيتكم هظيمه وحلك تنور
ونكلتوها جحيم النار للنار
تحاسبتوا ولكيتوا هناك دستور
ميزان العدل وحساب جبار
هم كبرك أمصفح بيه مستور
عن عين الشعب وسيوف الأشرار
السياسي وبرلماني كبره محفور
الفقير الحافي يمه تنام تجار
شما تجمع ذهب وتظنه مذخور
تصبُّح والمنيه أتمسي خطار
------------

الأربعاء، 29 فبراير 2012

دراسة جديدة للأستاذ فؤاد الأمير تؤشر علامات خطيرة حول مستقبل النفط من خلال الإتفاقات السرية بين كردستان واكسون


المقدمة
يتضمن هذا الكتاب ثلاث دراسات صدرت لي مؤخراً، ومقدمة مطولة يمكن اعتبارها دراسة رابعة حول موضوع الاتفاق الحاصل ما بين حكومة إقليم كردستان والشركة الأميركية العملاقة "أكسن موبيل ExxonMobil"، بحصول الأخيرة على ستة عقود مشاركة في الإنتاج لرقع استكشاف وتطوير، ثلاث منها - جزءاً أو كلاً- تقع في مناطق "متنازع عليها"، أو ضمن محافظة نينوى نفسها، وتم توقيع هذه العقود بعد صدور الدراسات الثلاث المذكورة في هذا الكتاب.
إن الدراستين الأولى والثانية هي حول المسائل والأمور التي تحدثت عنها في كتبي السابقة الصادرة في ما بين الأعوام 2007 – 2009، واضطررت إلى الرجوع إليها مجدداً لأمور كانت قد استجدت منذ الربع الثالث من العام الماضي. أما الدراسة الثالثة فهي عن موضوع العقود التي وقعتها الحكومة الاتحادية والتي تسمى "دورات التراخيص"، وهو أمر لم أتطرق له من قبل. وهي بالنتيجة دراسة لالستراتيجية النفطية والغازية للعراق، والسياسة الواجب اتخاذها الآن وفق الأسباب المبينة فيها.
في البداية، وقبل الدخول في الموضوع الرئيسي للمقدمة (وهي عقود أكسن موبيل في كردستان)، سنتحدث وبإيجاز حول ما آلت إليه الأمور المثارة في الدراسات الثلاث، مع ملاحظة أن الدراسات في هذا الكتاب تتضمن تعديلات شكلية بسيطة عن التي نشرت في حينه.
* الدراسة الأولى بعنوان: "كما في آب 2011: جديد قانون النفط والغاز"، والتي صدرت في 23/8/2011. وهي حول ضرر مسودة قانون النفط والغاز التي قدمت في 17/8/2011 إلى مجلس النواب من قبل "لجنة النفط والطاقة والثروات الطبيعية" في المجلس. وضرر هذه المسودة بمصالح الشعب العراقي يفوق بمراحل عدة مسودة (2007) المرفوضة أصلاً، والتي عجز من تبنوها عن تمريرها في حينه عام 2007، رغم وجود الاحتلال بكل ثقله وضغوطه الهائلة على السلطتين التنفيذية والتشريعية لإقرارها. وقد فشلت مسودة لجنة النفط والطاقة فشلاً ذريعاً عند محاولة تمريرها في مجلس النواب الحالي. و فشلت الحكومة الاتحادية، كذلك، في حمل مجلس النواب على اقرار مسودة القانون التي طرحتها لاحقاً، وهي أفضل من مسودة 23/8 (رغم وجود تحفظات عليها). وجرت في شهري أيلول وتشرين الأول الماضيين محاولة إيجاد "تسوية سياسية توافقية "!!، و للوصول إلى ما يسمى "حل وسط"! بين مسودة (2007) مع ملاحقها، و مسودة الحكومة الاتحادية. ولكن ، و(لحسن حظ الشعب العراقي!!)، توقفت هذه المحاولة بعد نشر الاتفاق بين حكومة الإقليم والشركة الأميركية أكسن موبيل.
وبات واضحاً أنه لا يمكن تمرير أية مسودة قانون تناقض الدستور العراقي الحالي - على علاته وضبابيته- أن مسودة أي قانون لا تتضمن مركزية القرار في السياسة النفطية وتسمح بالتصرف العشوائي للأقاليم والمحافظات بشؤون القرارات الستراتيجية النفطية وتوقيع العقود الاستخراجية مع الشركات النفطية و تسمح بتوقيع عقود تتضمن المشاركة في الإنتاج، ستكون مسودة مرفوضة، ولا يمكن تمريرها حتى ضمن "التوافقات السياسية" مهما كان الوضع مضطرباً في العراق. لقد فشل من كان يعول على إمكانية استغلال "المساومات السياسية" لتمرير مثل هذا القانون "في الخفاء أو في استغفال الآخرين"، وفشل في إدراك مدى رفض الناس لمثل هذا القانون، ولم يعرف مدى عمق العوامل المؤثرة في توازن القوى السياسية في العراق، والتي لا يمكن تجاوزها حتى في هذا الظرف الصعب والمضطرب والفاسد. وسيكون من الصعوبة بمكان تمرير مثل هذا القانون في المستقبل، من خلال مجلس نواب تال ، إذ أن الجماهير تدرك أكثر فأكثر صالحها من طالحها.
ولكن الاحتلال والقوى المتحالفة معه والقوى المنتفعة من مأساوية الوضع العراقي، تحن وتعمل على رجوع قوى الاحتلال العسكرية إلى العراق بالكامل، فهي قد ترى من الظروف المضطربة جداً في المنطقة العربية ومنطقة الشرق الأوسط مدخلاً لتمرير مثل هذا القانون. فالمنطقة حبلى بالثورات ضد الأنظمة الفاسدة والتي هي بالأساس مرتبطة بالولايات المتحدة وإسرائيل. وأن الولايات المتحدة وإسرائيل وحلف الأطلسي يحاولون احتواء هذه الثورات، أو تحويلها إلى فوضى في حال فشل الاحتوائ، وذلك باسم "الديمقراطية". إن من المضحك/المبكي أن من تكون وسيلتهم ومطيتهم في دعاوى التغيير بأسم الديمقراطية دول عربية هي من أكثر الدول في المنطقة شمولية واستبداداً واستغلالاً ورجعية في العالم. والآن تريد إسرائيل (وأميركا) ضرب إيران، وبنفس الحجة الكاذبة التي استخدمت لضرب العراق واحتلاله، وهي وجود أسلحة الدمار الشامل والتسلح النووي. وسيكون الخاسر الأكبر هو العراق مجدداً. إذ أن على الطائرات الإسرائيلية أن تمر إما من خلال الأراضي التركية أو العراقية أو السعودية، وسيتم اختيار العراق كونه الطريق الأقصر مع الأجواء المفتوحة والكم الهائل من المعلومات المتوفرة لديهم، مؤكدة ذلك الصحيفة الأشهر نيويورك تايمز في 19/2/2012، حيث تضيف للأسباب آنفة الذكر عدم وجود دفاعات جوية في العراق مطلقاً، وأن القوات الأميركية غير ملزمة بحماية الأجواء العراقية، بعد أن انسحبت قواتها من العراق في كانون الماضي!!. وستكون ردة الفعل الإيرانية الأكبر في العراق، وهو أمر لا يهم المحتل أو أعوانه من الخليجيين، أو العراقيين، فمصلحة العراق هي آخر ما ينظر إليه. يعتقد هؤلاء أن في هذه الأجواء، يمكن إدخال العراق في "قادسية" ثالثة ضد الجارة إيران، وعند ذاك يمكن تمرير مثل هذا القانون وتمشية المخطط الأميركي بالكامل بخصخصة النفط العراقي من خلال عقود المشاركة بالإنتاج، ولكنهم يحلمون، إذ سيفشلون كما فشل ويفشل غيرهم ممن يريد أن يفرط بثروة الشعب العراقي.
* الدراسة الثانية، بعنوان: "الحل: رفض اتفاقية مشروع غاز البصرة مع شركة شيل والإيعاز الفوري بالتنفيذ المباشر من خلال عقود خدمة اعتيادية"، والتي صدرت في 7/9/2011. ومن المؤسف أن نقول أن الحكومة الاتحادية كانت قد وافقت على التعاقد مع شركة شيل (مع ميتسوبيشي) في اجتماعها الوزاري في 15/11/2011. وقد يكون امتناع شركة شيل عن التعاقد مع حكومة إقليم كردستان له الدور المؤثر في موافقة الحكومة هذه. حيث رفضت الشركة عرض حكومة الإقليم عليها ثلاث رقع للاستكشاف والإنتاج من خلال عقود المشاركة بالإنتاج. علماً أن شركة شيل لها حصة 15% في عقد حقل غرب القرنة المرحلة الأولى مع 60% لإكسن موبيل في هذا العقد، كذلك فإن شيل لها حصة 45% في عقد حقل مجنون، لذا فإن هناك الكثير لتجازف به.
ولا أزال أرى أن توقيع هذا العقد مع شركة شيل مضر بالعراق، وكان من المفترض المضي بما اقترحناه في الدراسة بالتنفيذ المباشر وللأسباب المبينة فيها.
وأكدت الدوائر النفطية الحكومية المؤثرة حالياً، أنها وضعت قيود حسابية وبرامج كومبيوترية معقدة للتأكد من عدم تجاوز شركة شيل لمعدل العائد الداخلي IRR Internal rate of return ﻠ (15%) في كل الأحوال!!.
* وبما يتعلق بالدراسة الثالثة المعنونة: "نظرة في دورات التراخيص النفطية والغازية"، والتي صدرت في 25/10/2011، فقد أوضحت فيها الوضع النفطي والغازي العالمي وتطوره المستقبلي والمخاطر الكامنة في دورة التراخيص الثانية، وعدم الحاجة إلى دورة التراخيص الرابعة، وبينت الستراتيجية الواجب تنفيذها.
لقد تأجل فتح عروض دورة التراخيص الرابعة من أوائل كانون الثاني 2012 إلى أواسط آذار، والآن تم تأجيله إلى 30 - 31 أيار المقبل. والسبب المعطى هو تعديل شروط المناقصة على ضوء المحادثات مع الشركات العالمية. وسنرى أثناء الحديث عن عقود أكسن موبيل مع حكومة إقليم كردستان، أسباب تصلب الشركات والاعتراض على وثائق المناقصة التي وضعت لها في دورة التراخيص الرابعة. وما يقلقنا، رغم أننا أصلاً ضد إكمال دورة التراخيص هذه، هو أن التعديلات الجديدة التي وضعت في وثائق المناقصة سيتم رفعها نتيجة ضغط الشركات العالمية.
كذلك هناك حالة اقتناع متزايد لدى بعض المسؤولين العراقيين في الصناعة النفطية بخطورة بعض مواد العقود التي تم توقيعها، وخصوصاً المادة (12)، أو الوصول إلى إنتاج ذروة للعراق قدره (13,5) مليون برميل في اليوم خلال الأعوام الستة المقبلة. وقد ذكرت العديد من النشرات النفطية المختصة أن هنالك نية لتعديل هذه الشروط عند توفر الظرف المناسب!!؟ وللوصول إلى إنتاج ذروة بحدود (8-9) مليون برميل/اليوم بدلاً من الرقم السابق. ولا نعرف كيف سيتم ذلك ، و قد اوضحت الدراسة أن بقاء هذه الشروط سيؤدي بالعراق إلى الكارثة.
ومن المعلومات التي توفرت لدينا حديثاً، أن هناك توجه كبير لدى المسؤولين المعنيين في النفط والصناعة لرفع العوائد ليس بطريقة زيادة الإنتاج فقط، فهذا طريق محفوف بالمخاطر، وإنما بالتوسع في صناعة البتروكيمياويات والأسمدة وتطوير صناعة تصفية النفط ، وسيعلن في هذا العام عن مشاريع ضخمة في هذا الاتجاه.

الثلاثاء، 28 فبراير 2012

قصة قصيرة-القصة لم تبدأ بعد-عادل كامل




قصة قصيرة
القصة لم تبدأ بعد
عادل كامل
لم تمض على رحيل الكاتب "ل" إلا ثلاثة أشهر لكي يصدر كتابه الجديد الذي يحمل عنوان " الغرباء"، وقد أستقبل الكتاب على نحو لائق، لم يحصل مع كتبه السابقة، الامر الذي دفع بالناشر، وهو رجل شعاره الربح، في عالم متحرك بحسب كلماته، الى إصدار طبعة ثانية، ولا أحد يعلم من أضاف، للطبعة الجديدة، بعض التعديلات، والهوامش، ومعلومات لم تنشر في السابق.
كانت كتابة العمل دقيقة، وصارمة؛ وقد أعدّ الكتاب بعناية فائقة جعلت فكرته تتلبس حالة الغموض والسرية . ولقد حدثت ضجة أثر صدور الكتاب، ذكرت المتابعين بحياة الكاتب، لكنها، مع هذه الضجة، لم تلفت النظر الى من قام بالتعديلات والاضافات للكتاب في طبعته المزورة، كما لم يلتفت، أكثر المقربين اليه، في الماضي، الى مغزى رحيله المبكر، فقد مات الكاتب وهو لم يبلغ الخمسين من العمر.
ونشرت المجلات والصحف تعليقات كثيرة لم تغفل الاشارة الى حياة مؤلفها الصاخبة، الضاجة، التي انتهت الى العزلة والنسيان. فقد شغل الكاتب الحياة الادبية بأفكاره ومواقفه الغريبة مدة تتجاوز عمره الزمني. فقد كان من الغزارة الى درجة أنه ذاته لم يصدق أنه كان يمتلك مهارة عشرة رجال. وتلك ملاحظة ناقد ساخر اختتمها بأن الكاتب "ل" مازال في بدء حياته الادبية، اما الكاتب فكان يردد كلمته الشهيرة: ستكون اقامتي معكم أبدية ! لكنه سرعان ما كان يملأ الجو بالطرائف وبالمفارقات . فهو لا يؤمن بما هو أزلي، لكن الزوال لم يكن يفزعه. فبعد أن مات أعز رفاق حياته لم يحزن.. بل أمضى ذلك النهار يتجول في المدينة، وهو يردد " لقد ضاع رفيقي بين الناس"، وفي مساء ذلك اليوم، لم يشرب الخمر، إلا عند انتصاف الليل، لقد صرخ "وجدتها.." ولا أحد يعرف ماذا وجد. إنما في الصباح، كانت مقالته عن صديقه قد شغلت صفحة كاملة في الجريدة، وهي مقالة معلومات، لايمكن ان تكتب بهذه العجالة، ولايمكن ان يكتبها إلا "ل" ولا غرابة .. فهو بعد أن ينتهي من كتابة أي نص، في مختلف المعارف والموضوعات، ينفصل عنه، بل لايتذكره، ولايريد ان يعود اليه . والاغرب من هذا أنه لا يريد الاصغاء الى كلمات الثناء. انه – كما قال – لن اتعجل الرحيل.
لكن المفاجأة الاولى، بعد رحيله بأشهر، جاءت أثر نشر الكتاب نفسه، مقالة حول كتابه " الغرباء " وهي مفاجأة طواها النسيان أيضاً، مثل أحداث لا تحصى في حياته، مؤشرا أن الذاكرة محض وهم.. وبعد يومين، في صحيفة أخرى، كتب دراسة مطولة عن إرتقاء النبات، الذي يمتلك ذاكرة، هي: مفتاح الشاعر والشعر قفلهما!
وراحت مقالاته، بعد ستة أشهر من رحيله، تنشر في المجلات والجرائد والدوريات التي اعتاد النشر فيها . بل نشرت مقالة له في مجلة صدرت حديثا. يضاف لهذا ان عددا كبيرا من المقابلات كانت، هي الاخرى، تأخذ طريقها الى النشر .
ففي مقابلة مع كاتب مشهور، برر الكاتب والصحفي " ل " في المقدمة، انه كان قد أعدها للنشر قبل عقد مضى .. وانه كان ينتظر الوقت المناسب لنشرها.. فالاسئلة والاجابات كلها مبتكرة، لم تفقد طابع الاثارة، والفائدة، والاغرب من هذا كله أن هناك توق
فات عند قضايا لم تحدث في حياة الكاتب، بل حدثت في أيام النشر، الامر الذي دفع الرأي الادبي، وأحاديث العاملين في حقول الصحافة والفن، للتساؤل: هل مات الكاتب " ل "حقا؟ ام انها محض خدعة .. او محاولة ما لاختراع الشهرة؟
فنشر أحد الشعراء مقالة فسّر فيها بعض الالتباسات . قال ان الكاتب " ل" لم يكن يحلم بالمجد.. ولا بالشهرة .. لقد كان يبحث عن الهدوء.. وقال ان الفنان " ل " لم يجد لعبة الارتقاء . فهو من اكثر الكتاب سذاجة في التعامل الاجتماعي، وانه أضاع مواهبه الفذة بقضايا لا معنى لها.
ومثل هذه المقالة، التي كتبها الشاعر، هدّأت الضجة، وخنقت أنفاس الحساد. فقد جاء فيها، على حد قوله، ان الكاتب " ل" كان لايعرف إلا العمل. فكان ينجز عدة أعمال في وقت واحد، ويبعث بعشرات الموضوعات والمقابلات والقصص والمقالات الى النشر، ثم لا يتذكر انه فعل ذلك . إنه كان كثير النسيان، على رغم ان ذاكرته لم تخنه ابداً .
وفي مقال نشره زميل له جاء فيه ان " ل" لايجيد السلوك الغامض أو الغريب، فهو من أكثر الناس علانية . انه شخصية مكشوفة، والجميع قد تعرف على قلقه ومخاوفه واساه… فهو كسول لدرجة انه لا يمتلك قدرة طرد كسله. وعندما ينتابه الخمول، يبدو كالمخدر، فهو قد ترك منافع الدنيا وطرد شبح الربح والخسران، فتراه يغط في النوم عدة أيام .. وتراه يبقى متوقدا على مدار اليوم .. يتحدث في الاشياء كلها، ثم يصمت، ثم يصرخ بعذوبة: ضاعت .. ضاعت.. نزهتي فوق الارض . ويتجول وحيدا .. يدخل حانة.. يكتب .. ويعود الى البيت . وقال في مقالته ان " ل " قال له ذات مرة .. " لكل الاشياء.. لكل الاشياء ذاكرة: الصخرة .. الوردة .. السمكة.. وانا وأنت.. ومليارات المخلوقات الحية فوق هذا الكوكب الصغير .. لها ذاكرتها . أي لها وجهة نظرها الفريدة " ثم صرخ، قال الكاتب " قال لي بصوت كالرعد: لا خلاص – لا خلاص – فوق كوكب محكوم بالفناء .. "، لكنه لم يعلن، لا في السلوك ولا على صعيد الافكار، اسرار قلقه.
وتلك المقالة، هي الاخرى، أيدت السنوات التي أمضاها بعيدا عن عاداته الاجتماعية، فكتب زميله القاص، صاحب فكرة ان المرأة هي المرأة، شرط ان تبقى امرأة، إن " ل" قد انزوى بارادته بعيدا عن غوغاء الكلام وفوضى الحياة .. فهو – كتب- غير جدير الا بالدفاع.. وحتى في الدفاع، لا يستنفر قواه، إلا قبيل الاندحار الاكيد.
وهكذا كان قد سوّر حياته، لا بالجدران، أو بالاختفاء، بل حتى بالاسلوب الكتابي. حصل ذلك قبل خمس سنوات من رحيله . وها هو الآن، بعد صدور كتاب " الغرباء" يعود الى الاضواء . انه – اذا ً – كتب أحدهم: لم يمت. وبالفعل نشرت أحدى الصح
ف، في ركن، مع القراء، هذا التعليق : "يقولون أن السيد ل قد مات .. ولكن هل يبعث لكم السيد ل مقالاته ودراسته من العالم الآخر؟ لكم بودي لو كتب لنا تحقيقا عن اجواء ما بعد الموت ومناخاته واسراره ! وانا لاأسخر، هنا، فمنذ عام تماما قرأت مئات الدراسات والمقالات للكاتب "ل" أي قراتها بعد عام من رحيله،إنما هذه المقالات والمقابلات والدراسات كلها كانها كتبت الان . انها طازجة، حتى اني أشعر بالشك العميق ازاء خبر موته . فهل بمقدور الميت ان يزودنا بهذا الثراء الابداعي ؟ " .
فكتب مسؤول الصفحة، في اليوم التالي، تعقيبا على هذه الرسالة .. "ان زميلنا الراحل، كما تعلمون، كرس حياته كلها للناس .. حتى ان حياته الشخصية كادت تضيع .. فترك لنا ذخيرة من انتاجه الغزير لكم .. لقد رحل على أمل أن يرد له الاعتبار.."
لكن الصحيفة ذاتها نشرت، التعقيب الاتي، في ركن القراء..لاعلاقة لي، بابداعه، فهويدهشنا دائما، على الرغم من أنه فقد صبر الحياة .. إنما هل هو ما زال على قيد الحياة .. فهو أغزر انتاجا في النشر .."انتم قلتم انه مات منذ سنتين ؟ ".
كتب محرر تلك الصفحة، في الاسبوع التالي "اننا نشعر بالاعتزاز لهذه الصلة مع كاتبنا "ل" ولكن هل هو على قيد الحياة أو أنه يقوم بدور تمثيلي، كما في الحياة،عامة، نقول للقراء الاعزاء، ان استاذنا "ل"ترك لنا مجموعة من المقالات والمقابلات والدراسات، وفي واقع الامر كنا قد دفعنا ثمنها له .. بل وكنا قد ضاعفنا له الاجر .فلماذا هذا الشك ؟ انه مات وترك لنا مجموعة من .. نقوم..الان بنشرها .. فنحن لدينا هذا الامتياز الصحفي، على أقل تقدير .. ".
إنما الصحيفة ذاتها، نشرت، في اليوم التالي، خبر الاحتفال بعيد ميلاده، ذلك لأنها نشرت رواية جديدة له . ولم تتوقف الصحف عن نشر موضوعاته .وكاد الكاتب "ل" يتحول الى قضية.. فقد صدرت له عدة كتب، في العام الثاني بعد رحيله، رواية .. ومقالات .. وثلاث مجموعات قصصية .. لكن القراء كانوا سعداء بانجازاته ..فلم يكن أمر موته أو أسطورة حياته توازي ابداعاته .. وقد أدرك أصحاب المجلات ودور النشر انه الكاتب الوحيد في مقدمة قائمة المبيعات . فبعد أن فاز بافضل كاتب، وحاز على جائزة عالمية مرموقة، أعيد طبع اعماله الكاملة، ونفدت من السوق .وبهذا الصدد نشر رئيس تحرير جريدة "شمس الشموس " مقالة مطولة تحدث فيها عن معنى أدب الكاتب "ل"وفنه ولم يغفل القول بأن جريدته كانت قد أكتشفت مواهبه منذ زمن بعيد .. وبشرت بعبقريته، أما عن أسطورة موته أوهذا الاختفاء الغريب فلم يتطرق اليه .. فالقراء كانوا ينتظرون أية مقالة له .. والجريدة كانت تبحث عن النجاح وسط مناف
سة وكساد عام للمطبوعات .لهذا قال رئيس تحرير شمس الشموس بأن الكاتب "ل" لم يكن يفرق بين العالمين .فالموتى يتركون، مثل الاحياء، جسورهم مع الكائنات الاخرى، ان "ل" ـ كتب ـ اختفى خمس سنوات كاملة ولم يظهر فيها الا فيما ندر .. وكان طوال ذلك الزمن يعمل ويعمل وقد ترك ثروة كبيرة من الابداعات .وقال ان بعض الكتاب يمتلكون قدرة استشراف الازمنة القادمة. فعالمهم لا علاقة مباشرة له بعالم الزوال والفناء .كما انهم، مثل من يطالع في كتاب، ينظرون في الصفحات الاخيرة، بينما عامة القراء يتوقفون عند الصفحات الاول .ونشر الى جانب دراسته، مقالة تتحدث عن عزلة "ل" وكيف أهمل، تماما، من قبل اكثر المقربين اليه .. وذكر حقائق منها ان عدة موسوعات لم تشر حتى الى اسمه او وجوده، على رغم انه كان يعمل على مدار اليوم بجد ومثابرة . اما الان فقد صار عمله مثار الانظار كلها . وقد شاعت في الوسط الثقافي ان مليونيرا اجنبيا زار البلاد وقابل الكاتب .. وهو الامر الذي يفسر صدور دراسة عن ويلات العالم المعاصر .. فذلك الكاتب الذي صوّر بعد رحيله بعامين يشرح فكرة إلغاء أسماء البشر، هل يحل الرقم محل الحرف.. وجاء في الكتاب ان الفردوس فوق الارض لايرضي الاطراف كافة .فالحرب الكبرى تقترب، والبشر لايمتلكون ذكاء المصالحة العادلة، موضحا ان الحتميات عمياء والناس اكثر عماء ً منها.إنها رحلة ميت في مستنقع.وقال "ل" في كتابه " صراع الاضداد " ان الحياة برمتها محكومة بالزوال، موضوعيا وعلى مستوى الخيال .فالبشر وهم ينتقلون من نوع الى نوع، سيبلغون هدفهم الذي يقودهم الى الابعد، إنها رحلة تحولات عمياء، لكنها رائعة "..الحياة .. هكذا لايتهشم سر البقاء ولاسر الصراع .فالذاكرة تتجدد. وقوى العالم تتغير لصالح بقاء مسرحها .لامعنى للاخلاق او العويل ازاء فزع البشرية من الفناء .وقال رئيس تحرير شمس الشموس ان فكرة "ل"الاساسية تكمن في انبعاث الفرد من اطلال موت الحضارات .فالصراع الواعي من اجل الفردوس، الذي خرب الامم والشعوب، سينتهي الى النقطة التي تؤدي ـ ادت ـ الى الطوفان .وفي العام الثالث، أعلن رئيس رابطة علماء الجمال، عن افتتاح المعرض الشامل للكاتب والفنان والروائي "ل" .وقد ضم المعرض مجموعة نادرة من الرسومات واللوحات والمنحوتات الغريبة .. وقد زار المعرض الاف المشاهدين والمعجبين ..حتى ان ناقدا مشهورا قال أن الاعمال الفنية العظيمة تولد تلقائيا .مفسرا ذلك بحسب عقيدة البناء الداخلي للاشياء .لكن الصحف راحت تتحدث عن التنوع والغزارة .فالفنان "ل" لم يترك مشكلة بلا معالجة .ولم يكن "ل" أنانيا أو ذاتيا ـ كتب أحد المشتغلين في الكتابة ـ بل كان استجابة لقدر عظيم .فهو حتى عندما يرسم مهازل القتل وحفلات التعذيب وويلات السلام السرية، فانه كان يبحث عن منفذ للخلاص .انه لا يعلم الناس طرق الرؤية، بل يفتح باب الموت وباب الجنة معا، فكلاهما باب لبيت واحد .وجاء العام الرابع بعد رحيله لتنشر له الأجزاء الأولى من سيرته الشخصية .. حيث كتب في التقديم بأنه سيناضل من اجل ذات شفافة، صافية، لاهي مستقرة فوق الأرض، ولاهي معلقة الى سماء . فالمشكلة قائمة ـ كتب ـ كصراع أدى الى الوعي، والوعي ينتظر الخيال .ولهذا فانا سأستمد نوري من كل طاقة عمل .هكذا أعترف لكم بأن الموت ليس سوى ومضة. والذين لا يخافون الومضة لاخوف عليهم ..والذين لايفرحون جيدا هم الموتى .فأنا أسعى للموازنة بين أبديتين، واحدة لاقرار لها واخرى لانهاية لها، كل هذا العالم الى فناء، إنما، إنما ثمة لحظة، أو لحظات، يمكن أن نطلق عليها اسم الخلود، انه الوهم المقدس، فالجوع يحرك مخاوفنا اليومية، لكنه لايزعزع آمالنا بأننا غير أرواح جميلة، لقد عشت حياة مرعبة حقا، مثل كل ذات لم تلوث بالربح والخسران، بل كانت حياتي كالبحر، كالبحر وهو يهدم سواحله، وأنا لم أكن أهدم إلا لصالح اكتشاف أسطورتنا .للحشرة، مثلما للوردة، مثلما للقاتل والضحية أسطورة .فهذا السلوك المبرر موضوعيا يتهدم بالعلم أيضاً .أنا أكتب للبحث عن الخبز .. فهل هذا هو كل شيء.. وهل للعالم اخترعنا لكي نكتشفه ؟إني لاامسك بالخيط، بل أسير فوقه .فالصلح أو الجنة أو الختام كلها خيالات رائعة .أنا أعمل بالخيال لهدم عاداتي السافلة :الحياة وكأنها أزلية .. والموت وكأنه رحلة نحو اللاشيء .أكتب لأنني بالحروف أخترع أدق زوايا مملكتي المظلمة .. وقدم رئيس تحرير شمس الشموس الكاتب "ل" الى القراء بصفته من أكثر الكتاب غزارة وتواضعا ."فهو في الواقع فاق الجميع لافي تنوعه وسحر أسلوبه وحيويته فقط، بل لاثارته الاسئلة الدائمة .. والفذة .. ".
على ان كاتباً مغمورا نشر سلسلة من المقالات، في جريدة "القمر الاسود "هاجم فيها الكاتب "ل" والصحف التي تقوم بنشر أعماله الادبية .
[فهو في واقع الامر يقوم بعمليات تزوير كبيرة ..فإذا كان "ل"حقيقة فاين تكمن هذه الحقيقة ؟ إننا منذ خمس سنوات نطالع إبداعات لشخصية مجهولة ولاوجود لها أصلا .فالذي نشر خلال هذه السنوات يفوق جهود عشرة كتاب مجتمعين .وهذا يعني أن هناك جهة ما تستثمر هذه اللعبة لصالحها ..].
وراح الهمس يدور حول شخصية رئيس تحرير شمس الشموس، التي ما زالت تقوم بنشر مقالات ودراسات الفنان "ل"ودراساته ومقابلاته .. وذلك لكون المجلة اتخذت من الاسم اللامع للكاتب المغمور، الذي مات بلا ضجة، وراحت تستثمره لصالحها ..
ومن ناحية ثانية تساءل أحد النقاد عن السر العجيب لهذه القضية الغامضة، فإذا كان "ل" قد مات منذ خمس سنوات، فمن ذا الذي يقوم بكتابة هذه النصوص ؟ إنه لم يعترض على أهميتها وتميزها، وإنما جعل يبحث عن المؤلف.فالكاتب ـ قال ـ هو الذي نبحث عنه .
لكن ردود الفعل اختلفت، وتباينت، حتى ان محاميا مجهولا أقام دعوى ضد مجلة ((شمس الشموس )) لكونها تقوم باعمال خارج سياق القانون .فالكاتب"ل" نشر المحامي هذا النص في جريدة القمر الاسود ـ ليس الا شخصية مستعارة، ورمزية، فهو ينشر ما شاء له من الاراء .. وشجاعته يستمدها من موته .أما القراء فانهم ضحايا هذه اللعبة .اذا ً اين هو "ل" ؟
لكن مقالاته عدت من أخطر المقالات،وقد نشرت في شمس الشموس، ودافع فيها "ل" عن نفسه وفنه وحياته .فكتب يقول أن الموت ليس تهمة [فأنا مازلت على قيد الحياة .أقصد أني تركت هذه النصوص تتكلم نيابة عني وعنكم .وأقول :ماذا لو كنتم جميعا موتى الان ؟اني أدرك عميقا لعبتنا نحن الأحياء الموتى .. أو الموتى الأحياء .. أدرك جيدا لماذا تتهامسون عن اللعبة القادمة .. لكنكم، للأسف، أغلقتم أفواهكم خلال حياتي الشقية . ولا أحد منكم كلف نفسه، للأسف، على مدى سنوات وحدتي وعزلتي وفقري المخيف، أن يتعرف على حياتي . لقد كنت أبصركم من ثقب صغير .و أرى أدق التفاصيل المروعة التي كنتم تقومون بها.لا أحد منكم جاء ليعرف ماذا أفعل .. بل الحق أقول أنكم كنتم فزعين مني..ولا تخافون إلا أن أفتح فمي بالحق .. إلا أنكم أجدتم لعبة عزلي ودفعي الى حافة الجنون .فإذا كنت طوال الوقت أعالج محنتي بالكلمات، لم تكن زوجتي أسطورة ولا ابنائي البؤساء .. كانوا جميعا يعانون من الفاقة .لكني للحق كنت أعمل بطاقة خيالية .. ثمة زلزال يتحرك في أعماقي . فكنت أكتب على مدار الساعات والايام وبلا كلل أوضجر . ولم اسأل نفسي السؤال القديم :ماجدوى هذا؟
أنكم ستطلعون على فكرتي لتهز مشاعركم .. وهي فكرة أني أعمل خارج قانون الربح والخسران .لقد سعيت للفن ذاته وللحياة في أبديتها حتى وأنا أراها تغيب وتتلاشى أمامي .. لكني لم أفعل ذلك بحسن نية .اني في الواقع أتذكركم لشدة النور الذي كان يحرك عقلي وعاطفتي . فعملي اليومي الدائم دفعني الى البعيد .. لهذا الزمن الشائك .اني تركت عاداتي كلها، وغادرت جسدي .كنت أمضي زمني اتسلى وانا أردد:لاتتعجل الاقامة في الوهم .وكانت أمراضي المقدسة تعرقل تنفيذ رحلاتي الفنية .. الا أني كنت في عراك أزلي، لم أخسر ولم أربح، ولم أفكر، كما في السابق، بنيل الاوسمة أو سماع قرع الطبول .لقد قرأت جميع ما لديّ ـ وما توفر ـ من الكتب . وكنت أريد أن أطالع كتب العالم كلها .. إنما ذلك محض أمنية . فأنا تعلمت ذات يوم أن الحياة جديرة بهذا التعب لانها تنمو كالاشجار، وأنا محض حبيبات نور تتجول في الفضاءات .. ].
هذه المقالة أثارت ضجة .فعاد المحامي ليكتب :أين هو السيد ((ل))الذي يتحدث عن حياتنا الثقافية وعن بؤس وجودنا .. أين هو ..؟ اني في الواقع أود أن أراه وأتحقق من وجوده .. فأنا من أكثر الناس اعجابا بما يكتب .. ولكني اعتقد بأن "ل"ليس الا وهما أو رمزا . وبهذه الدقة أعتقد أن هذا الرمز يستثمر لاغراض مالية لاأكثر ولا أقل .ربما هو مازال على قيد الحياة .. إنما هل من المعقول، أو المنطق، اننا لانستطيع أن نتعرف عليه؟ ثمة غموض في هذه القصة .فهناك جهات تستغل اسم الكاتب .. أو إنها كانت قد تعاقدت معه لاداء مثل هذا الدور .. إنما نحن نتساءل :لماذا يذهب السيد "ل" الموقر ضحية هذا التلاعب ؟ لقد تحدثنا عن الوعي ودوره فأين هو الوعي إزاء هذا كله ؟ إن القراء، مثلي، يرغبون بظهور الكاتب "ل" لمرة واحدة لكي يعترف أو يقول أو يدافع عن نفسه، في أقل تقدير، إنما هذه القضية خاسرة .. ] .
وراحت الاتهامات تنصب نحو رئيس تحرير ((شمس الشموس)) لكونه ما زال ينشر مقالات الكاتب "ل" ودراساته بعد خمس سنوات من رحيله، حتى انه، وهو يحدث، مساعديه، وسكرتيرة التحرير، أخذ يشك بالامر . قال لها :
ـ " إنهم يضعوننا في القفص .. " .
فقالت :
ـ " لكننا نعمل بوضوح تام .. لقد نشرنا ومازلنا ننشر ما نمتلك من نصوص كتبها السيد "ل".. فاين هو المسار ا المغاير..؟ ".
ـ " إني أكاد أشعر بالورطة !صحيح اننا ربحنا جيدا .. الا أني ما زلت أعتقد أن السيد " ل" على قيد الحياة .. " .
ـ "ليكن .. وماذا في الامر ..؟ "
ـ " كيف .. إننا ننشر له، منذ خمس سنوات .. وكأنه يعمل معنا ..حتى ان هناك أشياء لاتحصى كتبت وكانها كتبت توا ..فهل "ل" مات حقا أم اننا مازلنا نروّج كذبة ما .. ؟ صدقيني اني بدات أشعر بالخوف ..! " .
ـ " بالخوف .. غريب .. ان القضية لاتستحق هذا كله.. فالسيد "ل" الذي اثار كل هذه الضجة، هو المسؤول عنها .. هو.. لا أنا ولا أنت.. ان زوجته تزودنا، أسبوعيا، بمقالاته.. وفي آخر الشهر، تأتي لاستلام الراتب.. ماهو الغريب أو الغامض في هذه القضية ؟ اننا نتسلم المقالات والمقابلات وننشرها لأنها جيدة جدا.. فلو كانت لدينا مقالات أو مقابلات أخرى بهذا المستوى لكانت قد أزاحت الأولى .. فلماذا تشعر بالخوف ..؟ إننا لا نعمل ضد القانون..".
ـ " لا اقصد هذا .. بل راح فكري في مكان آخر .. ترى ماذا لو كان "ل" على قيد الحياة ..؟ ".
ـ " وماذا .. إنها مسألة عادية .. طبيعية ..".
ـ أوو…ه .. أقصد .. لماذا لا يريد أن يرى الناس .. ولماذا عزل نفسه واختفى ..".
ـ" إنها قضية لاتخص الأحياء" .
ـ " أنا لا أقصد أنه مات.. بل لماذا الحياة لديه صارت بهذا الشكل..؟".
ـ " أي شكل .. أيها السيد رئيس التحرير..؟.
ـ " هذا الغموض غير المبرر. فالسيد "ل " مات منذ خمس سنوات.. مات تاركا هذه الضجة، التي لم تحدث في حياته.. ثم إننا التزمنا، أو وجدنا أنفسنا هكذا نلتزم هذه القضية . خمس سنوات ونحن ننشر لكاتب ميت، وهو يتحدث عن أدق تفاصيل المعارض والكتب والقضايا الأخرى .. ترى من يصدق انه مات.. هل مات.. حقا..؟ " .
ـ " انك مضطرب .. ياصديقي ".
ـ " بل اشعر بالدوار .. فالاتهامات تجاوزت فائدتها.. وقد تتعرض الدار كلها الى .. الى .. الغلق!." .
ـ الغلق.. ماذا تقول .. انك تكاد تفقد عقلك ؟." .
ـ " أجل .. فقد أكون أنا الذي انتحل اسم الكاتب اللامع "ل " لأسباب شخصية .. وهذه تهمة قد أجيد الدفاع عنها .." .
وقلب بين أوراقه، وتابع قائلا :
ـ " هاهو يكتب .. اسمعي جيدا .. " .
وأخذ يقرأ بصوت عال:
ـ " اعرف جيدا ان هناك مشكلات ستثار حول موتي .. ان الناس البسطاء هم وحدهم يمتلكون نبل الأشجار. أنهم غير مضطرين للكلام أو الدفاع عن النفس .. الأبرياء.. هؤلاء، سيدافعون عني : أنا الراعي وكلماتي هي الخراف نحرس ليلنا البعيد.. " .
سكت . فقالت له :
ـ " كلام .. كلام .. أنت تعرف الكلام .. لا ضرر منه .. " .
ـ " الكلام.. منذ الآن .. تهمة .. " .
ـ أراك ترتجف .. ".
ـ " اجل .. فأنا رحت أكتب دفاعا عن الموتى .. " .
ـ " أوه .. دعني أحسم الأمر .. ياصديقي العزيز .. إن " ل " مات قبل خمس سنوات .. وترك لدينا هذه النصوص .. فقمنا بنشرها.. أو أننا كنا قد اشتريناها منه .. هذا كل مافي الامر .. ".
ـ " لكننا نشرنا قضايا حدثت بعد رحيله .. أوه .. لماذا رحلت ايها الصديق العزيز.. ؟ " .
ـ " بسيطه .. إنه كان يبصر .. أو يستبصر .. فهو موهبة نادرة، فذة .. موهبة عجيبة وتلك هي موهبة السكير " ل " .. " .
ـ " دعينا من الخمر الآن .. إن "ل" .. " .
وسكت طويلا، قالت :
ـ" ماذا يدور في رأسك ؟" .
قال بهدوء :
ـ" المحكمة على حق .. فأنا، عليّ، الآن، إثبات أنه مات.." .
ـ" وماذا علينا ان نعمل ؟.." .
ـ" أعتقد .. علينا .. أنا وأنت.. أن نذهب الى زوجته .. فقد يكون " ل " على قيد الحياة .. " .
ـ" ولكننا دفناه بأنفسنا.. ".
قال بشرود :
ـ" هل دفناه جيدا ؟ " .
ـ " أجل .. أنا رأيت المشهد كله .. كان "ل" لا يتكلم .. " .
-" ولكنه مازال يتكلم..".
في ذلك اليوم، صدر الجزء التاسع من سيرة حياته . وفي مجلة " شمس الشموس " نشر " ل " مقالة جديدة تتحدث عن ويلات القرن : هزائم مدوخة وثرثرات بلا حدود . هذه هي الفاتحة : إن الناس، كالشياطين، يتناسلون بدافع الفراغ . فالجنس ليس تهمة، ولكنه حب، وشاية: رغبات تدفن الرغبات، والخيال لم يعد إلا حيلة.. وأنا أقول هذا لفتح أبواب الظلمات.. " .
ونشرت، أيضا، مقالة لا تحمل اسم كاتبها، تتحدث عن محنة "ل " جاء فيها:
" لقد عشت معه أدق الساعات مللا من هذا الوجود.. كانت بغداد تحت مطرقة الموت . العالم كله يضرب ويقصف ويهدم ويلعن وجودنا كله. العالم كله يحاول إلغاء وجودنا كبشر . آنذاك، في أكثر الساعات قلقا، كان "ل " يصنع فخارياته ومنحوتاته، لماذا؟ سألته . قال لي : الطين سيتكلم . أنا أحرق جسدي فاتحة للمسرات..ماذا تقول ؟ قال لي : الجنة كلها تحت المطارق .يا صديقي النار انطفأت، والقلب به خوف .لوعتي لامكان لها في هذا المكان..فأحزاني أبهى من المسرات. قلت له :اتخاف من الموت ؟قال:ماذا تقول .. الموت، مسرة الالفة ..ماذا تقول ؟ قال :الطين يتكلم ؟" .
ونشرت صحيفة أخرى هجوما مباشرا تحت عنوان "لعبة الموت " قالت فيه ان عصر الدعاية، كما يبدو، حتم وجود هذا السيناريو .. فكتب رئيس تحرير "شمس الشموس " ردا يدافع فيه عن عبقرية "ل" وعن شرعية نشر تراثه .. كما تحدث عن قدرات "ل" الخارقة التنبؤية . على أنه لم يقتنع .. فقد كان .. هو الاخر، يشك بالامر .. فقرر، في مساء ذلك اليوم البارد، أن يزور، مع سكرتيرة التحرير، أرملة الكاتب، في دارها .كانت أرملة الكاتب في الخمسين من العمر .. وقد استقبلت ضيفيها، بإنشراح، وراحت تبادلهما الاحاديث الودية .
قال رئيس التحرير :
ـ "في الواقع هناك مشكلة .." .
ـ "مشكلة ؟ ".
ـ"أجل ..إنها مشكلة .. إنها مشكلة معقدة .. ".
ـ" ومشكلة معقدة ..اذا ً.." .
ـ " إنها على أية حال، مشكلة ننتظر ان تساعدينا بحلها . فقد قمنا بنشر تراث زوجك العزيز .. الذي كتبه بعد رحيله .. ".
ـ" ماذا تقصد ؟ ".
"أقصد انه كتب، مثلا، مقالات تخص المناسبات الكبرى .. وكان يكتب بدقة تفوق دقة الاحياء .. فهل كان يبعث بمقالاته من العالم الاخر ؟ ".
ـ" إنها محض مبالغة .. يا عزيزي ..".
ـ" بل إنه تحدث عن حقائق لايمكن لميت ان يكتبها إلا إذا كان على قيد الحياة ..".
ابتسمت السكرتيرة، وقالت :
ـ"ميت على قيد الحياة ..غريب ..؟!".
قالت أرملة الكاتب :
ـ"هذا يعني إننا كنا نزور مقالاته .. وكتبه ..؟"
ـ" لا.. لا.. أقصد ذلك .."
ثم صمت برهة ليتابع :
ـ"..ترى من ذا الذي يمتلك أسلوبه .. سؤال آخر، اقصد :علينا ان نكتشف الموهبة الجديدة .."
ابتسمت زوجة الكاتب، ودافعت عن نفسها :
ـ "أنا لا أجيد كتابة المقالات ولا القصص ولاأي شيء آخر .. وليس في أسرتنا من يمتلك موهبة الراحل .."
فرفع صوته مقاطعا :
ـ " حسنا .. لقد نشرنا خمس مقالا ت عن حياة الفنان الراحل "ل": مقالة في كل سنة ..وفي ذكرى رحيله .. فهل كتب الراحل هذه المقالات قبل رحيله ..حسنا .. لكنه كان يكتب عن أشياء بعد مغادرته هذا العالم .. إني لم اعد افهم خاصة إننا نتعرض الى نقد لاذع من قبل الخصوم والأصدقاء أيضا"
ثم سكت .وتكلم بشرود ذهن :
ـ "حتى المناسبات الخاصة كان يتكلم عنها وكأنه أبصرها .. ترى ماذا لو تحولت تلك المناسبات الى مناسبات مختلفة ..مثلا؟"
ـ "انه كتب عن ذلك ..وكتب ..عن .."
قاطعها :
ـ"هل كتب عن عودة الملكية حقا ؟".
ـ"لم يبشر بعودة الملكية ..ولم يدع إليها ..انه كتب عن المناسبات ..وكان يصوّر الشعب ..".
"الملكية ..غريب .. اني لم أعد أصدق إنه يعيش في العالم الاخر ..انه معنا ..بل ربما يجلس هنا، في غرفته ..اليست هذه هي غرفته ..وهذه كتبه، ولوحاته..ومنحوتاته ..؟"
ـ"نعم …اننا تركنا الاشياء كما كانت ..فلدينا قناعة بانه يزورنا يوميا ..في الفجر أو في الليل .. يجلس امام منضدته ..تلك ..ويكتب .."
ـ"وكنت تأتين لي بمقالاته التي يكتبها يوميا..؟"
ـ"كلا ..إنه لم يكن يكتب بهذه الطريقة .."
ـ "اذا ً ..كيف كان يكتب؟"
أجابت بهدوء :
ـ"لقد كتب الراحل مجموعة كبيرة من الدراسات والمقالات والمقابلات و.. ".
كانت سكرتيرة مجلة "شمس الشموس "تدون ..وكانت أرملة الكاتب، تقول متابعة:
ـ "قبل ان يرحل بشهر، أو بأشهر، قال لي في آخر أحدى الليالي :انه سيموت.كان يعرف انه سيموت .بل كان يريد ان يموت .فقد ضجر من الحياة، والعزلة..قال لي في تلك الليلة :إسمعي يازوجتي ..التجار يتركون ثروتهم..مثلما الاثرياء يتركون العقارات والمال..أما أنا فسأترك لكم هذه الأشياء: أعمالي الأدبية والفنية وكل الأشياء الصالحة لمنفعة الناس والقابلة للتداول .. ليس لدي ثروة، كما تعلمين، للأسف ..وليس لدي رصيد أو عقار أو مال ..كل ما أمتلكه أني كتبت وكتبت وهذه هي ثروتي التي أتركها لكم .وأنا على يقين بأن الاصدقاء سيفرحون بها ..وسينشرون الصالح منها .."
وتابعت بصوت حزين :
ـ "وهكذا كنت أقدم موضوعاته لكم ..فقد كتب إشارة فوق كل مادة وتاريخ نشرها ..آووه..".
ـ "وها أنت ترى، بين يدي،هذه المقابلة التي اجراها مع سيادتكم، وقد كنت.."
قاطعها :
ـ "معي ؟"
ـ"نعم ..أنظر .."
ورفعت صوتها، وهي تتكلم بثقة :
_" رئيس تحرير شمس الشموس :الازمات أزلية .. "
وشرد ذهنه . فكر . هل فعلت ذلك حقا ؟ آه. قال في نفسه، أجل،إنه أجرى معي هذه المقابلة .. كانت ليلة باردة جدا.. وكانت لعنة الحرب قاسية جدا، قلت له بماذا تفكر؟ قال: الخمر .. قلت له: انك تدمر نفسك والاعداء يفرحون لذلك، قال: لا أعداء هناك . قلت : اشرب .. اذا ً .. قال : أريد أن أغني .. وغنى بصوت مكتوم.. ثم راح يسألني أسئلة عجيبة. وكنت أتكلم بحرية، وبلا رقابة .. فأنا اعرف من هو "ل" هذا الوديع الخجول البسيط الطيب الذي وهبه الله الاشياء كلها والتي ضاعت.. وسكر.قلت له: والآن بماذا تحلم؟ قال: لقد طردت الاحلام من مملكتي، اني نفسي صرت الحلم. فأنا لم أعد أميز بين عالم وعالم . العالم واحد. الحقيقة، مثل الوهم، واحدة، وشرب. كان يكتب. يسألني ويكتب ..".
ـ " هذه هي المقابلة .. اذن .. كاملة .. " .
حدق في عينيها وسألها بشرود :
ـ "على مدار ساعات النهار والليل.."
وتابعت :
ـ "منذ عرفته ..قبل الزواج، وخلال ربع قرن، بعد الزواج، لم يتمتع براحة .في البدء حاولت منعه ..ولكن بلا جدوى .. فتركته، كان يكتب طوال الوقت ."
ونهضت ..فتحت باب خزانة كبيرة :
ـ"أنظر ..انه ترك مئات الاشياء .."
ـ "رباه ..هل هو الذي انجزها ..؟"
ـ "نعم ..هو الذي كتبها ..أنا لا أعرف الكتابة ..بل كان يقول لي :لكم أود أن أكتب جملة مرة، مشرقة آثمة،بلورية، في وقت واحد .."
رفع صوته :
ـ "ذاكرتك رائعة ..مدهشة .."
وقال، وهو يحدق في الجدار:
ـ "بالإمكان نشر كتاب جديد .."
وقال:
ـ "زوجة "ل"تتذكر.."
ابتسمت، وقالت:
ـ "عندما تنتهي المواد التي تركها، سأكتب قصته..إنما أود ان أسألك :أين كنتم طوال سنوات عزلته.."
ـ "كنا في العمل ..إننا مشغولون ..فالحياة لم تمنحنا فرصة للراحة أو التأمل..زوجك، هو الذي انسحب من الحياة ..وهو الذي قرر اختيار العزلة ..إنه قرر إختيار الموت ..وعلى أية حال، الحياة هي الحياة ..لاجدوى من الحديث عن الماضي ..إنها متحركة، بلا معنى، عدا المعنى الذي نتوقف عنده، هذا الشرف النبيل والمؤلم والمفرح الكامن داخل الافعال ..إنها متحركة وسريعة الزوال..القفل الذي يدور بالباب يكتم أسراره .تلك هي جملته.فقد كان زوجك الراحل شخصية نادرة .."
واستمر يتكلم، ثم قاطعته، بهدوء :
ـ "مات يدافع عن هذا الوهم ..تاركا أرملة وسبعة يتامى ..أليس كذلك ..؟"
ـ "كلا ..كلا أبداً ..انه ترك ثروة لاتقدر بثمن ..".
ـ "ترك أرملة وسبعة يتامى ..هذا كل ما في الأمر .."
ـ "لكنه ترك لكم الاسم ".
ـ "ماذا نفعل بالاسم ؟هو وضع اسمه الى جانب الأسماء ..أما نحن.."
ورفعت صوتها :
ـ" في الواقع كدت لاأفتح لكما الباب ..إنما .."
ـ" ما الذي حدث ..يا سيدة ..؟"
ـ" انه ترك أرملة وسبعة أفواه .."
ـ" ووصيته؟".
ـ" هذه المقالات .إنها بالكاد تكفي لشراء الخبز ..".
وانتابها الأسى ..الذي دفعها للمتابعة :
ـ"مع ذلك أنا أقدس ذكراه ..وسأكتب، ان شئت، ذكرياتي عن الراحل ..".
ـ" الراحل ..؟"
ـ" أجل ..الراحل ..الاتعتقد انه رحل عنا .."
ـ" أجل ..أجل ..هذا أكيد .."
فقاطعته، وهو يتمتم :
ـ" لقد كان ينحني ..للاسف..للريح التي كانت ستنحني له .."
وسكتت ..شعرت انها غير قادرة على الكلام .زمن مضى .لكنها نهضت، بلا وعي وجلست، كانت مضطربة .
وصارت تتكلم بسرعة :
ـ" قبل ان يموت .. اجل ..قال لي :هذه وصيتي ..وهذا هو ميراثي لكم ..كتب..مقالات ..و.."
وقالت، بعد ان هدأت:
ـ" ثم انخرط في بكاء حاد .في تلك الليلة طلب مني ان استمع اليه .. واستمعت اليه، حتى الفجر، عندما قال لي بهدوء :انتهى زمن اقامتي فوق هذه الارض ..لم اصدق ..لكنه تابع بهدوء عجيب:هل احببتك ؟ نعم ..احببتك كثيرا ..مثل حبي الشيطاني للكتابة ..احببتك الى الابد ..انما زمن اقامتي انتهى ..زمن هذا الجسد الواهن .."
ورفعت صوتها :
ـ"وبهدوء ..بعيدا عن ضوضاء البشر، وصخب حياته الاولى، رحل عنا .."
سالها رئيس تحرير "شمس الشموس " بذهول :
ـ" لقد رحل اذن ؟"
ـ" اتشك بذلك ؟"
ـ"لا..لا..انما القضية غدت .."
قالت سكرتيرة التحرير لهما :
ـ" لاغموض في القضية .لقد ترك الراحل لنا ثروة ادبية وفنية لاتقدر بثمن..وسنواصل العناية بها .."
قال بصوت مرتبك :
ـ"سنواصل ..حسنا ..سنواصل النشر ..فالراحل ترك لنا مقالات وحوارات تكفي مدة طويلة من الزمن ..لقد كتب عن الملوك والاميرات والبحار والشياطين ..لقد ترك لنا ميراثه ..اذن .."
ثم نهض ..وهو يتابع :
ـ" ساكتب ..مقال :"ل" يتكلم .."
وجاءت مقالته كعاصفة جديدة،عاتية، وسط ذاك المناخ المشحون بالاسرار والاشاعات والفكاهة السوداء ..فقد كتب :
"أنا شخصيا لم أصدق ان السيد "ل" فارق عالمنا الصاخب .عالم الوهم والمرارة والجمال،وانه، مات حقا.إنما لقد مات بالجسد الوثني، الصافي، وترك لنا أجسادنا،وذاكرتنا، وهلوستنا :شرفنا وشغبنا وجلالنا أيضا .وها نحن لانمتلك الاذلك، ماضيه وما سيغدو، بالنسبة لكم، ذكرى.إنها واحدة من الومضات،ان أمسكت بنا، أو امسكنا بها،إنما هي ومضة وسط هذا كله..وعلينا، اذا ً، ان نبدأ منهاأو بعدها،كقصة حدثت هنا،أو هناك، إنما حدثت، ومازالت تحدث،في كل ومضة، من ومضات هذا العمر،في الزمن الماضي، أو في أي زمن قد لايقدر له أن يكون .. إن " ل " فند سطوة الموت .. " .
بعد ذلك، قيل، تابعت الصحافة والمجلات والتلفاز العناية باعماله الثقافية والفنية..وقيل انه حاز على جائزة كبرى، تسلمتها أرملته ..وقيل انه أرتكب غلطة فادحة، هي غلطة العمر، ودفع ثمنها رمزيا عندما صدرت قرارات بعدم نشر مقالاته الا في جريدة واحدة .إنما كانت قصة الكاتب "ل"متداولة، مثل الحكايات الشعبية ..وقد اعترف، هو ذاته، في قصة له، ان حكايته لن تنتهي..لأنها لم تبدأ بعد وهل بدأت حقا؟


آب ـ1991


الاثنين، 27 فبراير 2012

من الرابح !!!,الساسة ، المواطن ، الوطن ؟-حامد كعيد الجبوري


إضاءة
من الرابح !!!
الساسة ، المواطن ، الوطن ؟
حامد كعيد الجبوري
من المؤكد أن الجميع يعرف نتيجة هذا التساؤل الساذج ، و لا ضير في التذكير لننتفع من هذا التذكر ، قبل سقوط صنم الدكتاتورية كنا نؤمل أنفسنا ببحبوحة نفتعلها لنقنع أنفسنا بتغير لابد صائر ، وكنا نقول لأبنائنا ونحن نجلس لمائدة الإفطار أو الغداء أو العشاء أن ما يملكه العراق من خزين نفطي يجعلنا نعيش أفضل من أي بلد آخر ، بشرط أن يدير دفة البلد أبنائه الأصحاء ، ورسمت لنفسي ولعائلتي حلما ورديا لا يحلم به إلا السذج أمثالي ، قلت لهم أن هؤلاء سوف يغدقون علينا بعطايا من مالنا الخاص المستودع لنا في باطن أرضنا وفي البنوك العراقية ، وقلت لهم أن العراق سيضاهي اليابان صناعيا ، وهولندا بالورود والمنتجات الحيوانية ، وستكون لكل عائلة عراقية خادمة أو خادم من الفرنسيات أو الألمانيات أو السويديات ، وأولادي تعلو رؤوسهم لما يستمعون له ، سقط النظام وجاء أبناء البلد المشردون والموزعون بكل بقاع العالم ، أتوا لنا حفاةً لا يملكون شيئا إلا القليل منهم ، فتحنا لهم أبواب قلوبنا ، ونظّرنا لهم ، وتسابقنا لصناديق الاقتراع لنجعلهم سادة وقادة لنا ، تسابقنا سنة وشيعة ومسيح وغيرهم ، تسابقنا عربا وكوردا وتركمان ، أغمسنا أصابعنا بذلك اللون البنفسجي وليتنا لم نفعل – انا والحمد لله كل الانتخابات التي مرت لم تحصل القائمة التي أرشحها لشئ يذكر - ، وكانت النتيجة كما ترون ونرى ، صراع لا نعرف أوله لنحكم متى سينتهي ، اختلاسات وفساد مالي وإداري وأخلاقي لا حصر له ، كنا نحكم لحزب واحد والآن لجملة أحزاب ، كنا نصفق لشخص واحد والآن نصفق لساسة جوف كثر ، كان واحدا يسرقنا واليوم نسرق من الجميع ، رضينا بكل شئ ، رضينا بالفدراليات ، ورضينا بأنصاف المتعلمين ، ورضينا بالقتل والتشريد والتهجير ، قبلنا بالذبح على الهوية ، أجج الساسة لا جزاهم الله خيرا الفتنة الطائفية ، وهدمت جوامعنا و مساجدنا وكنائسنا ومقدساتنا الدينية ، أستأثر الساسة وأقاربهم ومن يخصهم بالمناصب والوظائف والتعيينات والإيفاد والناس صفرات أيديهم من كل ما ذكرت ، يشرعون قوانين ويشرعنونها لمصالحهم الذاتية ، بكل هذا ونحن راضون لا يخرج منا أحد للمطالبة بحقه المغتصب ، والأمر والأنكى من كل ذلك هو تصاعد حدة ووتيرة الصراع السياسي بين هؤلاء لينقلوها الى الشارع العراقي ، الكل من هؤلاء الساسة يخرجون بوجوههم الكالحة على شاشات الفضائيات ليكيلوا الشتائم والسباب كل الى خصمه ، الكل يتهم الكل بالخيانة والحصول على المميزات دون الآخر ، الكل ينادي أين ذهبت حكومة الشراكة الوطنية ، والعجيب أن المساكين أمثالي يظنون أن حكومة الشراكة تعني توزيع الوظائف والوزارات على القوائم في ما بينها ، والحقيقة غير ذلك ، القاتل في الحقيقة أنهم يقتسمون في ما بينهم المغانم التي تركها لهم طاغيتهم المقبور صدام العراق ، والأعجب من كل ذلك لم أستمع لسياسي سني أو شيعي ، أو كردي أو عربي ، وهو يقول للجميع وبملأ فمه أين هو حق المواطن ، لم لا تعطون للمواطن حقه وتقاتلوا أنتم على كيفية القسمة لا حقا ، ولم أستمع لسياسي أو نصف سياسي وهو يقول أين هو العراق من كل هذا الاقتتال والتحارب ، أيها الساسة سوف نطلق لألسنتنا العنان ، ولأقلامنا الحبر ، ولمعارفنا بالنصح ، ولعوائلنا بالتأييد ونقول للجميع أن مثل هؤلاء لا يصلحون لقيادة قطيع فكيف يقودون بلدا لسدة الأمان ، أيها الناس أحفظوا سماء هؤلاء وثقفوا ضدهم في انتخاباتنا القادمة ، فلو أسمعت لو ناديت حيا ، ولكن لا حياة لمن تنادي ، للإضاءة ........... فقط .

ثورات الربيع العربي-بقلم: غسان بن جدو



اخيرا ... وجدنا رجل صحفي (مفكر) له اثر ومكان في الثقافة الحاضرة ليكتب مقال بطريقة علمية عقلانية حريصة على تحقيق العدل بالعقل لا بالغوغاء. والله لم اقرأ افضل من ما كتبه هذا الكاتب ليعبر عن رأيه بصدق وحساسية ... الحمد لله عشنا لنجد من يسبح مع تيار الحق والعقل ولا يساير مع التيار الاعمى على حساب العقل والمنطق والدين.
يلومني الكثيرون على تجاهلي لما يسمونه "ثورة الربيع العربي" وإصراري على إشاحة نظري عنها بازدراء .. ويسوق لي البعض المقالات والمقابلات وصورا من اليوتيوب .. لكنني لم أستطع ابتلاع هذه الثورات ولا هضمها ولا استساغتها ..
وموقفي ليس عنادا ولا تشبثا بنظام ولا بعهد بل هو انحياز نحو عقلي وقلبي أولاً، وانحياز نحو كل ما تعلمته وقرأته .. وأنا قرأت كل ما قرأت في حياتي كي أتمكن من استعمال عقلي في حدث مفصلي كهذا .. وكي لا أسلّم بالأشياء فقط لأن الجمهور يريد ذلك ولأن بوصلة الشارع لا تخطئ بحسب ما يزعمون .. إنني لا أحب السير مع القطيع الذي تقوده الذئاب ..بل وتسير بينه الذئاب .. ولا أحب الثورات التي لا تعرف نكهة الفلسفة ولا نعمة الفكر..فهذا برأيي ذروة الكفر..
لا تلام الديكتاتوريات إذا لم تكن لها فلسفة ولا فلاسفة يعتد بهم وبفكرهم .. فالثيران لا ضروع لها لتنتج الحليب ..ولا أتوقع أن تنتج الديكتاتوريات فلسفة ذات أثر .. لكن لا يغفر للثورات فقرها بالفلسفة وغياب الفلاسفة والمفكرين عنها وهم الذين يضيؤون ويتوهجون بالأفكار .. والثورات العظيمة يوقدها عظماء وتضيئها عقول كالشهب وتتكئ على قامات كبيرة ترسم بالنور زمناً قادماً بالقرون .. وغياب هؤلاء يسبب تحول أي ثورة إلى مجرد تمرد أهوج وانفعال بلا نتيجة سوى الدمار الذاتي..
الثورات الشعبية عادة هي انعكاسات لصراعات اجتماعية عميقة .. وسلوك الثورات انعكاس لفلسفة بعينها تغذيها.. فلكل ثورة صراعها وفلسفتها وقاماتها .. وبالتالي لها أبطالها على الأرض وفلاسفتها .. وغياب الفكر والفلسفة يجعل الثورة تمرداً ليس إلا، ولا تحمل إلا صفات الانفعال الشعبي والغوغائي .. فالثورة الفرنسية كانت رغم عنفها وجنونها ثرية بالفلاسفة والمفكرين الذين صنعوا من فعل الثورة حدثاً مفصليا في التاريخ عندما تحولت هذه الثورة إلى وسيلة صراع اجتماعي مسلحة بالفكر الثريّ وبالمنطق الذي لا يزال يجري في عروق قيم الحضارة الإنسانية .. كان الدم يسيل في طرقات باريس ومن مقاصلها ومن جدران الباستيل، لكن كذلك كانت المصطلحات الثورية والمفاهيم الكبرى الفرنسية الصنع والصياغة عن المساواة والحرية تطل من الشرفات وتضيء مع شموع المقاهي .. وتفوح كالعطر من مكتبات الثورة ومؤلفاتها.. فكدنا نرى مفكرين وفلاسفة وكتباً أكثر من أعداد الغوغاء التي اجتاحت باريس ..فلاسفة الثورة الفرنسية ومفكروها كانوا أكثر عدداً من الثوار الذين زحموا الطرقات..
وكذلك كانت ثورة البلاشفة في روسيا فبرغم أن من قام بها كانوا على درجة كبيرة من الأمّية (الذين أطلق عليهم البروليتاريا) فإنها اعتمدت على فلسفة عملاقة هي الماركسية والماركسية اللينينية وكل متخماتها من جدلية هيغل ومادية فيورباخ.
ويروي المؤرخون حادثة تدل على أن مَنْ قام بالثورة البلشفية لم يكن يعرف ما تقول فلسفة الثورة لكنه كان منجذباً إلى حد الانبهار بفلاسفتها وفلسفتهم دون أن يفقه منها شيئاً، لكن مفكري الثورة كانوا يعرفون عن البروليتاريا كل شيء .. فقد كان لينين الساحر المفوّه يخطب في حشد من الناس ويبشرهم بأن البروليتارية ستقوم ببناء القاعدة المادية الفولاذية للثورة .. وهنا اندفع أحد المتحمسين من المحتشدين وصاح بتأثر وحماس: أيها الرفيق لينين ..إنني حدّاد وأنا سأضع كل إمكانياتي وخبرتي في صناعة الحديد في بناء هذه القاعدة الفولاذية .. بالطبع ما قصده لينين كان غير "المصطبة الحديدية" التي قصدها الحداد ..
واليوم يحاول الكثيرون تسويق الربيع العربي على أنه ثورة من ثورات العالم الكبرى التي تتعلم منها الأمم والشعوب برغم أن هذا الربيع لا يعدو في أعلى مراتب التوصيف أن يكون تمرداً اجتماعياً متشظياً قائماً على الانفعال العاطفي الوجداني لجمهور تائه لا يختلف عن الحدّاد الذي أراد أن يبني "مصطبة" القاعدة المادية الفولاذية للينين .. فقد غاب عنا في هذه الثورة العربية "المترامية الأطراف" من شمال إفريقيا إلى اليمن السعيد والى سورية شيئان مهمان هما فلاسفة الثورة الكبار ومفكروها .. وكذلك غابت كلياً فلسفة الثورة .. واللهيب الذي نراه اليوم لم يوقده فلاسفة ولا عمالقة ولا قامات ولا هامات ولا فكر .. هذه ثورات أوقدها النفط والجهل وحديث التعصب والتدين السياسي، وليس القهر والحرمان والديكتاتوريات، أما فلاسفتها الحقيقيون فلا يتكلمون العربية !!..
البحث عن ماهية فلسفة ثورة الربيع العربي عمل شاق للغاية.. والأكثر شقاء هو البحث عن فلاسفة الثورة والخزانات الفكرية الضخمة التي تستمد منها الثورات الكبرى طاقتها الخلاقة.. وقد حاولت ولشهور طويلة متابعة شخصيات هذه الثورة وكتاباتها وكتابها ولاحقت عيناي كل المقابلات الصحفية والبرامج التحليلية لكنني ما التقيت سوى الخواء وما وجدت نفسي إلا في صحراء قاحلة بلا واحات وبلا نخيل عالي القامات.. وبلا قوافل المؤلفات الكبيرة.. ولم أجد قامات مفكرين ناهضين في الثورة كأنصال السيوف.. عجباً هل أقفرت الثورات العربية العابرة للقارات من تونس إلى سورية مروراً بمصر واليمن من أية مرجعية فكرية تستند عليها الجماهير.. وتضبط سديمية هذه الجماهير وغوغائيتها ..؟؟
من جديد يعاتبني الكثيرون على إنكاري لوجود ثورة ويبعثون إليّ بالمناشير ومشاهد اليوتيوب والمقالات ومقاطع المقابلات.. ولكن عذرا أيها السادة فلا أزال مصراً على انه لا توجد ثورة عربية ولا ربيع عربي بل انفعال اجتماعي وقوده مال ونفط وفلاسفته أوروبيون.. هذه حقيقة مؤلمة..
إن كل ما رأيناه هو حركة فوضوية لجمهور بلا قيادة وبلا قائد وبلا عقل مدبر .. وهنا كمنت الكارثة الوطنية.. فالربيع العربي "العظيم" لم ينتج أكثر من منصف المرزوقي في تونس التي ذهب فيلسوفها الصغير الغنوشي سباحة إلى نيويورك ليقايض كتبه في ايباك بثمن بخس هو "السلطة".. وهذه ليست من صفات فلاسفة الثورات الذين تأتي إليهم الدنيا لتسألهم عن فعل الثورة ولا يذهبون إلى تسول الاعتراف بثوراتهم..
ولم ينتج الربيع العربي في ليبيا سوى "مصطفى العبد الذليل" الليبي فيما لم يكن هناك مفكرون إسلاميون من وزن المفكر الصادق النيهوم الذي كان قادراً على قيادة ثورة فكرية تقود الجمهور الغاضب.. وفي كل ثورة مصر لم نسمع بمرجعية ثورية واحدة.. سوى شاب عشريني يسمى وائل غنيم !!.. والفجيعة كانت أن كل هذه الثورات تتبع مرجعية قطرية خليجية مدججة بالزعران والمجانين وصغار الكتاب الذين كانوا أكثر أميّة من الدهماء في شوارع الثورات وأكثر عدداً من المتظاهرين في أحياء الثورة السورية.. وكانت هذه الثورات مجهزة بقاذفات الفتاوى الدموية الرديئة المخجلة والخالية من الإنسانية والمليئة بـ "الإسرائيليات" والأساطير ..
في كل يوم يحاول "فقهاء" الثورة العربية حل هذه المعضلة والأشكال عبر ضخ أسماء عديدة ومنحها ألقاباً مفخمة من باحث إلى أستاذ العلاقات إلى بروفيسور إلى رئيس مركز إلى..إلى.... والحقيقة هي أن صنّاع الثورة والمدافعين عنها يحاولون تجاوز هذه المعضلة الحقيقية خاصة بعد انهيار أسطورة المفكر العربي عزمي بشارة واحتراقه حتى التفحم ..
عزمي هو الوحيد الذي لعب دور فيلسوف الثورة والربيع العربي بإتقان.. كان مفوهاً وكان في منتهى الدهاء فهو يوصّف الثورات وأمراضها بمكر وكان من الخبث لدرجة انه لامس الوجع الاجتماعي العربي وجعل الناس تنسى أنه كان عضو كنيست إسرائيلي و مدير الأبحاث في معهد فان لير الإسرائيلي في القدس.... والأكثر من ذلك أنه أنسى الناس أنه المفكر الذي يعيش في كنف اللافكر وتحت إبط الانحطاط الأخلاقي والثقافي وتحت رعاية أكثر الأنظمة جهلاً وقمعاً .. وبعد تلك المقابلة المهينة مع أخيه علي الظفيري وتوسلاته بتجنب الأردن في منظر صدم كل من شاهده رأى الناس احتراق الفيلسوف الوحيد للثورات العربية كبئر نفط وقعت عليه كتلة من اللهب.. ولم تتمكن الجزيرة وكل المعارضات العربية من إنقاذ حريق الفيلسوف رغم كل سيارات الإطفاء.. الفلسفة قد تسقط لكن لا تحترق ..والفلاسفة قد تحترق أجسادهم لكن لا تحترق أقوالهم وقاماتهم.. واحتراق الفيلسوف يدل على تفاهة قيمه وأنه مجرد ثرثار يردد مقولات الفلاسفة.. وعزمي كان يحترق بشدة وتنطلق منه غمامة كثيفة سوداء كاحتراق الفوسفور المتوهج على أجساد أطفال غزة .. وسط دهشة الجميع وانفغار الأفواه المذهولة ..
قللت الجزيرة من حضور الفيلسوف المحترق لكنها عجزت منذ تلك الحادثة عن تصنيع فيلسوف آخر وكانت كل محاولاتها لنفخ الأبطال والمفكرين تصطدم بعقبة غريبة.. وهي.. أنه يمكن لهذه الثورات والربيع العربي أن ينتجا مقاتلين ومتظاهرين وراقصين في الطرقات ومصورين وممثلين على اليوتيوب لكن يستحيل إنتاج فلسفة أو خلق فيلسوف.. لسبب بسيط أنها ليست ثورات طبيعية وليست ثورات قائمة على تطور منطقي يصنعه جهابذة فكر وعصارات عقول المجتمعات.. فالثورة عادة تأتي بعد نهوض الفلاسفة وإضاءاتهم وزرعهم البذور واختمار أعنابهم.. أما أن ينهض الفلاسفة بعد الثورات فمحال.. ومستحيل.. والأكثر استحالة أن تنتج ثورة فلسفة.. لأن الفلسفة هي التي تنتج ثورة.. ولذلك انتبه الأستاذ الكبير محمد حسنين هيكل إلى هذه الحقيقة وحاول إنقاذ ثورة عبد الناصر بحقنها بالفلسفة.. فكانت محاولات إطلاق فلسفة الثورة التي نجحت نسبياً لسبب واضح وهو أن ثورة عبد الناصر تميزت أنها لم تكن دموية ولم تكن ثأرية.. لكنها كانت تعكس إضاءات فلسفات أخرى مجاورة في الهند (غاندي) وفي روسيا (الاشتراكية).. وكانت تالية لانكسارات وحطام الإمبراطوريات الكبرى بعد الحرب العالمية ..
المعارضة السورية حاولت نحت شخصيات رمزية وقدمت برهان غليون بطريقة دعائية صارت عبئاً عليه وعبئاً علينا فهو رئيس مركز دراسات الشرق المعاصر وهو مؤلف وهو بروفيسور سوربوني وهو كل شيء.. لكن أداءه الرديء وتناقضاته الفجة مع ما كتب في السابق طوال عقود ضد الإسلاميين لم يجعله مفكر الثورة ولا فيلسوفها.. فمن غير الممكن أن يكون غليون فيلسوف الثورات الدينية وهو من خرّق المفاهيم الإسلامية وسفّه تياراتها عملاً وقولاً وكتابة .. علاوة على ذلك فإن الفيلسوف هو من يرفض الانضواء في قيادة الثورة بل يغذيها ويضيئها .. لكن غليون بدا صغيراً وضئيلاً وهو يستمتع بلقب الرئاسة لمجلس لا قيمة له ..وبدا أن أقصى طموحات الفيلسوف هو السير على سجاد أحمر وإمضاء الأيام في الفنادق الفخمة والحديث إلى كل الفضائيات وقطف النجومية الإعلامية ولقاء مذيعات العرب وليلى وخديجة وبسمة و و.. ولذلك لوحظ أنه بعد توليه رئاسة المجلس الوطني السوري طارت عنه صفاته العلمية الخارقة فجأة وذابت توصيفات عبقرياته وانجازاته الفكرية وتحول من مفكر وفيلسوف للشعب السوري وثورته إلى رئيس مجلس معارض ينتظر راتبه وتجديد عقد عمله شهرا بشهر.. وكان سقوط كل صفاته العملاقة التي أسبغت عليه هو نتيجة منطقية لأن كل ما منح له من صفات كان مثل باروكة وألبسة وأقنعة مسرحية طارت مع عاصفة مواجهة الميدان الفكري للفلسفة الثورية.. فانكشفت صلعته بعد أن اقتلعت الريح الباروكة التي وضعتها له الجزيرة.. ولن يجديه بعد اليوم الهرولة خلفها.. فلن يظفر بها.. في هذه الرياح العاتية التي لا ترحم.. وربما كانت غلطة عمره لأنه انخرط شخصياً في العمل السياسي بدل بقائه بعيداً كرمز فكري وملهم للثورة.. وكان من الممكن أن يكون في مرحلة ما ضمير الثورة وأن يوصل الجميع إليه كأب فكري للثورة .. لكنه ولغياب عبقرية الفيلسوف وسطحيته الفكرية قبل أن يستعمل كالغطاء لوجه الثورة الديني.. وقبل بالعمل لدى أعرابي جاهل مثل حمد.. وبالعمل لدى هيلاري كلينتون بوظيفة مصطفى العبد الذليل.. باسم برهان الفيلسوف الذليل..
ومن سوء طالع الثورة السورية انه لا توجد أسماء أخرى يمكن تصنيعها لملء الفراغ.. والسبب هو غياب أي فكر خلف هذه الثورة.. ولكن السبب الأهم كما أعتقد هو أن الفلسفة الحقيقية للثورة والفلاسفة الحقيقيين للثورة ليسوا في صفوف الثوار بل في أعضاء مجلس الأمن الغربيين.. وبنبش المزيد من الأتربة التي تغطي وجه هذه الثورة سنصل إلى مفكر الثورة وفيلسوفها الرئيسي وهو الفيلسوف برنار هنري ليفي.. وفلسفة ثورته هي في الحقيقة اللجوء الى التدمير الذاتي للقوى الاجتماعية العربية عن طريق إطلاق التمرد الشعبي وحرمانه من الفكر الذي يوجه سديميته.. فيتحول إلى فوضى يتحكم بها فلاسفة الثورة الحقيقيون في الغرب وعلى رأسهم ليفي نفسه ..
بالطبع مايثير السخرية الشديدة هي الثورات المدججة بالهزال الفكري والقحط والتي تشبه مواليد المجاعات الافريقية.. ويكفي الاستماع للفيلسوفة رندة قسيس مثلاً وتعذيبها للغة العربية وحروف الجر وارغام الفعل المضارع على أن يكون مجروراً من رقبته بالكسرة ومضموما إلى فعل أمر !!.. بل إصرارها على إطلاق زخّات العلم والمعرفة بالحرية حتى كدنا نظن أنها ابنة توماس مور.. ويكفي الاستماع للفيلسوفة فرح أتاسي ومرح أتاسي وكل رهط الأتاسي حتى نعرف إلى أين وصلت بنا المآسي عبر فلسفة الأتاسي.. أما الإصغاء أو قراءة فيلسوف الثورة السورية الذي يرتدي قبعة "ايمانويل كانت" أي - محمد عبدالله - فيوحي أن الفلسفة تمر بأزمة نفسية خطيرة خاصة عندما نقرأ تحليله لأسباب الفيتو الروسي الأخير.. فقد كدت أقوم من جلستي لأصفق له لأنه الوحيد الذي هزم دونالد رامسفيلد.. لأنني لم أفهم كلمة واحدة مما قال وذكرني ماقاله هذا الفيلسوف بما قاله دونالد رامسفيلد عن المجهول والمعلوم عندما قال: "هناك أشياء نعرف أننا نعرفها، وأشياء نعرف أننا لا نعرفها، وأشياء لا نعرف أننا نعرف أننا نعرفها، وأشياء نعرفها ولكن لا نعرف أننا نعرفها" ..
ولا أبالغ إن قلت إن ما قاله رامسفيلد أكثر ثراء من مقالة محمد عبدالله عن الفيتو الروسي.. وأنصحكم بقوة أن تتجنبوا قراءة ماكتبه فيلسوف الثورة السورية (نسخة ايمانويل كانت) محمد العبدالله لأنه مقال شديد الثقوب والعيوب والرتوق والفتوق والرقع الفلسفية كما تعودنا منه.. وقد تنفتقون ضحكاً .. ولا رتق لمن ينفتق فتقا فلسفياً.. ثورياً..
في غياب مفكري الثورة الكبار وفلاسفتهم العقلاء وفلسفتهم تجد أن الجماهير العربية تعيش أقصى حالات التعتيم والظلام والتوهان.. لدرجة أن مثقفين كثيرين ومتعلمين وليبراليين ومهاجرين في مؤسسات علمية من أطباء ومهندسين يساندون الثورات دون أن يواجهوا أسئلة فلسفية مخيفة من مثل:
كيف لثورة أن يقودها قطري أن يقود تحرراً ديمقراطياً؟ وكيف يمكن لمن اقتحم الفلوجة العراقية بالسلاح الكيماوي وارتكب الفظائع وأكل لحوم البشر فيها وروى مياهها الجوفية بالمواد المسرطنة.. كيف له أن يبكي على مدينة حمص السورية المحشوة بالمقاتلين المغرر بهم والقتلة وسلاح بلاكووتر الذي أحرق الفلوجة العراقية السنية؟ كيف نصدق الأمريكي الذي يبكي على حمص وهو بالأمس حوّل الفلوجة "السنية" إلى هيروشيما الشرق..؟؟ كيف نصدق هذا الغرب في بكائه على حمص وهو منذ أشهر قليلة أمسك غزة من عنقها لتذبح وثبّت أيدي وأرجل لبنان على الأرض كي يتمكن الإسرائيلي من ذبحه..
في غياب مفكري الثورة تجد أن لبيراليين عرباً وسوريين ملؤوا صفحات الانترنت بالشعارات الثورية وأعلام الثورات وصور اليوتيوب دون تبين.. اليوتيوب الآن – بكل مافيه من فقر توثيقي وفبركات - هو من يقود النخب المثقفة لأن الصورة لا الفكر ولا المفكرين هي من يحرك العقول عندما تغيب الفلسفة والمنطق والمنهج العقلي.. ولم تسأل هذه النخب إن كانت الثورة تضرب المنشآت النفطية للبلاد وتحرق المعامل وتنتقم من النظام بقتل عماله وإفقار شعب الثورة؟ وفي غياب الغطاء المنطقي الفكري للثورة لا يسأل هؤلاء أسئلة سهلة من مثل:
إذا لم تؤيد منطق العرعور فلماذا لا تدينه علنا وتطلب لفظه من المجلس الوطني؟ وكيف لرجل مزواج مطلاق كل صوره السعيدة مع الزعماء العرب وهم يستقبلونه بحفاوة ويبارك حكمهم (وهو القرضاوي) أن يكون ملهم الثوار ولينينهم؟
بل وفي غياب العامل المنطقي لا نستغرب أن وصل الأمر ببعض المهرجين الناطقين باسم الثورة أن يستبدلوا السيد حسن نصر الله بإسرائيل ..ويصل الأمر أن علم إسرائيل يرفع في حمص ويتسلل متحدث ثورجي لجعل تدخّل إسرائيل لحماية الشعب السوري في حمص مقبولا .. فقر المنطق هنا أبقاه جلدا على عظم ..فالتخلص من نظام يبرر بيع وطن..وفق فلاسفة الثورة ..
الديكتاتوريات التي ترحل لا يؤسف عليها لكن ما يؤسف عليه هو أن هذه الثورات تشبه فارسا مقطوع الرأس.. انه فارس مخيف بلا ملامح.. وبلا حياة.. جثة تتنقل من بلد إلى بلد على متن رحلة قطرية فيما هي تتعفن وتنشر الوباء والطاعون النفسي والأخلاقي.. والذباب والدود والموت والاستعمار الجديد .. ولذلك لن نقول "فهاتوا برهانكم إن كنتم صادقين".. بل خذوا "برهانكم" وثورتكم إن كنتم صادقين مع أنفسكم.. وارحلوا..
بقلم: غسان بن جدو