بحث هذه المدونة الإلكترونية

إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الجمعة، 25 مارس 2016

كتاب جديد لغالب المسعودي-المثقفون العرب مكارثية جديدة



وصلت اليوم النسخة الورقية من كتابي الثاني لهذه السنة والمعنون المثقفون العرب مكارثية جديدة الكتاب في مائة وثلاث وسبعون صفحة من القطع الكبير كل المقالات منشورة في صحيفة الحوار المتمدن وسومريننت و مركز النور وجمعية الكفاءات العراقية يحتوي الكتاب على مقالات فكرية ونقدية تدور في معظمها عن واقع الثقافة الان اتمنى لكم متابعة ممتعة.

عادل كامل الذي تفوّق على نجيب محفوظ ولم ينل شهرته- وفاء السعيد



عادل كامل الذي تفوّق على نجيب محفوظ ولم ينل شهرته

وفاء السعيد
عادل كامل ينتقد كتب التراث العربي ويقول إنها لا تصلح إلا أن تكون كتبا يتسلى بها القارئ وتعينه على النوم، مسددا ضربة قوية لكل الموروثات الثابتة.
لا مراء في أن الأديب “العالمي” نجيب محفوظ قد استحق عن جدارة صفة “العالمي” المتبوعة بالأديب، لتعبر عن تلك الشهرة الواسعة التي حظي بها أدبه والتي اتسعت بالقدر الكافي لتتخطى حدود القطر، بل المنطقة العربية والإسلامية بأسرها لتصل به إلى بلدان وثقافات عديدة، إذ ترجمت أعماله لعديد من اللغات الأجنبية. بالإضافة إلى كونه الأديب العربي الوحيد حتى الآن الذي حصل على أرفع جائزة بوسع أيّ أديب أن ينالها، وهي جائزة نوبل في الآداب عام 1988، ومنذ ذلك الحين لم يتمكن أيّ أديب عربي آخر إلا أن يصل إلى قائمة الترشيحات لتلك الجائزة العالمية. وبذلك أصبحت كتابات محفوظ هي نافذة القارئ الغربي على مجتمعاتنا.
ولا أقابل أحدًا من الباحثين الغربيين أراد أن يتخصص في دراسة ثقافتنا العربية إلا وكانت إحدى روايات محفوظ المترجمة هي سبيله إلى ولوج هذه الثقافة الغريبة عليه، وكثيرًا ما يصطحبون روايات مثل “بين القصرين” أو “زقاق المدق” وغيرها في حقيبة سفرهم وهم قادمون إلينا لاستكشافنا، وفي وعيهم الصورة التي رسمها لهم محفوظ في كتبه، فيقيسون مدى قرب أو بعد الواقع الحالي منها، فأصبح بذلك جزءًا من معيار حكم الآخرين علينا. وربما كان إغراق محفوظ في “محليّته” هي التي أدّت به إلى فضاء العالمية الواسع.
ولكن هل طغى نجم شهرة محفوظ المتوهّج على ما عداه من المبدعين من أبناء جيله فأصاب نجمهم الأفول واعترى سناهم الوهن، فلم يبقوا في ذاكرة القارئ المصري سوى أشباح باهتة لا يُرى منها إلا ظل أو خيال، ولا يصلنا من أعمالهم الإبداعية إلا النزر اليسير بعد أن يقفزوا فجأة لذاكرة إحدى دور النشر، فتعيد طباعة أعمالهم الفذة، فتوقظهم من سباتهم العميق وتعيد جريان الدم في أوصال شهرتهم الواهنة فتعطيها قُبلة حياة وتعيد إحياءهم في الذاكرة من جديد. هل كان هذا خطأ محفوظ أم المبدعين المعاصرين له أم هم المخطئون؟ أم أننا نحن المتلقين لدينا ذاكرة ضعيفة لا تتكبد عناء التنقيب في الماضي؟
المنسي
عادل كامل، أديبٌ مصريّ من مواليد عام 1916، تخرج في كلية الحقوق عام 1936. ليبدأ بنشر أعماله القصصية والمسرحية مبكرًا، وربما كان أسبق في نشرها من عدد من كُتَّاب جيله، فنشر عدة مسرحيات على نفقته الخاصة منها “شبان كهول” عام 1938، و”فئران المركب” ثم مسرحية “ويك عنتر” عام 1941، كما نشر عددًا من القصص القصيرة في مجلة المقتطف في الأربعينات من القرن الماضي، ومن أهم هذه القصص “ضباب ورماد” التي نشرت في يناير 1943.
وكان كامل قد هجر الأدب مبكرًا حوالي العام 1945 بعد أن تشكك في جدواه ليلجأ إلى عمله الأصلي في مهنة المحاماة التي جلبت له الثراء المادي واشتهر بها، إلا أن المخرج توفيق صالح كان يتردد عليه ويزوره في أوقات متباعدة، وقد كشف لنا أن كامل لم يتوقف عن الكتابة بل ظل يكتب دون أن ينشر.
بيان (في تأديب مليم في فنون اللغة والأدب) لعادل كامل يعتبره الناقد شكري عياد باكورة من بواكير الحداثة، والأديب خيري شلبي يقول عنه إنه تأسيس لثقافة جديدة بفكر جديد يتيح أدبا وفنا جديدين كل الجدة، في إحدى يديه معول وفي الآخرى مسطرين، فالهدم والبناء يمضيان في خطوة واحدة في اتساق مذهل
كتب عادل كامل روايتين “الحل والربط” و”مناوشة على الحدود”، وقد قام نجيب محفوظ بنشرهما في مجلد واحد ضمن منشورات “دار الهلال” عام 1993، إلا أنهما لم يُعد طبعهما ولا نجد لهما أثرًا في المكتبات. بيد أن شهرة كامل في الأوساط الأدبية ترجع إلى روايته “ملك من شعاع” التي نشرتها لجنة النشر للجامعيين عام 1941، واستقى موضوعها من التاريخ الفرعوني والتي نالت الجائزة الأولى لمجمع اللغة العربية عام 1943، ونال نجيب محفوظ الجائزة الثانية عن روايته “كفاح طيبة” التي كانت تعود أحداثها إلى التاريخ الفرعوني أيضًا.
وقد تميّز كامل بالفعل في روايته التي كانت أشبه بالبحث العلمي في حفريات التاريخ الفرعوني الذي وطّأ لها بتقدمة، ثم ألحق بالنص الروائي قائمة مراجع تظهر شغفه بالبحث، مستخدمًا بذلك الأدب كنوع من التقصي لسبر غور معين تلك الحضارة التي لا تنضب، كما أنه استغل روايته في دعوة للسلام ونبذ الاقتتال والحرب بين الشعوب واستند إلى الحدث التاريخي كي يلقي بظلاله على قضية إنسانية في ظل عالم اجتاحته الحروب العالمية والتطاحن بين الشعوب، فاتخذ من شخص “أخناتون” الذي يؤرخ بأنه أول مَنْ اهتدى في البشرية إلى عقيدة “التوحيد” قبل ظهور الأديان وإرسال الرسل والأنبياء، في زمن الوثنية وتعدد عبادة الآلهة.
ويقول كامل في مقدمة روايته “فغزو الممالك أمر سهل لقربه من الغرائز البشرية في أبسط صورها. ومثله حب الفخار وإظهار العظمة. ولكن المعجز حقًا هو أن يستطيع فرد وحيد أن يقول لشعوب العالم أجمع: أنتم جميعًا مخطئون لأن الحقيقة على هذه الصورة، ولم تكن الحقيقة التي وصل إليها ‘أخناتون’ حقيقة عادية”.
وقد كانت رواية محفوظ “كفاح طيبة” رسالة في جوهرها، بالمقارنة برواية كامل، عادية تُظهِر قصة تلهب الشعور والحماسة الوطنية وتزكي مشاعر رغبة الشعب في التحرر من نير الاستعمار، فاتخذ من شخصية “أحمس” وقصته محورًا، والرواية مملوءة بمشاهد الحروب وتصوير الدماء والاقتتال، فما ميّز كامل هو نبذه أصلًا لفكرة “الحرب” ذاتها وأن تُغير الأمم الأقوى على الأضعف فتسلبها شرفها وحريتها، وأراد أن يرى الجميع العالم من المنظور الرومانسي الأخلاقي الإيماني الذي أراد به “أخناتون” أن يرى العالم وأن يتخذ اجراءات سياسية تحول دون تورطه في إراقة دماء الأبرياء، من أجل أن تزيد مساحة المملكة المصرية وأن تُغير على شعوب الشام الآمنة ليضيف إلى سجلّ آبائه وأجداده مزيدا من البطولات العسكرية الزائفة التي تأتي على حساب ملايين من أنفس الأبرياء ويجني الفرعون شرفًا تخلده التماثيل ويُنقَش على الجدران وتُشيّد لأجله المعابد ويسبّح بحمده الشعب على حساب أرواح البسطاء المساقين لجحيم المعارك، وهو ما لم يستطع له سبيلًا وحاق بمشروعه الفشل الذريع.
وكانت الرواية التاريخية في ذلك الوقت نمطا من الكتابة يغري هذا الجيل الذي تأثر بدعوة “سلامة موسى” للتمسك بالهوية الفرعونية المصرية، وكان سبقهما صديقاهما “علي أحمد باكثير” و”عبد الحميد جودة السّحار” في هذا المضمار.
نجيب محفوظ يصف عادل كامل بالقول إنه “كاتب مبدع، من طليعة كتاب جيلنا بلا جدال”، ويروي محفوظ أن كتاب هذا الجيل كانوا قد تعارفوا في العام 1942 لتضم مجموعتهم عادل كامل، وعبدالحميد جودة السّحار، وعلي أحمد باكثير، ويوسف جوهر، والمخرج توفيق صالح، والشاعر صلاح جاهين وغيرهم. وخلعوا على أنفسهم اسم (الحرافيش)
شلة الحرافيش
قال نجيب محفوظ عن عادل كامل “كاتب مبدع، من طليعة كتاب جيلنا بلا جدال”، ويروي محفوظ أن كتاب هذا الجيل تعارفوا عام 1942. الجيل الذي ضم عادل كامل، وعبدالحميد جودة السّحار، وعلي أحمد باكثير، ويوسف جوهر، والمخرج توفيق صالح، والشاعر صلاح جاهين وغيرهم. وخلعوا على أنفسهم اسم “الحرافيش”.
وكان كامل قد دعا محفوظ للانضمام إليهم. وقتذاك كان الجميع في مستهل حياتهم الأدبية، وكان كامل في طليعة هذا الجيل من حيث الجودة والامتياز كما يقول محفوظ. نستطيع القول إن نوعا من التنافس الخفي والشريف أيضًا كان بين الكاتبيْن
المعاصريْن لبعضهما في ذلك الوقت. ونستطيع أن نقسّم المراحل الروائية لدى الكاتبين ونضعهما سويًا في نفس التصنيف؛ إذا كتبا معًا “الرواية التاريخية” المشار لها آنفًا فضلًا عن أن محفوظ سبق “كفاح طيبة” بروايتين هما “عبث الأقدار” و”رادوبيس”، ثم انتقلا معًا إلى الأدب الواقعي، فقد نشر راويته “مليم الأكبر” وكذلك محفوظ نشر روايته “السراب” في وقت متزامن، وتقدما بها معًا للتسابق لنيل جائزة مجمع اللغة العربية، وقد منيا معًا بخيبة رفض إعطاء الجائزة لأيّ من المتنافسين، وهذا كان السبب وراء هجر كامل للأدب والتشكك في جدواه بعد صدمته. كما أنهما كتبا الرواية التجريبية وإن لم يقبل كامل بعد ذلك على نشر أعماله، فكتب كامل “مناوشة على الحدود”، وكتب محفوظ “اللص والكلاب” وعددًا من الروايات.
غيظ الصديق
أغلب الظن في عودة كامل للكتابة هو فوز محفوظ بجائزة نوبل للآداب. وقد أعلن الكاتب زكي سالم في كتابه المنشور حديثًا عام 2014 بعنوان “نجيب محفوظ .. صداقة ممتدة” أن عادل كامل بعد فوز محفوظ بنوبل كان قد قال “الآن فقط أعلن أنني أخطأت حين توقفت عن إكمال مشروعي الأدبي”. ربما هذا ما ميّز شخصية محفوظ الدؤوبة ما انعكس في غزارة إنتاجه الأدبي واستمراره في الكتابة، وقال محفوظ إن كلام عادل كامل عندما أصيب بالإحباط وبدأ يتشكك في جدوى الكتابة الإبداعية “أخذ كلامه يدور في هذا المعنى، حيث أنه لو أن كلامه أثّر فينا تأثيرًا حاسمًا لكنا جميعًا هجرنا الأدب مثله”. ولكن لا نريد الحكم على موقف كامل بالسلبية ربما أراد أن يسجل موقفه الاحتجاجي من المشهد الثقافي برمته بأن يبتعد عنه وتلك كانت طريقة مبدع حقيقي يحترم نفسه ولا يتخذ من الأدب حرفة أو صناعة كما انتقد هذه التسمية.
على أن صدمة عادل كامل في امتناع مجمع اللغة العربية عن إعطائه الجائزة عن روايته “مليم الأكبر”، حرمتنا من أن يستكمل أديب نابه مشروعه الأدبي والروائي، وأهدتنا نصًا تأسيسيًا بديعًا هو “في تأديب مليم في فنون اللغة والأدب”. اعتبره الناقد شكري عياد باكورة من بواكير الحداثة، والأديب خيري شلبي قال عنه “تأسيس لثقافة جديدة بفكر جديد يتيح أدبًا وفنًا جديدين كل الجدة، في إحدى يديه معول وفي الآخرى مسطرين، فالهدم والبناء يمضيان في خطوة واحدة في اتساق مذهل، فلم يكن غريبًا إذن أن يكون البيان الأم، الذي تولدت منه كل الأفكار والقضايا الحداثية الدائرة الآن في الساحة الثقافية العربية، حتى نستطيع القول وبضمير مستريح إن جميع مقولات الشاعر السوري أدونيس الخاصة باللغة العربية وبالشعر وبالتراث العربي، مأخوذة من هذا البيان الفذ. إن هذا البيان يعتبر أهم بيان حداثي في تاريخ الأدب العربي الحديث”.
شهرة كامل في الأوساط الأدبية ترجع إلى روايته 'ملك من شعاع' التي نشرتها لجنة النشر للجامعيين عام 1941، التي استقى موضوعها من التاريخ الفرعوني ونالت الجائزة الأولى لمجمع اللغة العربية عام 1943، بينما نال نجيب محفوظ الجائزة الثانية عن روايته 'كفاح طيبة'
الأدب المصري المنكوب
أعلن كامل في بيانه أن حسبه محاولة إرضاء غيره ولن يرضي بعد اليوم سوى نفسه. إلا أنه أبى أن ينزوي قبل أن يقول كلمته ثم يحمل حقيبته ويرحل إلى داخل نفسه. قدم نقدًا واعيًا لقضايا غاية في الأهمية تؤكد ريادته في هذا المجال. فقام بنقد كتب التراث العربي وأنها لا تصلح إلا أن تكون “كتبًا للفراش” ما يتسلى بها القارئ وتعينه على النوم. كما أنه سدد ضربة قوية لكل الموروثات الثابتة والتي رآها السبب في نكبة الأدب العربي.
وانتقد أسلوب الكتّاب المعاصرين الذين يسيرون على النهج القديم بوصف “الجاحظ” وغيره مقياسا لما يجب أن يكون عليه الكاتب العربي الحق، فأفسد هذا الاعتقاد الأدب العربي قاطبةً وخلّف لنا تراثًا من ألفاظ وكلمات حتى ظن كامل أن الأمة العربية أمة تقتات على اللفظ وتعيش عليه ولا تعرف الأفعال. كما أن الإسراف في استخدام “البلاغة” وحشو النصوص بغريب الألفاظ المترادفة والمسجوعة قد أضعف وأفقر اللغة العربية في آن والتي يفتخر البعض بثرائها للسبب نفسه.
أكد كامل على أن لغتنا الثرية هي في واقع الحال لغة غاية في الفقر لأنها لم تتعدَ كونها لغة الزمان والمكان، فهي لغة بدوية بدائية وما التعقيد في ألفاظها إلا دلالة على أنها لغة ارتبطت بتأدية وظيفة معينة في بيئتها ولا يصح أن يستعمل الكاتب العربي المعاصر نفس تلك اللغة القديمة ولا أساليبها البليغة البالية، بل يجب أن تحدث “ثورة” فكرية ولغوية تمحو القديم وتستبدله بما هو نافع.
فالأمم المترقية عندما تخلت عمّا يثقل لغاتها من أعباء كالإعراب والقواعد النحوية أصبحت لغات طيعة مرنة غير عصية على الأجنبي تعلمها وتسهل للأديب أن يحسن التعبير بها فأفاد منها أقوامها فتطورت بذلك ونضجت حياتهم الفكرية والاجتماعية.
وفي هذا السياق يؤمن كامل بالوظيفة الاجتماعية للأدب ودوره في النهوض بالأمم والشعوب وما تخلفت أمتنا العربية إلا لأنها لم تقم بإصلاح مجال اللغة. وبهذا المعنى بحسب قول كامل ليس للغة العربية آدابٌ بالمعنى المفهوم من الغرض الذي قامت به في الغرب، وفن الراوية المنقول عن الغرب أساسًا، ففي رأيه أن الأدب الغربي هو الأدب الصحيح، وهو الذي يلبي حاجات مجتمعه، وإن أرادت الأمة العربية نهوضًا فعلى الجيل الجديد من كتابها أن يتبنوا الاقتداء بما سبقهم في تحقيقه الغرب.
والجدير بالذكر أن جميع الآراء التي ناقشها كامل في ذلك الوقت كانت تدور في إطار “الحداثة الغربية” وإيمانها بسيادة عقل الإنسان وقدرته على توليد المعنى، وأن الفن محاكاة واستدعاء نظريات أرسطو وأفلاطون في الفن. إلا أن المشهد الثقافي والفكري الحالي قد تبدّل تبدلًا شديدًا حتى أن كل المقولات التي تبناها كامل ودافع عنها واجهت هجومًا شديدًا من قِبل ما بعد الحداثيين، وهذا تطور حادث في الثقافة الغربية منذ عقود قليلة ماضية. ولكن بعد أن ترك كامل كلمته وبحثه الهام في الحداثة الأدبية، علينا أن نتساءل هل حققت اللغة العربية والأدب العربي ما كان يصبو إليه طموحه وقتذاك؟ فمازال الطريق أمامنا شاقًا وطويلًا.

رحل عادل كامل عن عالمنا في عام 2005 بهدوء كما أراد لنفسه دون أن يثير ضجة أو يشعر به أحد وترك لنا نزرا يسيرا من النصوص التي لا تشبع نهم القارئ من موهبته التي نتحسر على عدم استمرارها.

كيتا باردول ... ترميم المكان-علي رشيد






كيتا باردول ... ترميم المكان


علي رشيد

أعادت أعمال الفنانة والمعمارية الهولندية كيتا باردول التركيبية الأخيرة تأثيث المكان من خلال تدوير إنتاج خامته ، وبنهج مبتكر وأليف . حيث تستعيد المفردة صياغتها البصرية ، وبمعالجات تتيح للمادة ( الخشب ) إلى توسيع دلالتها وهي تفهرس الفكرة ، بعد أن تتجرّد من عناصرها التزينية لتحرضنا على النظر إلى قياسات جديدة لمحيطنا وهو مشغولا ببوح تعبيريي معتمدا على حيادية المادة ، وعفوية الأداء .






مجموعة من أعمال نفذت بمادة الخشب ، وبعض المهملات لتشكّل كيانات تنصيبية تعتمد على حيّزها الفضائي ( الطبيعة ) دون أن تحجب سعته ، أو تربك بداءته . الفنانة باردول ترى أن الطبيعة أشبه بالنص . نص لايمكن العبث بأحباره ، أو كينونته . لكن يمكننا فنيا إعادة قراءته بمنطوق فني لايسيء إلى قيمة ، أو يشوه كيانه . بل سيشكل العمل الفني توازن يحفظ للطبيعة عفتها ، و يستجلي خصوصيتها .


 


شكّلت هذه التنصيبات شفرة تشير إلى ما يلامس حياة الكائن وعزلته ، وبالقدر نفسه رمّمت المكان من وحشته عبر تأملات بصرية تبوح لنا حضورا في المشهد الذي يختزل اليومي بمنظومة الاسئلة التي تحاصرنا . ربما كان الخراب ، واللايقين أكثرنا حضورا وهما يتلبسان روح المادة منسلخة من كيانها لتتحول إلى بقايا تشير إلى حضور تلاشى ، أوكما لو أنها أطلال هجرتها الحياة لتتآكل بغربتها .


 


تتوزع الأعمال بين أشكال عمودية بمظهر جياكوميتي يبدو تمثيلا لقلق الفرد وهشاشته ، وهاجسه الوجودي ، وبين كتل تتموضع بشكل متواتر في فضاء تكون الطبيعة حاضنة لها . كتل تبدو وكأنها هجرة للمكان ، أو أمتعة يتعذّر الإمساك بتفاصيلها أو جهتها .

تخرجت كيتا باردول"Gitta Pardoel" من جامعة دلفت للعمارة عام 1991، وحصلت على درجة الماجستير بالعمارة، وكذلك درست الفن في أكاديمية "أوترخت" في هولندا، وتحصلت على الماجستير بالفن والعمارة من جامعة ليستير في بريطانيا، وتلبرغ في هولندا. واشتغلت في العديد من المنشآت والمكاتب الهندسية، ونفذت العديد من الإنشاءات، مازجة تصاميمها الهندسية بقياس الفن ومخيلته. تمارس، حاليا، التدريس أستاذة لمادة الفن، والتصميم البيئي، والعمارة في أكاديمية الفنون في تلبرغ، وكذلك في الأكاديمية الملكية للفنون في لاهاي. شاركت في العديد من المعارض الفردية والمشتركة، وفي بلدان عدة منها إيطاليا، وهولندا ،قطر ، ألمانيا ، الأرجنتين، اسبانيا ، السويد، وغيرها من البلدان .



*علي رشيد شاعر وتشكيلي من مواليد 1957 كربلاء درس الفن في معهد الفنون الجميلة - بغداد و أكاديمية الفنون الملكية – لاهاي -;- حاصل على شهادة الماجستير من جامعة ليستر/ بريطانيا وغرناطة / أسبانيا . يعمل في النص والتشكيل على مشروعه الذي مارسه منذ بداية الثمانينيات والذي أسماه -;- تدوين الذاكرة .أقام العديد من المعارض في العديد من الدول العربية والأوربية منها العراق ، الجزائر، ليبيا ، فلندا ،الدنمارك ، النرويج ، بلجيكا ، وهولندا حيث يقيم أصدر الكتب التالية :أضحية رمزية لمعارك الله – كتاب تخطيطات الغياب – كتاب يدوي بنسخة واحدة لقصيدة مرسومة خرائط مدبوغة بالذعر – مجموعة شعرية ذاكرة الصهيل – مجموعة شعرية لديه العديد من المخطوطات المعدة للطبع

أين نحن من العالم...؟ - نبراس هاشم





أين نحن من العالم...؟



نبراس هاشم

   نطلق أحكاما ً مجهولة، لتبدأ الذاكرة بشريط جديد مختلف عن كل ما خزنته في الماضي من معالم ومعارف وقراءات وكتابات ومشاهدات؛ فحينما وصلت إلى مطار شارل ديغول، شعرت أن هناك ذاكرة جديدة لا يسعها كل ما يخترع من ذاكرات الخزن ألحديثه، وددت لو كان لدي ّ Ram إضافي كي استطع تحمل ما شاهدت عيناي ولمست ذاكرتي عند المضي بمدينة أشبه بمتحف حالم مفتوح يحتوي على عدة مباني تسمى بالمتاحف؛ بوابات مفتوحة لفنون مختلفة على مدى سنين طويلة منها ما حمل لقب الرومانتك والكلاسك والقوطي والديني والعقائدي والسياسي والحديث والمعاصر والبوب ارت والسينما والمسرح وسيمفونيات تصدح في كنائس مذهله ككنيسة MaGdalina (مريم العذراء) في الكونكورد - باريس ، تنصت الإذن إلى صوت العزف الحنين والعين تطير لما تحمله الكنيسة من رسوم ونقوش زجاجية ومطبوعات بابوية وادعيه ربانيه ، تتلألأ الوجوه المارة من ضوء الشموع المنتشرة في الزوايا وممرات المبنى ، أسير وأقول مع ذاتي نعم أنت في باريس ، حلم وما هو بحلم في الحقيقة ، ظروف عمياء جعلت من أحلامنا رؤيا لا تطبق في الواقع وتطبيقه سهل جداً مجرد إصرار ، سرقت من الإنسان أحلام اللون والشكل والملمس الصحيح والهواء المترجم كل طلبة الفن في العالم يرحلون إلى المتاحف كي يتلمسوا بواقع ما يقرؤون إلا نحن وقعت علينا أحكام مجهولة دون إثباتات وعلينا تطبيق العقوبة المجهولة ، ندفع ثمن مجهول مثل الأحدب في نوتردام أرعبني ذلك الصعود المرعب والدرجات المتآكلة لأجراس نوتردام (الخوف من الحياة ثلاثة أرباع الموت ) كما ذكر رسل . مللت اللغة المسموعة، فأنا احتاج إلى لغة أكثر نظاره مثل متحف البونبيدو مثلاً لغة خاصة حديثه وكأني اشهد ما تبنيه مخيلاتي من أحلام ومستحيلات وما عند الإنسان مستحيل إلا نحن من يسكن هذه البلاد .. حجوم ومساحات وأفكار وصور وأصوات لغات تشكيليه بواقعها الفني اللانهائي تنتمي بمرئياتها وسمعياتها وبصريتها إلى روح الفن الهادف بإنسانيته الحقيقية لأمثال مشابه لتلك الأعمال في دول العالم .. عكس ما ينتمي إليه وزير ثقافتنا البصيرة يقتني عمل مكرر لأحد طلبة الفن في أوربا .. لا اعتب عليه لان الثقافة البصيرة لا تعرف انتماءات أو اقتباسات أو اجهل لغة انتمائهم .. وسأضطر لأستدير وأتأمل بالبونبيدو ...
-(البونبيدو) هو من اكبر متاحف الفن المعاصر في باريس (وهذه صوره له من ثلاث زوايا)


20 قصة قصيرة جدا ً-عادل كامل

20  قصة قصيرة جدا ً



" لم تلد امرأة ما قط ابنا ً بريئا ً"
مثل سومري
"إن البراءة كلمة باطلة وكل منا مجرم أمام الجميع"
دستويفسكي


عادل كامل

إلى صديقي عدنان المبارك، وهو يكافح من اجل عالم اقل دناءة، وقسوة.
[1]  بغاء
    ليس ـ في حديقتنا ـ باستطاعة احد البت بالأسباب التي أفضت  بالغزال لاختيار مهنة البغاء، مهنة لها، بدل المهن الأخرى المعروفة، في السيرك، أو الملاعب، أو في اختيار المرعى، أو الانزواء بعيدا ً عن الأضواء، والمهرجانات، والاعتكاف في ركن بعيد.
     ولكن احدهم افلح بالتعرف على سرها، وقد أخفاه عنا، حتى بعد أن غابت الغزال عن الوجود، ولكنه لم يفلح بكتمانه، عند لحظات احتضاره، فأعلنه، لي.
    قال انه عرف إن الغزال استأجرت حجرة صغيرة في جناح الملاهي، وملاعب الليل، وإنها اختارته للعمل معها، بوابا ً، مهمته الإشراف على ترتيبات الداخلين ـ والخارجين، من تلك الغرفة، التي كانت تمارس فيها البغاء، لسنوات طويلة.
   قال لي انه سمعها ـ ذات يوم ـ تقول لأحد زبائنها: يا سيدي، إن فعلتها، فستدخل النار! فيسألها الزبون: وإن لم افعلها؟ فتقول له: تبتعد عنها درجة. فيقول: وماذا افعل بهذا المال؟ تقول له: دعه لي.... ، فانا أخذه لأنفقه على الطرائد والمشردين والمستضعفين والنازحين والأيتام والأرامل وكبار السن....، فيسألها: ها أنت لا تسمحين لي بمسك، وأنا جئت اطلب المؤانسة، كما لا تدعيني ارتكب الإثم، ثم تطلبين المال مني، من غير جهد؟ فتقول: ها أنت ابتعدت درجة ثانية عن النار. فيتعجب، مستسلما ً لطلبها، فيعطيها كل ما معه، ويغادر كما دخل. فتقول له: ها أنت  اقتربت درجة من الفردوس.
   وقال البواب لي: والغريب إنها مكثت تعمل في المبغى حتى حانت ساعة وداعها للحياة! فسألتها: ما سرك يا أيتها الغزال؟ فقالت لي: لا سر في الأمر، لأنني كنت ادعوهم إلى عدم ارتكاب الإثم والابتعاد عنه، أما لماذا كان عليهم دفع المال، من غير حق، فكان يقربهم خطوة من الفردوس..!
   وما أن أوشك البواب على الرحيل، حتى استدعاني، ليروي لي هذا السر. ولكنني سألته: لماذا مكثت تعمل معها سنوات طويلة، والمكان مشبوه، ولم تفارقها..؟ فقال: هي لم تتركني؟ فسألته: مهنة البغاء أم الغزال؟ قال: لا المهنة ولا الغزال! بل الحياة! وتركته يسترسل في كلامه، فقال متابعا ً: الحياة  التي كلما سبرت غورا ً من أغوارها ازددت شغفا ً بالتعرف على سر من إسرارها!
ـ وها أنت دعوتني قبيل موتك، فماذا تود أن تقول لي، ولماذا اخترت مكانا ً مشبوها ً للعمل فيه؟
قال:
ـ أنا كنت الشاهد الوحيد على عفة الغزال، وطهارتها. فانا كنت، في كل يوم، أتتبع خطى هؤلاء وهم يغادرون من غير دنس، أو إثم.
   صمت قليلا ً، ثم باح لي بسر آخر ـ قال ـ انه كان قد اقترن بها، وفق شرعيتنا، وإنهما، هو وهي، بعد ذلك وجدا لذّة في قهر تلك اللذات..! قال انه لم يلمسها، ولا هي طلبت منه ذلك أيضا ً.
 بعد ذلك، أنا فضحت السر،  قبيل موتي،  لأنني لم احتمل أن ادفنه معي، ويغيب، كما غابت الغزال، وكما غاب من حفظ سرها. .!

[2] النعجة تفكر!
    مكثت النعجة تتبع خطوات الذئب، حتى توقفت عند باب وكره، فسألها:
ـ ماذا تريدين؟
أجابت بصوت خفيض:
ـ خلصني!
ضحك الذئب وقال لها:
ـ أنا لم أتركك حبا ً بك، ولا حبا ً بمن ستحملين به وتلدينه، ولا حبا ً بالخراف أو الراعي، أو بأي مفهوم من مفاهيم الرحمة...؟!
وسكت. فسألته مذعورة:
ـ لماذا إذا ً تركتني؟
ـ لأنني ـ أنا نفسي ـ ابحث عمن يخلصني...، فإذا كنت انشغلت بإيذائكم، طوال حياتي السابقة، فانا اليوم، أصبحت منشغلا ً بالبحث عن هذا الذي لا يدعني منشغلا ً بأمثالكم!
فقالت بخوف اشد:
ـ  ما اقساك...، حتى وأنت تتوب لم يخل قلبك من الجور؟
فرد بذهن شارد:
ـ  وما شأني أنا...، أيتها النعجة العزيزة، فإذا كنت أنا هو المسؤول، أفلا يعني هذا إني بلغت ذروة الكفر، والمعصية؟
    ضحكت النعجة، وقالت بمرح:
ـ الآن عرفت كم الرحمة ـ من غير قسوة ـ أكثر درجة من الجور!
   فاقترب منها:
ـ اسمعي؛ أنا سأذهب للنوم...، وعندما استيقظ، سأكون جعت...، فانتظريني عند الباب، ولا تبرحي!
قالت:
ـ  وأنا سأنشغل بأكل العشب، والارتواء من ماء النبع، وتنفس الهواء العذب...، وتأمل السماء الزرقاء، كي تجد شيئا ً في ّ يسد جوعك!

[3] غريب
   بعد أن رأى بالتلسكوب العملاق، مجرة تلتهم أخرى، وتبتلعها، خاطب نفسه  بشرود تام:
ـ الغريب أني أمضيت حياتي بالحصول على بيت صغير...، ولم افلح، والأغرب....، من ذلك، إنني كلما جمعت مبلغا ً لشراء قبر لي، سرقوه مني...، بل والأغرب من ذلك إنني كلما حصلت على كفن كي استر به جسدي عند الموت، لم أجد شيئا ً يستحق الدفن....!

[4] نور
ـ من...، من في اعتقادك ارفع درجة: الظلام أم النور...؟
ـ النور!
ـ ولكني ادعوك أن تمحو الظلام....، فماذا سترى؟
ـ لا أرى شيئا ً.
ـ فلماذا تعجلت وأجبت..؟
ـ  وهل تركت لي فرصة لقول كلام آخر؟ آ .... لو كان سؤالك: هل هناك ظلام من غير نور؟


[5] مصائر
    بعد أن وضعت الأتان كرا ً...، سمعت ابنها البغل يفطس من الضحك وهو يتمرغ في الوحل....، فسألته:
ـ ما الذي يضحكك، وأنا ولدت حمارا ً صغيرا ً؟
   رفع رأسه، محدقا ً في عينيها الذابلتين، تارة، وفي عيني شقيقه المتوهجتين، تارة ثانية، فكف عن القهقهة، وصار ينوح بصوت مكظوم عميق الحزن، فسألته:
ـ ما الذي يدعوك إلى البكاء الآن...؟
بعد صمت وجيز أجاب:
ـ في المرة الأولى قلت لنفسي: لا اعرف أأشكر أبي الحصان، أم أشكرك ِ ، لأنكما ولدتماني بغلا ً...، حيث تتوقف عندي سلسلة أحزان الحمير! وفي المرة الثانية، وأنت تضعين ًكرا ً جميلا ً، أدركت إني لن اقدر على تخليص شقيقي من عمر سيمضيه في حمل الأوزار...؟
ـ كأنك تحملني ما لا طاقة على حمله، وأنا غير مذنبة في الحالتين!
 ابتعد خطوة عنها، قائلا ً:
ـ مادامت المصيبة لا تلد إلا مصيبة، فهل باستطاعتي أن أكون سعيدا ً وقد أدركت تماما ً أن هناك سواك، من الاتانات، تلد بغالا ً.....، حتى لو كنت عقيما ً، فالمضحك المبكي، شبيهة بالمبكي المضحك، كلاهما لا يقود إلا للمزيد من المرح المر، فانا لم اختر مصيري، ولو كنت اخترته، فهو اشد مرارة من مصائر الحمير!


[6] سر
ـ هل تود أن أخبرك بالسر؟
ـ أتمزح معي؟
ـ لا!
فضحك حتى سقط أرضا ً:
ـ  لو كنت عرفت السر..، لكنت بعداد الغائبين!
ـ ولكني عرفته، مع إنني أخاطبك...
ـ ها أنت أسرفت بالكلام....، فلو كنت عرفته، فهل كان تركك تتندر بالحديث عنه...، فالسر أما أن يقتل صاحبه، وأما صاحبه سيقوم بدفنه!


[7] جوع
    بعد مطاردة وجيزة، امسك النمر بالثور، وانبت أنيابه في رقبته، فسمع النمر الثور يتمتم بصوت لا يخلو من التندر:
ـ كنت أظن انك تعلمت الرحمة؟
جفل النمر، فسأله:
ـ ماذا تقصد؟
ـ  أن تكون مثل البشر...، تتركني اسمن، ثم تذبحني بالسكين! بدل أن تمزق جسدي بمخالبك وتقطعني بأنيابك!
ـ آ ....، آنذاك سأكون وضعت في القفص...، بانتظار  لحمك يأتيني باردا ً! أو أن لا أجد طعاما ً يقيني من الجوع!


[8] محنة
سأل الحفيد ـ التواق للمجد ـ جده الذي ركل في مكان قصي، في جناح المفترسات:
ـ ما ـ هي ـ أقسى المحن التي اكتويت بها، ولم تنج منها، يا جدي؟
  اضطرب الجد:
ـ المحنة التي أنا فيها!
ـ ولِم َ لم تخبرني بها، كي أخلصك منها؟
بعد صمت طويل قال الجد:
ـ بماذا أخبرك...، وهل ستصدق؟ فإذا أخبرتك: إن محنتي إنني بلا محنة! لأن  الذي وهبها لي، هو لا يريد أن يخلصني منها!، فقد تركني لا انتظر مسرة اسر بها، ولا عذابا ً اكتوي به أو أتوجع....، فبعد أن خبرت أحوال الحدائق، وأحوال الدواب، والبهائم، والأنعام ـ بعد أن عشت في البراري والغابات والمستنقعات والوديان ـ صرت أرى الحياة تمر مر السحاب، فلا هي أخذتني معها، ولا أنا انجذبت إليها! لم احلم بفردوسها، ولم اخف من جحيمها!
   ابتسم الحفيد، وقال لجده:
ـ الآن عرفت لماذا عزلوك!


[9] كلمات
    لم تعد الحمامة الأم إلى عشها، فسأل الصغير شقيقه:
ـ هل ارتكبت إثما ً ...؟
رد بخوف:
ـ انه السؤال ذاته الذي دار ببالي، وقلت: من منا ارتكب الخطيئة، كي نموت جوعا ً، ونحن لم نر في الدنيا إلا هذا القبر الذي اعد لنا قبل الولادة؟
أجابه:
ـ المعضلة انك تعلمت الكلام، قبل أن تتعلم الطيران!
ـ يا أخي... لو كنت تعلمت الطيران، لكان الكلام هو الأداة الوحيدة الأكثر فتكا ً!
ـ ولكن دعنا نسأل أنفسنا، قبل أن نموت: إذا كنت أنت لم تتركب إثما ً، ولا أنا..، فقد تكون أمنا العزيزة ارتكبت الفحشاء، وقامت بعمل أهلكها؟
ـ ربما يكون والدنا؟
   قال الأول بصوت خفيض جدا ً:
ـ ها أنت تدرك إننا ـ أنا وأنت ـ لا نستطيع الحصول على الطعام، ولا نقدر على الطيران، ولكننا بحاجة لمعرفة من منا ارتكب الإثم كي نعاقب  ..؟
ـ ربما لا احد منا، لا أنا ولا أمي، لا أنت ولا أبي، فعل شيئا ً، وهذا ما يدعونا إلى الكلام!
ـ وماذا نفعل والموت يدنو حتى لو كنا أبرياء تماما ً.
ـ آ ...، قد يكون الكلام هو الخطيئة الوحيدة التي نعاقب عليها، فانا ادعوك إلى الصمت، لعلنا نموت من غير ضجة، ومن غير كلمات!

[10] طعام
    قالت الدودة لرفيقتها، وهما يقفان في أعلى الشجرة:
ـ انظري...، ما أوفر الطعام في هذا اليوم...
فردت عليها:
ـ مازال عطر هذه الجثث حادا ً...
ـ لننتظر ... فستتفسخ!
ـ اجل.، إنها لا تستطيع الهرب، فلِم َ العجلة...
ـ لكن... انظري....، هناك الحشرات، وهناك الطيور، وهناك الضباع ....
ـ لا تكترثي، يا عزيزتي....، فالحرب بين الأشرار لم تنته!

[11] مصائر
ـ لم يبقوا مكانا ً لنا، في هذه الزريبة...، فدعنا ـ يا جدي ـ نهرب، ونبحث عن ملاذ...
  لامست نظرات الصقر العجوز قضبان القفص ببصره، بعد أن شاهد الساحات تكتظ بجثث التماسيح، والنمور، وبأشلاء أفراس النهر والفيلة، بالثيران والسباع، وببقايا الحيتان والغزلان، وبأخرى مازالت تتمرغ، تتلوى، وهي تبحث لها عن مخبأ، بعد أن غزت الحديقة مجموعات من الكائنات الغريبة، مجهولة المصدر....
فتمتم الصقر العجوز مع نفسه، بصوت مسموع:
ـ  ومن ذا يستقبلك...، وسكان الحدائق، والمحميات، والبراري، بلا استثناء، شاركوا بالقضاء عليك، اجتثاثك، ومحوك من الوجود؟
    فصرخ احدهم:
ـ هل نستسلم للموت من غير مقاومة؟
   عاد الجد يتأمل قضبان القفص بنظره الشارد، متندرا ً، وأجاب:
ـ  حتى لو كسرنا قيود هذه الأقفاص، فمن ذا سيحطم قضبان السجون الأخرى...؟

[12] لغز



    افتتح البغل محاضرته حول أسباب العنف، ودوافعه المستترة، والمخفية، والمموهة بأقنعة تتحول من عصر إلى آخر، ويتم استبدالها، وتجديدها، بشعارات مناسبة، شاملة جميع الأنواع التي انقرضت، ومن هي على قيد الانقراض، مؤكدا ً إن في العنف غواية لا تقاوم، وتبدو متجذرة، لكن ...، هذا كله لم يلغ لغز وجودنا، وأضاف البغل بحزن:
ـ يبدو أن موتنا، وخاتمة حياتنا، قد وضعت قبل أن ترى عيوننا النور....، وإلا ....، ما معنى إنفاق هذه الموارد، والثروات، والطاقات، في جعل الموت حقيقة غير قابلة للدحض؟
ثم أضاف بعد برهة صمت:
ـ الأمر الذي يجعلني أتساءل: ماذا لو أنفقنا هذه الموارد، والطاقات، والثروات، ببناء حياتنا من غير غوايات القتل، وسفك الدماء؟
رفع السبع مخالبه وتساءل:
ـ وماذا افعل بهذه المخالب...
وتساءل الذئب:
ـ وماذا افعل بهذه الأنياب...؟
  فقال البغل:
ـ الم ْ اقل لكم ...
قبل أن يكمل عبارته، توزع جسده، بين المفترسات، باحتفال وجيز، وهو يردد:
ـ الم اقل إن العنف وحده كتم لغز ديمومته!


[13] الحمامة والغراب
سألت الحمامة البيضاء، القابعة في قفصها بجوار الغراب الأسود:
ـ  لابد إن حزنت شديد حتى انك لم تستبدل لونك الأسود هذا أبدا ً...؟
فأجاب من غير تفكير:
ـ ولابد إن أفراحك، أيتها الحمامة، لا يناسبها إلا هذا البياض، مع إننا جميعا ً لم نغادر هذا السجن!

[14] عقار
   التقى الديك ابن أوى، في الطريق، فسأله:
ـ لو سألتك أتقول الحق؟
ـ وهل لديك شك أني لا أقول إلا الحق...؟
ـ حسنا ً...، كم مرة أعلنت توبتك؟
   لم ينتظر طويلا ً، ليقول:
ـ بعدد المرات التي أثمت فيها؟!
فسأله الديك، قبل أن يهرب ويتوارى منه:
ـ لكن لِم َ لم تتب مرة واحدة والى الأبد كي تذهب إلى الفردوس؟
ـ الحق أقول لك، إنني حاولت ذلك...، ولكني كلما ارتكبت الإثم اشتقت إلى التوبة، وكلما تبت ازددت شوقا ً للاثم! فهل لديك عقار لا يدعني أتوب كي احن إلى ارتكب الآثام، وهل لديك عقار لا يدعني ارتكب الآثام كي أتوب؟
من بعيد، صاح الديك:
ـ  لو كان لهذا العقار وجود، في هذه الدنيا الموحشة، المقفرة، والكالحة، لكان بني البشر عثروا عليه، وتركونا نموت بهدوء!

[15] المصيبة
ـ انظروا.....، هذا هو من كان يهتف: عاش التمساح الطاغية...
    احتشد قطعان الدواب، المواشي، والزواحف من حوله، يتقدمهم كبير الجرذان،  فقال بصوت خفيض:
ـ رويدكم...
ورفع صوته:
ـ  أنا لا أتنصل، ولا أنكر، ولا اعتذر....، إني هتفت بحياة الطاغية التمساح...
فساد الصمت برهة بدت كالأبدية، ليقول متابعا ً:
ـ  فالسيد كبير الجرذان أفرط في مدح الضباع،  ومساعده كان يعمل بمعيته في الحرس الخاص، والأخر أثنى على زعامة الثعالب،  والسيد آمر جناحنا كان مرشدا ً لقائدنا الفيل، وقد بح صوته في ذكر محاسنه، والثناء على حكمته، ورجاحة عقله....
   امتد الصمت، ولم يرد عليه أحدا ً، فقال يخاطبهم:
ـ فأنت ِ...، يا بومة، الم تشتمي الشمس، وأنت َ يا غراب، الم تمجد الظلمات...، وأنت ِ يا حرباء...، هل اعترضنا على تلونك بحسب الظروف....، وأنت يا نورس الم ترقص عندما غمرنا الطوفان...
    فتقدم منه كبير الجرذان، وسأله:
ـ والآن، في هذا الزمن، ماذا تقول...؟
  اقترب منه وقال هامسا ً:
ـ تبا ً للزمن الذي يدعوني اهتف فيه: عاش الجرذ!
فسأله:
ـ لكنك هتفت بحياتي!
ـ المصيبة أعظم لو إني كنت لعنتك، والأشد منها إني لو كنت صمت!

[16[ الموت
ـ ماذا تريد مني وأنت تتبع ظلي أينما ذهبت؟
أجاب الآخر بسؤال:
ـ وهل لديك ظل كي أتتبعه؟
ـ إذا ً سأتسمر ـ هنا ـ حتى يدركني الموت!
ضحك الآخر، مبتعدا ً عنه، حتى كاد يتوارى، فصرخ يسأله:
ـ هربت ... إلى ... أين؟
ـ سأدعك متسمرا ً وأنت لا تحلم  إلا أن أتيك وأخلصك!
ـ آ ....، الآن...، عرفت من تكون...، فأرجوك لا تتركني، وقد صار الموت خلاصي!

[17] خسارة
ـ أتعرف .... لماذا يذهب البعض إلى الموت، بشوق، حتى تظنه عثر على خلاصه...؟
ـ ربما لأن الحياة سلبت منه، وما عاد يفهمها..، فأصبحت فائضة ولا تعني عنده شيئا ً يذكر...، فراح هؤلاء يبحثون عن مكان آخر...، غير المكان الذي أصبح موحشا ً، وخرابا ً...؟
ـ لكن من سلبهم الحياة؟
ـ ربما من رآها ذات معنى، وفهمها، ليجني مكاسب جراء إنزال الموت في الآخرين!
ـ ولكن ـ يا سيدي ـ الجميع هم بحكم الموتى...، من يدعوا إلى الموت أو من يموت ...؟
ـ ربما أن يأتي الموت متأخرا ً، بعض الوقت،  أفضل من حياة لا معنى لها! وربما الخسارة ذات المعنى خير من الربح المفقود مهما كان كبيرا ً!

[18] مرح
   شاهد الذئب حارس الحديقة يغلق أبواب الأقفاص الحديدية، ويتأكد من إحكام أقفالها، فراح يضحك، ويضحك بصوت جهوري، حتى لفت انتباه الحارس الذي اقترب منه، وسأله:
ـ ما المضحك في الأمر...؟
ـ المضحك انك أصبحت تخاف على نفسك منا، بينما الحقيقة هي علينا أن نخاف منكم!
ـ ماذا تقصد؟
ـ اقصد ...، لو تركت الأبواب مشرعة، فانك لن تجد أحدا ً منا سيغادر أقفاصه، بعد سنين طويلة أمضيناها فيها، أو يفكر القيام بعمل طائش، بعد الرفاهية التي حصلنا عليها، لأن القضاء عليكم لن يحل المعضلة، بل يسفهها!
ـ ولكن هذا يدعوا للبكاء؟
ـ يكفي إننا بكينا طويلا ً، وآن لنا أن نقضي ما تبقى من أعمارنا مرحين!

[19]  قهر
    للمرة الأولى شاهد النورس، عند ضفاف النهر، دبا ً يصطاد السمك، سمكة بعد أخرى، ولكنه بدل أن يأكلها، كان يمزقها بمخالبه، ويسحقها بأنيابه، ويعيدها إلى الماء... فاقترب النورس منه، شارد الذهن، وسأله:
ـ يبدو انك تلهو ...؟
ـ لا!
ـ ماذا تفعل إذا ً...؟
ـ اعمل!
ـ أقتلك للسمك تدعوه عملا ً...؟
ـ لا!
ـ اشرح لي، أرجوك، فعقلي لا يستوعب ما تقوم به..
ـ أنا أتدرب على الصيد، يا عديم العقل!
وأضاف بزهو:
ـ لأنني لو لم افعل هذا...، فانا ساجد نفسي عاطلا ً عن العمل، أو أصاب بالخمول!
ـ آ ...، الآن فهمت لماذا تدوم الحروب بين بني البشر، لأن من يعمل على قهرها، ُيقهر!

[20] حدائق وسجون
ـ دعنا نهرب، يا صديقي، ونعثر على ملاذ آمن لنا...
ـ ولكن قد نقع في الأسر، ويلقى القبض علينا، أو ربما نقتل...؟
ـ هذا أفضل من انتظار الموت...
فرد عليه بصوت مرح:
ـ أنا لم اطلب منك البقاء بانتظار الموت، معنا، كما لا أمنعك من الهرب، والبحث عن خلاصك، مادام الموت آت على الجميع، اليوم أو غدا ً...؟
ـ ولكني ما أن اذهب بعيدا ً عنكم حتى يتم نسياني، وأصبح كأنني لم أولد ولم أمت؟
ـ يا صديقي...، ليس ثمة مشكلة في الأمر: فعندما تنجو وتجد ملاذا ً آمنا ً لك،  فآنذاك تنسانا، ولا تعرف شيئا ً عنا، وفي الوقت نفسه، نحن أيضا ً لا نعرف شيئا  عنكً!
ـ آ ...، يا صديقي ..فأنت اخترت قفصك ولا ترغب بمغادرته...، أما أنا فسأجازف بالهرب لعلي أنجو...
ـ لا بأس..، فنحن عشنا سنوات طويلة داخل أقفاص هذه الحديقة، وأسوارها، أما أنت، فستعيش داخل قفص بلا حدود...، ولكن هذه الحدود، يا عزيزي، لن تذهب ابعد من أسوار حديقتنا أبدا ً! فنحن اخترنا مصائرنا بإرادتنا، أما أنت فقد اخترت حريتك بمعزل عنا!
ـ هكذا إذا ً سأصبح نسيا ً منسيا ً، واسمي سيزول من ذاكرتكم؟
ـ يا صديقي...؛ إنها المسافة ذاتها، إن حصلت هنا، أو هناك...، فإما أن تعيش في حديقة هذا السجن، أو تعيش سجنك داخل هذه الحديقة! فجدنا الأعظم قال لنا ذات يوم: مسافة العدم واحدة، إن مشيتها وأنت في سجنك، أو مشيتها وأنت خارجه!!
ـ كأنك لا تريد مني أن اهرب، وأنجو...؟
ـ وهل تقدر أن تنجو...، إن هربت أو لم تهرب، مادامت السجون لم تبن إلا وسط الحدائق، ومادامت الحدائق لا وجود لها إلا داخل هذه السجون! فأينما وليت فإما حديقة مسّورة بالجدران، وإما  لا وجود للجدران إلا داخل الحدائق!
23/3/2016
Az4445363@gmail.com







كاظم حيدر والبراق!- د. أحسان فتحي




كاظم حيدر والبراق!


 د. أحسان فتحي
 نجح مزاد (كريستيز) البريطاني في بيع لوحة (البراق) للفنان العراقي الراحل كاظم حيدر (1932-1985) في 16-3-2016 في مدينة دبي بمبلغ قدره 545000 دولار أمريكي بعد ان كانت قد قدرت قيمتها بحوالي 200000 دولار!  ولم اتمكن (حتى الان) الحصول على اسم المشتري الغامض الذي اشترى ايضا لوحات لفنانين مصريين متوفين بأسعار جيدة جدا.
اني اعرف هذه اللوحة الجميلة لكاظم جيدا لأنني كنت أراها كثيرا عندما كنت اتردد على دار الكاتب والناقد الفلسطيني العراقي الكبير، جبرا إبراهيم جبرا (1919-1994)، في الثمانينات من القرن الماضي. وكانت امانة العاصمة، بتوصية من المعماري رفعة الجادرجي قد كلفتنا، جبرا وأنا، بتأليف كتاب عن بغداد عام 1987. كان موقع العمل في دار جبرا في المنصور وكنا نعمل سوية لفترات طويلة استمرت أشهر عديدة أصبحنا بعدها أصدقاء مقربين جدا بالرغم من الفارق بين عمرينا. وكان هو يزورني في بعض الأحيان في داري الصغيرة في الحارثية لانجاز بعض النصوص في الكتاب.  كان جبرا يمتلك عددا قليلا من لوحات الفنانين العراقيين من بينها لوحة جواد للشاعرة لميعة عباس عمارة، ولوحة لعلاء بشير، ولوحة لفائق حسن، ولوحتين لكاظم حيدر احدهما البراق، وبعض المنحوتات لمحمد غني وخالد الرحال، ولوحة لسعاد العطار وأخرى لراكان دبدوب ولوحة كبيرة لجميل حمودي، ولوحة كبيرة نسبيا لشاكر حسن ال سعيد، وكذلك علق حوالي 5 لوحات جميلة كان هو قد رسمها في فترة الأربعينات والخمسينات. وعندما توفي جبرا انتقلت ممتلكاته ومن بينها اللوحات والقطع النحتية إلى ولديه سدير وياسرواللذين هاجرا العراق بعد سنوات قليلة من وفاته.







وفي 4 نيسان 2010 انفجرت سيارة مفخخة قرب دار جبرا والسفارة المصرية في بغداد مما ادى الى موت 17 شخص والى تدمير شبه كامل لدار جبرا الذي احتوى على الاف الكتب والوثائق الخاصة بجبرا والتي لم يستطع ولداه ان ينقلاها معهم الى خارج العراق. المهم هنا ان لوحة كاظم حيدر والتي كنت قد صورتها في بيت جبرا قد نجت من هذا الانفجار المروع وكتب لها ان تحلق عاليا في عالم الاسعار بعد ان كان ثمنها في حينها 30 دينارا فقط لا غير! وكنت قد تعرفت على كاظم لأول مرة عام 1961 في لندن حيث كان هو يدرس تصميم ديكورات المسرح رجع إلى الوطن في 1962. وعندما رجعت انا للعراق بعد الدراسة في 1968 كنت التقي به كثيرا مع بعض الأصدقاء. ولا أنسى ذلك اليوم الذي زرته في داره مع الصديق الراحل زهير العطية في منتصف السبعينات وفوجئنا بوجود حصان ضعيف ( مسقو، ومصاب بمجاعة!) في الحديقة الصغيرة امام الدار. وعندما سالناه عن الامر قال انه اضطر لشراء هذا الحصان من بائع عربانة نفط في المحلة وذلك لمساعدته في تخطيط ورسم جدارية كبيرة جدا موضوعها كان عن (الحصان العربي وجماله الأخاذ) لمبنى القيادة القومية لحزب البعث. ضحكنا كثيرا في وقتها مما سبب حرجا له لان الحصان "الموديل" لم يكن مثاليا او جميلا ابدا لكنه كان مضطرا لانجاز العمل خلال فترة قصيرة جدا ولم يكن لديه الوقت للذهاب الى "العرب". وللعلم بان هذا العمل الكبير (اقدر مقاساته ب 3 في 9 متر) كان هو والمبنى قد دمره الأمريكان تماما في 1991، ولعل ابن أخته الدكتور نجم يملك صورا أو تخطيطات لهذا العمل الجبار.




بقى ان اقول بانه لم يخطر ببالي ابدا حينذاك ان اشتري عملا من الصديق العزيز (كاظم عبد حيدر الجنديل) ولم اطلب منه ان يهديني عملا من أعماله الفنية لأنني متأكد بانه لم يكن سيتردد في تلبية طلبي هذا. عاش بحالة مادية متواضعة جدا ولم يكن يحلم أبدا بوصول أعماله إلى مثل هذه الأسعار المذهلة، شأنه شأن العديد من الفنانين الكبار الذين يشكل رحيلهم عن عالمنا قفزة استثمارية مثمرة لتجار الفن والمضاربين المتربصين كالذئاب الكاسرة!
أخيرا أود التحذير من اعمال الرواد المزورة، وخاصة المتوفين منهم، لان هذه الأسعار المغرية شعلت السوق الفني وستحفز عصابات التزوير على المضي قدما في إنتاج الأعمال المزورة عسى أن تنطلي حيلهم على حتى بعض الأشخاص وبعض دور المزاد "المرموقة"!





الاثنين، 21 مارس 2016

جورج طرابيشي: ما بعد العقلانية...وسؤال النظرية النقدية العربية-حيدر علي سلامة*


جورج طرابيشي: ما بعد العقلانية...وسؤال النظرية النقدية العربية
حيدر علي سلامة*

خاص ثقافات

طرابيشي: من فاجع الموت إلى فاجع العقلانية
استقبلت الأوساط الثقافية والأكاديمية والأدبية إلى جانب الصحفية، خبر رحيل الفيلسوف والمفكر جورج طرابيشي بشكل تخطى إلى حد بعيد تراجيديا فاجع الرحيل، ليتمركز حول تراجيديا فاجع العقلانية في خطابنا الثقافي. وعند الحديث عن ثيمة العقلانية ومدى تلازمها وارتباطها مع فاجع رحيل طرابيشي، فإننا في الواقع نتكلم عن مدى راهنية إعادة "فهم وتأويل" مفهوم فلسفة العقلانية في الثقافة العربية خاصة والادبيات الإسلامية عامة. إذ ينبغي علينا أن نتساءل حول كيفية التعاطي مع هذا المفهوم وشروط تشكله في التاريخ؟ من اجل ان لا يُختزل مفهوم العقلانية عندنا إلى مجرد انتماء إلى سلسلة لامتناهية من المبادئ الأولية المطلقة، التي قد تتحول مع مرور الوقت إلى شعارات وايديولوجيات فحسب.
كل هذه الأسئلة الإشكالية فرضتها لحظة فاجع رحيل المفكر طرابيشي. فمتابعة سريعة لما يُنشر ويُكتب في هذه اللحظة الراهنة، تكشف لنا كيف أن مفهوم العقلانية ما زال مفهوما يشوبه الكثير من الغموض والالتباس جراء التداول الأرثوذكسي له من قبل المختصين عندنا في الشأن الفلسفي والثقافي على حد سواء.
فرغم أن مفهوم العقلانية من أكثر المفاهيم الذي ارتبط ولصق بمشروع طرابيشي/الفلسفي/الثقافي/الإسلامي، فإن ما يُؤخذ على أغلب تلك الكتابات التي ظهرت بعد رحيله، عدم تحديدها لشكل هذه العقلانية وبيان وظائفها التاريخية والنقدية، بل ولم يتم الوقوف عند معانيها المتحولة في مشروع طرابيشي. وذلك لان أكثر تلك الكتابات اقتصرت في تناولها لمفهوم العقلانية في مشروع طرابيشي ضمن مراحله المتأخرة فحسب، خاصة في مؤلفاته التي عالجت قضايا وإشكالات التراث والخطاب الإسلامي. وكأن المفكر طرابيشي لم يؤسس لهذا المفهوم في مؤلفاته وترجماته المبكرة بطريقة تاريخية ونقدية لا سيما في مؤلفاته حول جدل الفلسفات المادية؛ والوجودية؛ والماركسية/التحلينفسية. والسؤال الذي نود طرحه هنا، لماذا التزمت أغلب الكتابات والمقالات التي نُشرت إبان لحظة رحيل طرابيشي، حالة من الصمت تجاه مرحلة "العقلانية المادية المبكرة" لطرابيشي، واستبدالها بـ "أيديولوجيا العقلانية التقليدية" وتحويلها إلى عقيدة ارثوذكسية في مؤلفات طرابيشي المتأخرة؟ ألم يعمل طرابيشي في ترجماته ومؤلفاته الفلسفية والسيكولوجية والمادية "المبكرة" على نقد وتفكيك مفاهيم قدسنة العقل وتصنيم الأيديولوجيا وعبادة الشخصيات في مثل هذه العقلانيات؟ ألم تكن عقلانية طرابيشي المبكرة ضد مفهوم الصلاحية Validity سواء في الأيديولوجيا والفلسفة الماركسية وخطاب المثقف والسلطة؟ ألم يؤسس طرابيشي لمبدأ البحث والتحري والتحقيق inquiry في فلسفته المادية/العقلانية بهدف نقد الانغلاق العقائدي في الفلسفة والسياسية والنقد وخطابات العلم والدين؟ فكيف أصبح طرابيشي أحد رواد العقلانية العربية التقليدية (ذو الاتجاه الواحد)؟ في حين انه من المعروف، أنه شكّل "قطيعة ابستمولوجية" في كتاباته وترجماته المبكرة مع مثل هذه العقلانية الدوغمائية، لينعرج بها نحو "نظرية نقدية عربية" قوض فيها كل من: استبدادية السياسي؛ وسلطوية المثقف؛ وسلفية/ وارثوذكسية المتمركسين العرب.
فلماذا سكت المثقف العربي عن ذكر عقلانية طرابيشي المادية المبكرة، أي عقلانية "دار الطليعة" وسلسلة قضايا السياسة والمجتمع؟ ويصر في الوقت نفسه على اظهار طرابيشي في عقلانية واحدية، هي عقلانية دار الساقي "المتأخرة"؟

حقا، نحن نقف هنا أمام فاجعين: فاجع الرحيل؛ وفاجع العود الابدي للأيديولوجيا في فلسفة طرابيشي، التي لطالما سعى جاهدا إلى ملاحقتها ورصد بؤر تواجدها وتكاثرها وانتشارها بدء من مجتمع المثقفين والانتلجينسيا العربية مرورا بالحياة اليومية والاجتماعية والسياسية للجماهير.

هرطقات طرابيشية في نقد الأيديولوجيا والمثقف
مثلت مرحلة الستينيات والسبعينيات لجورج طرابيشي البداية الحقيقية لتشكيل جينالوجيا "النظرية النقدية العربية" التي يمكن اعتبارها البديل الابستمولوجي والثقافي لسيطرة المشاريع الماركسية الأرثوذكسية والقوموية ذات التوجهات الأحادية والواحدية الضيقة في الفكر والتخطيط وتكوين سيكولوجيا الإنسان حسب مقاييس زعماء الأيديولوجيات المذكورة أعلاه.
لذلك، سعى طرابيشي في هذه المرحلة إلى إعادة النظر بالمشاريع العقلانية التي تكونت في ظل صعود هذه الأيديولوجيات، معيداً إلى اذهاننا الاعمال الفلسفية والسوسيولوجية والمنطقية لمدرسة فرانكفورت التي تشكلت بوادرها بعد صعود الشموليات التوتاليتارية المتمثلة بالنازية والهتلرية والماركسيات الارثوذكسية، حيث عملت هذه المدرسة على إعادة النظر بتاريخ مفهوم العقلانية في الفكر الغربي والبحث في بنيته ومنطقه الداخلي الذي أنتج وافرز مثل هذه الشموليات في الحياة والسياسة والمجتمع. فكانت العودة إلى الرواد الأوائل في نقد وتفكيك تاريخ العقلانية الغربية واشكالها السلطوية والمتمثلة بالفرويدية؛ والماركسية؛ والغرامشوية والوجودية هي اهمّ ما ميز ترجمات طرابيشي في مرحلة الستينيات/والسبعينيات. ففي عام 1974 ترجم طرابيشي اهم مؤلف لعالم التحليل النفسي/الماركسي ويلهلم رايش وهوكراس: (ما الوعي الطبقي؟ نحو علم نفس سياسي للجماهير) والصادر عن دار الطليعة. فإذا كانت حسب طرابيشي: ((نقطة الانطلاق المركزية في هذا الكراس التمييز بين الوعي الطبقي للقادة والوعي (او الشعور) الطبقي للجماهير، فإن نقطة الوصول هي إرساء بعض أسس ما اسماه رايش بعلم نفس الجماهير: فقد استطاع النازيون ان يفرضوا سيطرتهم على الحركة الجماهيرية بالرغم من ظلال نظريتهم وتهافت ايديولوجيتهم، ورجعية مبادئهم، وهذا لأنهم عرفوا كيف يتوجهون إلى بسيكولوجيا الجماهير وكيف يخاطبون فيها نفسيتها. أما الاشتراكيون والماركسيون فإنهم، لجهلهم بعلم النفس الجماهيري ولرفضهم إياه، وجدوا انفسهم مقضيا عليهم بالانعزال عن الجماهير وبخسارة نفوذهم عليها بالرغم من صواب نظريتهم وثورية ايديولوجيتهم. ومن ثم فإن هذا الكراس نداء إلى تأسيس علم نفس للجماهير، ولكن علم نفس تكون الجماهير ذاته لا موضوعه)) (ويلهلم رايش: ما الوعي الطبقي؟ نحو علم نفس سياسي للجماهير، ترجمة جورج طرابيشي، دار الطليعة، بيروت، الطبعة الأولى،1974 ص-ص5-6).
لقد استمر طرابيشي في مواصلة دوره التنويري في ترجمة اهم الأعمال الفلسفية والسياسية التي تفضح وتفكك عمل الأيديولوجيات، سيما عندما تتحول إلى حقائق ومقولات عقلانية وسايكولوجية تؤمن بها الجماهير وتُسلم بصوابها رغم زيفها وبطلانها. من هنا، جاءت ترجمته لكتاب جان مارك بيوتي (فكر غرامشي السياسي). ثم تأليفه لكتابه الذائع الصيت وهو (الماركسية والايديولوجيا)؛ ثم اعقبها بترجمته لكتاب (الماركسية والوجودية) لجورج لوكاش، إلى جانب ترجماته الأساسية في المادية الجدلية من جهة؛ وترجماته في نظرية نمط الإنتاج الاسيوي. ولا يفتنا الإشارة هنا أيضا إلى أهمية ترجماته لمؤلفات مؤسس التحليل النفسي فرويد وانشغاله في تأويل بعض مفاهيمه المتعلقة بتحليل البنية العصابية للمثقف والثقافة العربية، فقد استأثرت هذه الإشكالية بأهتمام طرابيشي منذ السبعينيات حتى مرحلة صدور مؤلفه (هرطقات) 2006، حيث كان تركيزه منصبا بالدرجة الأولى على إعادة تأويل مفهوم القسوة الذي يتوزع بين كل من الماركسية/والمثقف/والحاكم، حيث لاحظ كيف أن: ((القسوة ..أمست...عنواناً للحكم الماركسي، من حيث هو حكم مثقفين...وما ذلك لأن المثقف بطبيعته قاسٍ، بل لأن الوظيفة التي أنيطت به على مرّ عصور التاريخ هي تمثيل الوجدان البشري والدفاع عن مبادئه وقيمه ومصالحه. ولكن إذا كان المثقف هو، على هذا النحو، وجدان الحاكم، فمن يكون وجدان المثقف عندما يصير هو نفسه حاكماً؟ وبعبارة أخرى، إن الدكتاتورية التي مورست بأسم المثال الماركسي هي، في أحد معيّناتها، نتيجة اجتماع الحاكم والمثقف في شخص واحد، ومن ثم توحّد السلطة والوجدان)). (جورج طرابيشي: المثقف وسقوط الماركسية، موقع الحوار المتمدن -العدد: 1732 - 2006 / 11 / 12 - 09:59)
هكذا تبدو المقاربة بين الماركسية؛ والايديولوجيا؛ والمثقف، من اهم مرتكزات نقد العقلانية العربية التقليدية من جهة؛ ونقد أيديولوجيا المثقف من جهة أخرى. فالمثقف هنا اصبح مماثلا لمفهوم العقلانية المطلقة التي تحلق في سماء المبادئ الكلية وتتعإلى على مفهوم الوجود في العالم: ((فعلى هذا المثقف أن ينزع عن بصره وبصيرته غشاوة الأيديولوجيا، وأن يحرر نفسه من الصيغ الجاهزة والمفاهيم المتآكلة، وأن يضع ذاته من جديد في مدرسة الواقع والحقيقة. وكذلك، وعلى الأخص، في مدرسة المعرفة. فالمسافة المعرفية التي تفصل مثقف الهامش، ممثلاً بالمثقف العربي، عن مثقف المركز، باتت لا تقلّ شساعة عن المسافة الاقتصادية والتكنلوجية التي تفصل البلدان المتخلفة عن البلدان المتقدمة. (المصدر نفسه)
ثم يلجأ طرابيشي إلى معجم المفكر الراحل ياسين الحافظ ليستعير منه بعض المفردات الأساسية في نقد بنية وفكر المثقف: ((الذي طالما طاب له أن يتصوّر نفسه سابقاً مجتمعه، والذي طالما طاب له أن يتصور أن مهمته التاريخية هي على وجه التحديد أن يتقدم مجتمعه لينير له "أقوم المسالك" إلى التقدم، هو اليوم مسبوق ومفوّت في مجال اختصاصه بالذات، أي في الثقافة)). (المصدر نفسه)
من هنا، ان فكر طرابيشي المبكر والمتأخر، ينبهنا إلى ضرورة الانتباه إلى: العقلانية العربية المفوّتة؛ والماركسية المفوّتة؛ والمثقف المفوّت. ومع هذا الثالوث تتشكل بوادر "نظرية نقدية عربية/مابعد العقلانية" خاصة وان طربيشي دعا إلى: ((فكر متحرر من كل اشكال الاستعباد الأيديولوجي لان الأيديولوجيا بالنسبة اليه هي اكبر عدو يمكن ان تواجهه المعرفة وعلى ضوء ذلك صرح ان اليقين ليس في ثبات مقولة ما مهما بدت قوية ومتينة وانما هو كما بيّن ذلك متأثرا بكارل بوبر في عدم الايمان بالاعتقاد)). (ضحى بوعجينة، جورج طرابيشي ودوره في التنوير العربي :البعد الماركسي في فكر جورج طرابيشي، موقع الأوان)
ما حاولنا ان نشير اليه فيما جئنا على طرحه أعلاه، ان جورج طرابيشي قد طرح في مؤلفاته المبكرة البديل الانتقالي من العقلانية العربية التقليدية إلى النظرية النقدية العربية، وما كانت مجمل صور تحولاته الفكرية بين الفلسفات اللاوثوقية ، كالماركسية؛ والوجودية؛ والتحليل النفسي؛ وفلسفة نمط الإنتاج الآسيوي؛ والدراسات الأدبية والجمالية التحلينفسية؛ إلا دليلا على وعي طرابيشي بضرورة تقديم البديل لهذه العقلانية المسؤولة عن انتاج منطق الهزائم والمرائر في تاريخ ثقافتنا العربية.
________
*باحث من العراق-مختص في فلسفة الدراسات الثقافية/ومابعدها


التاريخ : 2016/03/18 09:54:03