بحث هذه المدونة الإلكترونية

إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

السبت، 1 مايو 2010

مقطع مستل من السيرة الذاتية لشبيه همنجواي الحلي -كتابة احمد الحلي-نصوص صباح شكر محمود-تصميم الغلاف د غالب المسعودي


اتركها ، فإنها سمكتنا !

روى لي ابنه رياض العائد من الأسر في إيران بعد أحداث عام 2003 بعد مدة عصيبة قضاها هناك ، روى حكاية طريفة وقعت أيام صباه مع والده ، فحينما ذهبوا للصيد في نهر الحلة في احد الأيام ، جلسوا هناك منذ ساعات الصباح الأولى عند حافة معروفة لدى أهل المدينة بـ (( السورة )) والقوا سنارتيهما على أمل أن يصطادا بعض السمك ، وبقيا يرميان سنارتيهما ويخرجانها فارغة من الطعم ، شك أبو رياض ان ثمة جنيّاً يختبيء في أعماق النهر يقوم بسرقة ( الطعم) بهذه الطريقة الماكرة ، وارتفع صوت آذان الظهر من المرقد القريب ولكن دون جدوى ، بعد قليل جاء احد الأشخاص مرتدياً دشداشة بدراجة هوائية ، وتوقف بالقرب منهما وأوقف دراجته واستخرج عدة الصيد التي كانت متخلفة قياساً إلى العدة التي جلباها وبعد ان اتخذ مكانه من النهر رمى سنارته ، ولم تمر سوى دقائق قليلة حتى اهتز خيط سنارته فسحبه بقوة فإذا هو عالق بسمكة كبيرة تزن حوالي ( 2كيلو غرام ) امسك بها الصياد الوافد ووضعها في كيس كان معه ، ثم ذهب إلى دراجته وهيأها للانطلاق ؛ ( أبصر أبي هذا المشهد على مضض ، ثم ان الصياد لما أراد ان ينطلق بدراجته استوقفه أبي صائحاً به بحدة ؛ توقف ، إلى أين أنت ذاهب ؟ أجاب الصياد والدهشة تعقد لسانه ؛ أنا ذاهب إلى بيتي ، فقال أبي ؛ إذن فان عليك ان تترك هذه السمكة ،

- ولكن لماذا ، أليست سمكتي ؟!

- كلا ، ليست سمكتك ، فهي كانت تأكل طعامنا منذ الصباح ولحد الآن ، وتريد أنت بكل بساطة ان تأخذها منا هكذا ؟

واسقط في يد الصياد المسكين بعد ان رأى عزم أبي وانه لا طاقة له على مغالبته وبقي حائراً ماذا يفعل ، فما كان من أبي إلا ان أطلق ضحكة مجلجلة ثم قال مخاطباً الصياد ؛ لقد كنت امزح معك ، خذها هنيئاً مريئاً ، فهي سمكتك ، وهذه هي أحوال النهر ومقالبه





سمك مسكوف على مشارف القصر الجمهوري

عرف عن شبان منطقة الكرادة في ذلك الوقت ، انهم كانوا شباناً متطلعين إلى كل ما هو جديد في عالم الموضة والملابس مع احتفاظهم وتمسكهم بالقيم الاجتماعية التي درج عليها آباؤهم وتلقفوها منهم ، كما عرف عنهم حبهم وولعهم بتزجية أوقات فراغهم ولا سيما في العصر بالتنزه على ضفاف نهر دجلة اللصيقة ببيوتهم ، وقد اعتاد بعضهم على امتطاء زورق والتوجه به إلى منتصف النهر أو قريباً من الضفة الأخرى التي جرى تشييد القصر الملكي الجديد وملحقاته فيها ، إلا ان قيام ثورة تموز عام 1958 جعل تسمية القصر الملكي تتحول إلى القصر الجمهوري ، مع الأخذ بنظر الاعتبار ان عبد الكريم قاسم لم يتخذه مقراً له وإنما كان يستقر في وزارة الدفاع ، حيث جعل القصر مكاناً خاصاً للتشريفات ، في إحدى المرات وبالتحديد في أواسط ثمانينيات القرن الماضي ، انزلق صاحبنا بزورقه إلى وسط نهر دجلة ، ولما صار في منتصف الشط أخذت تضرب انفه رائحة السمك المسكوف القادمة من الجهة المقابلة ، وقد كانت من القوة والنفاذ بحيث انها تملكت مشاعره وبعد ان جال ببصره رأى ضباطاً برتب عسكرية وهم يقومون بعملية الشواء، فرمى مرساته وأوقف زورقه قبالتهم وهو يتلمض في سره ، ومضى وقت قليل فإذا به يسمع اصواتاً تناديه ، فانتبه ورآهم يشيرون إليه ان يرفع مرساته ويقود زورقه إليهم ، ففعل ، وبعد ان وصل إليهم ، عرف انهم كانوا منتشين بفعل الخمرة الراقية التي يحتسونها ، وأدرك انه يقف إزاء ضبّاط كبار من المؤكد ان بعضهم قادة للفرق والفيالق العسكرية أو الأجهزة الأمنية ، إلا انه تمالك نفسه وقرر المضي قدماً ، كان أول سؤال يوجه إليه بطريقة مازحة ؛ لماذا نراك متوقفاً قبالتنا وتنظر إلينا ؟ أجاب على الفور ، عذراً أيها السادة ، فانا فنان تشكيلي وأي منظر طبيعي جميل يستهويني ، وكان السؤال التالي ؛ من أين أنت ، قال ؛ من منطقة الكرادة وبيتنا هناك وأشار إلى الجهة المقابلة، سأله احدهم مشككاً ؛ ان كنت فنان تشكيلي حقاً فهل تعرف الفنان نوري الراوي ؟ أجاب السائل وأعطى تفاصيل دقيقة عن الفنان ، سأله الضابط ذاته عن الفنان رافع الناصري فأجاب صاحبنا بان رافع صديقه وكانا معاً يدرسان في الابتدائية والمتوسطة ثم اخذ يتكلم وفق ما تسعفه ذاكرته المتقدة بشأن الفن والفنانين ، إلا ان سؤالاً أخيراً بقي في جعبة السائل ؛ ان كنت فناناً حقاً وتسحر مخيلتك المناظر الطبيعية فلماذا لم تصطحب معك عدة الرسم المعتادة ، أجابهم بثقة ؛ هنا يكمن سر اختلافي عن الآخرين ، فانا ارسم على لوحتي بعد ان أعود إلى البيت ما يظل عالقاً بذاكرتي ، لاسيما وأنا أرى في ذلك نوعاً من التحدي ، وعند هذه النقطة اسقط في يد السائل ، ودعوه إلى المشاركة في لذتهم وتناول السمك المسكوف بعد ذلك ، وصعد إلى زورقه ووعدهم بأنه سيرسل إليهم اللوحة بعد ان ينتهي منها ، بعدها ودعهم وعاد من حيث أتى ، فوجد أصدقاءه يجلسون في ذات المكان من الشاطيء ، وقد انتهوا للتو من تناول ( الهبيط ) وهو نوع من تشريب اللحم ، واعتذروا له لكونهم قد أتوا على نصيبه من الطعام ، فقال لهم بصدر رحب ؛ هنيئاً ومريئاً لكم ، قال احدهم ؛ ولماذا نراك منشرح الصدر هكذا ، وأين كنت ؟ أجاب ؛ كنت آكل السمك المسكوف هناك مع قادة القوات المسلحة ، حيث بمقدوركم ان تروا بقايا لدخان ما يزال تتصاعد !!





مقلب

عرف والد أبي رياض بين أوساط الناس في محلته بدماثة خلقه وطيبته واستعداده لتقديم المساعدة للآخرين ، إلا انه عرف أيضاً بولعه بتدبير المقالب مع الآخرين ، حتى وان جاء بعضها ثقيلاً ، ففي إحدى المرات ، والوقت كان خلال سني الحرب العالمية الثانية ، حيث شحت المواد الغذائية ولا سيما الأساسية كالرز والطحين والسكر والشاي ، الأمر الذي أدى بالحكومة آنذاك أن تتخذ قراراً باعتماد نظام البطاقة التموينية الذي تعرف إليه العراقيون ثانية في أعقاب غزو صدام للكويت ، ومن ثم الحصار الاقتصادي الذي تم فرضه على العراق، شاهد ( أبو فايق) عن بعد وهو يوقف سيارته نوع (بيكب ) ، شاهد حشداً كبيراً من أهالي المحلة تجمعوا أمام احد الدكاكين ، ولما استفسر عن الأمر اخبره احدهم بان الناس يقفون منذ ساعات في هذا الطابور الطويل على أمل أن يستلموا حصصهم التموينية المقررة ، اطرق ( أبو فايق ) ملياً ، ثم هداه تفكيره الى مخرج ، قاد سيارته باتجاه الحشد وتوقف بالقرب منهم ونزل من السيارة ، وصاح بأعلى صوته ؛ يا لكم من حمقى ومغفلين ، انتم تقفون هنا تنتظرون الماء الذي يتساقط من ( ناگوط الحب ) بينما أهالي المناطق المجاورة يهرعون الآن الى مكان سقوط إحدى طائرات التموين الانكليزية الضخمة التي سقطت بحمولتها ( عالبرة ) أي في الكرادة خارج ، وهم الآن منهمكون بالاستيلاء على جزء من الغنيمة السماوية ، فصاح الجميع ؛ وكيف عرفت ذلك ؟ قال ، ها اني قد عدت للتو من ذلك الطريق وشاهدت الواقعة بأم عيني وأخذت حصتي من الغنيمة ، فتحمس الجميع وهرولوا الى بيوتهم جالبين معهم الأكياس والأواني وأبناءهم واتجهوا صوب المكان الذي أشار إليه وأسرع ( أبو فايق ) الى استخراج البطاقة التموينية الخاصة بعائلته ، وذهب الى الدكان ليستلم منه المواد الغذائية بكل سهولة ويسر ، ولم يمض وقت قصير حتى عاد هؤلاء المغرر بهم من رحلتهم الشاقة وتجمعوا أمام منزله على شكل مظاهرة صغيرة غاضبة ، فخرج إليهم ، فتكلم احدهم بحدة ؛ لابد انك كنت تضحك علينا حين دبرت لنا هذه ( الداوركيسه ) ، فأجابهم وكأنه ينتظر ذلك منهم ؛ وما ذنبي أنا إذا كنتم مغفلين هكذا الى هذا الحد ، وكيف تعقلون ان طياراً انكليزياً يمكن ان يدع طيارته تسقط في غير المعسكرات التابعة لهم وما أكثرها ؟!









بئر إرتوازي

في مرحلة الأربعينيات والخمسينيات من القرن الماضي لم تكن السيارة متاحة على نطاق واسع ، وكان تداولها مقصوراً على عدد من السياسيين المرموقين والأثرياء وكبار التجار ورؤساء العشائر ومن هم في طبقتهم ، وكذا الحال بالنسبة لمعظم دوائر الدولة ، وبالذات المدنية منها ، الأمر الذي كان يضطر موظفي هذه الدوائر الى إستئجار إحدى السيارات من شركات النقل الخاص ، التي كانت تقتني السيارات الامريكية والأنكليزية للمتانة والقوة التي تتميز بها ،

يذكر أبو رياض أن مصرف الرافدين الكائن في بغداد كان أحد الزبائن على شركة والده لتأجير السيارات ، وأن والده ( أبو فايق) كما كان الجميع ينادونه ، كان يذهب مع موظفي البنك وبرفقتهم المدير في أحيان كثيرة ، بوصفه سائقاً كذلك ، من اجل إجراء الكشوفات الضرورية والتنقل بين المدن والأقضية للوقوف على إمكانية إفتتاح فروع للمصرف هناك ، أو البحث عن فرص للاستثمار، وفي أحد الأيام وفيما هم بصدد القيام برحلة الى مدينة الأنبار المحاذية للصحراء ، وبعد أن زاروا مركز المدينة و عدداً من أقضيتها , وأجروا كشوفاتهم ، ولم يلبثوا أن أحسوا بالجوع ، لاسيما وأن وقت الظهيرة يوشك أن يحل ، وعبثاً حاولوا العثور على مطعم ملائم ، ولما أحس أبو فايق بما يعانون منه ، قال لهم ؛ هل ترغبون أن أطعمكم لحم ضأنٍ مشوياً ، إستغرب المدير لهذا العرض السخي ، وظن أن أبا فايق ربما يمزح معهم كعادته ، إلا أنه رغب بمجاراته ، قال له ؛ وأنى لك أن تُطعمنا في وسط هذه البرية الشاسعة ،

ـ إن هذا هو بالضبط ما سأفعله ، ولكن بشرط !

ـ هات شرطك فعسى أن لايكون صعباً .

ـ ليس في الأمر أية صعوبة ، سوى أن تجعلوا خرائطكم تحت تصرفي ، وأن لا تتفوّهوا بأية كلمة إذا رأيتموني أفعل أي شيء ، وأخيراً أن تتذرعوا بقليل من الصبر .

قال المدير ؛ لك ذلك !

قاد ابو فايق سيارته بسرعة كبيرة خارجاً من تخوم البلدة ومتوجهاً الى عمق الصحراء ، وبعد أن سار بهم حوالي الساعة شاهد الجميع مضارب للبدو ، فأتجهت السيارة نحو أكبرها حجماً ، وما أن ترجلوا من سيارتهم حتى تحلق حولهم رجال البدو وصبيانهم مرحبين بهم ، إضطلع أبو فايق بدور الزعامة حاملاً الخرائط بيده وسار موظفو البنك من بعده ، وقبل أن يستجيب لطلب كبير القوم بالدخول الى المضيف ، أخذ يُلقي نظرة متفحصة على المكان ، ثم نشر الخرائط على الأرض يحوطه موظفو البنك وحشدٌ كبير من رجال الصحراء ، قال مخاطباً إياهم (أي البدو) ؛ والآن ، أين تريدون أن نحفر لكم البئر الإرتوازي؟! ، فتصايح الرجال مبتهجين وفرحين ، وكذا النسوة حين تناهى الى سمعهن هذا الخبر السار ، فعلت الهلاهل والهوسات ، وللحال أتوا بشاتين وذبحوهما عند أقدام ( أبو فايق) ، ثم شمروا عن سواعدهم وهيأوا حطباً وإبتدأت عملية الشواء التي إستغرقت بعض الوقت ، وبذلك يكون أبو فايق قد وفّى بوعده .





البو شجاع

تقع جزيرة ( أم الخنازير ) التي جرى تغيير اسمها الى ( جزيرة الأعراس ) في منتصف سبعينيات القرن الماضي بوسط نهر دجلة ، وهي جزيرة تمتد طولياً مع مجرى النهر بعرض حوالي 50 متر الى مسافة قد تصل الى 6 كم ، وتمتاز بان أرضها خصبة ورسوبية ومن اجل ذلك فقد انتشرت فيها النباتات والأدغال بشكل كثيف أغرى عددا من الحيوانات البرية ان تتخذها موطناً ومرتعاً وبالذات الخنازير التي تكاثرت بشكل كبير حتى ضاق بها المكان ، الأمر الذي اضطر بعضها الى العبور سباحة في الليل ليتجه صوب الكرادة ، وقد كان ذلك يثير فزعاً وهلعاً بين الأهالي الذين لم يعتادوا على وجود هذه الحيوانات بينهم ، وفي إحدى المرات عبر احد هذه الحيوانات واخذ يتجول بين أماكن النفايات فيما كلاب الحي تتجمهر حوله محاولة طرده بالنباح والهرير دون جدوى ، فتنادى بعض فتيان الحي واستخرجوا سكاكينهم وبعض الآلات الحادة ، ووجدها بعضهم فرصة لإظهار البطولة ، ووقفوا بوجهه ، إلا ان الحيوان وكمحاولة غريزية للدفاع عن نفسه هاجمهم واسقط أرضاً احد المهاجمين وكاد ان يفتك به ، وفي هذه اللحظة هجموا عليه هجمة رجل واحد وانهالوا عليه ضرباً وطعناً حتى خارت قواه وسقط أرضاً فأسرع احدهم الى قطع بلعومه بمديته ، وبعد ان اطمأن الناس ، خرجوا من بيوتهم وتجمهروا حول جثة الخنزير وكونوا حلقة حوله واخذوا يهتفون ويهزجون ، وكأنهم لم يقتلوا مخلوقاً مسكيناً قادته الى حتفه رائحة القمامة بل مارداً ووحشاً خرافياً ، وفي ذات الليلة تناهى الخبر الى أسماع أبناء المحلات الأخرى فأسرع احد ( المهاويل ) الى إطلاق تسمية (البو شجاع ) على أهالي الحي الذي خرج منه هؤلاء الفتية ، حيث بقيت هذه التسمية شائعة وجرى تثبيتها في بطاقات الأحوال المدنية .





ـــــــــــــــ

المهوال : شخص كان يعتبر لسان حال العشيرة او قومه وكان يجنح الى قول الشعر في بعض الأحيان .

الجمعة، 30 أبريل 2010

مقطع مستل من السيرة الذاتية لشبيه همنجواي الحلي-كتاب في حلقات-كتابة احمد الحلي






رفشان !! *

ويواصل أبو رياض حديثه ؛

"بعد ان اضطررت إلى الهرب من العاصمة بغداد بعد أحداث عام 1963 ، استقر رأيي ان استوطن مدينة الحلة ، وهو نوع من التواري عن الأنظار ، بعد ان راجت في بغداد بضاعة كيل الاتهامات بين الناس آنذاك ، وعقب استقراري في مدينة الحلة الوادعة والمتفتحة فأني شرعت باستئناف ماكنت قد اعتدت عليه من رحلات الصيد ، وفي احد الأيام ذهبت بسيارتي الى قضاء الكفل الذي يتضمن قبر النبي (ذي الكفل) بالإضافة إلى قبور عدد من أنبياء اليهود منذ عهد نبوخذ نصر وحاخاماتهم ، وعلى ضفة نهر الفرات رميت بسنارتي ، وبعد حوالي الساعة شعرت بآن الخيط يسحبني بقوة غير مألوفة فاعتقدت آن ثمة حوتاً صغيراً عالق بسنارتي ، سحبت الخيط بقوة شديدة ، وذهلت عندما شاهدت (رفشاً) كبيراً عالقاً فيها ، سحبته الى صفة النهر ، ولم استطع السيطرة عليه إلا من خلال جره من أطرافه الخلفية ، وبعد جهد ومشقة استطعت ان أضعه في الخانة الخلفية من سيارتي التي كانت من نوع (موسكو فج ستيشن) ، وفي طريق عودتي ، شاهد الزوار العائدون من النجف هذا المخلوق الغريب الكبير الرابض بسيارتي فتملكهم الفضول لمعرفة ما يكون ، واخذوا يحاذون سيارتي ويسيرون خلفي لكي يمعنوا النظر إليه ، ويبدو ان (الرفش) قد استمرأ هذا الوضع ، حيث أصبح نجماً فأستعاد ذاته وانتصب على رجليه واخذ يلوّح للزائرين من خلال زجاج السيارة ، واستمر هذا الاستعراض الذي هو اقرب شبهاً بزفة عرس الى حين وصولي الى تقاطع الحلة / نجف في مدينة الحلة ، وأخيراً وصلت إلى داري الكائن في منطقة الماشطة وخلال إنزالي لهذا المخلوق احتشد جمهور كبير من الناس ، كباراً وصغاراً ، رجالاً ونساءً يدفعهم الفضول لرؤية مأثرة (ابو رياض) الجديدة ..

وأخيراً استطعت إنزاله وسحبته إلى وسط حديقة بيتي وربطته بسلسلة حديدية هناك ، وأوصيت زوجتي (أم رياض) بالاعتناء به طيلة فترة دوامي في مصلحة نقل الركاب التي كنت اعمل فيها سائقاً لإحدى حافلاتها ،على أمل ان أقدمه هدية إلى حديقة الزوراء في بغداد في وقت لاحق ، وفي احد الأيام جاء ابو رياض ثملاً الى البيت فتراءى له الرفش تحت جنح الظلام حصاناً ، فامتطاه ، فإذا به يمشي به ، وامسك بعصا قطرها نصف انج وقربها من فمه فإذا به يقطعها بأسنانه الحادة بأسرع من لمح البصر ، وما ان شاهدت أم رياض هذا المشهد المروع حتى صاحت بي ؛ " لو الرفش يبقى في البيت لو آني " وقررت المغادرة ، وفي حقيقة الأمر ، فإنها بعد ان رأت قوة أسنانه فإنها خافت على أولادنا من بطشه ، فوافقتها الرأي وهدأت من روعها وقلت لها اطمئني سوف اقتل هذا المخلوق ونتخلص منه ، وبالفعل أحضرت عصا غليظة وضربته على أم رأسه ، ولكنني سرعان ما ندمت على هذا التصرف الطائش الذي ينم عن جبن ، وقررت ان أعود به إلى النهر ، وهذا ما حصل .

احد الأطفال من منطقة مجاورة ممن شاهد الرفش حكى لأخيه الأصغر سناً ما شاهده ، فاخذ هذا يبكي في الليل مطالباً أمه وأباه بأن يذهبوا به لمشاهدة هذا الكائن الغريب ، " وقد علمت بعد ذهابي الى الدوام ، بأن أم الصبي جلبت إبنها معها في الصباح الباكر ، وأخيراً أوصلوها إلى بيتنا دقت المرأة الباب ، فخرجت أم رياض ، فسألتها ؛ عيني ، هذا بيت ابو رفش ؟! قالت لها زوجتي متبرمة ؛ عيني ، عندنا في البيت (رفشان) ، رفش ذهب الى دائرته ، والرفش الآخر ذهب إلى النهر فأي منهما تريدين ؟!

ــــــــــــــــــــــــــــ

*الرفش هو ذكر السلحفاة حينما يصبح كبيرا في السن ، وقد أشيع في الموروث الشعبي العراقي عن قوته وقدرته على اغراق السباحين الماهرين أساطير كثيرة .








عاصمة البلابل *

تعد مدينة خانقين التي تبعد حوالي 150 كم إلى شمال شرق مدينة بغداد واحدة من أهم محطات الاستراحة والاستجمام في العراق ، نظراً لوفرة بساتين الفاكهة فيها والمناظر الخلابة واعتدال مناخها ، كما ان هذه المدينة هي عاصمة البلابل بامتياز أو هكذا كنت اسميها ، حيث كانت أعداد البلابل بالملايين ، أو هكذا خيل لي ، وكان تغريدها لا ينقطع وخاصة حين تبدأ أشعة الشمس تصافح وجه الحقول ، وكان نهر الوند يخترق هذه المدينة الوادعة من وسطها ، وقد عرف عن هذا النهر انه مليء بالأسماك ، وكنت اقضي أياماً طويلة في صيد الأسماك في هذا النهر الرائع وكان مصفى الوند والمدينة المصغرة المشيدة بالقرب منه قد أقامهما الانكليز في أربعينيات القرن الماضي ، وتم تخصيص عدد من الدور للموظفين والمهندسين الانكليز آنذاك ، وهناك كانت تسكن عائلة أخي ، حيث كنت أنام عندهم ، وغالباً ما يساورني شعور بآن هذا المكان هو الجنة أو على الأقل هو قطعة منها ، ذلك ان كافة بيوت ذلك الحي كانت مرتبة ومنظمة تنظيماً هندسياً ينم عن حضارة وذوق رفيع ، كان كل بيت مجهزاً بأنابيب الغاز وموقد للتدفئة وفق الطراز الانكليزي ، والغريب في الأمر ان هذه المدينة التي رحل عنها موظفوها الانكليز أبان ثورة 14 تموز عام 1958 تم هدمها بالكامل بعد الحرب العراقية الإيرانية التي اندلع أوارها في العام 1980 لتستمر لمدة ثماني سنوات احترق فيها الأخضر واليابس وأدت إلى تقهقر العراق في الميادين كافة ، في حين كانت الأمم الأخرى كتلك الواقعة في جنوب شرق آسيا تغذ الخطى في هذه المرحلة بالذات لبناء دول ذات طابع عصري ومنتجة صناعياً وبتكلفة اقل بكثير من تكلفة الحرب الباهظة ، وعلى آية حال وقع المحظور واصطدم الفأس بالرأس كما يقولون ، وقد ورد من السلطات العليا ببغداد أمر هدم هذه المدينة الصغيرة أو (الحلم) كما كنت أطلق عليها ، وتم تفكيك مصفى الوند الذي يقع بالقرب منها ، بحجة ان هذا المصفى واقع تحت مرمى المدافع الإيرانية وإذا كان هذا الكلام ينطبق على المصفى ، فما ذنب هذه المدينة ، ان يصار الى هدمها وتحويلها إلى أنقاض وقد تبين لنا فيما بعد ان إزالة هذه المدينة من الوجود كان أمراً قد دبر بليل ، وانه كان بدوافع سياسية ، إذ ان بعضاً من سكنتها كانت لديهم ميول عقائدية أخرى ، وقد توفرت لدي قرائن عديدة مماثلة ، أقدمت فيها السلطات على إزالة أماكن بعينها بحجج ما انزل الله بها من سلطان .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*يوجه أبو رياض نداءه الى كل من يعنيهم الأمر ( ونعني به إزالة المدينة النموذجية الملحقة بمصفى الوند بخانقين ) ومحوها من الوجود ، ممن تتوفر لديهم وثائق أو شهادات بهذا الصدد ، من اجل تقديمها إليه على أمل ان يصار الى إثارة الموضوع وفتح ملف هذه المدينة المنكوبة لدى الأوساط والمحافل الدولية والإنسانية . وهو يرجو من هؤلاء مراسلته على الايميل التالي alhilyahmed@yahoo.com

صائد مواد احتياطية !

لم يقتصر ما كانت تخرجه سنارة (ابو رياض) من الماء على الأسماك والسلاحف وأفاعي الماء ، وانما تعدتها الى أشياء وحاجيات أخرى هي جزء من ذاكرة النهر وما يمور به من أسرار ففي إحدى المرات علق (الشص) بشيء ثقيل ، فاستخرجه بعد عناء فإذا به مكواة قديمة الطراز مما كان يعمل على الفحم ، وفي أعقاب غزو الكويت راحت السنارة تستخرج متعلقات الحرب كالبصاطيل وأقنعة الوقاية من الغازات الكيمياوية وفي إحدى المرات استخرجت هيكلاً كاملاً لرشاشة أحادية ، ولعل أطرف ما يتذكره ابو رياض أن سنارته علقت أبان فترة الحصار بـ(جاملغ) أيمن لسيارة نوع مسكوفج ، فركنه الى جانبه واستمر بعملية الصيد ، وبعد قليل توقف احد السائقين بسيارته ، سائلاً إياه عن الثمن الذي يطلبه لهذا (الجاملغ) ، فرد ابو رياض ضاحكاً ؛ خذه مجاناً ، فانا لست بائع أدوات احتياطية وبعد أسبوع تقريباً ، إذا بنفس السائق يتوقف مستفسراً عما إذا كان قد استخرج الجاملغ الأيسر !





طائر الدراج

يصف أبو رياض طائر (الدراج) بأنه طائر ذو لحم شهي إلا انه مراوغ ماكر وعصي على الاقتناص ومع ذلك فانهم فطنوا إلى نقاط ضعفه ، كالأوقات التي تتطارح فيها الغرام والتي تشغلها عما حولها من أخطار ، وكذلك انبهارها بضوء مصباح السيارة عندما يحل الظلام فيقترب منه ،وعند ذلك نستطيع الإمساك به بسهولة ، ويتحدث عن واقعة طريفة مع هذا الطائر ، ففي إحدى المرات أصابوا واحداً ببندقية صيد ، فأمسكوا به وأسرعوا إلى قطع رأسه خشية ان ينفق ، فأخذ جسده المقطوع الرأس يرفرف في الدغل القريب وحين جاؤوا لأخذه لم يجدوه ، وفتشوا عنه في الأمكنة القريبة ولكن دون جدوى ، ويعلق ابو رياض قائلاً ؛ ان هذا جزء من مهارة الروغان التي يتصف بها هذا الطائر !





مرسوم رئاسي

من بين الأمور التي اهتم بها ابو رياض ، تربية البلابل وما يزال يتذكر احدها والذي أعطاه اسماً هو (حيدر) فكان هذا البلبل ينتقل معه أينما ذهب ، وفي إحدى المرات غفل (حيدر) عن نفسه قليلاً فهجم عليه قط كان متربصاً به ، فحزن ابو رياض كثيراً لفقده وقرر منذ تلك اللحظة ان يقلع عن تربية البلابل ، إلاّ ان ذلك لم يمنعه من أن يقوم بتربية إحدى القطط الشامية ذات الفراء الناعم الجميل ، وأطلق عليه تسمية (ميسون) ، وكانت على درجة عالية من الكياسة والتهذيب واللياقة ، حتى انه كان يعتبرها جزءاً من أسرته ، إلا انه فوجئ ذات يوم ان مجلس قيادة الثورة يصدر مرسوما يقضي بإبادة القطط والكلاب السائبة ، وان على الذين لديهم حيوانات أليفة في بيوتهم ان يذهبوا بها الى دوائر البيطرة القريبة على أمل ان يتم حقنها بالمصل الخاص ضد انتشار الأوبئة ، وبدلاً من أن يعطوها المصل زرقوها بحقنة قاتلة ، الأمر الذي أدى ان يدخل ابو رياض في شجار عنيف مع موظفي الدائرة ، ليخرج بعدها حاملاً جثمان (ميسون) ، ثم ليقوم بدفنها وفق مراسيم خاصة .


نداء الأمومة

اعتاد الناس في العراق أبان فترة الحصار ان يبتدعوا وسائل وأساليب غير معهودة للصمود امام شبح الجوع وخواء المعدة الذي بات يتهدد حياة الملايين ، وازاء ذلك جلب ابو رياض في احد الأيام دجاجة ، وفي ذهنه مشروع لتربية الدواجن في حديقة منزله ، ليستفيد من بيضها ولحومها ، وبعد أن نفد بيض الدجاجة وأصبحت " كركه " حسب التعبير الدارج ، جلب لها عشر بيضات ملقحة من السوق ووضعها في كنها ، وما إن مضى الوقت اللازم لتفقيس البيض حتى أخذت الكتاكيت تطل برؤوسها الصغيرة ، إلا ان فرحة ابي رياض وعائلته لم تدم كثيراً ، فقد إلتهم الموت الفراخ واحداً تلو الآخر : واتى عليها جميعاً ، وتكرر الأمر في المرة الثانية والثالثة والرابعة وأخيراً قررت العائلة ان تنقل قفص الدجاجة إلى إحدى زوايا سطح الدار حتى لا تبصر أعينهم تكرار وقوع المأساة ، وبعد انقضاء المدة اعتادت العائلة على مشهد رؤية الأب وهو يصعد إلى السطح ثم لينزل وبيده واحد أو أثنان من الكتاكيت الميتة كان الجميع مدركين في التالي انه لم يتبق سوى بيضة واحدة يوشك كتكوتها ان يرى النور لفترة وجيزة ، صعد ابو رياض في اليوم التالي ونزل من دون ان تحمل يده أي شيء ، فأستفسروا منه هل رميته من فوق أجابهم ، كلا، فما يزال قرب أمه حياً ، ويساورني إحساس ان هذا الصغير سيعيش هذه المرة ، فاستفهموا منه وكيف عرفت ذلك ؟ أجابهم ؛ رأيت عجباً ، إذ أبصرت أمه وهي تذودني بشراسة عنه ، ثم رأيتها ترفع رأسها إلى السماء وتقوقي بطريقة غريبة لم أعهدها في الدواجن من قبل فهمت منها إنها تطلب من خالقها ان يستبقي لها هذا الكتكوت الأخير استجابة لنداء الأمومة التي يبدو إنها لم تذقها قط ، وبالفعل عاش الصغير .

كيس طحين

ما زال الحديث متواصلاً عن فترة الحصار ، حيث وجهت الدائرة الحكومية التي يعمل فيها ابو رياض بوصفه سائقاً وجهته للذهاب بسيارته (البيكب) إلى بلدة المحاويل الواقعة إلى الشمال من مدينة الحلة بحوالي 20 كم لجلب بعض المستلزمات من مخزنها هناك ، وفي طريق الذهاب استوقف احد الأشخاص الواقفين على قارعة الطريق أبا رياض ، فتوقف ، فطلب هذا منه أن يقطر له سيارته العاطلة إلى بلدة المحاويل ، ظاناً ان بيكب ابي رياض سيارة شخصية، وافق ابو رياض على قطر السيارة مقابل مبلغ (10) آلاف دينار ، وفي اليوم التالي ، فوجئ ابو رياض بمدير دائرته وهو يستدعيه على عجلة ليقول له بلهجة صارمة موبخة لقد رأيتك بالأمس وأنا ذاهب إلى بغداد وانت تقطر بسيارة الدائرة إحدى السيارات المدنية العاطلة : فأنكر ابو رياض ذلك مصراً على انه لم يسحب أي سيارة ، فأصر المدير ؛ ولكني رأيتك بأم عيني هاتين فأجاب ابو رياض بذات الاصرار مبيناً انه لم يكن يسحب سيارة وانما كيس طحين !

شكر ومحمود

اقترب فراش الدائرة من ابي رياض ، وسلمه مظروفاً ، وقال له افتحه ، وبعد ان فتحه ، وجد فيه كتاب شكر وتقدير موجه من مدير الدائرة إليه لحرصه وتفانيه في عمله رغم الظروف الصعبة والرواتب الشحيحة ، وبدلاً من ان يفرح ، اغتاظ ابو رياض كثيراً فتوجه من فوره إلى غرفة المدير ، ليلقي على طاولته كتاب الشكر ، قائلاً له ؛ انا لست في حاجة لكتاب الشكر هذا ، فقال له المدير ؛ ولم ذلك ؟ قال، بعد أن استخرج من جيبه هوية احواله المدنية ووضعها امام عينيه فوق طاولته ؛ تأمل جيداً في اسمي ابي وجدي ، إنهما شكر ومحمود ، فهم المدير المغزى ، فاستبدل كتاب الشكر بمكافأة مالية !

لوحة

أصيب أبو رياض في السنوات الأخيرة بضعف في بصره ، وبعد أن ذهب الى أحد أطباء العيون أخبره هذا بعد أن فحصه بعناية ، أن الأمر يتطلب إجراء عملية جراحية ، من أجل ( زرع عدسة) بحسب مسمياتهم .

وفي الموعد المحدد ذهب أبو رياض وتم إجراء العملية ، وخلال مكوثه في البيت وإنتظاراً لرفع الخيط ، إتصل هاتفياً بأحد أصدقائه من الفنانين التشكيليين ، وكلفه بتنفيذ لوحة وأعطاه فكرة تفصيلية عن المفردات التي يرغب في أن تتضمنها اللوحة ، وعندما حل موعد الذهاب الى عيادة الطبيب ، تأبط اللوحة بعد أن غلفها بعناية ، رحب به طبيبه وطلب منه أن يضطجع على الكرسي المخصص ، إلا أن أبا رياض قال له ؛ ليس قبل أن تشاهد هذه اللوحة ، و أخذا يرفعان عنها الغلاف ، ألقى الطبيب نظرة على موضوع اللوحة الذي لم يفهم منه شيئا للوهلة الأولى ؛ فقد رأى اللوحة مرسومة وفق الأسلوب التجريدي ، إلا أنه إستطاع أن يميز شكلاً على هيئة عين ولكن بجناحين يطيران في الفضاء الفسيح ، وثمة تحتهما أجزاء من الخيط المتساقط ، وأخيراً إستطاعت عيناه أن تقرءا عبارة مكتوبة بخط مموّه تقول ؛ فك الخيط يا دكتوري ، خلي يطير عصفوري ، فرح الطبيب بهذه الهدية النادرة وأسرع الى تعليقها في صدر عيادته .





مأساة كلب

في رحلة تالية الى مدينة الشوملي ، التي طارت شهرتها من خلال الأغنية الذائعة ؛ عالشوملي الشوملي ، نارك ولا جنة هلي ، ابتعد ابو رياض كعادته عن أصحابه ليدخل في أدغال كثيفة ثم ليجد نفسه امام فضاء متسع وقبل ان يلتقط أنفاسه رأى كلباً ضخم الجثة يتوجه نحوه؛ " تلفتّ يميناً وشمالاً ، قال ، فلم أجد أحداً فعلمت بأني المستهدف بهجوم الكلب المباغت هذا ، وبأسرع من لمح البصر وبطريقة لا شعورية وجدت نفسي ارفع يديَّ مقلصاً أصابعي وأخذت ابحث برجلي في الأرض مثيراً نقيع الغبار من حولي محاولاً إيهام الكلب بأن الكائن الذي يستهدفه ليس من بني الإنسان ، وانما هو وحش كاسر مثله وربما يكون أكثر فتكاً منه ، وبعد ان صار الكلب قريباً مني وأبصر هذا المشهد المروع ارتد على أعقابه هارباً . "

وما يزال يتذكر انه وبعد مرور حوالي سنة على هذه الحادثة التي لم يجرؤ بالحديث عنها لأحد فان مجموعته قدمت الى المكان ذاته لاصطياد طيور الدراج كعادتهم ؛ " فإذا رجل بدوي يتوجه نحونا ، وبعد أن ألقى التحية ، استفسر منا ان كنا نحن نفسنا الذين قدمنا الى المكان ذاته في العام الماضي ، فقلت له : نعم ، فقال ، لقد شاهدت عن بعد هجوم كلبي عليك وارتداده السريع ، والغريب في الأمر ان هذا الكلب وبعد مرور ثلاثة أيام ، أحسسنا انه أصيب بصدمة ثم مات بعدها ، فأرجو منك ان تخبرني ماذا فعلت له ، فقد فحصنا جسده فلم نجد أثراً لضربة فقلت له سأخبرك ماذا فعلت معه ؛ فقمت على الفور بتمثيل الحركة والهيئة التي اتخذتها دفاعاً عن نفسي ، وكذلك الصوت المزمجر الذي أطلقته ، فأحس الراعي بالخوف وعراه الاضطراب وساورني إحساس في تلك اللحظة الخاطفة بأنه ينظر إلي على إنني مجنون ولأخفف عنه قليلاً قلت له ممازحاً ؛ إن كلبك مات مخروعاً يا ولدي !


حجّي مو مستر !!

بينما كان صاحبنا يسير بملابسه ذات الطابع الأوربي وقبعته البيضاء ، ببشرته البيضاء المشربة بالحمرة وعينيه الزرقاوين، عائدا من رحلة الصيد على الشاطيء الذي لم يظفر منه بطائل ، إذ لحق به احد الصبيان وامسك بردن قميصه صائحا به بوقاحة ؛ مستر .. كود فش ! فألتفت إليه بعد ان القي نظرة على الجهة التي قدم منها مبصرا عددا من صيادي السمك وأمامهم بضاعتهم وهم يترقبون عودة فتاهم بصيده السمين ، فزجره بشدة ؛ ولك شتريد مني ؟ تريدني افش لك بطنك ؟ فما كان من الصبي المتذاكي إلا ان تراجع قليلا والدهشة تعقد لسانه صائحا على جماعته ؛ ولكم هذا طلع حجّي مو مستر !!


الشهيد العائد

دخل أبو رياض بسيارته الخاصة من نوع موسكوفج في احد شوارع محلته الفرعية ، وعلى الرغم من ان الوقت كان ليلا إلا ان الشارع كان مضاءً بصورة كافية مكنته ان يرى شبح احد الأشخاص ،استغرب لأول وهلة وهو يراه يقترب من سيارته المتوقفة ، قال مع نفسه ؛ ربّاه انه هو بلحمه ودمه ،فرك عينيه وحدق بأتجاه الشبح المريب الذي اقترب من السيارة ، توقف ثم قال؛ اظنك عرفتني؟

- اجل ، اجل .. وكيف لي ان لااعرفك ، ولكن ...

- لاتكمل ، فأنا اعرف تتمة الحكاية ، فلأول وهلة خالجك شعور بأني شبح شخص ميت يتجول في دياره ، إلا انني لست كذلك ، وبأمكانك ان تلمسني لمس اليد ، لقد عرفت بل وتوقعت ان الجميع وكذلك أهلي يعتبرونني في عداد الأموات ، وقد اخبرني احدهم ان أهلي أقاموا لي مراسيم الفاتحة في مسجد المحلة باعتباري احد شهداء الحرب ، ولكن وكما ترى، فأنا لست شهيدا والحمد لله..

- ولكن ،الشخص الذي جاء احد جنود وحدتكم بجثته ، من تراه يكون ان لم يكن أنت ؟

ثم أردف قائلا ؛ ترى ، كيف تم تمرير هذا الأمر الخطير بمثل هذه السهولة ؟

- اعلم أيها العم ان الأمر عصيّ على الفهم حقا ،ولكن وكما تعلم، فأن وحدتنا قد تم تدميرها عدة مرات ، وانها بمجرد ان يعاد تنظيمها حتى يزج بها في اتون معركة جديدة ، وقد ضقت ذرعا من هذه الحرب المجنونة ، لذا اتخذت قراري بالهرب لبعض الوقت لانجو بجلدي و لالتقط انفاسى ، ولربما حالفني الحظ في اجتياز الحدود والهرب الى تركيا ومنها الى أوربا كما فعل ذلك بعض المحظوظين ، وسأروي لك مافعلت بالضبط ، ففي آخر معركة اشتركت بها وحدتنا ، فاني نزعت قرص التعريف الخاص بي عن عنقي وبحثت بين جثث قتلى المعركة الذين سقطوا في الليلة الماضية ، فعثرت على ضالتي ؛ جثة شبه متفحمة بوجه مموّه الملامح ، فأستخرجت قرص التعريف الخاص به ودسست مكانه قرص التعريف الخاص بي ، ثم إني اتخذت طريقي في المسالك الوعرة في الجبال وهربت ، وحصل الذي كنت أتوقعه ، فقد ذهبوا بالجثة المتفحمة الى أهلي بأعتباره أنا ، وها أنت ذا تراني أمامك ثانية بعد موتي ! تعجب أبو رياض من هذه الحكاية الغريبة ، وسأل الهارب العائد ؛ ولكن يبدو انك لم تطرق باب اهلك لحد الآن ..

- أخشى ذلك واتهيّبه !

فهم أبو رياض انه لايريد لامه وأبيه ان يتفاجآ بعودته ، لاسيما وانه ابنهما الوحيد ، كما ان الأب مصاب بجلطة دماغية والأم مصابة بمرض السكري منذ اللحظة التي جنّدوا فيها ابنها وساقوه الى الحرب عنوة ، وبعد تفكير قصير طلب الجندي من أبي رياض ان يذهب به الى بيت خالته في منطقة المسيب ، وان يطرق بابهم بمفرده في حين لايكون هو موجودا في لحظة اللقاء ، على ان يقوم بإفهامهم خلال ذلك سبب زيارته لهم وهو ان خبرا جاءه من احد الأشخاص يتعلق بابن خالتهم الذي يبدو انه مايزال حيا يرزق، وانه الآن موجود في مكان ما ،، وبهذه الطريقة يمهد لحضوره ، واغتبطت العائلة بالخبر بعد ان تأكد الأب من سلامة المخبر العقلية ، ثم انه ما لبث ان احضره لهم فعلت زغاريد الخالة وبناتها وهلهلن ابتهاجا بقدومه ، وشكروا أبا رياض على الطريقة الحاذقة التي أوصل بها الخبر إليهم ومن ثم إحضاره لابن خالتهم ، وأصروا عليه ان يبيت ليلته تلك في بيتهم لاسيما وانهم يعرفونه حق المعرفة ، وأثناء ذلك اتصل احد أفراد العائلة هاتفيا ببيت خالتهم لينقل إليهم الخبر السار الطازج ، ثم امسك المعني نفسه بالهاتف واخذ يتحدث مع ذويه بحديث ذي شجون ودموع.....


لحية رئاسية

في العام 1982 وفي ذروة الهزائم العسكرية التي تعرض لها جيش النظام في الحرب العراقية الإيرانية التي كان صدام يأمل منها تكريس اسمه وتسويقه على الأقل عربيا بوصفه قائدا عسكرياَ لايشق له غبار وبالتالي بطلا للتحرير القومي، هذه العبارة التي تم رفعها والترويج لها على نطاق واسع على طول جبهات القتال من زاخو الى الفاو وعبر وسائل الإعلام والأبواق المختلفة ، في هذا العام تم تجنيد أبي رياض في احد قواطع الجيش الشعبي ، وجرى ترحيلهم على الفور الى قاطع (ديرة لوك ) في محافظة دهوك ، واثناء ذهابه من ديرة لوك الى سرسنك بوصفه سائقا لاحدى سيارات التموين ، فشاهد قائد الفيلق وقد ترجل للتو من سيارته العسكرية وهو بصدد القيام بجولة تفتيشية للقاطع ، ولما علم الجنود والمراتب بالخبر ارتعبوا وأصيبوا بالهلع ، وتواروا عن الانظار كما لو انهم فئران مذعورة تهرب من مخالب قط لاترحم ، وبقي ابو رياض وحيدا في وسط الساحة ، الا انه لم يأبه للامر ، ووقعت عينا القائد عليه وهو يتمشى بحذاء (الكيوة ) الشعبي بطريقة لا ابالية وملتحيا بلحية طويلة مشذبة ، جن جنون القائد وصاح به ؛ يا انت !تعــــــال، فأدرك انه المقصود ، فمشى اليه وهو يقول في سرّه ؛ سأجعل منك ايها القائد العفريت اضحوكة وعبرة ! اقترب منه بطريقة بطيئة ليشعره بعدم مبالاته به وازدرائه له ، وبعد ان صار قريبا بما يكفي لم يؤدّ التحية العسكرية ، فطاش عقل القائد وصاح بهستيرية ؛ ماهذة اللحية ايها المقاتل ، فقال له على الفور ؛ هوّن عليك ايها القائد فأنا على ملاك وزارة الاوقاف ! فما كان منه الا ان انحنى امامه الى الارض قائلا بخشوع ؛ آسف ايها الشيخ المبجل ، لقد ازعجتك ، وارجو ان تصفح عني ! ذلك لانه يعلم علم اليقين ان الشيوخ الذين هم على ملاك وزارة الاوقاف والمنسّبين على القطعات العسكرية

هم في حقيقة الامر عناصر مجندون في جهاز المخابرات او الاستخبارات العسكرية وان لديهم رتباً عسكرية عالية ودرجات حزبية مرموقة ، وهم مرتبطون مباشرة بديوان رئاسة الجمهورية ، وكنوع من التكفير عن الذنب طلب منه القائد ان يذهب بمعيته في الجولة التفتيشية وان يعودا معا الى مقر قيادة الفيلق حيث سيولم له وليمة فاخرة ..

فقال له ابو رياض بحدّة ؛ ان الجنود ينتظرونه ليجلب لهم ارزاقهم ، فوجد القائد نفسه في موقف لا يُحسد عليه ، فقال ؛ بارك الله فيك ايها الشيخ الجليل ، واني لشاكرٌ لك موقفك النبيل هذا مع الجنود الذين هم بمعيتك ...

وبع عودته الى مقر القاطع دخل الى غرفة آمر القاطع والذي هو عامر الساعاتي ، فأخبره بما حدث له مع قائد الفيلق ، وطلب منه ، بحكم انه كانت تربطه به علاقة خاصة ، ان يخبر القائد اذا ما استفسر الاخير عنه ، ان يصادق على الكذبة التي جعلها تنطلي على القائد فصاح آمر القاطع ؛ استحلفك بالله ان تحلق لحيتك ، وان لاتوقعني في هذه المآزق التي يبدو انك تستمرئها وترتاح لها ، فقال ابو رياض بحدة ؛ اقسم بالله العظيم انني لن احلق لحيتي الا بعد ان يقوم عدي صدام حسين بحلاقة لحيته !!



الخميس، 29 أبريل 2010

اصدارات جديدة للشاعر عباس العجيلي-كتابة د غالب المسعودي

عن دار الضياء للطباعة-النجف- صدر للشاعر عباس العجيلي ديوانين الاول بعنوان انين في طرقات صاخبة والثاني عواصف وجحيم ومن قراءة اولية لتجربة الشاعر في هذين الديوانين نجد انها تجربة مختزنة وذات محور متجذر في التجربة العراقية بعد الغزو بعد ان انقشع الغبار عن الطروحات البراقة لمروجي البراءة اذ ان للشاعر عراقته ومعرفيته وحلمه وبراءته .على الرغم من ان شاعرنا هو صندوق من العذاب الا انه لا يخلو من صراع فكل صورة ياتيتا بها الشاعر يتحقق نصر بافعال متشعبة.لفد انجز صراعه مع العذاب توازنا مع صدق النية والواقع المر الذي ينحر الشاعر فتجده احيانا يكاد ان يقتحم العقبة بمرارة الصحو واحيانا يغني كعازف ناي حزين لن يتردد في الافصاح عن نيته في تحويل رمال الصحراء الى عشب اخضر كي يبني مملكته تبدو فيها الكائنات كفراشات عطر مضمخة واشياء لا ترى الا وفق نظام باراميتافيزيقي سنه الشاعر وفق اسلوب انيق وبتجربة صورية لاحتواء فوته الاسرة وبلغة كهنوتية كانها انتجت الى الى جنس اكثر مرونة واكثر عافية من جنسنا البشري لانه كان يعني الديناميكية التي سيطرت على عصرنا في غفلة من الهلع والقلق الذين اورثانا الخوف والحزن المتجذر في يقيننا وحتى في تفاؤانا.


ويبدو ان شاعرنا كان كثير التاثر بشعراء المقاومة الفلسطينية ومنهم الشاعر سميح الفاسم وارهاصات الشعرية العرافية في بداية القرن العشرين اعني بدر شاكر ونازك الملائكة

مفطع من قصيدة محاولات دموية

حاولت ان ادعو الى

مدينة الخلود حاولت

ان اكون

سحابة تجود

بمزنة تعود

بالخير والمطر

وتنبت الشجر

في بقعة كئيبة

اوهنها الفقر

لكنني واوحدتي

طعنت الف مرة

بكف من غدر

الثلاثاء، 27 أبريل 2010

ضمير ابيض-حامد كعيد الجبوري-اعمال غالب المسعودي

ضـمـير أبيـض


حامد كعيد الجبوري



للصديق الشاعر المغترب رياض النعماني

ماتشتاك ......

لخيار الشواطي وللبساتين

والرمان المـفلَع عوافي

للبرحيه ، والريحان ، والنبك العَجم.....

والريحة العنبر

ماتشتاك.......

تنزع ثوب حزنك والنهر خنياب1

والحلوات يملَن وشلة أخدودك

ويفلـَّن صُبر عمرك كصايب

والحلوه.....

أم أضـفيرة السنبل

تُكي الشام وَجنتها

وتفيفـيـح ريحتها

وكحت عين ......

باكت ثوب عُمرك ...

زمت النهدين



وبضحكة غنج ...

تشبر طولك النعناع

وغسلت بالنهر دشداشة الغربه

الهذاك الصوب عُبرت

عينها المشحوف

والصُفصاف ظلها...

والبلابل بيت

ماتشتاك ...

كهاوينه ..

وجايها السنكين

وحـديثات ...

تفرش لـلـجرف صـوبين

(والداخل حسن)2 يقرالك (الصبي)3

وطور (أمحمداوي)4 ودارمي و موال

ربابه أيوّن ...

(يكاظم مهجتي الهجران عادمها)5

ماتشتاك.......

لموَنس التراجي....

لبلام باب السيف



وأتهد الكَلب غرنوك

وليالي الصيف تعلوله ....

والسطح يركص حـصاد

أبريش حـضـن أمك تنام

وخيط الشمس غبشه ...

أتزور للكاظم

(أبكاري)6 المـرصـع شذر

الراضـع من حليب الكُمر ، والنجمه

ماتشتاك.......

صينية فرح ، وأشموع خـضر الياس

وأتطش الفرح بملبس الحضره

وبشباج (أمام الورد) 7 ...

تعكد خيط

نذر أكلوبنه الخـضـره

وجُمار الزنود ، وديرم الشفتين

وأبنيات......

تشتم أبورد خصره

خايب .... ولك خايب ...

صحن (أمام الورد) ، مملي أعشوش ...





أفراش ويحضن الفقره

ماتشتاك ........

جحيل الغربه مُره ..

أترجف أثيابك

وعيونك محطه ........

ويامحطه الردت أحبابك

تلهم ليل جمرك...

من يُدك بابك

وكليبَك حمامة بيت

خايب .....

ولك خايب

مثل وجهَك ضميرك.....

رازقي وقداح

يانخلة حماد........

ومدت السباح

ماتشتاك...ماتشتاك

ما......تش....تا....ك

***

2007 م













1 :خنياب:طافح بالماء

2 :داخل حسن:مطرب ريفي

3،4:طور للغناء العراقي

5:أغنية لداخل حسن

6كاري:وسيلة نقل قديمة تسيرعلى سكة حديدية تسحب بستة

خيول تنطلق من قرب جسر الشهداء تصل للكاظمية المقدسة

7أمام الورد:ديوان شعر لرياض النعماني

الاثنين، 26 أبريل 2010

مقطع مستل من السيرة الذاتية لشبيه همنجواي الحلي-كتاب في حلقات-كتابة احمد الحلي


شبيه أرنست همنجواي

يتحدث أبو رياض عن كيفية اكتشاف الشبه الخلقي بينه وبين الروائي العالمي (ارنست همنجواي ) فيشير إلى ان الناس والمحيطين به هم الذين انتبهوا أولا إلى هذا الأمر لاسيما بعد ان نمت ذقنه ، ويتذكر حادثة غريبة وقعت له في أعوام الستينيات ( لايتذكر بالضبط متى )، حين وجد نفسه يشهر مسدسه نحو رأسه محاولا الانتحار ، بسبب تعرضه لوضع اجتماعي قاهر ، حيث تمت الوشاية بابيه معيل العائلة الوحيد آنذاك وكانت التهمة الجاهزة الموجهة إليه انه ساعد في تهريب احد كبار تجار اليهود الأثرياء إلى خارج العراق ، إلا ان أبا رياض لم ينفذ ما اعتزم عليه ، إذ وجد ابنه ذا العامين فقط وهو يحبو إليه في ظلمة الليل ، فوضع المسدس جانبا وقرر مواصلة الحياة ، على العكس من قرينه همنجواي الذي مضى بالمهمة قدما .

ويوما بعد يوم أحس أبو رياض انه يتواشج مع شخصية ارنست همنجواي ، لاسيما في مزاياه الإنسانية وعلى صعيد المغامرات أيضا وان لم يصل إلى الحدود الدنيا من تخومها ،كما يعترف ، فقد احترف مهنة صيد الأسماك على نهر دجلة ومن ثم على نهر الحلة ، وحول سؤال وجهناه إليه فيما إذا كان يعتقد انه الشيخ في رواية همنجواي الشهيرة ( الشيخ والبحر ) أجاب أبو رياض بتواضع جم ؛ كلا ، فانا أجد نفسي الصياد في النهر ، إذ ان البحر بعيد عنا ، ولم نتعرف في حياتنا سوى على النهر .

وقد بات معروفاً لدى الجميع ان حبكة رواية همنجواي (الشيخ والبحر) استقاها بناءً على تجربة شخصية له في صيد الأسماك على الرغم من الرمزية التي غلقت هذا العمل المهم الذي أهله للفوز بجائزة نوبل للآداب أبان فترة الخمسينيات .

وإذ استطاع (همنجواي) توظيف حيثيات تجاربه الشخصية ومغامراته في كتاباته الروائية والقصصية ، فان (أبا رياض) لم يتح له ان يفعل ذلك ، على الرغم من ان عملية استنطاقه الآن لم تكن بالمهمة الشاقة أو العسيرة ، فحديثه أشبه ما يكون بالمائدة العامرة التي تتوفر على شتى صنوف الأطعمة والاشربة والمقبلات ، وان احتوى بعضها على توابل كثيرة إلا ان محدثه يستطيع ان يختار وينتقي منها ما يشاء ..

* وبالنسبة للقوة البدنية التي عرف بها الروائي الأمريكي ، والتي أهلته لان يقوم برحلاته الشهيرة في مجاهل الغابات في أمريكا وأفريقيا بغية اصطياد الحيوانات المتوحشة ، بالإضافة إلى كونه ملاكما محترفا ، فان ( أبا رياض ) أصبح سباحا ماهرا في وقت مبكر من حياته ، وعرفه نهر دجلة وكذلك شط الحلة ونهر الفرات في منطقة سدة الهندية ، وحصل على بعض بطولات السباحة واحترف الملاكمة أيضا متدربا على يد الملاكم ( محمد سلبي ) بطل العراق بالملاكمة في أعوام الخمسينيات كما برز في عدد من الألعاب الرياضية التي تتطلب القوة والجهد ، وقد حدثنا احد أصدقائه من الأدباء انهم كانوا قد خرجوا للتو منتشين من سهرة في مقر اتحاد أدباء الحلة ، فانتبهوا إلى جذع ميت لإحدى الأشجار يقف منتصبا بتحدي على مقربة منهم أثناء خروجهم فما كان من (أبي رياض ) المنتشي إلا ان أحاطه بساعديه القويتين وسط صياح الأصدقاء وتشجيعهم له بعبارة؛ همنجواي .. همنجواي ! وبعد قليل من الجهد استطاع ( أبو رياض ) ان يقتلعه من جذوره !







Oh my god أو الله حي



ما زال في جعبة أبي رياض الكثير من الذكريات التي يتوق إلى البوح بها ، وتطرق حديثه هذه المرة إلى المرحلة التي تلت تأميم النفط العراقي في أوائل سبعينيات القرن الماضي ، حين أصدرت الحكومة ما أسمته ( سندات الصمود ) آنذاك لتعطيها للموظفين وتستقطع منهم مبلغا قدره 3 دنانير من الراتب وكان هذا المبلغ يؤثر تأثيرا كبيرا على مدخول العائلة ، فنظم ( أبو رياض ) أغنية ( الله حي ) وهي موجهة إلى الخالق لكي يساعده على الخروج من هذا المأزق المادي ، وقام بتأليف الأغنية باللغة العربية والانجليزية التي يجيدها ، وبعد السقوط وبالتحديد في العام 2007 أجرى تجديدا على هذه الأغنية في مضمونها ولحنها ، إلا ان الأغنية لم تجد لحد الآن من يخرجها إلى النور سواء على صعيد النشر أو الإذاعة وهي تتعلق بحوار الأديان وضرورة تآخي الجنس البشري وفيما يلي نص الأغنية بالانكليزية :



oH My God

My god help me

Do some thing for me

I am Angle From Babylon

Please My God don't Leave Me Alon

Make The World Happy



أما النص العربي فقد صاغه كالآتي ؛





بجاه كليم الله موسى النبي

بجاه روح الله المسيح النبي

بجاه حبيب الله محمد النبي

الله حي ! oH My God





لا للتدخين

* قاد (أبو رياض) في العام 2000 والأعوام التي تلته حملة ضد التدخين وأسس منظمة باسم (لاللتدخين ) وكان شعارها ؛ ( السكائر من صنع الشيطان ، اسحقها .. اسحقها أيها الإنسان ) ، وقام بطبع بوسترات ملونة بهذا المنحى ، وتم إلصاقها في عدد من الواجهات المهمة بمدينة الحلة ، وكان نتيجة هذه الحملة ان اقلع عشرات المدخنين عن التدخين .

ومن أجل ذلك فقد شاعت في أوساط الناس في عن أبي رياض صورة المناويء والخصم اللدود لظاهرة التدخين ، وهناك عددٌ من الحكايات التي يتم تداولها ، نختار من بينها ؛

1

* في أحد الأيام قبيل الإجتياح الأمريكي للعراق في العام 2003 ، وبعد حوالي ثلاثة أيام من القرار المتعجل الذي إتخذه النظام والقاضي إطلاق سراح جميع المعتقلين والمدانين بجرائم مختلفة ، وفيما ( أبو رياض ) يجلس في مقعده داخل سيارة مزدحمة بالركاب تسير وسط العاصمة بغداد ، إذ وجد نفسه يجلس قبالة شخص يدخن بشراهة ، إغتاض أبو رياض في باديء الأمر ، وحاول أن يكتم غضبه ، ثم إلتمس من المدخن أن يُطفيء سيجارته مدّعياً أنه مريض بالربو ، إلا أن المدخن لم يأبه للامر ، وواصل التدخين بلذة ونشوة أكثر من السابق ، فلم يجد صاحبنا من سبيل أمامه إلا أن يُعلن عن سورة غضبه ، مادّاً يده الى حقيبته فاتحاً إياها بعنف قائلاً بصوته الأجش المزمجر ؛ ها أنتم تجبروننا على العودة الى السجن ثانية بعد أن تم إخراجنا منه ! ساور الركاب إحساسٌ بأنهم بإزاء مجرم خطير ، وظنوه يحاول أن يستخرج سكيناً أو خنجراً ، فأصيبوا بالخوف والهلع ، وأخذوا يتوسلون اليه أن لايفعل شيئاً ، أما بالنسبة الى الشخص المدخن ، فقد إنهار تماماً ، وأخرج علبة سجائره من جيبه وسحقها بقدمه عند أقدام ( أبي رياض) في محاولة لأسترضائه وإطفاء سورة غضبه .

2

إعتاد الناس أن يروا أبا رياض إبان مرحلة السبعينيات والثمانينيات وهو يقود باص الركاب التابع لمصلحة نقل الركاب في مدينة الحلة ، ناقلاً إياهم من مركز المحافظة الى النواحي والأقضية والقصبات التابعة للمدينة وبالعكس ، وكان هو لايتورع عن تطبيق قانونه الصارم بشأن التدخين في حافلته التي كان يعتني بها إعتناءً شديداً ، وفي أحد الصباحات صادف أن شغل المقعدين اللذين يقعان خلفه مباشرة أحدُ شيوخ العشائر وشخصٌ آخر كان بصحبته ، وما إن تحركت السيارة مسافة قليلة حتى إستخرج الشيخ علبة سجائره المطرزة بخيوط حريرية ملونة ، مقدماً سيجارة لرفيقه ، وأخذ الإثنان يدخنان بنهم ولذة ، نظر أبو رياض الى سحب الدخان التي أخذت تتشكل فوق رأسه فتراءت له على هيئة غيلان ووحوش تحاول الإنقضاض عليه ، القى نظرة في المرآة الى الشيخ الذي سمع به كثيراً ، فوجده أشبه بطائر ( الفسيفس) حين ينفش ريشه ، وساوره إحساس ٌ بأن هذا الشيخ ربما يظن أنه جالس ٌ في هذه اللحظة في صدر مضيفه ، خفف من سرعة السيارة وخاطب الشيخ بصوت مسموع ؛ هل تسمح لي أيها الشيخ الموقر أن أطلب منك شيئاً ؟ إنتبه هذا اليه ؛ نعم تفضل ، وظن في باديء الأمر أنه يطلب منه سيجارة ، فأستخرج علبة السجائر وناوله واحدة منها ، قال أبو رياض ؛ عذراً أيها الشيخ ،فأنا لاأدخن ، وأن الذي أرجوه منك هو أن تكف عن التدخين أنت وصاحبك ! إغتاض الشيخ للهجة الصارمة الآمرة التي يخاطبه بها هذا السائق الحكومي الذي ربما لم يعرف سطوته جيداً ، قال له هازئاً ؛ ومن أين لك السلطة في منعي من التدخين ؟

ـ هذه حافلتي وإن تكن سيارة حكومية ، وأنا إعتدت أن أطبق هنا قوانيني !

ـ وأنا أقول لك بكل بساطة ؛ يؤسفني أنني لاأحترم قوانينك ، فما الذي بوسعك أن تفعله ؟

لم يفعل أبو رياض شيئاً ، وإنما قلل من سرعة الباص الذي كان يقل موظفين يرومون الوصول الى دوائرهم في الوقت المحدد ، فتصايح هؤلاء ؛ ما الأمر ؟

قال أبو رياض مخاطباً الشيخ ؛

ـ ألا ترى ؟ إن هؤلاء سلاحي !

أصر الشيخ على موقفه وتملكته سورة الغضب ، عند هذه النقطة ، أوقف صاحبنا السيارة تماماً وركنها الى جانب الطريق ، ظن باقي الركاب أن ثمة عطلاً أصاب السيارة فظهر منهم التذمر والإستياء ، قال أبو رياض مخاطباً الجميع ؛ إطمئنوا فليس في السيارة سوى عطل واحد هو هذا الشخص الجالس خلفي ، والذي يُصرعلى ألإستمرار في تدخين سجائره المقيتة ، وفي هذه الحالة ، وكما تعرفون ، فلن أدع السيارة تتحرك شبراً واحدا ً ما لم يكف هو تماماً عن التدخين ،

وبأسرع من لمح البصر تحول غضب الركاب الى الشيخ الذي وجد نفسه في موقف لايُحسَد عليه ، هذا يصيح به ، وذاك ينهره ، وكاد أحدهم أن ينهال عليه بالضرب ، فتدخل أيو رياض في اللحظة المناسبة ، قائلاً للشيخ بحزم ؛ والآن من فضلك أعطني علبة السجائر، فأعطاها إياه وهو لم يكد يُفق بعدُ من ذهوله وإرتباكه ، فأخرج السجائر منها وطرحها أرضاً وأخذ يسحقها بحذائه ، ثم أعاد إليه العلبة الثمينة فارغة وإزاء هذا الموقف ، لم يجد الشيخ المغلوب على أمره من سبيل أمامه للخروج من هذا المأزق سوى أن قدم إعتذاره لأبي رياض ولباقي الركاب مصرحاً أمام الجميع ، أنه ومنذ هذه اللحظة قرر التوقف عن التدخين ، رامياً العلبة الفارغة من نافذة الباص دونما أسف !



3

يذكر المقربون منه ، أن أبا رياض عمد الى إستعمال طرائق متعددة في مكافحة ظاهرة التدخين ، ولا سيما في حافلته هذه ، ومن ضمنها أنه أشاع لدى ركابه الذين إعتاد أن يراهم كل يوم في رحلة ذهابهم وأيابهم الى دوائرهم الحكومية ، أن سيارته تم تزويدها مؤخراً بجهاز الكتروني ياباني لدى خلاياه حساسية قوية من الدخان المتصاعد من السجائر ، الأمر الذي يؤدي أن يُبطيء الباص من سرعته تلقائياً ، وكان الركاب يتساءلون فيما بينهم بين مصدّق ومكذب ؛ هل حقاً يوجد هكذا جهاز ؟ !







قنابل الزينة

يتذكر أبو رياض بوضوح ، بأنه بين عامي 1948 و 1949 وتحديداً بين شهري نيسان وأيار من العام 1949 ان المظاهرات الصاخبة كانت تجوب شوارع بغداد ، وفي منطقة الكرادة الشرقية حيث ولد ونشاً ، وكان عمره آنذاك لا يتجاوز العشرة سنوات حيث وقعت عيناه للمرة الأولى على أول تظاهرة تخرج من دار تطبيقات المعلمين وهي تهتف ؛ 0فلسطين عربية فلتسقط الصهيونية ) ، وفي تلك الأجواء الملبدة أعلنت الأحكام العرفية ، وتم قمع المظاهرات ، إلّا ان زمام الأمور كان يفلت في بعض الأحيان فحصل (الفرهود) لبيوت اليهود الموسرين من قبل بعض الناس ، وبالنظر الى ان السلطات اتخذت آنذاك اجراءً يخولها تفتيش كافة البيوت ، فقد ؛ " طلب مني ابي الذي كان يعمل تاجراً في الشورجة ان انقل قنبلتين كنا نحتفظ بهما على عادة الكثيرين من أهالي بغداد آنذاك لأغراض الزينة ، وأمرنا انا وابن عمتي الذي كان يكبرني بعامين بأن نتخلص منهما والقاءهما في نهر دجلة القريب ، والذي كانت مناسيب المياه فيه تنذر بفيضان وشيك ، حتى ان الماء ارتفع الى أعلى السدة في منطقة (السبع قصور) ، وعندما شاهدنا أفراد من العوائل اليهودية ، ونحن نسير بهذه الوضعية ، اخذوا يتصايحون بان (ابو فايق) والذي هو ابي ، يريد تفجير السدة ليغرق اليهود ، وشعر ابن عمتي بالخوف والهلع ، فطرح قنبلته في الشارع المؤدي الى نهر دجلة قريباً من بيت مدير أمن بغداد المرحوم بهجت العطية ، وولى هارباً ، فالتقطت قنبلته وحملتها على كاهلي ، وبذلك أصبحت احمل قنبلتين على كتفي الصغيرين ... "

وبعد ان يصل الى حافة النهر ، يقوم بإلقائهما ، فلم يحدث أي انفجار مثلما كان يتوجس ، وبعد مرور حوالي نصف ساعة على هذه الواقعة يمتلئ الشارع برجال الشرطة والجيش والأمن ؛ " وجلبوا معهم صياداً كي يرمي شبكته في المكان الذي ألقيت فيه قنابلي ، فأقتادوني الى مركز الشرطة القريب بصحبة والدي للتحقيق ، وبعد آن أوضح لهم ابي بأنه هو من كلفني بهذا العمل ، تم الإفراج عني وبقي هو موقوفاً لبضع ساعات ليتم الإفراج عنه بعدها بكفالة ، بعد ان استطاع إقناعهم بأن القنبلتين كانتا موجودتين في البيت لأغراض الزينة ، وكان الذي اشرف على التحقيق معه بهجت العطية بنفسه وكان حق الجيرة يحتم علية ان يفعل ذلك ، وعلى ما اذكر يضيف ابو رياض ، فان العطية كانت لديه عائلة تعيش ظروفاً اقتصادية متواضعة ، فلم يكن يمتلك بيتاً وانما كان يسكن بالإيجار ، مع الأخذ بنظر الاعتبار انه متزوج من امرأتين أحداهما تسكن معه في الكرادة الشرقية والأخرى أو الأولى فكانت تقطن في عرصات الهندية ، ومن المفجع حقاً ان أتذكر ، ان أبا غسان تم إعدامه بعد سقوط الملكية على يد محكمة المهداوي التهريجية في العام 1959 ، ويعتقد ابو رياض ان هذا الحكم انطوى على كثير من الظلم والتعسف حيث عرف عن بهجت العطية بين أهالي بغداد بأنه كان نزيهاً ومخلصاً ووطنياً في عمله ، بالإضافة إلى انه لم يتقدم ضده لتعضيد إدانته سوى شاهد واحد كان بيته مجاوراً لبيت العطية ومن بين المآخذ التي سجلها هذا الشاهد ضد العطية انه كانت لديه ثلاجة كهربائية في بيته وبعد تنفيذ الإعدام بحقه اضطرت عائلته في الكرادة ان تعيش وضعاً صعباً للغاية ، حيث لم تكن تمتلك ثمن الخبز التي تقتات به ، وكانوا يعتاشون على ما يقدمه الناس إليهم من صدقات ، كما ان والد ابي رياض الذي يمتلك شركة سيارات الحرية ، كان يقدم لهم العون المادي بين الفينة والأخرى ، أما ابو رياض نفسه فقد وجد في نفسه الحكمة الكافية لان يبكر في الخروج لصيد السمك يومياً في نهر دجلة ليعطي ما يحصل عليه الى هذه العائلة المنكوبة .

تحتشد ذاكرة (أبي رياض) بالكثير من الصور حول حادث الفيضان آنف الذكر ، من بينها إعتقادٌ ترسّخ لديه ولدى غيره من أبناء جيله أن الحكومة آنذاك قد أسهمت بهذا القدر أو ذاك في وقوع الكارثة في أماكن محددة ، ذلك أنها عمدت الى إستعمال حيلة قاسية لمواجهة سيل التظاهرات العارمة التي كانت تخرج الى الشوارع منددةً بالإتفاقية التي تم التوقيع عليها في العام 1948 بين العراق وبريطانيا ، وعلى خلفية إعلان قيام الدولة اليهودية في ذات العام ، وقد جرت العادة أن هذه التظاهرات كانت تخرج من دار المعلمين المسماة آنذاك بــ (التطبيقات) ، والواقعة في المنطقة المحصورة بين الجسر المعلق ومنطقة ( السبع قصور) ، كانت بناية المعهد نقطة إنطلاق للتظاهرات الصاخبة ، ومحفزاً لباقي المدارس الثانوية بل وحتى الإبتدائية لكي يخرج طلبتها للتظاهر ، وسرعان ما ينضم اليهم أيضاً بعض الشبان المتحمسين ، ويبدو واضحاً أن القوى الوطنية المعارضة للسلطة هي من كان يقف وراء تأجيج الموقف بين الشارع والحكومة ،وهو يرى أن الحكومة إنتهزت إرتفاع مناسيب المياه في نهر دجلة منذرة بحدوث الفيضان ، لتُحدث ( كسرة) أي فتحة في النهر في جانب الكرادة تحت ذريعة التخفيف من ضغط الفيضان ، وقد أدى ذلك الى غرق أغلب مناطق الكرادة ، وأتى على مبنى دار المعلمين الذي إنهار بالكامل ، فأتخذت الحكومة ذلك ذريعة لنقل ( الدار) الى منطقة أبو غريب البعيدة عن مركز العاصمة ، وهناك عددٌ من الصور المتفرعة عن هذه الحوادث الجسام ، ومن ضمنها أن أهالي الكرادة الذين نكبوا بالفيضان ، حيث أن غلبية بيوتهم التي دخلتها المياه قد تهدمت بالكامل ، كانوا يعمدون الى إستعمال الزوارق الصغيرة في تنقلاتهم ، وأن أصحاب الدكاكين من عطارين وبقالين وسواهم قد ملأوا الزوارق ببضاعتهم وأخذوا يتجولون بها بين المنازل ، فأصبحت الكرادة بين ليلة وضحاها أشبه بــ ( فينيسيا ) ، ولكن بالمقلوب !







رزق البزازين عالمعثرات

ومن بين الصور الأخرى، أن ذلك الأمر تزامن مع تصاعد وتيرة العداء والضغينة التي صار يحملها المواطنون المسلمون تجاه إخوانهم من اليهود العراقيين المقيمين معهم على ذات الثرى منذ أقدم العصور، والذين تشاركوا معهم في السراء والضراء وفي الأوقات العصيبة كافة ، وكان وجود هذه الشريحة الفاعلة يشكل عصب الحياة الأقتصادية والفكرية آنذاك ، لاسيما وأنه برز منهم عددٌ لايُستهان به ممن خدم البلاد في المجالات العلمية والفكرية والأدبية والفنية في بدايات إنشاء الدولة العراقية ، وإزاء تصاعد وتيرة الضغوطات الشعبية ضدهم ، لم يجد هؤلاء أمامهم سبيلاً سوى الإنكفاء والتقوقع ثم ليحصل <الفرهود> بعد ذلك ، وهو عمليات السلب والنهب التي جرت لممتلكاتهم أمام أنظارهم وأنظار الحكومة التي تقاعست عن القيام بواجبها ومسؤوليتها في توفير الحماية لمواطنيها ، فأضطر عددٌ من هؤلاء الى ترك بيوتهم ومغادرة البلاد قبل أن تتطور الأمور الى ما لايُحمد عقباه ، وقد عرض هؤلاء حاجياتهم ومقتنياتهم النفيسة ليُصار الى بيعها في مزادات علنية أقيمت في منطقة البتاويين القريبة، قبل أن تتخذ السلطات قرارها المتعسف الآخر الذي ينص على أنه لا يُسمَح للعائلة اليهودية وكذلك الأفراد الذين يقررون المغادرة بأن يحملوا معهم أكثر من 30 دولارا ، ولما كان غالبية اليهود المغادرين هم من كبار تجار الشورجة ، فقد آثر هؤلاء أن يتخلوا عن أموالهم لخدمهم وعمالهم من المسلمين ممن يضعون ثقتهم فيهم ، وبذلك فقد نشأت في بغداد وباقي مدن العراق طائفةٌ جديدة من الأثرياء الذين هطلت عليهم النعمة من حيث لايحتسبون وتماشيا مع القول المأثور ؛ ( ما رأيت نعمة موفورة إلا وبجانبها حقٌ مضيّع *)([1]) ! والمثل الشعبي الرائج ؛ رزق البزازين عالمعثرات !



صالح الفتلاوي

وثمة صورة أخرى مازالت عالقة في ذهنه ، وهي صورة التاجر اليهودي المعروف ( صالح الفتلاوي) الذي كان يمتلك بيتاً فخماً جداً مبنياً وفق الطراز الإنكليزي ، فحين خرج ذات صباح بأناقته المعهودة ، فإنه وجد بيته محاصراً بالمياه من كل جانب ، فظل وافقاً لبرهة من الوقت ، وقد بدت علامات الحيرة على وجهه ، ورآه الناس من المنطقة المجاورة وهو على هذه الحال ، فتهامسوا فيما بينهم ثم نادوا عليه بأنهم سيرسلون له زورقاً يقلّه الى مكان آمن يستطيع الذهاب منه الى متجره في الشورجة ، وبالفعل أرسلوا زورقاً يقوده أحد الأشخاص ، وما أن صعد صالح فيه وصار في وسط المياه حتى أخذ سائقه يهزه بعنف يميناً وشمالاً حتى إنقلب بهما ، فتعالى الضحك والصفير من لدن الناس الذين تآمروا على هذا المقلب القبيح وهم يرون كل أناقة وهندام صالح الفتلاوي وهي تُمرّغ هكذا .

ولم ينقض أكثرُ من شهر حتى حزم صالح الفتلاوي أمره وقرر الرحيل هو وعائلته ، ولم تسمح له السلطات أن يصطحب معه سوى مبلغ ضئيل من المال وبعض الملابس ، فأستولت أمانة العاصمة على بيته ومحتوياته ليتم تحويله الى مدرسة إبتدائية مختلطة بإسم (مدرسة) الحرية ، وكانت أول مدرسة مختلطة يتم إفتتاحها في منطقة الكرادة ، كما أنها المدرسة الأولى في العراق آنذاك التي تسمى بهذا الإسم الذي ظل هاجساً مستمراً للممسكين بزمام السلطة بعد ذلك ، ثم ليتم تجييره على نطاق واسع لخدمة أهداف وأغراض قراصنة السياسة والشعارات الطنانة التي لم تحصد منها البلاد ولا العباد سوى المزيد من الخيبات والمرارة .

الأحد، 25 أبريل 2010

ايكولون غني ابفرح-بقلم حامد كعيد الجبوري

إيكولون غني أبفرح


حامد كعيد الجبوري

لم أجد أفضل من هذه العنوانة لموضوعتي التي أثارها أكثر من صديق تسائلوا لماذا لا يزال المثقفون – شعراء وكتاب - لا يجسدوا بنتاجاتهم الأدبية التي يفترض أن تشيع البهجة والسرور لدى المتلقي ؟ ، ولربما أشاطرهم نفس الرأي وأضم صوتي لما يقولون ، ولربما أتقاطع معهم وبنفس درجة التأييد التي آمنت بها بطروحاتهم ، وهذا متأتي من حالة الصراع النفسي الداخلي للأنسان العراقي حصراً ، والسؤال أياه مكرر كثيراً ، وحينما سأل الشاعر الراحل (جبار الغزي) بنفس هذا السؤال أجابهم بهذه الكلمات التي أخذها منه الملحن (محسن فرحان) وأسندها للفنان (حسين نعمه) ليطلقها لحنا لاتزال الذائقة تردده وبأستمرار

أيكولون غني أبفرح وآنه الهموم أغناي

أبهيمه أزرعوني ومشو وعزوا عليّ الماي

نوبه أنطفي ونوبه أشب تايه أبنص الدرب

تايه وخذني الهوه لا رايح ولا جاي

أيكولون غني أبفرح

******

دولاب فرني الوكت وخميت الولايات

والغربه صاروا هلي وخلاني الشمات

مابين شوك وصبر ضاعن أسنين العمر

أيكولون غني أبفرح

*************

والسؤال الذي يطرح نفسه هنا ، لماذا هذا الحزن المتجذر الذي منفكَ ملازماً للعراقيين إلا ماندر ، أللهواء الملوث بالحقد والضغينة والأستئثار بكل شئ له علاقة بذلك ؟، وهل أن الماء الذي نشربه وتستقيه جداولنا يحال لحزن وألم دائميين ؟، وهل أن التربة العراقية تنتج الهموم لنحصدها كما الحنطة والشعير ؟،ويروي مؤرخونا أن الشاعر (الفرزدق) ذهب حاجاً لبيت الله الحرام ، وهناك ألتقى الأمام (الصادق ع) ، فقال له أنشدني يا (فرزدق) ماقلته بجدي (الحسين ع) ، فبدأ (الفرزدق) يقرأ أشعاره للأمام ، فستأوقفه الأمام قائلاً لا يا(فرزدق) بل أتلوها عليّ كما يتلوها العراقييون وبطريقتهم ، وكان له ما أراد وجرت عيونه حزناً لجده (الحسين ع) متأثراً بالطريقة التي تليت به القصيدة إياها كما قالوا ،ومنهم من يقول أن الحادثة إياها جرت مع الأمام زين العابدين (ع) ، وأخر يقول أنها مع الأمام الرضا (ع) والشاعر دعبل الخزاعي ، ولتكن الحادثة مع أي منهم عليهم السلام فهذا يؤكد ماأذهب اليه من أن الحزن العراقي متأصل فينا حد النخاع ، وأشيع عنا هكذا في كل البلدان العربية ولم نستمع لأغنية تطربنا إلا إذا كانت حزينة

عاش من شافك يبو حلو العيون صار مده أمفاركينه وماتجون

لا خبر والبعد طال ألمن أنودي السؤال كلنه مدري أشلون عشرتنه تهون

ولو أردتُ السؤال قائلاً لو أنكَ أستمعت للفنانة اللبنانية الكبيرة (فيروز ) وهي تردد (دخلك ياطير الوروار ) أو (حبيتك بالصيف حبيتك بالشتي) ترى هل تثير لك هذه الأغنيات هما ووجعا ؟ أم تترك لك حيزاً من الفرح والنشوة وهي على النقيض من الأغاني العراقية ؟ ، علما أن الأغاني العربية أكثر رقة وجمالية بالمفردة المستعملة ، ومثلاً متواضعاً لذلك (شتريد) ومعناها واضح ولكن ألا تلاحظ معي قساوة وحدة السؤال مقارنة باللهجة الشامية (شو بتريد) التي أجدها أكثر رقة من لهجتنا الدارجة، ولا أعرف لماذا أعتقد أن الآلات المستعملة بالغناء العراقي أكثر إيلاماً وحزناً من الآلات الموسيقية الأخرى ، ومثل ذلك (الناي والربابة) اللتان لهما ذلك الأيحاء الخفي لأختراق شغاف القلوب ، ولا أنكر أن البحبوحة المفتعلة التي أرادها النظام السابق حقبة السبعينات خلقت لنا نصوصاً مميزة دالة على الفرح وأشاعته (ياطيور الطايره ردي لهلي ياشمسنه الدايره أبفرحة هلي سلميلي ومري بولاياتنه) أو ( تانيني ألتمسج تانيني يهنا يم طوك الحياوي) ، أو (ياخوخ يازردالي بذات مالك تالي ، تانيتك ومن حومرت صار الجني العذالي) والأمثلة كثيرة ، ويضاف سبب لما قلناه غير الصراع السياسي الذي شهده العراق ، وتحوله من أحتلال بغيض لآخر أبغض ، ومن ظلم الحكام المتعاقبون ظالم يعقب ظالماً آخر (فالوطن العربي الممتد من البحر الى البحر سجان يمسك سجان) كما أطلقها الرمز العراقي الأبي (مظفر النواب) ، والسبب الذي أعنيه هو الفقر وشفيعي لذلك ما قاله سيد البلغاء (علي ع) (لو كان الفقر رجلاً لقتلته) لقناعته التامة ما يؤله الفقر على المجتمع عامة والفقير خاصة ، ولدي أكثر من شاهد لذلك متحدثاً عن نفسي بداية ، أنا من عائلة أقل من معدمة فكل الأطفال بعمري – حينها - ينتظرون عيد الله الذي سيحل عليهم – رمضان وعيد الحج – إلا أنا فماذا سألبس في هذا العيد ووالدي لا يملك من دنياه إلا كرامته ، لذا كنت ألتحف حزني ولا أغادر موضعي أيام الأعياد ، وليس لنا بيت إلا غرفة واحدة مستأجرة لا يستطيع دفع إيجارها البالغ دينار واحد سنوياً ، لم أتناول فطوراً طيلة طفولتي إلا الخبز والشاي ، وبعد أن أشتد عودي وأصبحت بالثالث إبتدائي اصطحبني جاري رحمه الله (رديف البنه) معه للعمل في البناء لقاء أجر مقداره (260) فلساً فقط أيام العطل الصيفية لأنفقها على عائلتي ولأوفر منها ملابسي وملابس أخوتي المدرسية ، طفل في الثالث إبتدائي لايستطيع حمل طاسة البناء فأوكلوا لي حمل الطابوق على قدر أستطاعتي ،ورغم فقر آباؤنا وعدم تمكنهم من إعالة أبنائهم فهم ينجبون التسعة والعشرة من الأبناء متأسين بقول الرسول الأعظم ( ص ) الذي يقول (تناكحوا وتكاثروا لأباهي بكم الأمم) ، ولست على قناعة بأصل هذا الحديث ورواته فبأي أجساد عارية سيباهي (محمد ص) الأمم الأخرى ،وأن صح الحديث فيقع اللوم على الميسورين لأنهم لم يخرجوا من أموالهم الصدقات المفروضة ، ولأني الكبير بين أخوتي فكنت الوحيد الذي لا تصبغ دشداشته بصبغ النيلي أيام العيد أكثر الأحيان ،لأن والدي أضطر لشراء دشداشة لي بسب أن دشداشتي السابقة أصبحت أقل من قياسي ولا أعرف من أين أستقرض مالها ، أما دشداشتي الحالية ستؤل لأخي الأصغر ، والأوسط من أخوتي للأصغر منه وهكذا ، وسبب صبغ الدشاديش بالنيلي لنوهمّ أنفسنا على أنها جديدة ، وبعض العوائل تصبغ ملابسها بالأسود أيام عاشوراء لعدم تمكن تلك العوائل من شراء الملابس السوداء الجديدة ، ولكم أن تتصوروا مايتركه صبغ النيلي على أجسامنا الغضة الطرية ولقد جسدت ذلك شعراً و أقول

معاميل الحزن فصل علينه أهدوم ماماخذ قياس وراسها أبعبه

وذا ثوب الحزن يطلع كصير أطويل تبادل ويّ أخوك وبالك أتذبه

وأن أضفت للفقر اليتم المبكر وفقدان المعيل وترك والدك لك حملاً ثقيلاً (كوم لحم) كما يقول المثل الشعبي وبخاصة أن كن أناث فماذا سيكتب الشاعر عن ذلك ولم أجد لذلك أجمل مما كتبه الشاعر الكبير ( كاظم إسماعيل الكاطع) مصوراً نفسه بحلم تسائل معه (أبو الطيب المتنبي) عن أحواله وأحوال الناس فيقول

سألني عن جديد الشعر هالأيام والناس أعله ظيم الصابها أشتكتب

أشتكتب والجديد البي فرح جذاب والكلك جديد أيفرحك يجذب

أمي من الزغر تنكل حطب للنار ويفوّر جدرها ومدري شتركب

مصباح اليتم صبتلي بالماعون ومن ضكت الحزن شفت الحزن طيب

ملحه أهدومنه مالات عشر أسنين موسمران بس هنه علينه ألوانهن تكلب

مبعد ياقطار الشوك وين أتريد إخذنه أوياك بلجي أبدوستك وياهم أنجلب

أخذني وياك شاعر كل رصيده أجروح يفتحلك أحساب أبأي مدينة طب

كيف يكتب (الكاطع) للناس وهذا هو حاله والأكثر من ذلك حينما يكبر ويتزوج وينجب يفقد زوجه وأبنه البكر بعام واحد فكتب قصيدة (بير المنايا) يقول فيها

تغطيت وبعدني الليلة بردان لأن مويمي أنت فراشي بارد

وينك يادفو ياجمر الأحزان أحس أبدمي بالشريان جامد

يامهر الصبر ماكضك عنان نسمع بس صهيلك وين شارد

كل ساع وتكضني جفوف بطران وأنا جلد العليه أقماشه بايد

وخير من جسد الحزن والألم والمعانات العراقية الشاعر الكبير (عريان السيد خلف) ، ومعلوم أن (عريان) من عائلة شبه ميسورة ووالده سيد قومه ويملك (علوة) لبيع وشراء الحبوب إلا أن صروف الدهر مجتمعة أفقدته أمه رضيعاً ، فكفلته أخته الكبرى وسرعان مافقدها أيضاً ، وأخذته زحمة العمل السياسي وتصدعاتها ، فنظر للمآساة العراقية بعين شاعريته الكبيرة مطلقاً قصائد عصماء تجسد الواقع العراقي المتردي بكل مفاصل الحياة ، واضعاً نصب عينيه آلآم العراقيين مبتدءاً من ستينات القرن المنصرم وصولاً للأنتفاضة الشعبانية -(الحيطان منخل والدروب أحفور ،..... هنا مصحف جلالة هنا حمامة بيت/ هنا وصلة جديلة أبجف طفل مبتور)- ومابعدها ،ولكني سأورد أبياتاً من قصيدة (صياد الهموم) لعلاقتها بموضوعتي

ضمني أبليل ثاني وحل حلال الخل شحيحه أفراحنه ودكانها أمعزل

البسمه أنبوكها من الآه والياويل وصياد الهموم أبدفتره أيسجل

حاطنك ضواري أمهذبات الناب ولا مخلص يعينك لو ردت تجفل

مصخت والضماير غبراها الغيض وأمتد الدرب وأم الفرح مثجل

مدنف فوك وكري إبطارف الصعبات وصكور الروابي العالية أتزبل

مشكلتي الفرح ماعرف بالبه أمنين وبثوب الحزن من زغر متمشكل

ناورني الدمع بأول مدب عالكاع وناغمني الحزن وّي رنة الجنجل

ضميت الصداقه أجروح تدمي أجروح وحرزت الوفه ولن مايها أموشل

دحل شعرك حبيبي الليل خل أيطول تره خيط الفجر يستعجل أمن أيهل

وتساؤلكم المشروع هذا لماذا لا يغادر الشعراء القصائد الحزينه وأستعاضتها بقصائد مبهجة ؟ ، أتعلمون أن هذا مثل هذا الطرح أثار حفيظة الشاعر المرحوم (صاحب الضويري) وشنها حرباً ضروس على شاعر كتب قصيدة ناغى بها ماتريدون فقال له مؤنباً وموجهاً وعاتباً عليه لأنه كتب هذا النص فيقول له

إي يمسعد تضحك بكل السنون ومن زمان أحنه الضحج ناسينه

ومن زمان أمشجل وأبره الضعون واليكع ماليه مهجه أتعينه

ياعيوني الماجرت مثلج أعيون وياجفن يركه الدمع صوبينه

خاف غصن الشوك ينهيه الهلاج أحنه منحر للهوه أمخلينه

أذكر الله وحوبت الوادم وراك المحمي لابد ما تزل رجلينه

ومن حقي وحقكم أيضاً أن نتسائل ونقول ، هذا الذي أوردناه كان في عهد نظام شمولي دكتاتوري عسكر كل شئ ، ولكم أن تتصوروا الحروب الرعناء التي أقحم فيها الطاغية المقبور العراق والعراقيين ،وأورثهم الضحايا والفقر والقبور الجماعية ، وما أنتجته من قصائد مجدت الموت والظلاميين حتى وصلت هذه العسكرة لكرة القدم (هاي مو ساحة لعب ساحة قتال) ، وبما أن هذه الشرذمة لفظت أنفاسها ورحلت فلماذا تصرون على البقاء على هذه القصائد الملآ بالدماء والموت والذبح ؟ ،وجواباً لهذا التساؤل أقول ، نعم لقد تغيرت الحالة الأجتماعية والمعاشية للشعب العراقي وأصبحنا نمارس الديمقراطية التي لم نعرفها سابقاً ، ولكن هل أن الديمقراطية إياها يمارسها السياسي وهو مؤمن بها ؟ أم أنها مطيته الجديدة لقيادة البلاد والعباد ؟ وبعض من المسؤلون الجدد يقول كنا وقت الطاغية (اليحجي أيموت) والأن (إحجي حتى تموت) وهذه مفارقة عجيبة ، فالنظام السابق كمم الأفواه والقادم الجديد سد أذنيه كي لا يستمع لنا ، فلم يبقى للأديب إلا التنديد المباشر او المبطن لتوعية الجمهور لذلك ، والكل يعرف الشاعر الراحل (رحيم المالكي) الذي رآى القادم الجديد غير مكترث بما يريد الشعب ، مانحاً نفسه المميزات التي لم يحصل عليها أغلب الساسة في دول العالم ،ولم يجد الشاعر إلا (حسنه ملص) وهي أشهر من أن أعرف بها ليخاطبها متخذاً من المثل الشعبي (أياك أعني وأسمعي ياجاره) فيقول

ياهو المنج أشرف حتى أشكيله ياحسنه ملص دليني وأمشيله

وشاعر آخر (علي الربيعي) يقول (وين أتروح وعدمن تنزل / الخوف أرحم من أبن آدم / أبروحك يتشظه وما يكتل / كلها أبمنجل عمرك تحصد / محد بين أسنينك يشتل ) ، ومرة أخرى يقول (هاي ياوطن يابو المراجيح / كل مره ترسم شمس وبحضنك أتطيح / ذابل وصوتك يصيح / لا تطيح ، لا تــــــطيــــح / خشبه أنت أشورطك صرت المسيح) ، ولأن الشاعر (الربيعي) فقير ولديه مايسد قوته فقط لذا خاطبه الأخرون ليحسن من حالته المعاشية ولم يجد إلا الدماء ليبيعها ودلالة الدماء هنا الحياة ولكونه أراد الحياة لمواطنيه ووطنه لذا بدء يبيع الدماء لهم فمنع من ذلك لسبب( كالوا نفحص / ردوا بعد أشويه وضحكوا / رجعوه ماينفع للناس / هذا الصنف إيهبط السوك / نسبة دمكم كله أحساس ) وهذا الدم الحساس لا ينفع مصالحهم ومآربهم الشيطانية ، وشاعر آخر (عماد المطاريحي) أمام الفقراء يقول (آنه أحس نفسي نبي هذا الزمان / معجزاتي هدومي بيض / أبوسط وادم كلها غيم / وماكو ضير من تطالبني أبكتاب آنه قرآني ضمير ) ، ولم يقل هذا إلا بعد تأكده القاطع من أن جيوب الكثير من الساسة والقائمين على أمور الدولة ملآت بأموال بطرق أغلبها غير شرعية وعن طريق السرقة والشركات الوهمية التي أبتكروها ، وحتى الغالبية من الأحزاب العلمانية والدينية شيعية أو سنية أتخذت من الدين غطاءاً لمصالحها ولكم أن تتصوروا أن النظام سقط منذ سبعة سنيين أي سبعة حجج لبيت الله الحرام وصاحبنا المسؤل في الأحزاب الدينية الأسلامية شيعية أو سنية حج بيت الله ثمان مرات ضارباً عرض الحائط فتاوى من أوصله لهذا المكان الذي لم يصل أليه بشهادة جامعية ، وأن أمتلك تلك الشهادة الجامعية فأغلبهم قد زوروها على الطريقة الأسلامية .

سأختم موضوعتي بالقول مجدداً أن هذه الأرض العراقية لاتلد إلا الألم والعناء وهاهو الشاعر (رياض النعماني) الذي غادر العراق هرباً من الدكتاتورية قال لنا نفس مقولتكم (علينا أن نذبح الظلام بالضياء وعلينا زرع شجرة جديدة بدل البكاء على شجرة ذابلة وعلينا أن ندحر الموت بالحياة وأن نوقظ القلوب بالحب لنبني للأطفال سعادة دائمة) وكان يكتب نصوصه الشعرية وهو بعالم الغربة بعيداً عن المعاناة العراقية فيقول ، (من تكبل القداح كله إيهب علي / وثيابي زفة ألوان / عبرتني الشناشيل وهلال المناير والنخل / للكاظم أتعنيت / وأعبرت الجسر / خبرهم أبات الليلة ويّ أمكحل الشمام / وخيار الشواطي / صفكه وهلاهل / والفرح طول النهر / يامدلول تانيتك عمر / حنيت باب البيت / وبوستك حدر التراجي من الزغر) بهذه الشفافية كتب الشاعر (النعماني) قصائده بالغربة ، ولكنه عندما عاد للعراق مستقراً به ثانية كتب ما نصه (أتباوع على بغداد تبجي ويبجي ليها البجي / بيها الليل حفره والبيوت أكبور / واحد على واحد ميت ومنتجي / كابوس راكس غارك أبكابوس / ياناس وين الناس / وين الهوى وذاك العمر / جنيت يابغداد أدور بيج عنج / تمشي الكهاوي أتدور أبكل درب / أتريد واحد يكعد ومالكت / وحدج وحيده والأحزاب أشكثر)