E-Mail: iraqstory2@gmail.com
موقع القصةالعراقية
المؤسس :
جاسم المطير
الإشراف :
حسن بلاسم
سمير المبارك
عدنان المبارك
فنون تشكيلية
جماليات التجربة بين المخفيات والحضورعند غالب المسعودي
عادل كامل
[1] لامرئيات الاثر وديناميته
ليست دراسته للطب، وتخصصه في طب الاسنان، قاد د. غالب المسعودي لسبر مخفيات حكماء سومر في صياغة ديالكتيك التاريخ المفتوح، فحسب،(1)، بل لرهافته ـ شاعرا ًورساما ً وباحثا ً ـ إزاء التنقيب عن الخامات التي لن تتعرض للتلف، أو للزوال. إنه انشغال فلسفي ـ شعري، قاده للعثور على الحلول ذاتها التي (أكتشفها ـ إخترعها) أسلافه منذ فجر السلالات في سومر: الطين المجفف، والمحروق، وطبقات القصب، والقير في البناء، وصهر المعادن بحثا ً عن الخامة التي تحقق أهداف الفنان التعبيرية ـ الجمالية، وفي الوقت نفسه التي تمتلك ديمومة مجربة.
هذا الانشغال الرمزي، والواقعي، قد يلخص علاقة الانسان بممتلكاته، أشياءه، بصفتها الجسر بين الجهد، وعلاماته، الى جانب هذا الذي يعبر، من زمن الى زمن،لإستكمال كل ما لا يمكن البوح به، هو، العمل الفني، بديالكتيك الخامات وأشكالها.
فليس لا وعيا ً عميقا ً، أو بدوافع نائية، وقد تكون لا شعورية، نفسيا ً، قد إختار الابجدية السومرية، في نصوصه الفنية فحسب، بل قصدا ً سمح له أن يبحث عن خامات هي من صنعه، بالدرجة الاولى.
وهنا يأتي إختيار الفنان لخاماته، ليس بسبب عدم توفرها، أو حتى إمكانية إستيرادها، بل لتحقيق ذات الآليات التي جعلت الفنان الرافديني ينجزها قبل ستة الآف سنة. فإذا كان الطين قد لخص مأوى وحي الآلهة، وهيئة الانسان بعد أن وحدّ (ووازن) ما بين التاريخ المفتوح وبين رسالة الانسان في الوجود، فإن خامة الطين، ستوّحد، وتدمج المرئيات بمحركاتها: عبر تنوع الأشكال، والمعالجات، والابعاد الجمالية.
كما أن اختيار الفنان غالب المسعودي، وهو يستعير من السومرين دوافعه في التجربة الفنية، للمسمار، كعلامة، ليس محض محاكاة أو استعارة لم يجر عليها تحويرات فحسب، بل جعل المسمار علامة اكتسبت حداثتها بالتكوين، في ديناميته، وابعاده التأملية. ففي نصوصه الفنية ـ المكملة للاتجاه الذي ظهر منذ ثلاثينيات القرن الماضي، عند مديحة عمر، وفي الاربعينيات من القرن نفسه عند جميل حمودي، وفيما بعد اخذ بعدا ً نظريا ً في تجارب شاكر حسن على صعيد الفنان وهو يستلهم الحرف (البعد الواحد)، لا كسطح خال ٍ من الابعاد، بل كبعد رمزي للذي شغل الحكيم السومري في الحفاظ على ديالكتيك المعنى بابعاده البنائية ـ الجمالية.
فإذا كان حكماء العراق القديم يأملون بديمومة معابدهم، (2) كجسر ما بين خلود الالهة، وفناء الانسان الساعي للعثور على مفاتيح يعالج فيها ظلمات عالم ما بعد الموت، فان حكماء ذلك الزمن، قاموا بتثبيت المعابد في الأرض عن طريق تماثيل (الاسس) التي تجمع في شكلها بين رمزية الالهة، وبين هيئة الانسان. ففي (المسمار) الشكل قوة سحرية، إضافة الى عمله الوظيفي في التثبيت. وثمة اعتقاد أن دق المسمار في الجدار يقضي على الأرواح الشريرة، أو يقوم بتسميرها في مكانها حتى ان (الخنجر) مازل يستعمل لهذا الغرض في بعض الحضارات.
والحكيم ـ هنا ـ ليس الملك/ المشّرع/ إلا كوديا المنشغل بتطبيقات الفلسفة البنائية ـ التكاملية، منذ ذلك العهد. والفنان د. غالب المسعودي، لم يغفل أن أحد أقدم ملوك العراق، في سومر، ما أن شيّد امبراطوريته، حتى طلب من وريثه، الابن، تسنم الحكم، فيما أمضى باقي حياته متأملا ً وحيدا ً في البرية،(3) وبهذا يكون قد حقق جوهر الفلسفة التي لن تبلغ ذروتها، كي تهرم، وتزول. (4) هذا اللغز، في خامات الفنان غالب المسعودي، تتوحد وتتداخل بالكتابة، حتى أن الشكل (الرمزي للحروف ـ كانسان وكتجريد ـ يعيد رمزية المسمار المستخدم في حضارة سومر كوحدة بين الالهة (إشارة للمطلق أو اللامتناهي) ـ من الاعلى ـ والانسان في الأرض.
فهل كان لسنوات الحصار، بعد عام 1990 ـ إن كان قد فرض من الخارج أو داخليا ً ـ أثره في تحفيز الفنان في إختيار خامات متنوعة، محلية، ومعالجتها بالنار، والمواد الكيميائية المناسبة، أم أن ثمة لذّة (فلسفية/ خيميائية) سمحت له أن يتأمل في لغز إسحالة الكين ـ بعد مزجه بالدم ـ الى إنسان، كما في الاسطورة البابلية، مثلما يظهر ذلك في الألوان المختارة في نوصه، أم أن الفنان ترك للمتلقي إغفال هذا الايحاء، والعودة الى الأصل: بعيدا ً عن لغز مزج دم (تيامة) بالتراب، وجل (الماء) يتوحد بالتراب في خلق الجسد/ الانسان؟ أيا ً كان التأويل، فإن موضوعات الفنان ل تنتظر الشرح، ولم تتوخ الايضاح، لأنها غير مؤسسة على التتابع، أو السرد القصصي، الحكائي، بل على ما لا يمكن تأويله إلا بالخامات وهي تؤسس أشكالها المستحدثة. فالفنان لم يجد مبررا ً لمحاكاة الأشكال القديمة ـ كما سيحصل ليس باستعارة خامات، ونقش أساليب، ومحاكاة أنظمة الفن الأوروبي الحديث فحسب، بل الانسياق آليا ً في التعبير عن فلسفات بلغت ذروتها، إنما مازال أفولها يستمد ديمومته من مجدها الاقتصادي، والتاريخي تماما ً ـ وإنما لأنها ليست غائبة عنه أصلا ً، فقد منحها ديناميتها بعد اجراء معالجات لها مهارات تحويرها، ومنحها خطابها غير المستعاد، أو المستنسخ، بل الممتد، في إستكمال الدورة. فالأشكال، والألوان، ومعالجة أدق العناصر في ملمسها، ورمزيتها التعبيرية المختزلة الىمسامير، وحروف ترجعنا إلى ابجديات اللغات الاولى: حيث الاصوات تجد معادلها في الايحاء، وفي الثيمات الجمالية.
وهنا لا يخفي الرسام أنه يحفر، ولا يضيف شيئا ً إلى السطح، بل يبني، بمواده المصّنعة، والمعالجة في مختبره الخاص، بالمنحى ذاته على صعيد اكتشاف حكماء وادي الرافدين في الرليف، المتداخلة بجذور اللغة العربية (الجزرية)، في الارباسك، الامر الذي منح الفنان دافعا ً للقراءة المستحدثة لتاريخ الخطوط، بدءا ً بالسمارية، واللغات البابلية، والاشورية، وانتهاء ًبفك اسرار انظمة الخطوط العربية، بصفتها ليست وسيلة نفعية مباشرة ومحددة، وإنما بما تحققه من نظام مقابل لنظام: الدفن ـ البعث. فالتضاريس، والدوائر، والخطوط المتداخلة، لن تنفصل عن الطبقات غير المرئية: ظلمات العالم ما تحت الوعي ـ الموت الذي يؤدي دور الميلاد المؤجل/ المنتظر ـ كي يشتغل المعادل الموضوعي، داخليا ً، ومجفرا ً، بين العلامات ومخفياتها، لتحقيق الجسر بين الازمنة، وبين الدلالات، وأخيرا ً، بعدم منح الفن صياغة الاعلان، او براغميته، وإنما بما تعمل عليه الخامات، وقد وجدت بين أشكالها ومعانيها المستترة، بنائية غايتها ان تحافظ على ديناميتها، وإمتدادها.
[2] الختم: الحافة بين مجهولين
إن تحول الجهد الى عملة، والعملة، ذاتها، الى سلعة، فانها ستعيد للقوة سحرها الملغز: محو الرأفة لصالح ضرب من التجريد يصعب تحديد دوافعه النهائية. فالفنون ـ وليست البصرية منفصلة عنها ـ منذ كفت أن تؤدي دورها التضامني، والروحي بحسب (هيغل)، فانها ستشترك في رسم مسار غدا فيه الفن شيئا ً بين أشياء، كي يتحول الخطاب، من جسر/ علاقة، مرسل ومستقبل، إلى اداة خالصة. فلم تعد آليات إنتاج الفنون تشترط اشباع غائيات نائية للفنان، وللمجتمع، وإنما لحصد المزيد من المنافع، على حساب التعبير ـ والصدق. والفنان غالب المسعودي، لم يهمل ان احد سمات الفن (الحديث) وصولا ً الى (الحداثة)، والدخول في مساحات جغرافية ـ سياسية خالية من الضوابط ، في نظام(العولمة) ان الفنان يعمل باكبر قدر من الاستقلالية، بصفته هاو ٍ، او محترف، وانما لانه يشتغل في اكثر البدائيات امتدادا ً، ودينامية. وهنا كان ارثه ـ والارث البشري للحضارات كافة ـ علامة في الدورة، وليس علامة للتداول ـ الاستهلاك. فلم يجهد اصابعه ـ ولا وعيه بالدخول في سوق الفن، ومضارباته، مع حفنة من تجار صغار، ومزورين، ومروجي اقنعة، بل اعتكف، أسوة باساتذة كبار، كرسول علوان، وصالح القره غولي، وعيدان الشيخلي، ود.نوري مصطفى بهجت، ود. سامي حقي، ومحمد على شاكر..الخ لينجز الرسالة ذاتها الكامنة في الختم ـ في الارسال ـ وفي ديالكتيك ـ علاقة ـ اللامحدود بالأشكال. فعندما كان عمل (الختم)، شبيه بعمل تماثيل الأسس، كوحدة الاجزاء، والحفاظ على رمزية المطلق في الدال البشري، كأشتغال لاواع ٍ أو مجّفر، إلى جانب البعد التقني ـ الوظيفي، للفن، فإن الختم ـ والتمثال، وكل معالجة للسطوح، ستحافظ على هذا الترابط، في إطار يحقق الاشباع والتأمل.
إن الختم هنا ليس (التوقيع) أو: الهوية الخاصة، بل أبعد من ذلك. لأن الفنان سيدفع بالذات لإستقصاء دينامية (الطاقة) وقد تحولت الى لغة لن تتوخى التداول من أجل الربح ـ الاستهلاك، بل للحفاظ على ذات المساحة الت ازدهرت فيها الفنون؛ من المعبد الى البيت، ومن القصر الى المدفن.
إن استعادة الفنان لحرية حواسه، ورهافتها، من عمل الاصابع، الى الومضات البصرية، وانشغاله بمراقة اطياف المخفيات، الشبيهة بعادات افراد احرار بلغ العمل اقاصي نقائهة، وتجردة من التبعية، لأجل مساراتها في التسامي، سيجعل من الفن غاية شبيهة بحضور الإنسان نفسه، لا من أجل أن يغدو شيئا ً، بل على العكس، في إستعادته لهويته (من البعد الجمعي الى الذات، ومن التاريخ الى الفعل، ومن المطلق الى المرئيات)، بصفتها علامة بين علامات، وليس (ماركة) للتضارب، أو غواية في سوق المنافسات، والاشتباك.
فلأسطورة هنا تتزه، ببراءة (شبيه بمن تحرر تماما، باستثناء إستحالة تحرره من قيود حريته، أو براءته) تامة الشروط، ولن تتحول الى أداة غايتهاالقطيعة مع: الأرض ـ الواقع ـ ومآزق الذات في مواجهة المحو ـ والاندماج.
والمسعودي ـ الذي طالما رأى انه آخر السومرين ـ لن يغرد منفردا ً خارج الاشتباك ـ التصادم، وخارج زمن الصدمات، والعشوائيات، الحاصلة في الوسط الثقافي والفني، أو على الصعيدالاجتماعي، بل يرى انه ينتمي إلى إرثه (النحتي) منذ عصر ظهور النقش في فخارات الوركاء، الى الأشكال الهندسية في جداريات بابل، مرورا ً بالعبقرية العربية الاسلامية التي حققت في الارباسك (4)، ذا الديالكتيك بين العلة التي لا علة لها، وبين تحولها الى كيانات جمالية ـ ومعرفية ـ لا يمكن عزلها عن المعمار الاجتماعي، وصولا ً ال التجريد، وهو يشتغل في حقل الاشباات التأملية، بعيدا ً عن تحوله الى علامة في سوق، أو الى كنز في متحف.
فالفنان ـ هنا ـ يحدّث (يجدد) في مسار تداخل التيارات والاساليب،إرثه، كالبنّاءالسومري وهو يجدد معالم معابدها الروحية، وكالحكيم الذي يواصل عمله لا في تقصي تماثيل الاسس التي شيدها قبله حكماء الازمنة السابقة فحسب(5)، بل في (تجديد/ تحديث) الفلسفة ذاتها، وهي تأبى أن تكون تاريخا ً بلغ خاتمته.
فالامتداد: إمتداد استدراج الخامات المحلية، من الحجر الى الطين، الى اللدائن، والى الاخشاب والاصماغ ..الخ وإستحالة تحول المتراكمات الى أشياء ـ سلع ـ لأجل المضاربة، والتنافس، وإمتدادا ً: للعناصر وقد عاصرت حضارة بلا جدران، أو قرى معزولة، وهي تنبني بما يجعل مسارات (الغاية) قائمة على دحض تحولها الى (سلعة/ اشياء)، وإمدادا لهذه العوامل ـ من الخامة الى الرؤية ـ ستجعل النص الفني يشتغل للحفاظ على أعقد إشكالية إنبثقت مع ـ اللغة ـ ألا وهي المعادل بين كل ما لا يمكن تحديد جوهره، وبين التطبيقات التي ستشكل إمتدادا ً له.(6) فالفنان د. غالب المسعودي، كي لا يستجدي (بسبب ان مهنة الفن قد أدركته، كما أدركت بعض زملائه من الادباء وحولتهم الى كتبة وليس إلى كتّاب، وليس الى فقراء بل إلى شحاذين)، سستساعده مهنته كطبيب مميز، وجراح ممتاز، لاداء خدمات توفر له حماية كرامته الشخصية، فيما ستكون مهمات الفن، عنده، انشغالا ً بحماية ذات الرهافة التي صاغ خطابها فنان المغارات، وفنان المعابد في سومر، وحكماء الازمنة السحيقة. لأن (الحكيم) هنا، ليس الملك أو العاهل، أو الخبير في شؤون الاقدار والمصائر، أو سلامة الجسد، أو المكلف ببناء مجتمع تتوفر فيه اسبقيات، وفي مقدمتها العدالة فحسب، بل الصانع، والصائغ لـ (سلع) مضادة لها، ليس في التكنيك بمعزل عن الغاية فحسب، بل في إستحالة تحولها الى (وثن). فالحكيم إذا ً سيختار الدرب الذي لن يختتم بخاتمة، أو يكون وحده نهاية الطريق، وإنما ليشكل واحدا ً من مسارات إغناء الجسد ـ وحمايته ـ بالفكر والرؤية، والمرونة في تتبع المحركات النائية، الى جانب كل ما يمكن ملامسته بالانامل، ومشاهدتها بالبصر، وتذوقه برهافة المجسات التي لم تخمد فيها جذوة الومضات، وإنشغالات المخيال/ الحلم/ والشعر.
[3] الجسد: من المشخص الى الومضات
بحسب خبرة مؤرخي الفنون، فان المليون سنة التي صاغت علاماتها،(7) من الخرز الى الاختام، ومن القلائد الى زخارف جدران المدافن، ومن الاقراط الى رسوما جدران المعابد ..الخ لم تكن منفصلة عن: محنة الجسد. فالجسد الذي غدا مأوى لمكونات العالم باتساعه، والطبيعة بمخاطرها، والمجموعات السكانية ذاتها في تجاورها، وفي تصادمها ..الخ هذا الجسد، المحمي بدفاعات ذاتية ومشفرات بالغة التعقيد ـ والدقة، هو ذاته الذي صاغ ما تضمنته المتاحف من كنوز، والمدن من ممتلكات، والعقول من معارف، والحضارة من حكمة، هو ذاته لخص ديالكتيك: الخطر ـ والديمومة. فالمقاومة ليست كلمة ملتبسة الدلالة، إنما تكاد، لواقعيتها، أن تمتلك أدق تعريف للذي: لا يعّرف: الميتافيزيقا. فالوجود نفسه غدا ـ بصفته لا معقولا ً، ولا يمتلك مفاتيحا ً لفك مغاليقه ـ معقولا ً كضربة نرد لا تحكمها خطة عشوائية. ود.غالب المسعودي، بنزعة شرقية غير مثقلة بالزوائد، يتوهج بما تمتلكه خاماته من لا مرئيات داخلة في تكوين ذرات عناصره الفنية، يعادل، ويوازن، بين جسد (دينامي/ متيقظ) وغير خامل، في استقصاء المسافات وقد كفت أن تكون لها حافات، وبين نصوص فنية عليها أن لا تفقد ذروتها.
إن الفنان غير معني بالجسد، إلا بصفته المأوى تارة، وبصفته قد أكتسب مهارات تؤدي إلى اكتناز مهارات نائية، وبصفته ممرا ً بين القاع والأعالي، ثالثة، ورمزا ًمبنيا ً بالمشفرات وعملها كي لا يرتد، وكي يحافظ على دينامية أنه ليس ابديا ً.
وإذا كان الفنان قد مارس ـ كما رسم شاكر حسن الجسد المجرد في خمسينيات القرن الماضي، ومن ثم تم التخلي عنه ـ معالجة الجسد بما يمتلك من مرونة، وتعقيدات، وملغزات، فانه ـ بدافع تقصيه للمحركات ـ سيدمجه باشكال اختزلت حد القطيعة مع مصادرها، في رؤيته التجريدية، للنصوص، وقد دمج الرسم بالنحت، والطباعة بما تمثله من واجهات المباني، أو شواهد المدافن، والأثر بتحديثاته ..الخ كي تغدو النصوص، كالأختام، وتماثيل الاسس، والارابسك، دون إهمال ثراء التجريد التعبيري، والهندسي، ودوافعه: التطهرية/ السحرية/ الميتافيزيقية/ والرياضية ..الخ ذات مسار يكون الجسد عليه ـ في ذاته ـ ولكن ليس على حساب التجريب، والمرئيات، ورهافات التداول بين الذات وعالمها المحيطي. فالجسد سيتوارى، ليدفن، حتى يكاد الفنان أن يصنع لنا مواكبا ً احتفالية خالصة، والجسد يكف أن يكون إشكالية وجود، كي يستحيل إلى إشكالية تعبير، لا عن غيابه، بل عن امتداد حضوره هذا في الغياب. فثمة تزامن لوقائع تحدث داخل مكونات النص الفني، ولن يدعها تغادر، لكن الجسد يرفرف، كومضات ضوء في العتمة، وقدام ليل الانسان، ليستكم لغز (الفن) في علاقته مع الصانع، وفي علاقته مع المتلقي. مما سيسمح للفنان أن يستعيد عمليات البناء ـ من الداخل ـ باستعارة الخامات القادرة على تحقيق مقاربة مع غياب الجسد ـ وحضوره. فنصوصه تفصح عن مشاهد أفقية، أختزلت المساحات، واعادت توحيد منبهاتها، داخل السطح، بمتعرجاته، وملامسه المتباينة. فالتجريد الذي غدا كتابة، يحافظ عى مشفرات (الحروف) ذات الأصل: الالهي ـ البشري، معا ً. فهو لم يعلن عن إنحياز لمنهج لا يمكن فصله عنه، بل سيستحدثه في نهاية المطاف، دامجا ً التصّورات، بمسار المشاهدات الواقعية، عبر المعادل ذاته الذي انجزه رسام المغارات، أو صانع الاختام السومري. فالانسان لم يصر شيئا ً منفصلا ً عن تعبيرية المعالجة ومغزاها، بل غاب فيها ـ كما ينزل الراحل إلى اعماق الارض التي لن يعود منها ـ كي يؤدي طقسا ً بانتظار الانبثاق. إننا إزاء تأولات ربما لن توسع مهمات المتلقي كثيرا ً، لكنها لن تدعه يتمهل بلذائذ طالما انها قائمة على أن الفن: ليس تسلية، أو إمتاعا ً بمعزل عن مراراته الأبدية. ففي هذا المعادل قد لا يقول النص الفني إلا ما توارى فيه، كمقبرة سوتها الريح، وكالزمن آتى على ممالك، وامبراطوريات، إنما ـ في الآن ـ هناك المراقب، المتلقي، بكامل وعيه، وحضوره، وبجسده حتى لو كان قد استحال الى ظل، أو رمز، أو ومضة، فانه ليس إلا صانعا ً لوجود يجدد فيه، ذات الطاقة التي تمنحنا إياها الاجساد التي توارت، ليس في التراب، أو في باقي العناصر فحسب، لكن التي أصبحت تسكننا، وكأنها لن تعمل إلا على تحدي الغياب، وبالدرجة الأولى على مجد الثبات، أو المقاومة، كمعادل بين المحو، وإنبثاق ومضات الوجود.
إحالات :
1 ـ يكتب فراس السواح، في حقل المعتقدات في تاريخ بلاد سومر: " تقدم لنا ديانة بلاد الرافدين النموذج الأمثل عن مفهوم التاريخ المفتوح،حيث نستطيع تمييز مراحل للتاريخ المقدس تكشف عنها الأسطورة. المرحلة الأولى هي السرمدية الساكنة عندما كانت الألوهة منكفئة على نفسها مكتفية بذاتها. المرحلة الثانية هي الزمن الكوزموغوني، أو زمن الخلق والتكوين، عندما خرجت الألوهة من كمونها فأطلقت الزمان ومدت المكان وحركت دارة الوجود. المرحلة الثالثة هي زمن الأصول والتنظيم، عندما عمد الآلهة إلى تنظيم شؤون العالم والمجتمع الإنساني، من خلال عدد من الفعاليات المبدعة التي نشطت عند جذور التاريخ الإنساني. المرحلة الرابعة هي زمن البر الفتوح على اللانهاية" أنظر: فراس السواح [الرحمن والشيطان ـ الثنوية الكونية ولاهوت التاريخ في الديانات الشرقية] دار علاء الدين للنشر والتوزيع والترجمة ـ دمشق/2000 ص23
[2]ـ كان من امنيات ملوك العراق القديم ان تبقى المعابد التي يشيدونها خالدة الى الأبد. لذلك قام الملوك بتثبيت المعابد في الارض عن طريق تماثيل الاسس التي تجمع في شكلها بين المسمار والاله أو الملك. أنظر: د. صبحي أنور رشيد [تماثيل الأسس السومرية] وزارة الثقافة والاعلام ـ الجمهورية العراقية 1980 ص6
[3] في تاريخ دولة لارسا تصادفنا ظاهرة نادرة الحدوث في التاريخ العراقي، ذلك أن أحد ملوك هذه الدولة والمدعو (كودورمبوك) الذي كان يقيم في منطقة تقع شرق بابل بعد استيلائه على السلطة في لارسا بتنصيب ابنه (وارادسين) حاكما ً على البلاد " وبقي هو في خيام قبيلته واكتفى بلقب شيخ أو أب لكنه احتفظ من بعيد بالقيادة في يده من خلال تحديد سياسة وارادسين" إذ ليس من المألوف في تاريخ العراق أن يزهد حاكم بالسلطة ويبتعد طواعية ولو على هذا اشكل. انظر: باقر ياسين [تاريخ العنف الدموي في العراق/ الوقاءع ـ الدوافع ـ الحلول] توزيع دار الكنوز الادبية. بيروت ـ لبنان. 1999 ص44
[4] الأرابسك: فنون زخرفية إبداعية تلقائية موحية، إنبثقت من حضارة الشرق القديمة، وتبلورت في الفنون الاسلامية، تناولت الحقائق والجوهر والروح بتعبير رمزي، فأحالت الشكل الخارجي والمظاهر العرضية الى رموز وأسرار، مضامينها صوفية تأملية، واشكالها تعتمد التوازن والتقابل والتناسب والتكرار، استعاضت عن التجسيم بالعمق الوجداني. انتقلت إلى الفنون الغربية المعاصرة كعنصر تزويقي، تستلهم الحروف أحيانا ً. وقد أطلق الجماليون عليها (الفزع من الفراغ). انظر: عباس الصراف [آفاق النقد التشكيلي] وزارة الثقافة والاعلام ـ بغداد ـ 1979ـ ص163
[5] كذلك استمر التقليد راسخا ً في العصر السومري الحديث بنوع يعرف بـ (الحيوان ـ المسمار) الذي استعمل في عصر فجر السلالات الثالث ولكن بكل ثور جالس فوق مسمار. كما واستمر استعمال النوع المعروف بـ (الانسان ـ المسمار) الذي ظهر لأول مرة في عصر فجر السلالات الثاني، حوالي 2600ق.م. أنظر: د. صبحي رشيد [تماثيل الأسس السومرية] مصدر ساب. ص14
[6] ـ بمعنى ان للبشر غاية لا تمحى بالفناء، كما يرد في احكام اقدار الالهة لهم، وإلا لماذا منحوا، في حدود مصائرهم، تعالميها، حتى لو كانت قد كتبت من قبل البشر أنفسهم. فالديالكتك ـ ضمن الزمن المفتوح ـ يسمح باستحالة محو المعنى، أو جعله عدما ً ممتداً.
[7] يذكر هنري هودجز: "هذا، وعلى الرغم من ظهور الانسان الصانع للأداة قبل عدة ملايين من السنين، إلا أننا نستطيع أن نتتبع تاريخ صناعة الادوات إلى مليوني سنة مضت" أنظر: هنري هودجز [التقنية في العالم القديم] ترجمة: رندة قاقيش. الدار العربية للتوزيع والنشر. عمان ـ الأردن. 1988، ص25