بحث هذه المدونة الإلكترونية

إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

السبت، 24 مايو 2014

ملف عن الابداع السردي لعادل كامل-



ملف عن الابداع السردي لعادل كامل













مؤشرات نقدية :
ـ رزاق إبراهيم حسن
ـ د.سهام جبار
ـ يوسف نمر ذياب
ـ زهير الجبوري
ـ علوان السلمان
ـ سلمان التكريتي




[أخر الفصول] بين المعلن والإيحاء


رزاق إبراهيم حسن


في القصص التي قدمها عادل كامل في مجموعته (( أخر الفصول )) يمارس المعنى المخفي وغير المكشوف الدور الأساس في بناء وتحريك العلاقات بين الأحداث والشخصيات ، فالمعلن في هذه القصص لا يدل الى حد التطابق على مقاصد الكاتب من كتابتها وإنما توجد في كل قصة فكرة معينة ، وهذه الفكرة لا تطرح نفسها من خلال عنصر معين في القصة وإنما هي تشع نفسها في مجمل عناصر البناء القصص وبكل ما تطرحه القصة من تعبيرات خارجية .
ويقود التعامل الخارجي مع قصص عادل كامل في هذه المجموعة الى احتمال عدها قصصاً مغرقة في الكوابيس والتخيلات الوهمية غير المعقولة ، ولكن معرفة المخفي وغير المعلن فيها يساعد على إعطاء هذه الكوابيس والتخيلات دلالاتها الفكرية والواقعية ، والإمساك بمقاصد الكاتب وما يريد تحقيقه في كل قصة .
وفي أغلب هذه القصص لا يبوح الحوار ، أو الوصف ، أو حديث الشخصيات مع ذواتها بقصد الكاتب وما يحاول التعبير عنه من أفكار وإنما تقدم المقاصد والأفكار نفسها من خلال الإيحاء الذي تتضافر كل عناصر البناء القصصي في تقديمه وتعميق تأثيره والتفكير به عند المتلقي .
ذلك ان عادل كامل في هذه القصص يعمد الى إعطاء التناقضات الداخلية تعبيراتها الحسية بحيث تنبثق من داخل الشخصية شخصية مختلفة عنها ومناقضة لها في بعض الأحيان كما أنه في بعض القصص يستخدم شخصيات من الأطفال والحيوانات ضمن أجواء من اللا معقول والمتخيلة ليعبر من خلالها عن هواجس وأفكار الشخصيات الأساسية بحيث تكون العلاقات بين الشخصيات وما تمارسه من علاقات وتصرفات وما تواجهه من أحداث موحية بالأفكار والمقاصد ودالة عليها في إطار مجمل السياق القصصي .
ففي (( قصة ليلة عيد ميلاد )) تواجه الشخصية في عيد ميلادها رجلاً غريباً في البيت الذي تسكن فيه وهو يروم قتلها ومع الاختلاف بين الشخصيتين ألا إنهما يعبران عن شخصية واحدة فالقصة تطرح العلاقة بين الموت والحياة وحضور الموت في لحظة الميلاد وهذه الأفكار لا تقدم نفسها بشكل مباشر ولا يمكن الوصول أليها دون قراءة القصة كاملة وإعادة ترتيب التفاصيل على أساس ما انتهت أليه وليس من خلال اقتطاع جمل ومقاطع معينة .
وفي قصة (( أصابع وأصابع )) تقرأ الشخصية خبر وفاتها في أكبر الصحف ، ويترتب على ذلك طردها من الدائرة والبيت لأنها لم تعد على قيد الحياة ، وعندما أرادت تصديق الخبر والانتحار عرقا في النهر تحس بالأصابع تمسك بها من الجهات كلها ، والقصة تطرح من خلال ذلك العلاقة بين الإنسان والمجتمع وهذه العلاقة والاختيارات الفردية ودور المجتمع في تحديد هذه الاختيارات .
وتتناول قصة (( حضانة أطفال )) قيام مجموعة من الفصائل العسكرية المساحة بمحاصرة حضانة أطفال لإعلانها الإضراب وعندما تنم مهاجمة الحضانة واحتلالها لهم يكن هناك أي طفل يمكن إلقاء القبض عليه فالأطفال في هذه القصة يرمزون إلى مخاوف الآباء والأمهات من انفصال أبنائهم عنهم ويرمزون أيضاً الى مخاوفهم مما يخالجهم من أفكار جديدة كما ان القصص تتناول أيضاً انقطاع الحوار بين الأجيال واللجوء الى القوة بدلا من الحوار .
وكما هو الحال في هذه القصة فأن أغلب قصص (( أخر الفصول )) تتناول قضية الموت في علاقة الفرد بذاته أو علاقته بالمجتمع وبما يعاني اغتراباً ذاتياً أو اجتماعياً وبما يواجه من إشكالات للتعبير عن نفسه وعن علاقته بغيره .
وإذا كانت القصص في المستوى الخارجي تعبر عن الشخصيات والأحداث في علاقتها بالحياة فأن قضية الموت هي الفكرة التي توحي بها أغلب هذه القصص وهي الفكرة الخفية وغير المعلنة فيها كما أنها تواجه الشخصيات في أكثر في أكثر اللحظات تواصلا مع الحياة كما هو الحال في قصص (( قاب )) و (( بنك الأعضاء)) و (( ألآثاري )) .
ولعل عنوان المجموعة (( أخر الفصول )) يرمز إلى الموت أيضاً كونه خاتمة الأشياء وأنفصل الأخير في حياة الإنسان .


5/7/1996 جريدة الثورة



[آخر الفصول]


د.سهام جبار

تندرج مجموعة (آخر الفصول) للقاص عادل كامل ضمن إطار القصة الوجودية التي أجدها انشغالا ً من انشغالات الستينيين في الأدب العراقي. هذا الانشغال الذي ظهر طابعه بهذه القوة لدى عادل كامل بفعل استغراقه بالوجودية فكرا ً وهما ً، وان كان الآن منصرفا ً إلى فضاء صوفي تأملي أكثر اتساعا ً وحرية. الا ان الحرية اصلا ً كانت هي الدافع في البحث الوجودي الأولى في حياة الفنان المعاصر.. الفنان الذي كانت له حصة تاثير في فعل القاص، إذ ْ انه كان مشتركا ً معه في انشغالاته وهمومه. هذا ما لابد لنا من التنبه اليه عند التعامل من نتاج عادل كامل. ومما يدعم كلامي من أدلة في القصص الخمسة عشر في المجموعة ما اراه من انبثاقات الحدث في كل قصة، متاتية من معاناة فردية وجودية مصطدمة مع واقع انساني مؤلم، او من بحث خائف عن خلاص غير متوقع، او من ارتباط بسعادة غير ممكنة.
هذا الطابع الخاص الذي أشرت اليه خلق وحدة موضوعية معينة أدت إلى اشتراك أكثر من قصة بثيمة واحدة او بما يقترب من المحرك الأساسي لكتابة القصة وقد يختلف في النهاية المترتبة عليها. اجد ذلك واضحا ً مثلا ً في أكثر من قصتين تتاليان واحدة اثر الأخرى، لنقل مثلا ً: قصة (إضراب رمزي وعام) ـ ولا ادري لماذا حددنا القاص في توجيهنا وجهة معينة بتأثير الإهداء ومكان النشر وما إلى ذلك في هذه القصة ـ وقصة (حضانة الأطفال) التي أتت بعدها مباشرة وربما افسر اهتمام القاص بجمع القصتين على هذا النحو بعدم اكتفائه من أداء الثيمة التي شغلته فآثر ان يملأ الفراغ الذي تخلف بسبب هذا بكاتبة قصة ثانية تتجه الى الاتجاه نفسه. وذلك ينطبق أيضا ً على قصة (بنك الأعضاء) وقصة (قلب) اللتين تشتركان مع القصتين السالفتين بالامر نفسه كما المؤرختين بتاريخ متقارب وهذا يؤكد فكرة عدم الاكتفاء هذه وكان من الممكن استبعاد احدى القصتين او الغائها. ولكن هذا لا يعني الغاء جانب القدرة الفائقة التي استحث بها القاص الوجود المقاوم في كلا القصتين والإيحاء إلى دلالات مؤثرة، وجمالية اداء القصتين الا ان التشابه والتكرار غير مطلوب الا لدعم اثر لم يثق القاص في قدرته على تحقيقه في قصة واحدة بحيث لا يحتاج الى سواها.
ومن مظاهر الوحدة الموضوعية التي صبغت المجموعة بصبغتها الملامح الواحدة تقريبا ً للبطل في القصص، انه بطل مأزوم ضائق بحياته، المنشدة بخبر وفاته كما في (اصابع وأصابع)، الذي يجد شخصا ً يود قتله في ليلة عيد ميلاده كما في (ليلة عيد الميلاد)، المكتشف لغة اخرى لا يتكلم بها احد كما في (حدائق النار)، المصدوم باضراب كما في(اضراب رمزي عام) وفي (حضانة الاطفال). الفاقد أعضاءه بعد موته كما في (بنك الاعضاء) و (قلب)، المشغول بفكرة الموت كما في (أغصان)، الفاقد عمره في عمل مكرر كما في (رماد)، المواجه بعشق كما في (عاشقان)، الخائفة على زوجها من الموت في (ليس هذا بالضبط)، والاثاري المفقود في (الاثاري)، والصحفي الخائف في (فيل في بيتي)، والصحفي ايضا ً الخائف في (الحصان والصحفي)، .. وكما نرى نجد ان ملامح الخوف او الفقدان او الضياع هي التي ترسم لنا وجوه الأبطال في القصص، انها وجوه تتجه الى نهايات محددة لابد من بلوغها بوقائع شعورية من النوع الذي تكابده هذه الوجوه، انها مدفوعة من الداخل الى هذه النهايات، حيث لا فائدة من سلوك طرق اخرى. فالطريق محددة سلفا ً باصطباغ هذه الشخصيات بكل هذه القتامة والعذاب القدري الذي لامناص منه هكذا تترسم الحرية املا ً لا وصول اليه في هذه المكابدة المستميتة وهكذا تتجه الشخوص بحواراتها الى لا احد تقريبا ً، فكل شخصية تظهر ما لديها لا للاخر، اذ ْ لا جدوى من ذلك، إنما هكذا للاشيء، للعدم، للنهاية المقدرة.. نجد ذلك واضحا ً جدا ً في القصة الاولى (اخر الفصول) التي جعل القاص فيها شخصين يتكلمان لكن كل على حدة تقريبا ً، يخبر كل منهما عن الاخر الا ان ذلك لا يتم مباشرة، بل خلف ستار من انصراف كل واحد الى مصيره. هكذا يتخذ الشخوص تاريخهم جزءا ً من صورهم الخاصة، من ملامحهم المترسبة بعد كل ما مضى. وهذا يكتشف بالتالي عن وحده مريعة، وحدة فردية طاغية رغم مظهر الصلات التي تجمع الشخوص الى بعضها الا انها صلات منقطعة في النهاية..
وددت ان اشير الى الطابع الرومانسي ايضا ً. ونستشفه ايضا ً من عناوين القصص اضافة الى انشغالاتها..
وهكذا تأتي مجموعة عادل كامل (اخر الفصول) لتبدي اخر اهتماماته القصصية خلال الثمانينيات التي كتب خلالها قصص المجموعة، بينما اظن ان انشغالاته القصصية الحديثة مختلفة عنها نوعا ً ما، الاختلاف الذي ربما يمنع هذا الطابع المرتسم هنا كما اشرت اليه.

[جريدة العراق ـ بغداد 26 اذار 1996]






أخر الفصول







يوسف نمر ذياب

عرفت عادل كامل زميلاً صحفياً ناجحاً في مجلة ( ألف باء ) مطلع السبعينات ، عرفته مهتماً بلعبة ( الشطرنج ) التي كان يحررها في زاويته في المجلة الزميل الكريم زهير أحمد القيسي وكانت تحتل في وسط المجلة عموداً يجاوره العمود الذي كنت أعده تحت عنوان ( هذا الكتاب ) ، لكن عادل كامل متعدد الطاقات ، فالسنوات التي جاوزت ربع قرن من الزمن الصعب أكدت لي أنه ناقد تشكيلي ندر ان تجد فنانا تشكيليا في الرسم أو السيراميك ليس لعادل كامل فضل عليه بالكتابة عن فنه ، وحسبك أن تعلم أنه قد أصدر حتى الآن ستة كتب في النقد الفني التشكيلي ولعادل كامل أسلوب خاص في أجراء الحوارات الأدبية بأسئلته الاستفزازية ، ومن مزايا عادل كامل كونه رئيس قسم ثقافي في مجلة ( ألف باء ) فهو ، وان بدأ مستعجلاً في أعداد الصفحة ، ألا أنه ذكي يعرف ما ينشر وما لا ينشر .
وأتساءل مع نفسي بما ذكرت أريد ان أدفع عم نفسي تهمة التقصير نحو الصديق عادل كامل ؟ .. أليس تقصيراً مني ان يصدر صديق عزيز ستة كتب قصصية منها روايتان ولم أتم قراءة قصة قصيرة واحدة له ؟
ومهما يكن من أمر ، فأني بعد قراءة مجموعته القصصية هذه ( أخر الفصول ) قد تأكدت أنني قد ظلمت القاص عادل كامل وان كنت لا أستطيع لجهلي مسيرته القصصية ان أحيط بما كان عليه ، فهو في هذه المجموعة قاصاً متميزاً بفنتازيته العبثية التي أحسب أنه يقصدها قصداً .
تبدأ مجموعة عادل كامل القصصية بقصة تحمل عنوان المجموعة ( أخر الفصول ) وهي كأغلب قصص المجموعة أحلام يقظة متصلة لزوجة وزوجة ، الزوج يراقب ما حلوه في الحديقة الفراشات ضوء الشمس الهواء الذي يداعب أغصان الأشجار أما زوجته فهي تراقب زوجها تتساءل مع من يتكلم فأنا بماذا تخرج ، بعد قراءة هذه القصة بلا شيء أم بالتباس الأشياء تداخل الفصول .. تداخل المشاعر أننا لسنا بالتعساء ولا السعداء .
أما قصة ( أصابع وأصابع ) فهي طريقة في عقدتها رجل يقرأ خبر وفاته في أكبر الصحف ويصدق الجميع الخبر ، لأن الصحف لا تكذب زملاؤه في العمل زوجته حتى هو صدق الخبر ، لكنه يعتقد أنه مات قبل ربع قرن ولم يجد ألا ان يقرر رمي جسده في الماء وكاد يفعل ألا ان التي قذفته في الماء أصابع أخرى أصابع هذا العالم القاسي .
ولا تختلف بقية القصص المجموعة عما ذكرت أنها أحلام يقظة القاص المحيط الذي يجد في هذه الأحلام متنفس البحث عن النقاء لكني أريد ان أنوه بقصتي ، (إضراب رمزي وعام ) و ( حضانة الأطفال ) والقصة الأولى أهداها القاص الى أطفال الحجارة ، وبعد لعادل كامل تحية إعجاب قاصاً وناقداً تشكيلياً ، وصحفياً ناجحاً وإنساناً .

الأحد 7/تموز/ 1996

جريدة العراق







في النقد القصصي / المراحل الزمنية في ( آخر الفصول )








زهير الجبوري

عند قراتنا المجموعة القصصية ( آخر الفصول ) للقاص والناقد المبدع عادل كامل ، نلاحظ ثمة علامات بارزة يمكن قرائتها بيسر وهي تدور عن الحركة الانفعالية التي يقف بطلهاالإنسان الموجوع وكيف يكون التصاعد ( التراجيدي ) نحو هذا المفهوم ، وكيف تزداد المأساة التي يكشفها في قصصه وبأسلوب متفاوت ومنفصل بعض الشيء .
إذا كان المؤلف هنا في هذه المجموعة قد وضع تقسيم الحياة وما تؤطره من لمحات فنية لأبطاله وفقاً للتصورات الفكرية التي وصل أليها والمرحلة التاريخية التي دونها في نهاية كل قصة من قصصه ، فأنه قد أبدى إيضاحاً كاملاً وسردياً متناسقاً في ترابطه القصصي وكيف كانت الواقعية التي تجردت من العواطف والنزوات الرومانسية .. ليدرس المبدع . عادل كامل ) هنا المراحل أل / مأساوية التي وقعت ضمن الحيز الذي عاشه فأبطاله كانوا يتراوحون بين أطفاله الذين أعلنوا الإضراب عن الطعام إيثاراً بأطفال أهل الأرض المحتلة . فلسطين وبين شخوصه الذين يحملون الأبعاد ( الانطباعية ) في ذلك .. فهذا يعني أنه قد نجح في تحريك شخوصه فوق مسرح أعماله في مجموعته هذه .
في قصة ( إضراب رمزي وعام ) تلك القصة التي تمضي بهمومها الشخصية وتوفيقها العام ، والنفوس ملطخة بالألم تجري في أعماق خفية ذو تأثير نفسي مباشر ومؤثر .. إذ ان الحدث ينفجر في الأولاد الثلاثة الذين أعلنوا الإضراب عن الطعام رغم ان . المؤلف الذي نصب نفسه . الأب ) هنا كان يعطي دخله المادي الى عياله .. وبعد البحث عن السبب وجد ان أطفاله متأثرين بأطفال أهل الأرض المحتلة . فلسطين ) ..
لذلك كان الإطار العام للشخوص يستقر بنهايات تحمل أبعاد غير منتهية ، إذ كان من الطبيعي جداً ان تكون فكرة ( القاص ( تحمل هكذا أبعاد ، ومن الطبيعي جداً ان تجيء تجربته القصصية وهي تحمل هذا السياق الفكري المعكوس عن واقع حال حقيق .. وأحياناً نلمسه حتى في أنفسناً – إذ أنه استطاع ان يحول من مشكلة الصراع الاجتماعي الى ( عمل قصصي ) مستخدماً العبارات الاسمية والرمزية للتعبير عن إثبات فكرته القصصية .
ولعلنا نشهد بأن طريقة سرد ( الحدث القصصي ) يزداد حدة أكثر فأكثر بين الأحداث الملتهبة وبين المواجهة الذاتية التي استخدمها القاص في مواجهته الظروف الضنكة إذ قدر له ان يكون ضحية الموت ، أو المحكوم عليه بالموت المتجدد وباستمرار كما في قصة ( أصابع وأصابع ) .. إذ يقول : أمس قرأت خبر وفاتي في أكبر الصحف ) وبعد سلسلة من التعقيبات يقول : ( التقيت بالسيد مسؤول تلك الصفحة ، أكد صواب الخبر ) ..
نلاحظ التصاعد . التراجيدي للسقوط الذاتي الخاضع الى الموت ، رغم ان حكم الموت بمفهومه العام لم يتحقق ، ولكن .. ؟ النتيجة الحاصلة هنا هو ( غير الموت الجسدي .. المادي ) المقصود أليه . القاص الذي يعيش الحالة المؤطرة في الوحشة والقسوة والأغراب – ولا يمتلك كثافته الأحساسية المنقولة عن الموقف الذي احتواه ( رفع رأسه .. حدق في أعلى رأسي .. كان يعرف ما كنت أقوله .. سراً) ص26.
ان محاولة . التحدق ) هنا والتي سردها ( القاص ) موظفاً الجملة الاسمية للحدث ، أعطت الجوانب التي يكشف فيها التحليل الواقعي والنفسي معاً ، والآن العبارة ( كان يعرف ما كنت أقول .. سراً ) تحمل أبعاد ذات جذور غير ملموسة ، ألا أننا يمكننا ان نسميها هنا ( مخاطبة الأنا المفقودة ) ..
لأن كشف السر لا يعرفه ألا صاحبه ، فكيف لمخلوق بشري أخر يعرف أسرار كامنة في مخلوق بشري من صنفه . كيف ؟
ان نظرتنا الى ( أخر الفصول ) يمكن ان نلخصها بمراحل زمنية عدة :
• المرحلة الأولى : يمر بها القاص ) وهو متخذ قرارات تثير كوامنه العميقة التي تحمل صراعات . المواقف ) المذكورة وكيف خلق من لحظاته ونزواته ( عملاً قصصياً ) ..
• أما ( المرحلة الثانية ) .. فهي الانتقالة المباشرة اتجاه الإشارات المباحة وبشكل مباشر الى ما نسميه ( الإلقاء الانفعالي ) اتجاه موضوعاته التي ترابطت مع الفكرة المكانية والزمانية ومنها مثلاً قضية إخواننا في الأرض المحتلة فلسطين – ليكون مثلاً من هذا القبيل وبشكل بارع ، أما ( المرحلة الثالثة ) .. فأنها تبين الإشارات والاستدراكات والتوضيحات ( القصصية ) ، وكيف أثار المخيلة التي تلاعبت فيه لتضعه في زاوية الإحراج الفكري وكيف ترجم إنسانه الموجوع عملاً قصصياً على كافة الأساليب السردية .. الخاصة .

من هنا فأننا لا حظنا الأبعاد التي أشتغل عليها ( عادل كامل ) في هذه المجموعة ، كيف استطاع ان ينقل الصورة الحقيقية والواقعية للجمهور القارئ والمتابع .. وكيف ربط بين العقود التي مضت وهي تحمل أوجاعاً وهموماً فرضت عليه ، وبين نتائجها التي كانت بمثابة – شاهد عيان – على ذلك .

جريدة القادسية
16/2/2002





التصّور والتنبؤ في آخر الفصول




علوان السلمان


السرد القصصي فن متميز بقدرته على تصوير الواقع واستلهام تناقضاته من خلال دائرة هندسية أكثر اتساعا ً تفرش روحها على الزمكانية الحديثة.. كونه يتمتع بشمولية لخارطة الحياة وقدرته على رصد العلاقات في دائرة الظرفية الوجودية المعاشة من خلال قدرة القاص في التقاط صورة الواقع الاجتماعي والكشف عن دواخل الشخصية في تفاعلها مع الخارج.. بلغة حوارية تستخدم الحوار الداخلي الذي هو حوار طرف واحد أو هو (حوار بين النفس وذاتها..) كما تقول الدكتورة سهير القلماوي..
فالقص فن يتطلب حضور الذهنية مستلهمة واقعها، وقاص يمتلك القدرة على استبطان الواقع والخروج به من دائرته، والحدث من الضيق والمحدودية صوب الشمولية.
والقاص عادل كامل في مجموعته القصصية (آخر الفصول) الصادرة عن دار الشؤون الثقافية/1995 والتي احتصنت بين دفتيها خمس عشرة قصة تحكي واقعا ً ببراعة في التقاط حدثه الاجتماعي بشكل خاص عبر لغة حوارية متميزة باستخدامها المنولوج الداخلي للكشف عن دواخل الشخصية المتفاعلة مع الخارج، مع قدرة على تجاوز محتواها، اذ انها تحاول ان تتصور، تتنبأ، تمزج الحقيقة بالحلم.
حدقت في ّ كأنها خارجة من عالم سحيق مجهول بنظرات حادة ارتسمت فيها مخاوفي الخفية دفعة واحدة ، وتمتمت بصعوبة ملحوظة:
ـ أطفالك أضربوا عن الطعام..
ابتسمت، ولم تكن هي ابتسامة السخرية التي طالما ارتسمت لدي ّ، وإنما ابتسامة الذهول الممزوج بقدر من الغموضالقدري ..) ص41ـ ص42. فالقصة في حركة واقعها نبؤة عن ثورة مستقبلية تقودها الطفولة الحالمة، إذ ْ تفتح كوة آمل من خلال الطفولة التي تنوي تواصل المسيرة النضالية بالاستعاضة عن قتامة الواقع الذي تعيشه الشخصية، وهي تبدأ في مستوى الوعي ومن ثم الغوص في عوالم اللاوعي لتكشف عن الوهم الذي يتحرك مع الواقع المتفجر.. لذا فقصص المجموعة هذه تعبير عن الواقع المتداخل بالخيال للوصول الى هدف مخطط ومبرمج له بدقة في ذهن القاص، وبذلك تصبح وظيفة السرد ايحائية، قصدية، إضافة الى تحقيقه وظيفة جمالية منشطة للخلايا الفكرية من خلال بنيته السردية القابلة لتعدد الدلات..
(كنا في حرب سرية مشحونة بالالغاز والارار، أنا نفسي أعترف ان ما من امرأة أحببت وكان في قلبها الحب الذي اريد، المرأة أو الحياة، فقلت لنفسي: لا أريد ان يتذكرني العالم، فما أسعى إليه الآن، وانا في سن الشروع بالبلادة لا يتعدى حب الف صنف من النباتات والاشجار وبضعة انواع من الطيور ..) ص 8. فالقصة عنده مركبة من لقطات تسجيلية يجمعها خيط الواقع الذي يكشف عن رؤية الكاتب لواقعه، إذ ْ يتحول الى مجموعة من التداعيات التي تتوظف بقصدية لتعطي بعض التفسيرات المتسلطة على ذهن الكاتب بتركيزها حول همها وهاجسها الانساني المنبثق من واقع متجسد في الحياة اليومية، مع محاولة القاص متابعة الحدث من خلال استخدامه اسلوب الاسترجاع وتيار الوعي، إذ ْ يلعبان دورهما في تفجير الرؤيا واضاءة السرد (قبل نصف قرن، وفي قرية جبلية تقع على تخوم الصحراء، ولأسباب مازالت مبهمة، اكتشفت اني من بين سكان قريتي الوحيد الذي يمتلك فيلا ً...)ص105. انه دمية صغيرة ترمز لفوضى الواقع، وهنا الرمز يلعب فعله في السرد، إذ ْ جعل القصة تنحى منحى اجتماعيا ً في قالب ساخر يعتمد حس المفارقة ليفرغ الكاتب انتقاداته ويبلور رؤيته باعتماده التقطيع الاسلوبي داخل النص لخلق جو غرائبي يتقابل والواقع، وضمن هذه البنية السردية يستحضر القاص الهم الشعبي بلغة محكية تتوظف في وصف طبيعة العلاقات وطبيعة الصراع القائم داخل المجتمع فيبرز الكاتب قدرته وبراعته في التقاط الواقع الاجتماعي بلغة بسيطة للكشف عن دواخل الشخصية والوعي الذي تمتلكه، فكان وصف الواقع والشخوص مجموعة من التداخلات والتناقضات استطاع السارد ان يأخذ مادة سرده منها ويشكلها ويركبها بطريقته الخاصة محافظا ً بقدرته على نقد الواقع ومحاولة تجاوزه، فكانت قصصه تعبيرا ً عن رؤيا وتجربة واقعية مع ترجمة البعد النفسي والاجتماعي الذي يكمن سره داخل نفسية القاص الذي تمكن من تأسيس عالم دلالي باستعارته عناصر الطبيعة (كان يجلس في الحديقة، فوق العشب، تحت ظلال شجرة السدر وحيدا ًيتأمل الوان الفراشات وحركاتها المتراقصة بين الازهار، فيما كانت زوجته تجلس في الصالة، فوق اريكة كان قد اشتراها قبل نصف قرن. تهز رأسها بحركة آلية وتحدق في لاشيء. انتصف النهار وهما يجلسان هكذا، لا يعرف من ذا الذي همس في اذته همسا ً غامضا ً تسلل الى خفاياه الداخلية، فاجاب خفيض:
ـ لا انتظر شيئا ً محددا ً.. هناك فراشات بيض ورماديات، صفر وحمر..
ـ وماذا تفعل بالضبط؟
ـ أراقب ضوء الشمس، وأشعة الهواء المغبر، ربما الهواء الصافي، الملوث قليلا ً، لا اعرف بالضبط هل كنت اتكلم مع نفسي، منذ متى لم أتكلم..) ص 5. فالقاص يجيد تصوير الحالات النفسية، كونها وسيلته التي من خلالها يتصرف بحرية في خلق رؤى تثير التأمل والتساؤل عبر وظيفتها ضمن الحدث العام، مع اعتماد اسلوب الضربة المفاجأة والاختزال المكثف للمشهد، لكي يخلق المتعة والدهشة والاثارة التي يمكن اعتبارها وسيلة من الوسائل التكنيكية في البناء السردي، وذلك لمحاكاة التوتر النفسي من خلال الاستفادة من قدرة الانفعال على تجسيد عنصر الحركة ومعايشة الحدث.. (لكني عندما استيقظت صباحا ً، اكتشفت أني كنت قد أجريت الحوار، وبخط واضح دون ان اشطب كلمة فيه، وثمة صورة مرسومة بإتقان عجيب للحصان الأبيض.. بيد ان الحصان كان لا يكف عن الحركة منها ابدا ً..) ص117. فهو يركز على التفصيل الحركي الحكائي الذي يتجلى عن طريق تتابع الافعال وتحديد المكان وابراز معالمه مما يعي النص دفقا ً نحو واقعية الحدث، دون شعور بزمانها كونه لا يستخدمه بصورة مباشرة وادواته في كتابة نصوصه، إذ ْ ان اغلب قصصه تميزت بدفقها الدرامي من خلال بروز عنصر الحوار الذي يشكل وسيلة من وسائل التوصيل داخل النص، كونه يعبر عن ابعاد فكرية وشعورية، أو أعتماده حوار الموجودات لخلق معادل اجتماعي وإخراج الاشياء من صمتها وسكونها..( الف صنف من النبات الذي يشحن دمي بالنسيان، وبذكرى مليارات السنين الاولى، وبطيور تمتعنا باصوات لا اعتراض عليها، طيور مثل الفراشات لا عمر لها، قلت ذلك وانا اكتم لوعة طفولة استحالت الى رماد..) ص8 ـ ص9. فالقاص يستخدم اللغة الشاعرة (للتعبير عن الموحى المؤثر) كما يقول الدكتور عز الدين اسماعيل، اضافة الى لجوئه الى اسلوب المنولوج الداخلي وظهور الشخصية المتجاوزة لواقعها باحلام بقظتها، كما في قصة (اصابع واصابع) التي اعتمدته من بدايتها حتى النهاية..(أمس قرأت خبر وفاتي في اكبر الصحف، وعن مرض عضال، وتم تشيعي الى مثواي الاخير، فصعقت في باديء الامر، لكني هدأت نفسي وحسبت نشر الخبر مجرد مزحة او خطأ من الاخطاء التي تحصل ..)ص 94. فهنا يشترك الحسي والنتخيل في البناء السردي مع عناية بالجوانب الشعورية، فيكشف القاص عن انفعالاته الداخلية ويخلق بينه والمتلقي علاقة تبادل الاحاسيسوالمشاركة في بناء نص محرك للفكر كونه قريب من الوعي الموضوعي الذي يصّوره.

[جريدة المشرق/ بغداد الاربعاء 7/4/2010 العدد 1768 ـ السنة السابعة]




عادل كامل..فنان يتسلق سفوح الأدب


سلمان التكريتي


أديب فنان وفنان أديب.. يشارف عمره الآن على الستين ... وما يزال ضحوك الوجه والقلب ، حيثما يتذكر ويذكر قصصه التي يتحدث للسامع عنها ، وكأنما هو يقرأها لمن يصغي أليه . ولما قرأت القصة التي يعتز برمزيتها الفائقة وجدت أن هذا الرجل الأديب ،

أو الأديب الرجل ، هو أديب حقا ، لكنه يحمل هموم الرجل الإنسان الموهوب ، بهوايته المزدوجة في الأدب والفن . أنا ما كنت أعرفه قبل أن التقيته ، وما قرأت له أيام العهد الأسود ، فقد انشغلت باغترابي المتقطع ، وهو ، أي الاغتراب تسع سنوات خارج وطننا . وما كانت ألا مصادفة عارضة وعابرة ، أن عرفته ، وتمنيت وأن كنت أسنّ منه بخمسة عشر عاماً أن أتعرف به وعليه قبل هذا الآن ، وحينما هويت الأدب وكتابته ، كان ما يزال بعمر الورود ، وهو يلعب مع أترابه الصبيان . وتمنيت وإياه ، أن ثنائي ليرمنتوف ودستيوفسكي بفارق العمر نفسه . أن هذا الأديب الرجل ، فنان بالكتابة وكتابّ في الفن بالرغم من انتمائه في رمزية الفن الحديث التي تخلب الباب المتلقي . فإذا بالمتلقي يقرأ الصورة ولا يقرأها ، ويفهم الصورة ولا يفهمها . وهذا هو جوهر الفن ، أن يقرأ تماماً ، وليس لا يقرأ تماماً . مثل الزهرة التي يفرح عطرها تدري أو لا تدري من سيشم عطرها . وأن هذا الأديب الرجل نسيج وحده مثل (وحدِه) التي لا تجئ مكسورة (مجرورة) ألا مع النسيج (وحدَه) دائماً مفتوحة (منصوبة) . فأن قصصه إلهامية لا أنا أدري ولا هو يدري من أين تأتي له هذه الانسيابية التي لم يذللها كتاب ، أو كاتب ، ألا هو على قدر ما قرأت طوال ستين عاماً ، وأنا أستلهم ما قرأ لكي أكتب ولا أكتب . ولو أوتي مثل هذا الفنان الأديب ، أو الأديب الفنان ، الوقت الكافي والقوت الكافي والحرية الكافية ، لكتب أكثر مما كتب ، وأعمق مما كتب . لكنه أيضاً كتب بدون الوقت الكافي وبدون الوقت الكافي وبدون الحرية الكافية . لكنه مع ذلك كتب الألمعيات والذهبيات . وبقي لديه ما يريد أن يكتب ، أكثر مما كتب ، مع كل هذا الحرمان ، وكل الاختناق باللاحرية وكل أملاق الوقت . وأنا بالرغم من إعجابي بالعديد من الأدباء العراقيين أو القصاصين العراقيين ومعهم العرب أيضاً ، فما قرأت مما كتب أعمق مما قرأت فهو ما قلد وما حاكى ، أنما يمكن أن يكون قد أستوحى موقفاً أو عبارة أو جملة أو حتى مفردة واحدة ، فإذا بها تقوده بسرحانه الفني بما في الفلسفة ، وما فوق الفلسفة ، ربما في الطبيعة وما وراء الطبيعة . وأول ما قرأت له ، وكان في لقائي له ، كان غائم الوجه ، ضاحك القلب حينما قابلته ، فناولني كتابه لأقرأه ، فكان كتاباً لم يكن أكبر من وريقات فرانسوازساكان (ساغان) هو (مرحباً أيها الحزن) . فقد قرأت له ذلك الكتب (آخر الفصول) المطبوع عام 1995 ونحن في أصعب موقف سياسي وعسكري ، و(آخر الفصول) هو مجموعة قصص قبل آخر مجاميعه ، ولست أدري كيف كتب هذه المجموعة مع المجموعة الأخيرة الصادرة عام 2003 عهد الإرهاب ، على خلاف (رفائيل ساباتيني) المعادي لعهد ثورة 14 تموز الفرنسية 1789 . لكن هذا الأديب المجبول على التمرد الصامت ، كتب أيضاً ما يعادي عهد الانقلاب الأسود عام 1963 وعام 1968. وكيف تمكن من دسها بين مطبوعات وزارة الثقافة تخرجها متكلمة ضد ذلك العهد ، تلك المطابع الحديد الخُرس ، بل وتفلت أيضاً من تحت عيون الرقباء المتعددين من شراذم النقاد أو شراذم الرقباء الذين يفهمون ولا يفهمون ما كان قد كتب ، وما تعثرت في حنجرة أو مرئ هذه المطابع الخرس بين ما كانت تقرئ ما يكتب الشراذم من النقاد أو شراذم الرقباء . أن القصص التي قرأتها بين دفتي (آخر الفصول) الذي تنبأ بهذا الفصل من الزمان الذي سماه آخر الفصول أنما قصد زواله قبل زواله طبعاً ، ابتداء من قصة العنوان وانتهاء بـ(الحصان والصحفي) عبر خمس عشرة قصة ، عناوينها تنبيء ما تجود به من أحداث مثل أصابع وأصابع وإضراب رمزي وعاشقان ورما ولآثاري ، فإذا لا تختلف عن حديقة ملآى بالزهور الملونة ، الفاغمة بالعطور . بل ربما لا تختلف عن كتاب ملون بالرسوم ، التي لا يمكن أن تميز ، أو لا يمكن أن يفاضل القارئ بين هذا الرسم ، أو ذاك ، مما بين الرومانسية أو الكلاسية أو الواقعية المتلفعة بالرموزية أو التجريدية ، ثم بعد هذه القصص هناك رسومه التي أقام لها المعارض العديدة سواء في الوطن العراقي أم خارج الوطن ، حيث كان آخر مطاف معروضاته في (برلين) . ولست أدري أن كان قد سافر مع تلك المعروضات إلى برلين ، ورأى زاوية من زوايا العالم التي لم يرها . فأن كان قد سافر إلى برلين ، فأنه قد رأى ما لم يره كلكامش أو صديقه أنكيدو أو حتى أوديسيوس ؟! أنه عادل كامل ، الأديب الفنان أو الفنان الأديب ، أو الرجل الذي عاش متاهات الزمان ومتاهات اللا حرية ومتاهات الأخلاق! ومن هذا الذي سماه (العادل الكامل) ؟! فهو أسم على مسمىً . فقد أعدل وكمل وأكمل ، حتى هنئ بالنوم في ظلال الأمل القادم ، المفعم بالعطاء الذي أوتي له مما بين اليمين والشمال دون أن يتعب أو يكل وأن ينف على الستين من عمره الخصب المعطاء . ما كان عادل كامل الأديب الفنان قد نحا نحو أديب أو فنان ، وما كان يستلهم من أديب أو فنان ولم يخض مثل خوض من يركبون موجه صرعة من صرعات الأدب أو الفن العصري ، أو كما فعل بعض أدبائنا العرب الرواد ، إذ كانوا يتشبثون بما تفرزه إبداعات الغربيين بتلقائيتهم ، بينما هذا البعض يريد أثبات شخصيته الأدبية فكداً وأسلوباً بتقليده قدرات الآخرين ، على العطاء مثلهم ، لكنه لا يدري أنه صار مثل الغراب الذي فقد مشيته بعد أن قلد الحمامة مرة والعصفور أخرى . وما كان إبداع ذلك البعض الرائد ، ألا تزييفاً لمعاناته ومعاناة مجتمعه ، بينما أدباؤنا المصروعون بهذه الصرعات قد خابوا ، أما عادل كامل ، فما هو إلا صرعة لا يطولها الذوبان أو الزوال ، لأنه يتجدد بفطرته وأصالته العراقية فأنا لا أغبطه وحده ، أنما أغبط نفسي على أن قرأت له وأعجبت بما قدم ويقدم من هذا النتاج الخصب الذي تلفعه الدهشة وانسيابية الانغلاق الذي حرمنا منه سنوات بانتظار الآتي الجميل الذي سيطول إتيانه بعدما تبرعمت الطحالب والأشتات السامة في أحواض النفوس المتدرنة المجبولة على الأنانية والأحقاد الدفينة تعويضاً فانفجرت لتنذر بالهلاك . لكن عادل كامل لا يختلف عن رائد الواقعية العظيم أميل زولا في كل ما كتب وما لم يكتب . وعادل كامل ، خليفته بدون توريث أو وراث ، فأن المستقبل له ولنا.
الزمان


سيد القمني - التأملات الثانية في الفلسفة الأولى -4-.. هو الأول وهو الآخر

الجمعة، 23 مايو 2014

قصص قصيرة جدا ً-عادل كامل




قصص قصيرة جدا ً






عادل كامل
[1] الحفيد
     لم يعد لديه، وقد تجاوز الثمانين، إلا ان يراقب حفيده، الذي مازال في عامه الثاني. كان الجد يراقب الجهد الكبير الذي يبذله الطفل في سحب كرسيه، ويضعه فوق الآخر، الذي كان قد اشتراه لوالدته، قبل نصف قرن، لكن الطفل لم يكتف بذلك، فقد استولى على كرسي آخر، يعود لشقيقته، وجرجره، بجهد شاق، ووضعه فوق الكرسيين السابقين، ثم ...، تأملها، لبرهة، كي يصعد ويتربع فوقها جميعا ً! لم يفتح الجد فمه، بل دار بخلده: الآن لا امتلك إلا ان اجلس فوق الأرض!

[2] قمر
     بعد ان وضع في الزنزانة، سأله السجّان:
ـ أين نحتجزك كي تغلق فمك؟
ـ انتم لم تتركوا لي سوى نافذة صغيرة، في أعلى الجدار، ولكنها سمحت لي ان أرى القمر، في أول الشهر، فأتذكر إنني، في ذات يوم، كنت أهرول في الحقول، وأتذكر   الأطفال وهم يذهبون إلى المدارس، وفي كل يوم، استنشق رائحة الحقل، مثلما أرى الأطفال يكبرون، وما ان يبلغ القمر منتصف الشهر، حتى أرى إنني كبرت، وكبر الصبية، أنا أصبحت مشاكسا ً، والأطفال أصبحوا أشداء...، وما ان يغيب القمر حتى لا أرى شيئا ً. فانتظر الفجر...، كي أجد سببا ً لبراءتكم، لأنكم، في يوم ما، كنتم تهرولون في البساتين، وتلعبون في الحدائق، وفي يوم ما كنتم تحلمون الذهاب إلى القمر!

[3] الحصيلة
سأل التلميذ معلمه العجوز:
ـ أستاذي، ما هي الحصيلة التي تعتز انك حصلت عليها خاتمة لحياتك الطويلة في المعرفة، والبحث، والدرس..؟
ـ لم أكن اصدق، يا ولدي، أنني سأتعرف على كل هذا العدد الكبير من الأنذال! ولم أكن اصدق أنني سأرى هذا العدد الأكبر من الذين يستخدمون الأقنعة، وبها يتسترون عليها، ولا على هذا الفظيع من الفاسدين، والمزورين، والجشعين، والقتلة!
ـ وأنا؟
ـ آمل ان لا تدعني أتعرف على صفة أغفلتها، وغابت عني! فانا انشغلت طوال حياتي ان لا أؤذي أحدا ً...، وها أنت تراني أصبحت، يا ولدي، موغلا ً في الأذى! فاغفر لي أنني لم أجد صفة ـ في ّ ـ خالية من النذالة! وأنا الآن أخشى ان يأتي الزمن الذي تتحول فيه هذه الصفات إلى فضائل، وحسنات!
[4] غفران
     وجد نفسه مطوقا ً، والأسئلة توجه له:
ـ أما تعبت من الاعتراض، هل تأسف، وهل تطلب الغفران...؟
ـ وهل لدي ّ قدرة على الاعتراض حقا ً، وهل لدي ّ قدرة على الآسف، أو رغبة بالغفران..؟
ـ الم ْ تجد إجابة أخرى اشد إيذاء ً من الاعتراض، ومن عدم الآسف، ومن عدم طلب الرحمة..؟
ـ من يمتلك قدراتكم...، أتراه ترك لنا قدرة الاعتراض، أو جدوى الأسف، أو الرغبة بالغفران ...؟
[5] مجسمات
    لم يكن، دار بخلده، فقد ذاكرته، بل استعادها، وهو يلهو بالطين، وقد صنع مجموعة كبيرة من الدمى، والمجسمات: حيوانات لها رؤوس آدمية، مكعبات مشققة، نساء نحيلات وأخريات مفرطات في البدانة، طيور ذات أجنحة معدنية، دوائر مشطورة، أعمدة تنتهي بأصابع، أجسد متناثرة، مثلثات وعيون وقواعد متلاصقة....، فراغات وكتل سائبة....
ـ ما هذا اللهو ...، والحرب في أشدها؟
    لم يرفع رأسه، ولم ينطق، فقد ترك أصابعه مشغولة بجمع ما أنجزه وحملها ودفنها في حفرة، وأغلقها بإحكام، مرددا ً مع نفسه بصوت خفيض: هم يعبثون بنا، بأولادنا، بفتياننا، بنسائنا، بشيوخنا....، بمدننا، بمواردنا، بممتلكاتنا، وبمصائرنا، ولا احد يقول لهم: ماذا تفعلون؟
قيل، انه، منذ ذلك اليوم، لم ينطق بكلمة، وما رفع رأسه عن الأرض!
[6] الصيادون
     عندما وقع الذئب الذي كان قد افترسني قبل قرون، في قبضة الصيادين الجدد، شعرت بالحرج، ليس لأن الذئب لم يجد إجابات مناسبة للآثام التي ارتكبها، وفي مقدمتها، افتراسي، كما أسلفت، بل لأنه بدأ يتضرع، ويستنجد، ويطلب الرحمة، حتى حسبته تحول إلى حمل، أو إلى حيوان وضيع.
  كانت قبضة الصيادين الجدد شرسة، لا تعرف المرونة، ومحكمة، بعد أو وضعوه داخل قفص حديدي، بغية نقله إلى حديقة الحيوان، أو قتله، أو وضعه في السجن، او عرضه في احد المتاحف،  عندما قررت المغادرة.
صاح كبير الصيادين في وجه الذئب:
ـ أيها الصنم، أيها الطاغية، هذا هو أول ضحاياك!
وكاد يطلق النار عليه، أو يبتر رقبته، فصرخت:
ـ لحظة، أيها الصياد، من قال لك انه هو الذي افترسني؟
   ساد الصمت لحظات، ليسألني الصياد الأكبر:
ـ ماذا تقول، ونحن عملنا هذا من اجل إنقاذك..؟
ـ أقول...، واعترف إنني أنا هو من دخل في جوف الذئب، فهو لم يفترسني، بل أنا وجد ملاذه هناك، ودخلت، بإرادتي...وها انتم شاهدتم أنني خرجت بإرادتي أيضا ً! 
   ولم اخبرهم بالباقي، فقد كنت وجدت بابا ً فدخلته واحتميت بجدرانه، وفي البيت، عثرت على حفرة، كانت هي ملاذي السعيد.
    
[7] الصياد
      انتظر الصياد طويلا ً، أمام البحر، حتى كاد يرجع من غير ان يصطاد حتى سمكة واحدة، عندما سمع من يسأله:
ـ من سمح لك ان تصطاد، هنا، عند سواحلي...؟
ـ من أنت كي تسألني هذا السؤال؟
ـ أنا اله البحر!
ـ آ .....، لكنك لم تعرف من أكون أنا...؟
ـ من تكون؟
ـ أنا عبدك، الفقير، المسكين، الذي يكاد يموت، مع أولاده، جوعا ً!
ـ حسنا ً...، لقد أحزنتني، فانا سأسمح لك ان تصطاد، شرط...
ـ وهال سأعترض!
ـ إذا ً ....، لك سمكة، ولي تسع سمكات، مما تصطاد.
ـ وهل سأعترض! ولكن....،قل لي، يا كبير آلهة البحار، من ذا سيصدق هذه الرواية! فإذا كان البحر كله بحوزتك، مع السواحل، والمصبات، والينابيع، والأنهار، فهل يليق بمقامك ان تترك لي سمكة واحدة وأنا لم ابدأ حتى بالصيد؟!
ـ ماذا تقصد؟
ـ اقصد....، أنني سأحتفل بأنك تركني أعود إلى بيتي، حتى من غير هذه السمكة الوحيدة التي لم اصطدها بعد!

[8] رحمة
    وأخيرا ًسألت نفسي من غير تردد، أو خوف: من ذا الذي قادني إلى ارتكاب كل هذه الشطحات: حواسي أم عقلي، عاطفتي أم إرادتي، غبائي أم عقلي، عفويتي أم مقاصدي، عبثي أم مكري...؟
   لم اعثر على إجابة شافية، بل عثرت على أسئلة لم تخطر ببالي أبدا ً، وأنا أصغي إلى صوت مجهول يخاطبني: ما الذي باستطاعتك ان تفعله...، وقرار الحكم كان قد صدر عليك قبل ان يكون هناك زمن، وفضاءات، وسواحل، وقرى، ومدن، وعولمة، وقبل ان تكون هناك أسواق حرة، وشركات عابرة للمحيطات، والقارات، وقبل عصر الشفافية، والحريات، والديمقراطيات، وقبل تهرب من الضواري، ثم بعد ان أصبحت تطاردها، حتى تم وضعك داخل هذه الجدران.
ـ كيف، انجدني، مع أنني لم أتضرع من قبل، ولم اطلب العون...؟
ـ   اعد السلسلة منذ بدأت، بالثواني، والأيام، والشهور، والقرون، وضاعف العدد إلى الملايين، والمليارات، والترليونات، ومضاعفاتها، واحدة واحدة، ستجد انك ستصل إلى ذلك الذي ليس له ابتداء، أو حركة، نور أو ظل، جسم أو اسم، اثر أو علامة، وجود أو لا وجود، ولكن الذي ليس باستطاعتك ان تقول له: وهل كنت امتلك إرادة تمنع إرادتي من التوغل في هذه الممرات: أليس النور القليل الذي رايته هو وحده الذي أضاء لي هذه الدروب، وهو وحده الذي سمح لي ان امتد في لا حافات هذه المديات، وفي ما هو أكثر امتدادا ً من هذه المسافات، كي أدرك، أخيرا ً، أنني أصبحت لا امتلك حتى الفرار من هذا الضيق! يا أيتها الرحمة ما أوسعك!!









نشتري طعامنا من بره-كاظم فنجان الحمامي

نشتري طعامنا من بره


كاظم فنجان الحمامي

لو استعرضنا الأطعمة التي نتناولها في الوجبات الثلاث على موائد الإفطار والغداء والعشاء لاكتشفنا أنها كلها مستوردة من خارج العراق, ولوجدنا أن ظاهرة المواد المستوردة شملت الأواني والأقداح والمعدات والأدوات والأوعية والأجهزة المنزلية المستعملة في إعداد الطعام، أو المستعملة في تناوله. كلها مستوردة. ليس فيها مادة غذائية واحدة تحمل الهوية العراقية، باستثناء بعض المواد النادرة وعلى  نطاق ضيق وفي مواعيد موسمية محددة.
فالسكين التي نقطع بها الخضار مستوردة، والوعاء الذي نضع فيه الطرشي مستورد، والمائدة التي نوزع فوقها الأطباق مستوردة، والقدور والصحون والملاعق والشوكات والمحارم الورقية وأجهزة الطبخ بالغاز أو بالميكروويف كلها مستوردة.
يتألف طعامنا هذه الأيام من مشتقات الألبان الإيرانية والسعودية والكويتية والتركية، والبطاطا والطماطة (الطماطم) والخيار والبطيخ الإيراني والكويتي والأردني, والقمح المستورد من استراليا، والرز الفيتنامي والباكستاني, والسكر التايلندي، والشاي السيلاني، والتوابل الهندية، والبقوليات الصينية, والأملاح الإماراتية، والمياه المعدنية الخليجية، والفاكهة المتعددة الجنسيات, واللحوم الصومالية، والأسماك البورمية المجمدة، ناهيك عن الدجاج الطائفي بمسمياته الإيمانية المتشعبة الجذور. حتى التمور صرنا نستوردها من دول الجوار.
الشعوب الأخرى تملك المصانع الإنتاجية الجبارة, والحقول الزراعية الواسعة، ونحن لا نملك شيئاً. هي تنتج ونحن نستهلك. هي تزرع ونحن نأكل. زودونا بكل ما نلزم وما لا نلزم. وفروا لنا كل شيء حتى قبل أن نطلبه منهم. نعيش لنأكل، ونتناسل فيزداد تعدادنا. فأصبحنا شعباً كسولاً مترهلاً، يشتري طعامه من بره.
لقد غدونا أمة مستهلكة، نأكل أكثر مما ننتج، بل أصبحنا لا ننتج شيئاً تقريباً، ثم أدى بنا الاستهلاك إلى الإسراف، والإسراف إلى الضياع، وكأننا لا نعلم أن الأمة التي لا تأكل مما تزرع، وتلبس مما لا تصنع، أمة محكوم عليها بالتبعية والفناء.
لقد انحدر عندنا المؤشر الإنتاجي، وأصبح العلامة الأسوأ في مجتمعنا، وبات حقيقة دامغة لا ينكرها إلا جاهل. كنا في مراحل سابقة أمة متبوعة فصرنا أمة تابعة، وكنا أمة مصدرة للعلوم والفنون والآداب فصرنا أمة مستوردة لشتى صنوف الأفكار الهدامة، وكنا في موقع الصدارة فصرنا في ذيل القائمة، وكنا أمة منتجة فأصبحنا من أشهر الأمم المُستهلكة والمستوردة. نستورد كل شيء من المأكل إلى المشرب.
أن هذا التباين الكبير بين حالنا اليوم وحالنا في خمسينيات القرن الماضي يدفع كل باحث عن أسباب الخلل إلى دراسة مقارنة بين الحالين، ولا شك أن أي منصف متجرد لن يملك إنكار حقيقة واضحة وضوح الشمس في رابعة النهار، وهي أن ما حاق بنا من تراجع وتقهقر يرجع في المقام الأول إلى تفشي الفساد والإهمال, وسوء التخطيط، وغياب الروح الوطنية المخلصة.

والله يستر من الجايات

الخميس، 22 مايو 2014

حافات الحلم !!دوائر وطقوس ومدن في رسوم كامل حسين- د.شوقي الموسوي

حافات الحلم !!
دوائر وطقوس ومدن
في رسوم كامل حسين



  د.شوقي الموسوي




      ثمة تمظهرات لعمليات التربيع والتدوير في نتاجات التشكيل المعاصر في العراق وجدناها حاضرة في الحقل البصري يتم من خلالها تشييد عالم خاص يقترب من الحلم ، متخيّل ومتحرر من لواحق أصنام البعد المكاني يُجسد أفكارنا المتمفصلة بالمثالي محققاً التوازن بين العالم والإنسان لإعادة انتاج المعنى من اللامعنى .  




فالفنان التشكيلي في العراق كغيره من اقرانه مازال يبحث في الوجود عن ينابيع الاسرار فيما وراء الاقنعة لمحاكاة الجوهر وبمساعدة التلقائية وشيء من البدائية أدائياً وجمالياً وسحرياً وبالتالي وجدناه يقترح تكوينات ومشاهد تصويرية ذات الطابع البانورامي ، تتخذ فكرة التجنيس والتجميع مبداً لانتاج الاشكال المربعة او ربما الدائرية المحتفلة بالتدوير على حساب التشبيه ... وما مشاهد الفنان كامل حسين التصويرية الاخيرة إلا تأكيداً لما تقدم ، لبلورة مفهوم الكلية (الكونية) بفعل عمليات التحديث والتعبير والتجريد والتي تسمح بانتاج تكوينات محورية تخرج على الانساق المستقرة  ؛على اعتبار ان الفنان قد  راهن بالتعددية الصوتية المحتفلة بالتلقائية الواعية لانتاج افق جديد للمعنى المشترك ذي النزعة الانسانية ليصبح الفنان بمثابة منقب في الوجود عن اللامرئيات التي تمنح الاعماق اشكالا جديدة .
      حيث تمسك الفنان التشكيلي كامل حسين بفكرة التدوير والتربيع في أغلب مشاهده التصويرية والتي منحها طاقات رمزية وجمالية وتمظهرات بينية جديدة .. فالمربع نجده يقترب برمزه من مرجعيات الفكر الميثيولوجي القديم المتمثل بالحقيقة الروحية بينما الدائرة تأتي تعبيراً رمزياً عن فكرة اللانهائية ؛ كونها تعتبر رمزاً للنفس بوصف ان الفيلسوف افلاطون وجد ان النفس بمثابة دائرة . فنلاحظ مثلاً ان اغلب مفرداته التشكيلية (الجسد العاري – الحرف – الدائرة- النقطة- السمكة – الطبيعة – الشمس – القمر – الهلال ...) المستوحاة من ذاكرة مدينته القديمة (البصرة) تحتفل بالتسطيح والتجريد ضمن ايقاع لوني حُر (الاحمر – الاخضر – البني – الرصاصي ..) وايقاع خطي محوري (الحلزونيات) ضمن حوارية الحركة والسكون فالفنان يبتدأ بالتربيع ذي الطابع السكوني المستقر في تأسيس تكويناته الفنية ومن ثم يتمرحل بالاشكال من الطبيعي باتجاه الثقافي فينتهي بالتدريج بفعل عمليات التعبير والتجريد والتحطيم الى التدوير ، ليصبح هذا الفعل تمرحلاً دراماتيكي من السكون الى الحركة فالنقطة المربعة أصبحت بمثابة انطلاقة من السكون (المركز) الى الحركة ؛ بمعنى آخر هنالك تمرحل بتكوينات الفنان من الوجود بالقوة (المركز) الى الوجود بالفعل (الحركة) .




    وبجانب حديثنا عن السكون والحركة ايضاَ تجاورت موضوعة الجسد العاري (الرجل والامرأة) الحاضرة بقوة في التشكيل المعاصر في العراق ؛ بعد ان تواجدت في الفنون الرافدينية القديمة منذ الالاف السنين والتي جعلت من الدائرة أو الهلال رمزاً لمعنى الامومة أو الانوثة المقدسة .فالجسد في التشكيل يستطيع استيعاب المرئيات كونه يضفي المعنى عليها .. هنا استذكر مقولة لميرلوبونتي تنص :(انني أشاهد أشياء العالم الخارجية بجسدي ، ألمسها أطوف بها ، أتعرف عليها ، لكن عندما يتعلق الامر بجسدي فأنا لا أراه هو نفسه ...ربما أنا داخل جسدي!!) بهذه المقولة أجد الفنان كامل حسين حاضراً في الفن كوجود من خلال جسده الذهني ؛ على اعتبار ان اغلب تكويناته الجسدية قد تخلت عن التصورات المادية للجسد والتمسك بالحلم كي يعي العالم المحيط به لاجل تغييره بحثاً عن الحرية .. هذه النزعة الانسانية في موضوعة الجسد لدى الفنان نجدها تبحث عن المعاني الكامنة في الحلم ، للتواصل مع الآخر بقصد استشعار الوجود والكون .فالتكوينات البصرية المتمسكة بالديمومة لدى الفنان كامل حسين وجدتها تشبه حافات الحلم تماماً الذي يحوي طاقات الرمز والمرموز المفعمة بالتدويل والتدوير وجماليات التجريد التي تنتج الاسئلة لحظة فعل القراءة وبالتالي تسيح بذهن الآخر (المتلقي) الى فضاءات بلا حافات تقبل التأويل .. فتكسب المفردات التشكيلية أبعاداً كونية دائرية ذات تعددية دلالية تمتص جميع الاجناس التعبيرية ليستوعب المرئيات (الانسان – النبات – الحيوان – النجوم – الاكوان ..) باختلاف أنواعها وأجناسها وأدواتها وأساليبها الفنية والتقنية ، بحثا عن الخلاص في الجمال .
 

دور القيم الثقافية في اقتحام الواقع وتثوير الذات الإنسانية-وليد خالد أحمد حسن

دور القيم الثقافية في اقتحام الواقع وتثوير الذات الإنسانية

وليد خالد أحمد حسن

          تخلق العلاقات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وكذلك البنى الثقافية السائدة في فترة تاريخية معينة نمطاً معيناً من الحياة ، بقيمه الخلقية والروحية، يدفع الإنسان مهما كان انحداره الطبقي إلى ربط أحلامه وطموحاته بالنمط والمثل الحياتي السائد . وفي مجتمع كمجتمعنا نرى نمط الحياة السائد يدفع مصائر العديد من أفراد المجتمع ولاسيما أولئك المنحدرين من طبقات اجتماعية وسطى ودنيا ، إلى التشبث إلى نمط الحياة المدني / المتحضر السائد مما يبعدهم عن التفكير الموضوعي في واقع حياتهم نفسها وعن تطويرها ومن ثم تغييرها .
          وبما أنهم لايختارون الظروف ولا العصر الذي يعيشون فيه ، فان إعادة خلق الإنسان وغرس القيم الروحية الثقافية الأصيلة فيه ، وإعادة تربيته تولد لديه الوعي الكامل بتلك الظروف ، ويمكنه بذلك استنباط طرائق التغيير في تنامي قدراته وإغناء ذاته .
          ولكن الغالبية العظمى من فئات مجتمعنا محرومة من غائية عملها ، ولاتملك سوى قوة العمل الوسيلة الوحيدة للوجود مما يخلق نمطاً اجتماعياً متخلفاً للسلوك ومعايشة الواقع تغيب فيه كل رابطة أساسية بين الإنسان وذاته ويتقوقع داخل نفسه في عزلة تامة عن محيطه ، ويزيد من غربته ذلك السيل العارم من الأعلام الثقافي الذي يشيع البلبلة والغثاثة والسطحية والجهل المركب ، مقدماً حصيلة من المعاني والوسائل الاحتيالية ، تصرف الفرد عن الإتيان بأية فعالية إنسانية حقيقية تساهم بدورها في خلق القيم الثقافية الأصيلة والتي تعمل على تغيير أسلوب ومستوى حياة هذه الفئات وبخاصة الشعبية منها تغييراً عميقاً .
          إن القيم الثقافية الأصيلة التي نعنيها هنا ، هي الحضور الشامل للقيم الإنسانية التي تحتضن في جوهرها إنجازات الإنسانية على مر العصور . أنها تختصر ثمرات جهود الإنسانية بصراعاتها ونجاحاتها وإخفاقاتها ، وتقدمها من ثم خبرة ثرة للفرد وللمجتمع من اجل المستقبل .
          فليست هناك ثقافة تخص هذا المجتمع أو ذاك فقط ، وليست هناك ثقافة دخيلة أو ثقافة مستوردة ، إنما تتواصل الثقافات في حركتها فيما بينها مؤثرة ومتأثرة ، حاملة إنجازات وبصمات هذه الثقافة القومية أو تلك . وتتفاعل الثقافات القومية وتسند العناصر التحديثية / التقدمية في كل منها ، العناصر التحديثية / التقدمية في الأخرى ، وتتضافر في صراعها ضد عناصر التخلف ، ولا يتبقى في عملية التطور الاجتماعية بشكل عام سوى ما يستجيب لحاجة المجتمع في حركته الدائمة إلى إمام وما ينسجم وتطلعاته ضمن خصائصه القومية العامة والمتأثرة بخصائص القوميات المختلفة المتآخية في البلد الواحد ، وفي إطار تراث الأمة الحضاري ولغتها وتاريخها وظروفها الموضوعية .
 وبما أن الثقافة وجميع ميادين البناء الفوقي عملية تاريخية معقدة تخلقها الظروف الاجتماعية والاقتصادية والتاريخية ، فإنها تعمل بدورها على خلق القوانين العامة للتطور مؤثرة في أحدى تلك المراحل على تطور العملية الاجتماعية / الاقتصادية نفسها ، والتي تتأخر في بعض الظروف التاريخية الخاصة لأسباب خارجية وداخلية معينة عن العملية الثقافية ، والتي تتأثر بدورها إذا وجدت نفسها عرضة لتحديدات اجتماعية وتاريخية خاصة .. ولذلك فأن الطابع التحرري التحديثي التقدمي لحالة ما والتقليدي الرجعي مثلاً يبقى شيئاً موضوعياً لايتوقف عن وعيه أو الوعي به .
          والقضية هي دائماً معرفة ما إذا كان هذا الاندفاع إلى إمام أو التخلف أو الجمود أمر يجري على أساسه قبوله أو رفضه . كما أن الإجابة على تساؤل كهذا تقرره المواقع الطبقية للمتلقى وللمعطى على حد سواء ، وكذلك فأن ما يعتبره المثقف الواعي المسؤول متجاوزاً في نظره لايمكن أن يكون بالضرورة متجاوزاً في نظر المتلقى أو في نظر أوسع قطاعات المجتمع . وبعبارة أخرى فأن المثقف الواعي يجب أن يعي أن ما يبدو بدهياً بالنسبة له ، ليس بالضرورة بدهياً لقطاعات كبيرة من المجتمع . ومن هنا تنبع مسؤولية المثقفين التاريخية في نوعية المجتمع بنشر الفكر التحرري التحديثي التقدمي والخبرات العالمية الراقية إلى جانب التعرض النقدي للظاهرات المتخلفة وللجمود المعرفي ، والكشف المتواتر لعمليات التشويه المتواصلة للقيم الثقافية والخلقية ، ولعمليات التفريغ المدروسه لمحتوى الثقافة عامة والتي تكون فكر الإنسان وعالمه الداخلي . أما طبيعة الثقافة ودورها في تطوير المجتمع واغناء عالم الفرد الداخلي ، فيقررها نمو القوى المنتجة واتساع الصراعات الطبقية والسياسية والقومية ، كذلك يحددها عمقها ومداها الحقيقي وانحيازها التام لمصالح أوسع فئات المجتمع ، بل وانحيازها التام للعقل . فالعقل وهو يرفض حالة اللاتوازن والتخلف إنما يبحث عن قيم جديدة يخلفها المجتمع بكفاحه ونضاله في سبيل ثقافة شعبية قومية حقيقية تقف عائقاً وسداً أمام جميع إشكال الثقافة المصنعة والتي تحاول حرفها عن أهدافها الحقيقية .
          ونرى المثقفين عموماً وفي مختلف البلدان ، وهم ينتمون إلى الطبقة المتوسطة الوظيفية أو العاملة يجدون أنفسهم – إلى جانب وعيهم التام بالتناقضات – يشكلون أطارا للنظم القائمة والتي لا مجال لمناقشة غاياتها ومعناها ، ومن هنا تبرز أهمية تلك اللحظة في حياة المثقف عندما يعي مسؤوليته التاريخية تجاه مجتمعه ، وعندما يعرف انه يجب أن يساهم في بناء مجتمع جديد خالقاً بإنجازاته العديدة في مجالات الأدب والفن والسياسة وجميع ميادين البناء الفوقي ، علاقات جديدة بين المجتمع والعلم والثقافة والفن ، يعمل آنذاك بوعي على نشر ثقافة عامة تساعد على تطوير الفكر النقدي لدى المجتمع ، لأنه يعي تماماً تلك الظروف الحياتية الصعبة التي تلف حياة الأوساط الكادحة وغالبية قطاعات المجتمع العامل والتي تعيق بدورها مسيرة التطور وأتساع مديات الثقافة ، ومن ثم تعمل على إسقاط الأثر الفكري الناضج لأية دراسات أو قرارات أو معلومات عامة أو أية ثقافات تقدم إليه في اطر التطور الهائل لوسائل الأعلام ، أي تطور ( حوامل ) الثقافة العصرية .
          ولما كانت ( حوامل ) الثقافة العصرية من إذاعة وتلفزيون وفضائيات .. لها ذلك التأثير الواسع الانتشار بإملاء كل ما يراد قوله على السامع أو المشاهد وهو في عقر داره ، ولما كانت تذيع السيء والرديء إلى جانب الجيد ، وتنشر مآثر الثقافة الكلاسيكية إلى جانب الهزل الرخيص ، فأن المردود الثقافي يكون سلبياً وتختلط فيه القيم في فوضى عجيبة . ومن ثم يصبح كل ما يقدم خدعه لاتعمل على تطوير الذات الإنسانية بل بالعكس ، تعمل على ضياعها وتدفع المتلقى إلى الهروب من الواقع إلى عالم من الأوهام إلى جانب تشتيت وعيه . تضاف إلى ذلك آلية الحياة الجافة التي يعيشها فيزداد ضياعاً وتنهار قيمة ومأثوراته .
          لقد أصبح الفرد في مجتمعنا العراقي عموماً مزدوج الذات ومخلوقاً أنانياً في وجوده غير المباشر وفي وجوده كمواطن بل وأصبح فرداً لاحضور له . فقد أصبح بعض المثقفين يتصرفون بلباقة أكثر وأصبحوا يصفقون لكل شيء ويمدحون كل مايحيطهم في استماتة للحفاظ على وجودهم ، وأصبح كل واحد منهم يحاول أن يحتل مكانه في الحياة دون أن يتغلب عليها وليأت بعده الطوفان .
          ومواجهة مثل هذا الواقع تتطلب تربية وعي ثقافي يعمل على تغييره ويتداخل في وجدان أفراد مجتمعنا الطيبين الذين عاشوا قروناً في ظلام التخلف وما زالوا يرزحون تحت عبء عمليات التجهيل المستترة والواضحة تحت جميع الشعارات . وفي سبيل خلق ذلك الوعي الثقافي ونشر الثقافة الحقيقية الأصيلة بينهم ، من الضروري المشاركة الفعالة من قبل جميع المثقفين والأدباء والفنانين والعلماء إلى جانب السلطة في صنع الوضع الثقافي الجديد مبتعدين عن الارتجالية والعشوائية والتخبط حتى نتمكن جميعاً من اقتحام الواقع وامتلاك القدرة على تغييره .
          إن القدرة على تشخيص ومواجهة ذلك الانفصام الحاد بين الثقافة والمجتمع لن تجد لها طريقاً إلا في جو من الديمقراطية . ففي ظل الديمقراطية ينتعش الفكر الذي يعمل في خدمة تقدم المجتمع ، وفي غيابها ينتعش الفكر الرجعي المتخلف الذي يعمل على تكبيل المعرفة والوعي والعمل على الإبقاء على التخلف والجهل والأمية – الأبجدية والمعرفية – لدى اغلب أفراد مجتمعنا فيسهل كبح جماحها وترويضها والاستفادة منها للدفاع عن مصالح فئوية وطبقية معروفة . وفي غياب الديمقراطية تتكرس أفكار وثقافات مشوهة تعمل على تحطيم البناء الاجتماعي والثقافي العام مما يعمل على انتشار التحلل في القيم الثقافية وظهور المصلحية والنفعية .. ولسنا في حاجة إلى ضرب العديد من الأمثلة . وهكذا يتراجع الفكر ويتراجع معه الخوف المقيم والرعب الدائم على المستقبل .. وسيظل الفرد مكبل الفكر مغلول النشاط خوفاً من فقدان الربح وفقدان الآمان الحياتي . فالأمان الحياتي في عراقنا اليوم يأتي في مقدمة الأهداف أو يكون الشعار لدى المواطن – إذا مت ضمآناً فلانزل القطر . فالشجاعة والبطولة والجرأة والحماس الثقافي والفني والإبداعي تهرب جميعاً أمام الرعب الدائم من المجهول . من مجهول استطاع النظام البعثي أن يزرعه داخل النفس العراقية ذاتها .
          ففي غياب الحوار الديمقراطي الحر :-
          - تتحلل القيم الثقافية ويتم الإجهاز الفوقي على المبدأ والشكل .. والخاسر الوحيد هنا هو الذي ظل محروماً قروناً حتى من حق اختيار الحياة .
- ترن أصداء الصوت الواحد في جنبات الحياة الثقافية ، ينحسر الفكر العراقي ويصبح عاجزاً عن احتلاب الإنجازات الثقافية ويؤدي بنا إلى الوصول إلى مرحلة وجود من يفكر عنا ولنا . وتصبح القرارات العلوية هي دستور الفكر والثقافة .
- تتحول الثقافة إلى بوق دعاية وأشباه المثقفين إلى مبررين وشراح ...
          وفي ظل الحوار الديمقراطي الحر يمكن القيام بعمل تربوي وتثقيفي أصيل يساعد على سحب الإنسان من مواقع مصالحه الأنانية الخاصة ليساهم بدوره في إنماء وإثراء الحياة العامة وفي العمل على تغيير ظروفه الموضوعية التي لم يكن له يد في إيجادها .
          وأدوات العمل التربوي والتثقيفي تبدأ من المدرسة والجامعة ومكان العمل بعد ذلك ، ثم يأتي دور وسائل الأعلام المسموعة والمرئية والمقروءة . وللأدب والفن دور نبيل في تكوين عقيدة الإنسان ومفاهيمه الأخلاقية وثقافته الروحية ومن اجل عودته الكاملة وبوعي تام إلى ذاته وإنسانيته مستوعباً كل ثروة التطور الذي تم الوصول إليه على مسار التاريخ الإنساني كله .
          فكيف إذن نخلق أولئك الذين يمكنهم أن يعوضوا كل ما فاتهم من تطور في قرون طويلة ؟ وكيف نهيئ الظروف الموضوعية لذلك ؟
          من بديهيات المعرفة ، أن الظروف التاريخية لاتوجد خارج الممارسة الاجتماعية .. وتغيير النفس في النشاط الاجتماعي والممارسة الإبداعية .. فذلك النشاط يتفق وتحويل الظروف .. ونتيجة لتغيير الظروف تأتي عملية تغيير الذات المنغلقة الأنانية اللاأبالية .
          وكل ذلك يأتي نتيجة لتطوير نمو وتائر المستوى الثقافي العام للمجتمع خالقاً المناخ الصحي والتربة الصالحة لتطوير الفن والعلم والأدب ومساعداً على شحذ يقظه المجتمع وتوجيهه نحو الثقافة والوعي بتحديات التخلف والقهر والقدرة على تجاوزهما .
          وكيف يتم لنا ذلك ؟ بتسريع عمليات صراع الثقافتين في الثقافة القومية الواحدة لصالح الثقافة التحديثية التقدمية التي تستجيب لطموحات أوسع فئات المجتمع ولاسيما الشعبية منها .
          من المعلوم انه توجد ثقافات في كل ثقافة قومية واحدة . ثقافة تحررية تحديثية تقدمية نقدية تبدو عناصرها في النتاج الفني والأدبي والإبداعي الذي يعبر عن طموحات اغلب فئات المجتمع والنقيض لها الثقافة السائدة المتوارثة – التقليدية الرجعية – من عصور التخلف والتي تبدو عناصرها في صراع ضار مع عناصر الثقافة التحديثية التقدمية مدافعة ومحافظة عن مصالح الفئات الحاكمة السائدة في المجتمعات المتخلفة ذات المصلحة في إيقاف كل تطور .
          وتتصارع عناصر هاتين الثقافتين على مر العصور وتساعد الظروف الموضوعية والتاريخية على تغليب عناصر هذه الثقافة أو تلك في هذا المجتمع أو ذاك . ويلعب الأدب والفن الطليعيان دورهما في المساهمة الموضوعية في مسار الصراع الاجتماعي بالدخول في الإيقاع العام للتغييرات الاجتماعية حتى في حدود المجتمع البرجوازي حيث يقدران على الاندماج بحرية وبوعي مع حركة اغلب أفراد المجتمع المتقدمة بالفعل ...
          إن وتائر التغير السريع وتعقد وتشابك الظرف التاريخي تقف عائقاً كبيراً في وجه صراع الثقافتين مرجحة كفة التخلف والجمود الثقافي العام حيث أن الإرهاب الفكري المقنع وفكر الفئات السائدة في المجتمعات المتخلفة المسندة بالإمكانيات الهائلة والحماية التامة يعمل على حرمان الثقافة العامة من دورها التثقيفي والتربوي وتتحول إلى بوق دعاية ، مؤدية إلى انفصام مريع بين المجتمع والثقافة ، الأمر الذي يسقط الواجهة الثقافية الرسمية في دائرة الوهم مهيئة بذلك المناخ الملائم لتكريس أفكار وثقافات تحطم البناء الثقافي وتضرب المنجزات القليلة التي استطاع الفكر الثقافي الديمقراطي أن يغني بها تراثنا على تعاقب الأزمنة .. وفي ظل هكذا مناخ تكف الثقافة عن التعبير الحقيقي عن الواقع ويغلف الزيف أحلامنا ويحيطنا بأوهام عريضة براقة عن نجاحات لاوجود لها وعن إبداعات ليست إلا فقاعات ما تلبث أن تجرفها الحقيقة البشعة عن التخلف الحضاري المقيم والفرق الشاسع بين الحلم والحقيقة والواقع .
          إن حسم صراع الثقافتين لصالح الفكر المتخلف التقليدي الرجعي يحدد الثقافة بكونها مجرد ثقافة الأعلام ويحول الكثير من المثقفين إلى آلات دعائية تبيع نتاجها كسلعة تجارية ، كما يحول شريحة كبيرة من المتلقين إلى مجرد جهاز سلبي .
          فما أسوأ الزمن الرديء القادر فقط على التغني بمآثر الأزمنة الماضية فقط. وتباً للتشويه المتواتر الذي يحرمنا من خلق المقاييس الخلقية والثقافية التي نسلح بها مجتمعنا في مواجهة ذلك الزيف المقنع وذلك التخلف الذي يشوه حياته وحاضره .
          وما أسوأ الغرس السيئ من بعض نتاج الأدب والفن في مجتمعنا عن أساطير عن السعادة والنجاح ، وعن أصنام تعيش في دعة ولذة ونجاح .. وما أكثر ما يعرض لنا من أمثلة زائفة كاذبة عن التمجيد المنهجي للعنف واستغلال الغرائز .. وحتى إذا ما أثيرت بعض الآثار الثقافية من ماضينا العريق وبالشكل الذي تعرض فيه ليست سوى بريق تنحصر فائدته في شل التفكير الصحيح وإبعاد الناس عن استلهام دروسها وتأثرها وتجاربها الحقيقية ولاتساعدهم في مسيرة التقدم بل إنها تقف مناهضة للثقافة الحقيقية ...
          إن صراع الثقافتين هذا لم يصب الرجعية وأقطاب التخلف والتحجر بسوء بل بالعكس كانت الخسارة من نصيب المجتمع والجيل الحاضر ، الذي لم يعد يسمع إلا أصداء الصوت الواحد في غلالة من الإرهاب الفكري المقنع ، وزيادة مفردات المحرمات في الأدب والفن والثقافة والسياسة ... والحصاد المر بالنتيجة هو ذلك الخواء الثقافي الذي نزع عنا شخصيتنا وعوض خواء حياتنا وخلوها من المضمون بأوهام وخيالات وشعارات براقة ... ونتساءل بعد ذلك ، لماذا لاتزدهر الثقافة العراقية ؟ ولماذا قصور الفكر العراقي المعاصر ؟
          إن الثقافة وجميع ميادين البناء الفوقي عملية تاريخية تظهر وتتطور بتوفر الظروف الموضوعية الكفيلة بتسريع وتائر نموها وتطورها . وكلنا جميعاً وبدون استثناء مهما اختلفت مواقعنا ومسؤولياتنا مدعوون جميعاً لمجابهة الخلل بجرأة والمشاركة في وضع منهاج للثقافة يأتي رداً على جميع الانكسارات والاحباطات التي أماتت حماسنا وأفقدتنا الثقة في نفوسنا وجعلت من سلوكنا رفضاً قاطعاً مطلقاً للحقائق قبل الأوهام .
          إن مؤسساتنا الإعلامية والثقافية واتحاداتنا الأدبية والفنية مدعوة إلى إعادة النظر جذرياً في جميع صيغ عملها مهتدية بتخطيط ديمقراطي سليم ينبع من الاحتياجات الفعلية لمجتمعنا العراقي العريض .
         


حامد كعيد الجبوري - عرض كتاب ( مائة يوم ويوم في بغداد )

الأربعاء، 21 مايو 2014

الفن الاستشراقي في مرحلة التجليات الأخيرة- *أوراس زيباوي


الفن الاستشراقي في مرحلة التجليات الأخيرة


*أوراس زيباوي
مرة أخرى يعود الفن الاستشراقي الى الواجهة مع المعرض المقام في «متحف الفنون الجميلة» في مدينة بوردو الفرنسية تحت عنوان «استشراقيات». يضم المعرض مجموعة كبيرة من اللوحات التي تؤرخ للفن الاستشرافي منذ نهاية القرن الثامن عشر وحتى النصف الأول من القرن العشرين. كل اللوحات هي من مجموعة «متحف بوردو»، وتبيّن كيف أنّ الفن الاستشراقي لم يشكل في الواقع تياراً فنياً محدداً، بل هو تعبير عن حساسية جديدة نشأت في فرنسا وغيرها من الدول الأوروبية بسبب التحولات الكبرى التي شهدتها الأزمنة الحديثة وطاولت مجمل مظاهر الحياة والثقافة.
هناك أولاً الحركة الاستعمارية وتمدد القوى الغربية في الشرق كما الحال مع احتلال فرنسا للجزائر عام 1830. أما الحملة الفرنسية على مصر بقيادة الجنرال بونابرت عام 1798 فقد أعادت مصر الى واجهة الحدث العالمي ومهدت لاكتشاف الحضارة الفرعونية التي ما زال الفرنسيون الى اليوم مفتونين بها. هناك أيضاً العلاقات الثقافية والتجارية بين الشرق والغرب على رغم الحروب الصليبية وتمدد الإمبراطورية العثمانية. فالشرق هو أرض الديانات السماوية وهو أيضاً مهد الحضارات الأولى، وقد استوحى المبدعون على مر العصور من علومه وفنونه وآدابه. وفي القرن الثامن عشر، ترجم أنطوان غالان حكايات «ألف ليلة وليلة» التي لاقت رواجاً كبيراً ودفعت بالكثيرين الى السفر الى الدول العربية والإسلامية.
يكشف المعرض أيضاً جانباً آخر يتمثّل بأنّ فنانين كثيرين تمكنوا من السفر الى الشرق تبعاً لارتباطهم بالبعثات الديبلوماسية والعسكرية التي تعاظم دورها في القرن التاسع عشر، ومن أشهر أولئك الفنانين أوجين دولاكروا الذي شكلت رحلته عام 1832 الى المغرب محطة مهمة في مسيرته الإبداعية. لقد رافق البعثة الرسمية الفرنسية التي عيّنها الملك لويس فيليب للقاء حاكم المغرب مولاي عبدالرحمن. وفي المغرب تمرّد دولاكروا على القاعدة الكلاسيكية في الفنّ التي تفصل بين الرسم واللون، وصار اللون معه هو الرسم. وكان هذا الفنان من أبرز ممثلي التيار الرومنطيقي في الفن الفرنسي، وكان مأخوذاً بمناخات الشرق وما تولده لديه من دهشة وجماليات جديدة. صحيح أنه تناول في لوحاته ورسومه التخطيطية التي أنجزها في المغرب المواضيعَ التي تطالعنا في الكثير من اللوحات الاستشرافية، كمشاهد الفرسان وهم يمتطون أحصنتهم ومجالس النساء والمناظر الطبيعية المتوسطية والعمارة المحلية، غير أنه كان مجدداً في تقنيته وفي تناوله لهذه المواضيع وطريقة التعاطي معها، وكذلك لفهمه العلاقة بين اللون والرسم، مما مهّد للتيار الانطباعي.
وإضافة إلى دولاكروا، تطالعنا في المعرض أعمال فنانين آخرين ينتمون إلى المدرسة الرومنطيقية. وتمثل السنوات الممتدة بين عامي 1850 و1860 العصر الذهبي للفن الاستشراقي، وفيها برزت مواهب كلاسيكية وأكاديمية، ومنها الفنان جان ليون جروم الذي حظي بشهرة كبيرة في حياته، وقد زار مصر وفلسطين والجزائر وتركيا، وكان يعدّ في هذه الدول رسومه التخطيطية ثم يقوم بتنفيذها وتلوينها في محترفه في باريس.
لا يغطي المعرض القرن التاسع عشر فقط، بل يتجاوزه إلى القرن العشرين، تحديداً المرحلة الممتدة بين نهاية الحرب العالمية الأولى وعام 1960. وهنا لا بد من الإشارة الى الدور الذي لعبه المبنى المعروف باسم «دار عبداللطيف» في الجزائر العاصمة، وهو قصر صغير جعله الفرنسيون منذ مطلع القرن العشرين مقراً لإقامة الفنانين الفرنسيين الذين يرغبون العمل في الجزائر. وهذا ما يذكّر أيضاً بالدور الذي لعبته «فيلا ميديسيس» في روما والتي ما زالت الى اليوم تستقبل المبدعين الفرنسيين. في عام 1967، صنفت «دار عبداللط يف» كأحد الصروح التاريخية المهمة، وهي اليوم تابعة لوزارة الثقافة الجزائرية. ويملك «متحف الفنون الجميلة» في بوردو مجموعة من اللوحات والرسوم التي أنجزها فنانون أقاموا في «دار عبداللطيف» ومنهم ليون كوفي الذي استقر في الجزائر حيث حاز عام 1907 جائزة «دار عبداللطيف».
تغيب عن المعرض أعمال هنري ماتيس الذي زار المغرب عام 1912، ثم عام 1913، وقد أحدث اكتشافه لهذا البلد تحولاً كبيراً في مسيرته الفنية، لكن تحضر في المقابل أعمال فنانين آخرين مميزين منهم ألبير ماركي المولود في مدينة بوردو. وكان ماركي صديقاً لماتيس وعاشقاً للسفر، وزار المغرب وتونس وكذلك الجزائر التي صارت وطنه الثاني. وكان يقضي فيها برفقة زوجته، سنوياً ولأكثر من ربع قرن، فصل الشتاء. وترك عدداً كبيراً من الرسوم واللوحات التي نفذها في الجزائر واختزل فيها الطبيعة المتوسطية بأبهى تجلياتها. إلى جانب أعمال ماركي، تحضر أعمال راوول دوفي الذي كان الشرق، بطبيعته وفنونه، مصدر إلهام له.
يختصر هذا المعرض مرحلة تاريخية كاملة واكبت حركة الاستشراق الأوروبي عندما كانت في أوجها. ومن الجوانب المهمة في هذا المعرض أيضاً أنه يقدم أحياناً صورة عن عوالم وصروح اندثرت في الشرق، وهذا هو الجانب التوثيقي فيه، إضافة الى الجانب الجمالي.
_________
*الحياة

الاثنين، 19 مايو 2014

حقائق عن تواضع قادة الغرب- كاظم فنجان الحمامي

حقائق عن تواضع قادة الغرب


كاظم فنجان الحمامي

الحديث عن تواضع قادة الغرب لا نهاية له، وربما يطول بنا بقدر ما تتحفنا به الوقائع اليومية المذهلة، فيبهرنا تواضعهم الجم في سلوكهم وملبسهم ومأكلهم وبساطتهم، ما يمنحهم التفوق على غيرهم نحو الارتقاء في مكانتهم العالمية، بعدما اتخذوا من التواضع جسراً لتحقيق العدالة الإنسانية، فقمة التواضع أن يضع الزعيم نفسه عند من هم دونه،  وأن أرفع الزعماء قدراً من لا يتعالى على شعبه، وأكبرهم فضلاً من لا يرى فضله عليهم.
يعد الرئيس (خوسيه موخيكا) أفقر رؤساء الغرب الأمريكي, لأنه يتقاضي مرتباً شهرياً لا يزيد على (12500) دولار. لكنه يتبرع بنحو (90%) منه، ويحتفظ بأقل من (1250) دولارا فقط. يعيش (موخيكا) مع زوجته (لوسيا) في كوخ ريفي صغير. أما سيارته الرئاسية فهي عربة قديمة من طراز (فولكس ووكن) المحدبة الرخيصة، التي لا يزيد سعرها على (1945) دولار، وهو النوع الذي اختفى من شوارع العراق، ولم يعد له وجود، فهي عندنا أرخص من (الستوتة).
وضرب لنا وزير المالية البريطاني (جورج أوزبورن) مثلاً رائعاً في التواضع، عندما أستقل (من دون قصد) مقصورة الدرجة الأولى في القطار المنطلق من مدينته، وكانت معه تذكرة الدرجة الثانية، فأجبره مفتش القطار بالانتقال إلى عربات الدرجة الثانية، أو الامتثال لقانون خطوط السكك الحديدية بدفع رسوم الغرامة، مقابل السماح له بالبقاء في مقعده. قال له الوزير أن القانون يجيز له بالتمتع بتسهيلات عطلة نهاية الأسبوع، التي تسمح لركاب الدرجة الثانية بالجلوس في مقاعد الدرجة الأولى، فرد عليه المفتش: نعم هذا صحيح لكن العطلة لم تبدأ إلا بعد منتصف ليلة الغد, والساعة الآن تشير إلى الرابعة عصراً، فاعتذر منه الوزير, ودفع له الغرامة المقررة. لم يتردد المفتش في تطبيق القانون، ولم يجامل الوزير، ولم يخشى بطشه.
وفي بريطانيا أيضاً استقالت وزير الرياضة (ماريا ميلر)، التي اتهمتها الصحافة بالتبذير والإسراف وسوء الإنفاق، وكل القصة وما فيها أنها أنفقت مبلغ أقل من ستة آلاف جنيه من حسابها الخاص. بمعنى أنها لم تسرق المال العام, ولم تتهرب من دفع الضرائب، لكنها امتثلت للرأي العام، وتقدمت باستقالتها إلى رئيس الوزراء (دافيد كاميرون)، الذي قبلها وكلف بريطانياً مسلماً بالحلول مكانها في الوزارة, هو (ساجد جاويد).
ولا مجال للمقارن بين موكب الزعيم الهولندي (مارك روتتي) المؤلف من دراجة هوائية واحدة، وبين مواكبنا الخرافية المؤلفة من مجاميع كبيرة من السيارات المدرعة والعربات المصفحة والدراجات النارية، تحلق فوقها أحياناً أسراب من طائرات الهليكوبتر، وربما الطائرات المقاتلة.
وفي بريطانيا اكتشف رئيس وزراؤها (ديفيد كاميرون) إن دراجته الهوائية أسهل له وانفع وأسرع في التنقل، ولا تكلفه شيئاً، فحذا حذو نظيره الهولندي، وتجول بدراجته في ضواحي مدينته. يمارس (كاميرون) حياته الطبيعية بلا حراس, ولا رجال أمن, ولا بودي غارد, ولا يتبعه الانتهازيون والوصوليون, ولا تسمع أهازيجهم الولائية المستنسخة: (بالروح بالدم نفديك يا كاميرون)، فالناس هناك يتعاملون معه مثلما يتعاملون مع بعضهم البعض، من دون حواجز ولا موانع ولا فوارق وظيفية أو طبقية.
هؤلاء كلهم من خارج مجتمعاتنا. لا يدينون بديننا الذي أوصانا بالبساطة والتواضع، ولا ينتمون إلى قوميتنا العربية، التي زرعت في قلوبنا حسن التعامل مع الناس. لكنهم تمسكوا بالثوابت الإنسانية النبيلة، واختاروا البساطة سلماً مهذباً للوصول إلى قلوب الجماهير، فاكتسبوا حب الناس بالرفق والتعامل المرن، ونالوا حب الله وحب العباد بالابتسامة الرقيقة والكلمة الطيبة.
أمام هذه النماذج من الزعماء الذين يتوزّعون على أكثر من بلد غربي، تمرّ مشاهد وأسماء زعماءٍ لا ينفكّون يتمسّكون  بالسلطة، وكأنّها إرثٌ أزلي لهم. يورّثونه لأبنائهم. ينقلونه من جيل إلى  جيل. يعملون بلا كلل ولا ملل لزيادة ثرواتهم، التي تتّخذ من المادة وأشكالها عناوين عريضة تميّزهم عن غيرهم من الفقراء والمسحوقين.

الأحد، 18 مايو 2014

تخطيطات قديمة للفنان غالب المسعو cut

النمور فێ الیوم العاشر-زکریا تامر



النمور فێ الیوم العاشر


زکریا تامر
رحلت الغابات بعيداً عن النمر السجين في قفص ، ولكنه لم يستطع نسيانها، وحدق غاضباً إلى رجال يتحلقون حول قفصه وأعينهم تتأمله بفضول ودونما خوف، وكان أحدهم يتكلم بصوت هادئ ذي نبرة آمرة: "إذا أردتم حقاً أن تتعلموا مهنتي، مهنة الترويض، عليكم ألا تنسوا في أي لحظة أن معدة خصمكم هدفكم الأول، وسترون أنها مهنة صعبة وسهلة في آن واحد. انظروا الآن إلى هذا النمر. إنه نمر شرس متعجرف، شديد الفخر بحريته وقوته وبطشه، ولكنه سيتغير، ويصبح وديعاً ولطيفا ومطيعا كطفل صغير، فراقبوا ما سيجري بين من يملك الطعام وبين لا يملكه، وتعلموا".

فبادر الرجال إلى القول أنهم سيكونون التلاميذ المخلصين لمهنة الترويض، فابتسم المروض مبتهجاً، ثم خاطب النمر متسائلاً بلهجة ساخرة: " كيف حال ضيفنا العزيز؟".
قال النمر:"احضر لي ما آكله فقد حان وقت طعامي".
فقال المروض بدهشة مصطنعة: "أتأمرني وأنت سجيني؟ يا لك من نمر مضحك! عليك أن تدرك أني الوحيد الذي يحق له هنا اصدار الأوامر".
قال النمر: لا أحد يأمر النمور".
قال المروض: "ولكنك الآن لست نمراً. أنت في الغابات نمر، أما وقد صرت في القفص فأنت الآن مجرد عبد تمتثل للأوامر وتفعل ما أشاء".
قال النمر بنزق: "لن أكون عبداً لأحد".
قال المروض: "انت مرغم على إطاعتي لأني أنا الذي أملك الطعام".
قال النمر: "لا أريد طعامك".
قال المروض: "إذن جع كما تشاء، فلن أرغمك على فعل ما لا ترغب فيه".
وأضاف مخاطباً تلاميذه: "سترون كيف سيتبدل فالرأس المرفوع لا يشبع معدة جائعة".
وجاع النمر، وتذكر بأسى أيام كان ينطلق كريح دون قيود مطارداً فرائسه..
وفي اليوم الثاني، أحاط المروض وتلاميذه بقفص النمر، وقال المروض: "ألست جائعاً؟ أنت بالتأكيد جائع جوعاً يعذب ويؤلم. قل انك جائع فتحصل على ما تبغي من اللحم".
ظل النمر ساكتاً، فقال المروض له: "افعل ما أقول ولا تكن أحمق. اعترف بأنك جائع فتشبع فورا".
قال النمر: "أنا جائع".
فضحك المروض وقال لتلاميذه: "ها هو ذا قد سقط في فخ لن ينجو منه".
وأصدر أوامراه، فظفر النمر بلحم كثير.
وفي اليوم الثالث، قال المروض للنمر: "إذا أردت اليوم أن تنال طعاماً، نفذ ما سأطلب منك".
قال النمر: "لن أطيعك".
قال المروض: "لا تكن متسرعاً فطلبي بسيط جدا. أنت الآن تحوص في قفصك، وحين أقول لك : قف، فعليك أن تقف".
قال النمر لنفسه: "انه فعلا طلب تافه ولا يستحق أن أكون عنيداً وأجوع".
وصاح المروض بلهجة قاسية آمرة: "قف".
فتجمد النمر تواً، وقال المروض بصوت مرح : "أحسنت".
فسر النمر ، وأكل بنهم بينما كان المروض يقول لتلاميذه "سيصبح بعد أيام نمرا من ورق".
وفي اليوم الرابع، قال النمر للمروض: "أنا جائع فاطلب مني أن أقف".
فقال المروض لتلاميذه: "ها هو قد بدا يحب أوامري"
ثم تابع موجها كلامه إلى النمر: "لن تأكل اليوم إلا إذا قلدت مواء القطط".
فكظم النمر غيظه، وقال لنفسه: "سأتسلى إذا قلدت مواء القطط".
وقلد مواء القطط فعبس المروض، وقال باستنكار: "تقليدك فاشل. هل تعد الزمجرة مواء".
فقلد النمر ثانية مواء القطط، وكلن المروض ظل متجهم الوجه، وقال بازدراؤ: "اسكت اسكت. تقليدك ما زال فاشلا، سأتركك اليوم تتدرب على مواء القطط، وغدا سأمتحنك . فإذا نجحت أكلت ، أما إذا لم تنجح فلن تأكل".
وابتعد المروض عن قفص النمر وهو يمشي بخطى متباطئة وتبعه تلاميذه وهم يتهامسون متضاحكين. ونادى النمر الغابات بضراعة، ولكنها كانت نائية.
وفي اليوم الخامس، قال المروض للنمر: "هيا، إذا قلدت مواء القطط بنجاح نلت قطعة كبيرة من اللحم الطازج".
قلد النمر مواء القطط، فصفق المروض، وقال بغبطة: "عظيم أنت.. تموء كقط في شباط".
ورمى إليه بقطعة كبيرة من اللحم.
وفي اليوم السادس، ما ان اقترب المروض من النمر حتى سارع النمر إلى تقليد مواء القطط. ولكن المروض ظل واجما مقطب الجبين، فقال النمر "ها أنا قد قلدت مواء القطط".
قال المروض: "قلد نهيق الحمار".
قال النمر باستياء: "أنا النمر الذي تخشاه حيوانات الغابات، أقلد الحمار؟ سأموت ولن أنفذ طلبك".
فابتعد المروض عن قفص النمر دون أن يتفوه بكلمة.
وفي اليوم السابع، أقبل المروض نحو قفص النمر باسم الوجه وديعاً، وقال للنمر: "ألا تريد أن تأكل؟"
قال النمر: "أريد أن آكل".
قال المروض: "اللحم الذي تأكله له ثمن، انهق كالحمار تحصل على الطعام".
فحاول النمر أن يتذكر الغابات، فأخفق، واندفع ينهق مغمض العينين، فقال المروض: "نهيقك ليس ناجحاً، ولكنني سأعطيك قطعة من اللحم اشفاقاً عليك".
وفي اليوم الثامن، قال المروض للنمر: "سألقي مطلع خطبة، وحين سأنتهي صفق اعجاباً".
قال النمر: "سأصفق".
فابتدأ المروض القاء خطبته، فقال: "أيها المواطنون.. سبق لنا في مناسبات عديدة أن أوضحنا موقفنا من كل القضايا المصيرية، وهذا الموقف الحازم الصريح لن يتبدل مهما تآمرت القوى المعادية، وبالايمان سننتصر".
قال النمر: "لم أفهم ما قلت".
قال المروض: "عليك أن تعجب بكل ما أقول وأن تصفق اعجاباً به".
قال النمر: "سامحني. أنا جاهل أمي، وكلامك رائع وسأصفق كما تبغي".
وصفق النمر، فقال المروض: "أنا لا أحب النفاق والمنافقين، ستحرم اليوم من الطعام عقاباً لك".
وفي اليوم التاسع، جاء المروض حاملاً حزمة من الحشاش وألقى بها للنمر وقال: "كل".
قال النمر: "ما هذا؟ أنا من آكلي اللحوم".
قال المروض: "منذ اليوم لن تأكل سوى الحشائش".
ولما اشتد جوع النمر، حاول أن يأكل الحشائش، فصدمه طعمها، وابتعد عنها مشمئزاً، ولكنه عاد إليها ثانية، وابتدأ يستسيغ طعمها رويدا رويدا.
وفي اليوم العاشر، اختفى المروض وتلاميذه والنمر والقفص، فصار النمر مواطناً، والقفص مدينة.