بحث هذه المدونة الإلكترونية

إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

السبت، 1 أكتوبر 2016

حوار مع الشاعر السوري شوقي بغدادي- أجرت المقابلة: عفراء محمد


حوار مع الشاعر السوري شوقي بغدادي
"مطلوب تواصل حضاري من دون دونية أو فوقية"

أجرت المقابلة: عفراء محمد


يرى الشاعر السوري الكبير شوقي بغدادي أن الرؤية الإسلامية المنفتحة تجاه العالم لم تعد موجودة، وأن العقل العربي أغلق نوافذه واكتفى بذاته، كما يرى أن المسلمين هم من أخطأوا بحق أنفسهم وحرموا من الديمقراطية من خلال تعويلهم على الأنظمة المركزية. عفراء محمد حاورت شوقي بغدادي في دمشق.


هل يمكن الحديث عن ثقافة عربية رغم وجود 22 دولة ضمن الجامعة العربية لكل منها حالته الخاصة؟


Bild vergrössern"توقف الإبداع في الثقافة العربية يأتي في سياق صدمة الحضارة الحديثة وانبهارنا بالحضارة الغربية وعدم قدرتنا على مسايرتها"




شوقي بغدادي: مما لا شك فيه أن الفروق الثقافية كبيرة بين بلد وآخر إذا نظرنا إلى حصيلة إنتاج عناصر الثقافة المحلية من كتب وأفلام ومسرحيات. أما إذا نظرنا إلى الثقافة بشكل أشمل على أساس أنها سبل المعرفة البشرية باختلافها سواء أكانت كتابية أو شفهية أو ممارسة، يمكن الحديث عن ثقافة واحدة رغم أنها لا تسر الناظر إليها لتوقفها عن الإبداع منذ فترة طويلة.

وعلى ضوء هذه النظرة يدخل في سياق الثقافة التقاليد والعادات وطقوس الزواج والأعياد ووضع المرأة في المجتمعات، إضافة إلى المعتقدات الدينية والسياسية. وعلى ذكر توقف الإبداع في الثقافة العربية فإن ما زاد الطين بلة هو صدمة الحضارة الحديثة وانبهارنا بالحضارة الغربية وعدم قدرتنا على مسايرتها ومواجهتها بسبب اختلاف الوضع الاقتصادي والاجتماعي، الذي جعلنا متفرجين ومتأثرين ومستوردين. والصورة الحقيقية للثقافة العربية تتمثل في أن هناك تشابه ووحدة بين 22 دولة ولكن من خلال علاقتها بالغرب وابتعادها عن بعضها.


ارتبطت الثقافة العربية سابقاً بالمضمون الحضاري الإسلامي، الذي حرّرها من اشتراط العرق أو الأصل القبلي أو الإثني، وجعلها ثقافة حاضنة واستيعابية لثقافات محلية وغريبة تنتمي إلى أعراق وأديان مختلفة. ماذا بقي من هذا الدور في أيامنا هذه؟

بغدادي: لم يبقى من هذا الدور شيء، الآن نحن مسلمون ونمارس الطقوس الإسلامية شكلاً، أما المحتوى الفكري والأخلاقي العميق للإسلام فقد ابتعد عنا. نحن نعيش حالياً حالة تمزق، فهناك متشددون ومتطرفون مما يجعل الآخرين ينظرون إلينا بشكل من الخوف. وربما لم يكن أحداً من المسلمين يريد أن تكون هذه الحالة موجودة ولكنها وجدت لأسباب خارجة عن الإرادة مثلاً النقمة على الاستعمار وتحولها إلى تعصب أحيانا، كما أن النضال التحرري تحول شيئاً فشيئاً إلى تطرف ديني.

وكردود فعل حضارية وجدت حالة من اليأس بسبب استيقاظ العرب والمسلمين على حاضر بائس في حين كانوا في ماضٍ عظيم، وهو ما يعود إلى عجزهم عن النهوض واللحاق بركب الحضارة، خاصة أنهم قاموا بإلقاء اللوم على الآخر بسبب تأخرهم. صحيح أن العوامل الخارجية لعبت دوراً في تخلف العالم الإسلامي، لكن هناك عوامل داخلية ساهمت أكثر من غيرها في تخلف العالم العربي كغياب الحرية والديمقراطية.



"صحيح أن العوامل الخارجية لعبت دوراً في تخلف العالم الإسلامي، لكن هناك عوامل داخلية ساهمت أكثر من غيرها في تخلف العالم العربي كغياب الحرية والديمقراطية" ما هي الأسباب التي تحول برأيك دون الانتماء إلى ثقافة واحدة مشتركة تحتضن مختلف الأقليات كما كان هو الحال على امتداد القرون الماضية؟

بغدادي: السبب هو فقدان الرؤية الإسلامية الأولى، التي كانت رؤية منفتحة أغنت الثقافة بعناصر جديدة أخذتها من الرومان واليونان والفرس بحيث شعر الجميع بانتمائهم إليها. هذه الطريقة في رؤية العالم والتعامل مع الآخر توقفت تقريباً مع قدوم الاحتلال والاستعمار والكفاح الوطني. وهو الأمر الذي جعل ردود الفعل تصبغ هذه العلاقة بحالة استفزازية غير طبيعية، فمن يقبل على الحضارة الغربية يتهم بالخيانة ومن يمتنع عنها يتسم بالتخلف ولذلك لم يكن سهلاً اتخاذ موقف حول ما يجري في العالم.


لكن هناك من يقول إن المشكلة تكمن في غياب الاجتهاد والتسليم بمعتقدات ومفاهيم غيبية منتشرة في العالم الإسلامي؟

بغدادي: العقل العربي أغلقت نوافذه وأبوابه واكتفى بذاته بسبب اعتقاده أن ظاهرة التقدم البشري هي ظاهرة ذاتية، في حين إنه لا يوجد في العالم من الصين إلى اليابان ظاهرة تقدم أبدعت وتفتحت وأنتجت إلا من خلال عراكها بين أخذ ورد بعيدا عن الاستفزاز والرفض. فاليابان مثلا استفادت من الغرب كثيراً، والآن يقوم الغرب بالاستفادة منها، وهذه هي الرؤيا المنفتحة على الآخر دون اتخاذ موقف العداوة منه.


يعتقد الكثيرون، حتى في العالم العربي نفسه، أن الثقافة العربية لا تستوعب القيم الديمقراطية بسبب طابعها الإسلامي. هل تتفق مع هذه المقولة؟

بغدادي: المشكلة هي في التاريخ الإسلامي، فالرسول لم يكاد يؤسس للدولة حتى وافته المنية وترك الناس في حالة ارتباك كبيرة. ما نوع النظام أو السلطة التي ستنشأ بعد ذهاب صاحب الرسالة. الرسول ترك للأمة القرآن وبعض الأحاديث التي اختلف المسلمون على تفسيرها. نستطيع القول إن الاتصال الديني والاجتماعي والسياسي للإسلام اثر إلى حد بعيد في حيرة المسلمين وظنهم بأن المرجع الديني الوحيد، أي الرسول، يجب أن يبقى المرجع الوحيد. وهذا أكبر خطأ لأن الرسول توفي والناس الذين تركهم متساويين وهذا ما يفسر قوله: " تركت الأمر شورى بينكم" بمعنى إن " شورى " تفسر المسلمين بكاملهم وليس ستة أو عشرة أشخاص. لكن المسلمين أساءوا الظن وما يزالوا يعتقدون إن النظام التالي شبيه بالنظام الذي كان موجود على أيام الرسول أي نظام العودة إلى مرجعية مركزية واحدة.


ولكن لماذا قطعت معظم المجتمعات في عالم اليوم شوطاً أبعد في الحياة الديمقراطية من الشوط الذي قطعته الدول العربية حتى الآن؟


Bild vergrössernيرى شوقي أن غياب الديمقراطية في المجتمعات العربية أثر بشكل كبير على مسيرة تقدمها بغدادي : هذا يعود إلى علاقة تلك المجتمعات بالغرب، مصر على سبيل المثال أتيح لها مبكراً أن تتخلص من الحكم العثماني المستبد وتلجأ إلى حكم آخر بريطاني ظنته سيحررها، لكنها وجدته احتلال آخر وبدأت تقاومه. هذه العملية الانتقالية من حكم استبدادي إلى حكم استبدادي حديث اضطر الإنكليز للقيام بتغيير صورتهم إذ سمحوا ببرلمان وانتخابات وحققوا شكلاً من أشكال الديمقراطية وإن كانت ناقصة.

كما أن الديمقراطية توفرت في سوريا بعض الشيء في فترة الانتداب الفرنسي، لكن تدخله المستمر في وأد الاتفاقيات جعل الديمقراطية غير مرغوب فيها. لكن دول عربية أخرى لم تتوفر فيها هذه الشروط، مثلاً الفرنسيون حاولوا تحويل الجزائر إلى مستوطنة وألغوا الشعب من المشاركة في الحياة السياسية حتى عن اللغة العربية ألغيت هناك.

أين ترى دور المثقف عموماً ودورك كشاعر بشكل خاص في النهوض بالثقافة العربية؟

بغدادي: دوري يتمثل في التعبير عن رأي بشجاعة، دورنا يتمثل في أن نقول الحقيقة ونتحمل المسؤولية في كل ما ننتجه من أساليب الكلام واللغة والتفاهم مع الناس. فإذا لم يوجد مثقف جريء ومؤمن بأهمية الحقيقة فهو متفرج على المجتمع وليس من المشاركين في صنع الوعي الديمقراطي الحقيقي.

هل بقي من دور للشعراء وللشعر العربي في الثقافة العربية مقارنة بثقافات أخرى كالثقافة الأوربية؟

بغدادي: دور الشعر تراجع كثيراً بعد أن كان الشعر ديوان العرب، لكنه أصبح الآن من الأجناس الأدبية المتخلفة. فالأمسيات الشعرية لا تجمع عدداً كبيراً من الناس إلا إذا كان الشاعر نجماً من النجوم أو تابعت للدولة التي تجيش له جمهوراً لا يفهم شعره. وعلى عكس فترة الخمسينات فإن الصالات كانت تمتلئ حتى في حال لم يكن الشعر من النجوم الكبار.



Bild vergrössernإشكالية العلاقة بين الشرق والغرب وخاصة بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر صحيح ما يقال إن هناك حرب ثقافية غربية ضد الثقافة العربية؟ أم إن هذا الكلام يستخدم من قبل البعض لاختلاق أعذار لما وصلت إليه حال الثقافة العربية؟

بغدادي: هناك عداوة، وهنا يمكن الحديث عن عداوة غربية عريقة، والحروب الصليبية نوع من العدوانية الذي تميز بها الغرب للسيطرة على الشرق باسم الدين، لكن القرون الماضية ولت من غير رجعة . هناك من لديه أفكارا عدوانية من المستشرقين، وهناك من لديه أفكار صديقة. وعليه فإنه لم يبقى من نظرية المؤامرة سوى الظلال والغبار.

العلاقة الحالية تجاه الآخر يجب أن تكون صحية وخالية من الأفكار المسبقة بحيث لا ينظر الغربي إلى الشرقي نظرة الدونية، ولا الأخير ينظر إلى الغربي نظرة فوقية. ولحسن الحظ إن هذه المسألة بدأت تؤثر في بعض وسائل الإنتاج التلفزيوني والسينمائي والروائي.

كيف تنظر إلى محاولات إحياء الحوار بين الغرب والعالم العربي عبر الأنشطة الثقافية، مثلاً معرض فرانكفورت الدولي للكتاب، أو الأسبوع الثقافي العربي الألماني؟

شوقي بغدادي: المعارض الثقافية تعتبر من أجمل التظاهرات الثقافية التي تتناسب مع العصر. عصرنا الآن هو عصر العولمة والتقارب بين الشعوب هو المطلوب بدلا من الهيمنة على الآخر، إما إذا كانت بمعنى تقارب الشعوب والاستفادة المتبادلة والدخول في نقاشات بناءة فمرحباً بها كونها تمثل دور العصر الحقيقي.




ولد في بانياس في عام 1928 .و تخرج من جامعة دمشق حاملاً إجازة في اللغة العربية وآدابها، ودبلوماً في التربية والتعليم - عمل مدّرساً للعربية طوال حياته في سوريا وخمس سنوات في الجزائر. شارك في تأسيس رابطة الكتاب السوريين عام 1951 والتي تحوّلت إلى رابطة للكتاب العرب عام 1954 وانتخب أمنياً عاماً لها حتى مطلع عام 1959. وبعدها شارك في تأسيس اتحاد الكتاب العرب الحالي وكان عضواً في مجلس الاتحاد في معظم دوراته إلى أن اختير بعد انتخابات الاتحاد عام 1995، عضواً في المكتب التنفيذي وأسند إليه منصب رئاسة تحرير مجلة "الموقف الأدبي" الشهرية الصادرة عن الاتحاد. لديه العديد من القصائد الشعرية والقصص القصيرة والروايات المسرحية ومن مؤلفاته: - أكثر من قلب واحد، لكل حب قصة، أشعار لا تحب، صوت بحجم الفم، بين الوسادة والعنق.



الفيلم الوثائقي "قواعد العمل المعتادة": سجن أبو غريب- مأساة باسم أداء الخدمة العسكرية-أريانا ميرزا ترجمة: يوسف حجازي






الفيلم الوثائقي "قواعد العمل المعتادة":
سجن أبو غريب- مأساة باسم أداء الخدمة العسكرية

أريانا ميرزا
ترجمة: يوسف حجازي


حاز الفيلم الوثائقي "قواعد العمل المعتادة"
Standard Operation Procedure جائزة لجنة التحكيم في مهرجان برلين السينمائي "برليناله" لهذا العام. الفيلم يعالج خلفيات ممارسات التعذيب في سجن أبو غريب، بيد أن محصلة هذه المعالجة السينمائية جاءت متباينة كما ترى أريانا ميرزا.



Bild vergrössernيطرح الفيلم مسألة غياب الحدود الفاصلة بين الجريمة والشعور بالذنب وممارسة الخدمة العسكرية




ثمة صور فوتوغرافية تنحفر في الذاكرة الجماعية. والصور التي كشفت مشاهد التعذيب في سجن أبو غريب للرأي العام في عام 2004 تُعتبَرُ بالتأكيد من قبيل هذا النوع من الصور. "اللقطات الفوتوغرافية" للابتسامات الشامتة المرسومة على وجوه السجانين الذين يمارسون التعذيب أساءت للسمعة العالمية للولايات المتحدة الأمريكية، كما لم يحدث إلا من خلال الصور الفظيعة في حرب فيتنام. ولم يفضِ الانتهاء من التحقيقات الرسمية بهذه الأعمال الوحشية التي مورست في أكبر سجنٍ عسكري أمريكي في العراق إلا إلى إدانة عسكريين من ذوي الرُتب المتدنية. أما أن تكون مراكز قيادية على معرفة بالجرائم أو أنها ربما كانت قد أعطت التعليمات بنفسها فهذا ما تنكره الإدارة الأمريكية بشدة.

من هنا لا يمكن لرغبة صانع الأفلام الوثائقية الأمريكي الشهير "إرول موريس"
Errol Morris الحائز جائزة الأوسكار بتقصّي الحقيقة الكامنة وراء هذه الأعمال الهمجية والكشف عن العارفين الحقيقيين بها إلا أن تحظى بكل بالاحترام. بيد أن فيلم "قواعد العمل المعتادة" لا يكشف عن معلومات جديدة للأسف، مع أنه يؤكد مرارًا على الشك بعدم معرفة أو"ببراءة" الضباط القياديين والمسؤولين الحكوميين، إلا أن اهتمام "إرول موريس" ينصب على جوانب مختلفة تمامًا، إذ يلتفت المخرج بالدرجة الأولى إلى النواحي التي يستطيع تصويرها بطريقة مثيرة.

إعادة تمثيل الواقع بتقنيات عالية

بهرت تحريات المحققين "إرول موريس"، حيث يمكن بمساعدة التقنيات الحديثة معرفة الكاميرا التي التقطت صورة معينة وتحديد وقت التقاطها. فإذا كانت الصورة الأولى قد التُقطت عند الساعة العاشرة صباحًا والصورة الأخيرة عند الساعة العاشرة مساءً، يمكن حينئذ تحديد الفترة الزمنية التي جرى خلالها تعذيب الضحية. لا بأس من معرفة ذلك، إلا أن "إرول موريس" لا يكتفي بإيصال هذه المعلومة ببساطة وحسب؛ فهو يصنع مجددًا صورًا لمجمل مسار البحث مستخدمًا تقنيات الحاسوب المعقدة.



Bild vergrössernاعتمد المخرج على التقنيات الحديثة في إخراج مشاهد الفيلم وإيصال رسالته وتلوح على الشاشة أشكال مربعة تتكثف لتأخذ شكل الشبكة، وتُزاح الصور الفوتوغرافية وتُربط ببعضها بعضا بحسب الترتيب الزمني، لتملأ فراغات الشبكة. يُذكِّر فيلم "عمليات عسكرية تقليدية" في بعض مشاهده بالمسلسلات البوليسية القائمة على تقنيات عالية على نمط مسلسل "سي إس آي" مثلاً.

كما أن وقع مقاطع الأفلام المُدخَلة إشكاليٌّ أيضًا؛ فمشاهد ممثلة تطابق ما وقع، أُريد منها أن تُدخِل الرعب "إلى القلوب" بمساعدة حركة الصورة البطيئة ومقاطع الإضاءة المعاكسة واللقطات القريبة وخلفية موسيقية مخدرة، بيد أن تأثيرها بقي مصطنعًا ليس إلا.

هذه الألعاب الجمالية يجري استخدامها دائمًا، كلما رأى "إرول موريس" أن عليه أن يعرض إفادات الجناة بالصور. ويبدو أن المخرج لا يثق بأن الصور المعروضة بغزارة كبيرة في فيلمه الوثائقي كفيلة بإثارة الاشمئزاز والسخط لدى المشاهدين.

إلا أن فيلم "قواعد العمل المعتادة" لا يتألف من مشاهد مثيرة ومن استخدام أحدث التقنيات السينمائية وحسب، لا سيما وأنه دخل المسابقة بوصفه فيلمًا وثائقيًا في نهاية الأمر، بل يعطي الفرصة أيضا لعددٍ من المحكوم عليهم، ومنهم الجنرال التي كانت مسؤولة حينذاك عن السجن العسكري وأخصائي الاستجوابات وأحد المسؤولين الحكوميين الذين أوكل إليهم التحقيق بالقضية.


مشاهد المقابلات مع السجانين الذين مارسوا التعذيب مثل الجندية "ليندي إنغلاند" شكلت بالتأكيد المقاطع الأكثر فظاعة التي يعرضها الفيلم الوثائقي على المشاهدين، إذ لا يشعر المشاهد بأن لدى أيّ من هؤلاء أدنى شعور بأنه مارس الجور والظلم، ولا يرى السجّانون في أنفسهم إلا ضحايا للظروف.


إماطة اللثام عن الجرائم


Bild vergrössernغياب الإحساس بالذنب لدى السجانين ومن قام بعملية التعذيب يؤرق مخرج هذا الفيلم يُعتبَر فيلم "قواعد العمل المعتادة" في هذه النقطة فيلمًا قيِّمًا، لأنه يشرح بشكلٍ لافتٍ سبب غياب الإحساس بالجور والظلم لدى الجناة: فيعاد عرض صور سجن أبو غريب الفوتوغرافية الفظيعة، لكنها مدموغة هذه المرة بأختام حمراء. نقرأ على نصف الصور عبارة "عمل إجرامي"، وتحديدًا عندما يكون جليًا أن الأسرى قد جرى تعذيبهم جسديًا أو تم إذلالهم عبر الإساءات الجنسية.


لكن رؤية النصف الثاني من الصور الفوتوغرافية مؤلمة بدورها وهذه الصور مدموغة بالعبارة التي أخذ المخرج عنوان الفيلم عنها: "عمليات عسكرية تقليدية"؛ بمعنى أساليب استجواب مشروعة. ولدى استعراض هذه الصور تضيع الحدود الفاصلة بين الجريمة وممارسة الخدمة العسكرية.


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


كتاب للصحفي الباكستاني أحمد رشيد:-توماس بيرتلاين ترجمة: رائد الباش


كتاب للصحفي الباكستاني أحمد رشيد:
"انزلاق إلى فوضى التطرّف"

توماس بيرتلاين
ترجمة: رائد الباش


في كتابه الجديد الذي صدر بعنوان "انزلاق إلى الفوضى - كيف تتم خسارة الحرب على المتطرِّفين الإسلامويين في باكستان وأفغانستان ووسط آسيا" يوضح الكاتب والصحفي الباكستاني، أحمد رشيد أنَّ المنطقة ما تزال بعد سبعة أعوام من سقوط حركة طالبان بعيدة عن الاستقرار وأنه لا سلام في أفغانستان من دون باكستان. توماس بيرتلاين يستعرض هذا الكتاب.



: لا يمكن إحلال السلام في أفغانستان من دون إشراك باكستان - يتَّضح هذا لكلِّ من يقرأ كتاب أحمد رشيد. وتعتبر الضغوطات والعزلة وسائل خاطئة من أجل كسب باكستان لا تنتهي في أفغانستان قائمة المشكلات، من مخدِّرات وتمرّدات وحكومة ضعيفة. ولكن كيف وصلت الحال إلى ما هي عليه؟ يحمِّل الكثير في أفغانستان الجارة باكستان مسؤولية ذلك، وفي المقابل يحمِّل معظم الباكستانيين الولايات المتَّحدة الأمريكية والرئيس المدعوم من قبل الأمريكان، حميد كرزاي المسؤولية.

ويكاد لا يوجد خبير يستطيع تقييم جميع جوانب هذا الوضع الفوضوي بشكل جيِّد مثل أحمد رشيد. وهذا الصحفي والكاتب الباكستاني الذي اشتهر بكتابه حول طالبان لا يعتبر خبيرًا فقط في شؤون إسلام أباد وكابول وواشنطن؛ بل يعرف أيضًا الدول المجاورة في وسط آسيا مثل أوزبكستان. وهو يثبت قبل كلِّ شيء بكتابه الجديد أنَّه محلِّل يفكِّر بوضوح ومن دون تحيّز على الإطلاق.

نقد حاد لإدارة بوش

وأحمد رشيد لا يخفي أنَّه يؤيِّد الاجتياح الذي تم في أفغانستان من أجل تجريد طالبان من سلطتهم. غير أنَّه يبيِّن أنَّ كلَّ شيء تقريبًا سار بعد ذلك باتِّجاه منحرف. وينتقد بصورة خاصة إدارة جورج دبليو بوش التي أهملت تمامًا وبسذاجتها غير المحدود بناء المؤسسات في أفغانستان ما بعد الحرب، أي "بناء الوطن".

وكذلك لا يسلم حميد كرزاي الذي يقدِّمه أحمد رشيد على أنَّه صديق شخصي من النقد؛ إذ يصفه أحمد رشيد بأنَّه رئيس ضعيف دائمًا ما يكون متردِّدًا، بالإضافة إلى أنَّ أمراء الحرب يغرِّرون به.

والأكثر إثارة في كتابه هو الجزء الذي يلقي فيه الضوء على الدور الباكستاني الذي كثر الجدال حوله في الأعوام الأخيرة. وأحمد رشيد يصف وصفًا دقيقًا التلاعب المزدوج لدى الرئيس الأسبق برويز مشرف الذي عاملته واشنطن على أنَّه حليف لا غنى عنه في "الحرب على الإرهاب" (وهذا خطأ فادح آخر).

تحالفات مشؤومة


شرائح واسعة من الشعب الباكستاني انتقدوا سياسة حكومة مشرف المستبد - أيضًا بسبب تعاونها مع الولايات المتَّحدة الأمريكية في "الحرب على الإرهاب" وهكذا فهو يشير إلى أنَّ الكثير من رجال المخابرات الباكستانيين وأشباه العسكريين كانوا بعد اجتياح الولايات المتَّحدة لأفغانستان يقدِّمون يد العون لحليفهم السابق، أي الطالبان - على سبيل المثال عندما حاصر تحالف الشمال في نهاية عام 2001 قندوز. ويصل أحمد رشيد بناءً على اتِّصالاته مع بعض من رجال المخابرات الباكستانيين السابقين إلى نتيجة مفادها أنَّ الدعم الباكستاني لحركة الطالبان الأفغانية استمرّ من دون انقطاع، وتحديدًا بمساعدة منظومة جديدة تعمل بصورة شبه سرية.

لا سلام في أفغانستان من دون باكستان


رجال مخابرات باكستان وأشباه العسكريين كانوا يتعاونون مع حليفهم السابق، أي طالبان - على سبيل المثال عندما حاصر تحالف الشمال في نهاية عام 2001 ويثبت أحمد رشيد أيضًا بمثال عكسي مقنع أنَّ الجيش الباكستاني تنازل وبمحض إرادته لحركة الطالبان عن سيطرته على المناطق القبلية المستقلة المتاخمة لأفغانستان؛ حيث كان الجيش الباكستاني يقمع في بلوشستان في الوقت نفسه المتمرِّدين القوميين بغاية العنف وبشكل فعّال. والفرق بين القوميين في بلوشستان والطالبان هو أنَّ البلوشستانيين ليسوا إسلامويين، كما أنَّ إسلام أباد تعتبرهم موالين للهند مثل حكومة الرئيس حميد كرزاي في كابول.

ولا يمكن إحلال السلام في أفغانستان من دون إشراك باكستان - ويتَّضح هذا لكلِّ من يقرأ كتاب أحمد رشيد. وكذلك تعتبر الضغوطات والعزلة وسائل خاطئة من أجل كسب باكستان. فلا بدّ من حمل مصالح باكستان الأمنية محمل الجدّ. ويعقد أحمد رشيد كلَّ الآمال على الديمقراطية، كما أنَّه يعارض بشدّة أساليب الدول البوليسية على غرار ما يجري في غوانتانامو في محاربة الإرهاب.






ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ




أدونيس ... والمباغتة السرية والسريعة- قيس مجيد المولى


أدونيس ... والمباغتة السرية والسريعة

 قيس مجيد المولى

لاشك بأن التجديد هو إدامة ومضاعفة التفرد في الطاقة الشعرية وهذا التفرد نابعٌ من استثناءات لم تطرق من قبل على صعيد مايحتويه اللفظ وما يتجدد من معنى أي أن المغايرة هنا ليست باستخدام كلماتٍ غير مسبوق استخدامها بل و‘نما بشحذ القدرات اللافتة لمتشابهات أوبدائل تسطيع خلق غير المألوف وهنا يكون حراك اللغة  ضمن السعة النفسية القصوى واستخدام المباغتة السرية والسريعة لما تجول به النفس دون التورط بخداع الأنا بشكل مكشوف حيث الدلالات يُكتفى بإضاءتها دون إعطاءها بنيتها الوصفية وكذلك الإنهماك مع الوسائل المنتجة حد التعقيد كشفاً للمخبوء من رقتها ، وهو شكل من أشكال التقصي أو شكل من أشكال الأسئلة الحرة التي يريد أدونيس أن لاتعوم إجاباتها ضمن منطق أسئلته التي تتصل أحيانا بغرضها وأحيانا بغرض بعيد ولكنه يصب في غاية ما :

سألَ الفجرُ عنها
سألت سريري
كي يُجيبَ
الوسادةُ مالت
والغطاءُ تكومَ في صمتهِ
كانت الشمسُ تلقي على جسد الفجرِ
في غرفة النومِ
قفطانها ،


يقدم أدونيس  إضافة للشكل الذي ذكرناه بالتقصي  شكلا أخر من أشكال تحشيد الصور الشعرية بتحريك أخر لوظائف الحواس ليتمكن من تحريك تطور لغته في النص وهذا النسق من التجريب يستدعي وجود مساحة فائضة من الحرية وغير مقيدة بتأثير الوعي المسبق لتتمكن العاطفة من الاستدلال على أماكنها السرية وخلق مفهوم الضرورة الداخلية لبناء سرية النص الذي يحافظ على خصائصه داخل وحدته وهو شكل أخر من أشكال الاطمئنان على تحييد العقل لإستغلال قدراته الفلسفية التي تنعكس بفلسفة أخرى ضمن مجريات الحدث الشعري ، أن أدونيس يذكر ويتذكر مايجب التوقف إزاءه لمنحه المزيد من متطلبات الرعاية سواء بحجم العاطفة أو بحجم المدرك المحسوس أو الحاجة لنسب ما من الحركات الإنتقالية ومن شاء أن يأتي الخاص ضمن جغرافية شعرية غير مكانية وكأنه يريد أن لايكون التعبير بها عن إيحاء لتطبيق أو إطلاق خزين مرئي أو عرض ذاكرة أو تجريد لقصد كوني ، وبذلك يكون الإحساس بالمفارقة أولوياته هذا الصراع الذي يعول على
وجود رابط ما بين متحسسين متقابلين متحاورين ينأيان ولكن بينهما صلة مشتركة :


هوذا بيته
كلُّ أبوابه جراحٌ
والنوافذُ مكسوةُ
بستائرَ أطرافها
نسجُ ورد غريب
لاتويج له
في ظلام الستائر ليلٌ
ليلُ هجر ويأس
تترسبُ أشباحه النازفه
في قرارة أحشائي العاصفة


إن تصريف اليأس وتسويقه للمعنى من خارج المعنى أحد إشتغالات أدونيس ويريد بذلك التعويض عن الإستعانة بالرمز الدال القصدي والذي سرعان مايقف عند مدلوله لذا فأنه وضمن مساحة الجسد ومساحة البحر أراد تقديم متطلب أخر من متطلبات الإغراء وكمن للقارئ في وسيلة تشتيت الإنتباه الوقتي أي الكتابة في حيز من التغريب ضمن عتمة مفرحة ينتظر منها المتلقي شيئا ما يربك فيه ذائقته ليطمأن على صلاحيتها وأدونيس قد نظر للمتعة من عليانيها بتصعيد عمل بؤرها الخاملة وكأنه يقول ليست هناك مناطق عازلة وغير منتجه وغير داعمه شريطة أن تلتقي حلقات المكون وتترابط بعضها مع البعض الأخر:

تلك مرآتك : الجحيم وأبوابها
وأدراجها
سُفنُ من دمِ
لإله الجحيم وأبنائه وأحفاده
ومرافئُ مخبوءةٌ
في شواظٍ وطين
لمجيئك في جلدك الأن ينمو
قلقلٌ أكلٌ للرحيل – الرحيل السؤال الذي
لاتقول لك الأرضُ ، من أين جاء
لاتقول السماء

إن أدونيس لايقرر بل أن موجوداته تدركه حين تفتح باب عاطفته على أيما طريق يؤدي ولايؤدي في أي شئ عبر مراجعة مستمرة لغيبياته ،،
ليملئ حلمه الذي يعيش فيه وينهي صراعه مع الفراغات ،


شاعر عراقي- مقيم في قطر



الخميس، 29 سبتمبر 2016

في معرض طبيعة عراقية لا خيار لنا سوى الجمال!-عادل كامل*
















في معرض طبيعة عراقية
لا خيار لنا سوى الجمال!


ـ فائق حسن حاضرا ً
ـ جذور تنسج حداثتها
ـ المرئيات وملغزاتها النائية

عادل كامل*
[1]   إشارة
   إذا كانت ثورة الاتصالات الحديثة، التي عملت على محو الحدود ما بين القارات، والدول، وجعلت من عالمنا قرية صغيرة، أو سوقا ً حرة، غير منشغلة إلا بمتابعة الأحداث، المولدة لأخرى، عبر تدفق لا محدود لها،  فان ما لا يمكن قهره، أو إغفاله، لا يقع في (الحركة) وفي متغيراتها، أو في مواكبتها لمرور ما لا يحصى من الأطياف، والأشباح، في عالمنا المعاصر، بل في  المكونات القائمة على قوانين صياغة  مبادئ الحركة، والأحداث، وأسسها العميقة، ألا وهي: الطبيعة ـ الآلهة الأم، أو الأم الكبرى، بوصفها ـ جميعا ًـ تمثل مقومات التنمية، النمو، والتشبث بما بعد الحاضر.
   صحيح أن الطبيعة، بحد ذاتها، تعد حدثا ً، ذات قدرات ملغزة على التجدد، ودحض الثابت، إلا إنها، مقارنة بالزمن الكامن في التحولات، وفي المتغيرات، تمتلك قوانينها الأكثر إثارة للدهشة، التأمل، والقراءة.
    فالمفارقة تأخذ نسق المقارنة، مثلما الأخيرة لا تفرط كثيرا ً بالأعراف، ومنها: الذائقة الجمالية، ومفاهيم الجلال، والجميل.
   فإذا كان القرن العشرين، مقارنة بالعشرة آلاف عام الماضية،  أكثر صخبا ً، وأكثر استحداثا ً للعنف، والتطرف،  إلا انه يبقى غير قادر على زحزحة تلك الأصول البكر لعوامل نشوء الحياة ـ وتطورها العنيد.
    فحتى التيارات الراديكالية، تطرفا ً أو تجذرا ً، لم تستطع أن تلغي الأسس والعناصر التي انبثقت منها التجارب الفنية، مادامت قائمة على ذات القواعد التي استند إليها الرسام الأول، رسام المغارات: الألوان، الخطوط، المساحات، الملامس ..الخ لتمثل حقيقة أن (الأحداث/ الوقائع) لا تجري خارج مسرحها ـ وهو الحياة بكل ما تحمله من الغاز، مشفرات، وطرق لا محدودة لا تسمح للتقدم أن  ينتهي بكارثة، كالتي حصلت لانقراض الديناصورات، على سبيل المثال. لأن المكان ـ بحد ذاته ـ ليس زمنا ً متجمدا ً، كما قال أرسطو، بل وعدا ً بحياة اقل صخبا ً، واقل عشوائية.
   ولأن المتلقي العام، في الوطن العربي، محكوم بثقافة الدقائق الست التي يمضيها في القراءة على مدى أيام السنة، أي قراءة نصف صفحة ـ فان إعادة قراءة البديهات، الأكثر عمقا ً وذات التاريخ السحيق، تغدو دافعا ً لحب الحكمة: الفلسفة، أو الحياة بوصفها لغزا ً. لكن الفجوة ـ هنا ـ ستتسع، ولن تردم. فالمتلقي المنشغل، والمشغول، بالصدمات اليومية، وباللا متوقع، من دمار، تشتت، إذلال، يجد أن الحديث عن (الطبيعة) وجمالياتها، ترفا ً، بذخا ً، أو وهما ً أو قطيعة مع الواقع.  إلا أن الحياة، رغم خسائرها، تمتلك قدرات تحد من الإسراف في تيار من تياراتها، ولا تسمح للأحادية، إلا أن تروض، ضمن مبدأ: قهر عوامل القهر.
     بهذا الدافع يأتي معرض [تضاريس ملونة ـ طبيعة عراقية] بمشاركة 75 فنانا ً، وبأكثر من 90 لوحة فنية، الذي أقامته جمعية الفنانين التشكيليين العراقيين أيلول/2016 ـ تأكيدا ً لـ ـ وبحسب كلمة للفنان قاسم سبتي رئيس الجمعية ـ "انه لا خيار لنا سوى الإصرار على الجمال"، كاختيار في زمن غدا فيه الاختيار، إشكالية، أو استحالة.
    ومع إن (الجمال) شبيه بأي مصطلح أو مفهوم، يتميز بالتنوع، والاختلاف، بل وبالتناقض، إلا أن القصد منه، وسط وطن "ينام الموت في حناياه الخبيئة" يغدو هو  التشبث بكل ما يعيد للإرادة ديناميتها، عفويتها، صدقها، براءتها، وقبل هذا كله: حياتها.



[2] الطبيعة: جذور الأم الكبرى
    مع أن رواد الفن (الحديث) في التشكيل العالمي ـ قبل أن تتخذ الحداثة مفهومها المتداول في أوربا ـ خرجوا من الطبيعة: تيرنر/ مانيه/ مونيه/ جوجان/ فان كوخ/ سوراه ...الخ، كل وفق رؤيته، بمعنى: أسلوبه في رؤيا الحداثة، والابتكار.
   على أن جذور (الطبيعة) تذهب عميقا ً في نشأة الرسم، وفي بلورة أبعاده التقنية، والجمالية. والأمر لا يتعلق بالجانب البصري، وما يمثله الضوء من دور في الحياة حسب، بل لأن الطبيعة ذاتها هي اللغز الذي نشأت فيه بذور الخلق، والذي يرجع إلى الآلهة الأم ـ  أو الأم الكبرى ـ لدى مختلف الشعوب.
   فالطبيعة بواقعيتها تضمنت  قدرتها على: التوليد ـ فهي التي مهدت لنشوء العنصر المولد ـ الأم الكبرى ـ  والذي مكث يرعاها، حتى بعد أن آلت سلطتها إلى الظل، بانتصار الذكر. ولعل واقعة الحرب المروعة التي انتهت بانتصار (مردوخ) ضد (تيامة) ـ الآلهة الأم التي تمثل المياه غير العذبة أو المالحة ـ إشارة لحداثة  اقترنت بالعنصر الأخير. انه تاريخ قديم لصراع برمجت آلياته عبر أحداثه، وما دونته عبر الأسفار.
   ففي معرض [طبيعة عراقية ـ تضاريس ملونة] قبل أن نلفت النظر إلى واقعيته اللاشعورية باستعادة أمان مفقود ـ نجد التجربة العالمية رافدا ً صريحا ً في اختيار المكان مسرحا ً لدينامية التحولات، ومظاهرها. فمن الصعب إغفال تأثيرات: كوربيه، أو المدرسة الروسية الواقعية، أو إغفال التعبيرية وتنويعاتها، فهناك كونستابل، تيرنر، مثلما هناك مانيه ومونيه وباقي الاتجاهات التي لم تدمرها الحداثة.
   وعند قراءة تاريخ الرسم الحديث في العراق، فان الرعيل الأول، بحسب الفنان والكاتب نزار سليم، الذي نشأ في استانبول، وعاد إلى بغداد، بعد الحرب العالمية الأولى، أولى الطبيعة أهمية كبرى، متخذين من خبرتهم الأوربية، غالبا ً، برنامجا ً للاحتفاء ببيئتهم المحلية. فرسومات عبد القادر الرسام ورفاقه، اقترنت بمحاكاة الطبيعة في أدق تفاصيلها: ضفاف دجلة وبساتينها، شخصيات ذلك العهد، وكل ما يخص معالم بغداد...، مما مهد ، وبعد عودة الذين أرسلوا للدراسة في أوربا ـ لظهور اتجاهات فنية حملت تأثيرات المدارس الفنية، بتنوعها بين القديم والحديث، ومحاولة العثور على معادل بين الأصول والاستحداث، الذي تبلور عبر معادلة (التراث ـ المعاصرة).
    وليس عبثا ً أن تشكلت ثلاث جماعات فنية أساسية في خمسينيات القرن الماضي: الجماعة البدائية التي ترأسها أستاذ الرسم فائق حسن، وحملت عنوان (الرواد)، وجماعة بغداد للفن الحديث، بزعامة جواد سليم، من ثم الجماعة التي أولت الطبيعة مشروعا ً لبلورة الهوية ـ وخصائصها الايكولوجية ـ برعاية الأستاذ حافظ ألدروبي.
   لم تغب الطبيعة، لا عن تجارب أكرم شكري، أو عطا صبري، أو رسول علوان، أو الشيخلي، ولا عن معارض الجماعات الثلاث، إلا أن الانطباعيين ـ رغم تباين تجاربهم قربا ً وبعدا ً عن الانطباعية، عملوا على بناء ذاكرة بصرية تستمد أصولها من المكان ـ والضوء.
     وسنجد تأثيرات الانطباعية، العفوي، والذي غدا تقليدا ً، صريحا ً في معظم التجارب الفنية، فيذكر الفنان حافظ ألدروبي ملاحظة لرسام بولوني كان يعيش في بغداد ـ مع منفي الحرب ـ انتقد فيها التأثيرات الأوربية في الرسم العراقي، وقال للدروبي، بالنص: انظروا بعيونكم! كما قال لي الأستاذ حافظ ألدروبي.
    إن مغزى هذه الإشارة غير قابل للتأويل. فهي تقصد (الهوية) وكل ما يتعلق برؤية الفنان ـ وليس النظر بعيون مستعارة أو مستأجرة ـ مثلما نلفت الانتباه إلى العلاقة الجدلية بين الفنان وبيئته، بكل ما تحمله من علامات، رموز، ومؤثرات تمنح الطبيعة خصائصها الأسلوبية، بالاستناد إلى الشخصية، ومكوناتها المعرفية، والثقافية الفنية.
    ففي هذا المعرض، رغم العنف وما تركه من تفكيك للجماعات والمؤسسات والأفراد، يعلن اللاشعور، بجلاء، عن الموقف الوحيد المستند إلى: الأرض ـ بما تمثله من مصادر للعمل، التنمية، والتطور.
   لا أقول إنني ـ للمرة الأولى خلال العقد الأخير ـ أحسست إني استعيد كل ما كدت افقده من اطمئنان، بل أني أحسست أني احتمي بكل ما يحمله تاريخ الأم ـ الطبيعة ـ من مشاعر كادت تخرب، وتغدو مجهولة عنا.
    ولو اتسعت قاعات جمعية الفنانين التشكيليين العراقيين، لعدد اكبر، فإنها ستضم تجارب أخرى ليس لفنانين هجروا الواقعية ـ والطبيعة، بل لتضم تجارب لا تحصى من الفنانين العرب الذين يعيشون مآزق الحروب، والنكبات.
     فهذا المعرض (طبيعة عراقية) تضمن الإفصاح عن دعوة، مباشرة، وغير مباشرة، لاختيار عمق (الهوية) اللا شعورية ليس للمكان، وتاريخه، فحسب، بل لإعادة بناء الهوية القائمة على أصول البناء ـ والتنمية، لأنها أولت الجمال ـ كما ذكر الفنان قاسم سبتي رئيس جمعية الفنانين التشكيليين ـ نسقا ً يتجاوز (المحلية) نحو أصول فنية مشتركة لدى الجميع. وهي إشارة أكدتها الدراسات الأسلوبية، على صعيد الأدب، الفلسفات، والفنون، بما لا يسمح للفوضى أن تؤدي إلى اختراع أساليب متماثلة، أو ذات علاقة مباشرة بالسوق. فقراءة البصريات، بحدود الطبيعة، لا تتضمن دعوة للانفصال عن التجارب الأكثر تقدما ً، بل لقراءتها قراءة تتضافر فيها عوامل المعرفة بحدود توفر عامل الصدق.
   لكن هذا لا يمثل إشارة أو دعوة لتجنب تيارات الحداثة ـ وما بعدها ـ بل دعوة لقراءة: الأصول الأعمق، مع المتلقي، وخياله الأبعد، بالدرجة الأولى، كي تأتي (البنية) الفنية لأي نص من النصوص الفنية، بالعمق المتحقق فيها، مع المتلقي. وهي إشارة تمنح القراءة معرفة لدراسة البصريات، وما تشكله  من امتدادات نحو (الصدق)، الذي لا معنى له، من غير خبرة، موهبة، وأصول فلسفية جمالية.


[3] الجمال: وحدة التنوع
    مع ان العنوان (تضاريس ملونة)، ليس بحاجة إلى التفسير، أو التأويل، إلا أن المعرض أعلن عن نزعة (جمعية) منح فيها الخصائص الفردية حريتها في اختيار (الموضوع) وحرية اكبر في اختيار الأسلوب.
   فعلى خلاف المعارض الجماعية، أو معارض الجماعات الفنية المشتركة، لا توجد مشتركات محددة إلا بحدود لفت النظر للتجربة الفنية ذاتها، وربما لم تغب عبارة سقراط الشهيرة: لا جديد تحت الشمس، التي برهنت، بالنفي، بان الجديد ليس المستحدث، أو المبتكر، لصالح التقدم فحسب، بل (اللا جديد) هو ذلك الذي تتأسس عليه الأصول، لتحافظ عليه.
     إن تجاوب وتضافر الجهد (النظري) ـ الفلسفي أو الأدبي أو الجمالي أو التقني الخالص ..الخ، مع (الجديد) يسمح بقراءة متجددة لمقولة تبدو إنها شبيهة بقصة عميان أفلاطون، في جمهوريته، فالحوار يدور حول سؤال: هل يمشي العميان من النهار إلى الليل، أم من الليل إلى النهار؟ فهي لا تسمح للأمل ان يذهب ابعد من انغلاقه.
   فهل معرض أو مهرجان (تضاريس ملونة) يأتي ليرسخ أم ليدحض عبارة سقراط: لا جديد تحت الشمس؟
    ربما ـ منذ نصف قرن أو أكثر ـ لم نر هذا العدد الكبير من الفنانين، لا تجمعهم (الحداثة) أو محاكاتها، ولا تجمعهم اختلافاتهم الفكرية، أو الأسلوبية، بل، على العكس: لا يعربون إلا عن امتنان استثنائي في حقبة كادت تحول اصلب التقاليد إلى رماد ـ والى عشوائيات ـ والى ما هو ابعد من الصخب واستحداث الفوضى.
   ثمة نزعة لا شعورية برهنت إنها قلبت اللا جديد، إلى ضرب من (النشوة) الآمنة، والى إعادة قراءة كل ما تمت قراءته، على مر العصور، وفي شتى مدن العالم.
   فعندما لم يحصل ان توحد هذا الاختلاف، من غير مكر ومكائد، إزاء تجارب فنية تتجاور فيها إبداعات (المكان)، فان الحياة ذاتها تبقى تمتلك تحقيق برنامجها إزاء غياب الفن أصلا ً...، فالمعرض برهن انه ليس للمباهاة، أو الدعاية، بل ان (الجديد) فيه سلك المسار الذي رسخ الواقعية، في بلدان العالم، رغم اختلاف فلسفاتها، وأيديولوجيتها، حيث (الجمال) لا ينتمي إلى المغامرة، أو للتحديق في المجهول، وإنما في إرساء القواعد ذاتها للتجمعات الحضارية، المتمدنة، منذ عصر الكهوف، إلى عصر ما بعد الموجة الثالثة، حيث الشغف بالمرئيات أكد انه مسار بالغ الثراء في دراسة وتأمل الظواهر، بوصفها تتضمن ما يوحدها، كمشترك حر، ومن غير قيود.
    فالواقعية ـ بمعناها المتجدد ـ لا يُستحدث من العدم، عالمها الافتراضي، من اجل الدهشة، والتفرد، بل تؤكد ان الجديد يجعل من (السلام) شرطا ً يذهب ابعد من التأويل، ليس بفعل الإجماع حسب، بل لأن نزعة التحرر جعلت من الجمال مرتكزا ً لهوية لم تعلن عن خصائصها، إلا بردم المسافة مع تجارب الرواد.
    فثمة غنائية سمحت للأصوات النائية ان تتشكل بالموجات اللونية ـ غير المرئية ـ تحت الحمراء أو الرمزية، داخل كل عمل، مهما بدا اقل مهارة في التنفيذ.. مع ان المشترك لا يقلل أبدا ً من النوايا، فان السيمفونية اللونية لهذا العدد الكبير من الرسامين، يفند، المشهد المروع الحاصل في الواقع، في بلدنا، أو في البلدان التي شملها الخراب. ولهذا فان حكمة الفنان قاسم سبتي "يبدو ان لا خيار لنا سوى الإصرار على الجمال، ويا له من خيار!" تعيد قراءة: لا جديد تحت الشمس، بمنح الجمال رسالته برؤية ما يحدث تحت الشمس، وابعد، برؤية الشمس وهي تعيد نسج الطبيعة جماليا ً، بهذا التوحد، المجاور للرؤى الروحية، وقد استبعدت انغلاق السبل، أو المرارات.

   ولقد أعربت ـ من غير حذر أو تردد ـ لفنان سألني عن تقييمي للمهرجان اللوني، فقلت: للمرة الأولى، منذ عقود، شعرت أني أتجول في غابة خالية من المفترسات! بل وقلت له: هذا المعرض يستبعد وجود الأعداء!
    ربما لا معنى لهذا الحكم...ن لو لم نعد قراءة الدخان، والرماد الذي عمل ـ ومازال ـ يعمل على استبدال الشمس بالظلمات، والأرض بالفراغ، والإنسان بالصفر.
    فالجديد ـ هنا ـ هو ان ثمة نزعة جمالية مازال الفنان ـ العراقي وفي الوطن العربي أيضا ً ـ يمتلكها بسكنها في الإرادة التي شيدت الصروح الحضارية، ورموزها الجمالية.
    ومع ان الإعلام ـ عامة ـ يتجنب الإعلان عن هذا الشغف بالجمال، في أصوله البكر، والمتجددة أبدا ً، إلا ان النزعة الواقعية للفنانين وحدها تمتلك (جديدها) في دحض مظاهر التطرف، والعنف، لإرساء مسارات تمنح الجديد قدراته المخبأة في اكتشاف نزعة البناء، وليس العكس.
    وأنا لا أتحدث عن افتراضات، أو عالم لا وجود له...، فالأعمال الفنية التي صورت الاهوار (أيمن زويد/ جاسم الفضل/ صاحب جاسم/ عماد قدوري/ على مظلوم/ قاسم سبتي/ قاسم محسن/ محمد مسير/ مهند ناطق ..الخ) تجاور النصوص الفنية التي استلهمت الوديان والجبال (وضاح مهدي/ نبيل علي/ حسام عبد المحسن/ مراد إبراهيم/ عباس الزهاوي/ صباح محي الدين/ سلام جبار/ زيد الزيدي ...الخ) والأخرى التي استلهمت بساتين النخيل (اسعد أزاد/ احمد حيدر/ اياد بلادي/ أنوار الماشطة/ حيد صبار/ رائد عبد الأمير/ زياد طارق/ زهراء هادي/ عامر حسن/ عاصم عبد الأمير/ صلاح هادي/ عبد الأمير طعمة/ عدنان عباس/ علي الطائي/ علي هاشم/ فلاح الأنصاري/ مؤيد محسن ...الخ) إلى جانب المشاهد  التي تصوّر الهضاب، السهول، وحافات المدن (محمد شوقي/ قيس احمد/ محمد الكناني/ فاضل عباس/ كاظم علي/ زاهد ألساعدي/ سعد الطائي/ رائد حسن/ بسام زكي/ حذام علي/ ثمينة الخزرجى/ حسن عطوان ...الخ) أقول إن هذا الاحتفاء بالمكان ـ الوطن ـ يعلن عن رؤيا ترسخ مدى إيمانهم بان ما تم استحداثه من (ألوان)، يمتلك قدرات لا محدودة لاستبعاد  الدخان الذي كاد يصبح شبيها ً بظلمات كهف أفلاطون. حتى لو ان زائرا ً من كوكب آخر شاهد المهرجان لظن انه عثر على الفردوس المفقود! ولكن ليس فردوس الشاعر ملتن، بل جنة عدن التي تخيلها أبناء سومر، عند فجر السلالات!
   وهذه ليست مبالغة، ليس بوجود النصوص الفنية، أو هذا العدد الكبير منها حسب، بل بقراءة النزعة الجمالية الكامنة بمنح الواقعية ما حاولت الاتجاهات الحديثة ان تحققه: الفردوس!  فألانا لم تطغ بنزعتها الاستحواذية، أو إغفالها للنزعة (البدائية) التي شيّد بها الأستاذ فائق حسن تدشينات الرسم الحديث في العراق، بل عملت على إرساء حتمية ان التنوع وحده يجعل من الجمال حياة لم تخلق فائضة، أو قابلة للتدمير ـ والمحو.

[4] فائق حسن حاضرا ً
  مازالت الجولات التي كان يقوم بها الفنان فائق حسن، في نهاية أربعينات القرن الماضي وخمسينياته، برفقة عدد من أعضاء الجماعة البدائية التي أسسها، ومنهم عيسى حنا، الشيخلي، نوري مصطفى بهجت، خالد القصاب ..الخ، إلى بساتين بغداد، سجلا ً فنيا ً لنشوء الرسم (الواقعي) في العراق. مؤكدا ً أن هذا (المشروع) كان بمثابة الجسر بين تجارب فناني أول القرن، وتمهيدا ً نحو نهايته.
    إن فائق حسن الذي تلقى تعليمه في البوزار، بامتياز، عاد ليختار التلقائية ـ البدائية ـ بالتحرر من الأساليب التي درسها، لكن، ليستثمرها بقراءة بررت مفهومه للرسم الحديث. فأستاذ الرسم، بلا آخر يضاهيه، براعة في التلوين، لم يهمل دوره التربوي معلما ً للرسم في معهد الفنون الجميلة، وفي أكاديمية الفنون أيضا ً، ومدى تأثيره ببلورة خصائص اللوحة الفنية، في بلد غدا مستقبلا ً للتيارات الفنية الأجنبية، وأساليبها، كي يعترف الأستاذ فائق حسن نفسه، عندما نفذ سلسلة من التجارب التجريدية، في ستينيات القرن العشرين، بأنها (تلويص)!، مع إنها ـ واقعيا ً ـ شذرات لونية أكدت رهافته، وقدراته على بناء واقعية لونية لا يمكن فصلها عن الطبيعة، حتى لو كانت مشهدا ً من الرمال ـ والغبار.
    إن عددا ً من طلابه المشاركين في هذا المهرجان ـ قاسم سبتي/ عاصم عبد الأمير/ حسام عبد المحسن ..الخ ـ يتذكرون أن بدائية فائق حسن، مغايرة لفطرية منعم فرات، في النحت، لكنها تمضي بعيدا ً في الحفاظ على أسرارها، ونسيجها، مرة ثانية، بجماليات لا تكاد تراها العين، عدا التي تتمتع بعفوية ورهافة، لم تدمرها الحرفة، بل شذبتها، وسمحت لها أن تدوّن ما يماثل المقامات، لكن برموز مستمدة من: الطبيعة، وبتجريد يحافظ على موسيقاه، ودلالاته المحورة.
     على أن هذا المهرجان اللوني، بحضور واقعية فائق حسن، يدحض محاكاته، أو استنساخه، لأن هذا الحضور (الرمزي) المتحقق عمليا ً، يسمح بتأمل تاريخ ترسخ بردم القطيعة مع الطبيعة، بتنويعاتها، واختلافاتها، بتحقيق كل ما مهد له جيل الرواد، من علاقات غير مستعارة، وغير زائفة، بدواعي الحداثة، أو الانشغال بمظاهر المدارس الطليعية، مع الواقع.
    انه ليس شرطا ً مدرسيا ً، يتلقاه الطالب، بل هو جزء من تربية (جمالية) تمهد للوعي بفهم أعمق للـ (الايكولوجيا) التي لا يمكن عزلها عن مجالها الثقافي/ الشعبي/ والحضاري في الأخير.
    وبقراءة عامة للرسم في الوطن العربي، فان عقود الثلاثينات وصولا ً إلى الخمسينيات، في مصر أو في المغرب العربي، في بلاد الشام أو في العراق، تكون قد عملت استعادة (البصر)، بمعنى، الحفر في الشخصية، كي يأتي الإبداع وقد استوفى أدواته، لا في محاكاة الأساليب السائدة في حداثات العالم، بل تدشينا ً لمسار يبدأ بعادة دراسة الجدلية القائمة بين السماء والأرض. فإذا كانت حداثات أوربا، قد خرجت من (المصنع) ـ معه أو ضده ـ وبتقنيات متقدمة تمتلك تاريخها الطويل في الرسم، فان الفن الشرقي، وفي الوطن العربي تحديدا ً، لديه الكثير الذي يكمل المشهد (العالمي)، بالحفاظ على هويته اللا شعورية، العميقة، الرمزية، والواقعية، بدل أن يبقى مكتويا ً بالفصام، وعقدة تقدم أوربا، بوصفها رائدة للحداثة، والابتكار.
     هذا الحضور لرسام كبير، كفائق حسن، لا يخص بنية الرسم، والمهارات ذات الخبرة، والرهافة، ولا يتجلى ببلورة جماليات الطبيعة، وقسوتها، حد تحولها إلى سيمفونيات صاخبة، تعبيرية، ورسومات سوريالية فحسب، بل في مدى تجذر مساحة الانشغال بكتابة واقعية حافظت على اتساع ضفافها، وليس على انغلاقها. فالتنوع الأسلوبي، هنا، منح (الهوية) بعدا ً مضافا ً لواقعية الرسم الحديث، بالتوحد نحو الداخل، ومعه، وليس الانفصال عنه، أو إغفاله، أو السفر بعيدا ً عنه. فالخيال يأخذ الدور ذاته لمنجزات حضارة بلاد وادي الرافدين، رائدة بإرساء برامجها في الديمومة، والابتكار.

[5] إشارة أخيرة
   بعد تتبع النشاطات المشتركة، والمعارض الشخصية، لأكثر من نصف قرن، اثبت ملاحظة مفادها أن هناك، في الرسم كما في الشعر، في المسرح كما في الثقافة العامة، النخب التي لديها ما يؤهلها لمناقشة المجالات التخصصية، إلا إنها، بحكم واقعها أصبحت أكثر عزلة عما يتطلب فتح مجالات اكبر لاستثمار الفنون في الحياة الافتراضية ـ والواقعية معا ً. وكي لا نخترع وهما بإمكان المتلقي ـ في أي عالم غير مصاب بظلمات الأزمنة الغابرة، وبملوثات المجتمعات ما قبل الحديثة ـ أن نجري مقارنة بين انجازات (النخب) والجمهور العام. إننا سنصدم بوجود فجوة بينهما، اعتقد إنها أفضت بهجرة مؤلمة لأكثر المواهب الفنية قدرة على منح الجمال مجاله التربوي ـ الأخلاقي، والحضاري في الأخير.
   على أن البديل أو التعويض سيسهم في حتمية تجدد الإرادة المتحضرة في البناء الإبداعي بعيدا ً عن الإسراف في التدمير...، ليلخص: هل بإمكان الفن ـ وجمالياته ـ  العمل على ردم الفجوات، واستئناف الحوار الأعمق بين بناة المجتمعات، وبين من يعمل على هدمها، أو إعادتها إلى الماضي؟
   ربما المتلقي ما قبل عصر (كافكا) يدرك لماذا ظهرت تيارات عملت على هدم الفن، المجتمع، والأعراف، للبحث عن عقار آخر لعلل بات من الصعب تلافي ازدهارها، كي يصبح عالمنا ـ ومنه المتقدم بتقنيات الحداثة وما بعدها ـ إنما أيضا ً أصبحت محدودة التأثير، ضمن نخبها، وليس على صعيد الوعي العام.
   فمع تدشينات الفن الحديث، في الوطن العربي، بعد الحرب العالمية الأولى ـ ومن غير التقليل من الاستثناءات الأسبق ـ انبثقت ملامح سرعان ما عملت لتشكيل علامات حضارية لم يكن لحضورها ما يذكر. بل ظهرت تجارب فنية سرعان ما دخلت في المهرجانات الدولية، رافدا ً لليباب ـ بل للعقم ـ الذي واجهة حضارة العصر، في عزلتها، انخلاعها، اغترابها، وما واجهته من استلاب يخص حياتها اليومية، كالهواء للتنفس، أو الحصول على الماء الصالح للاستخدام البشري، وليس التعرض لصدمات مروعة، مبنية على استحداث اختلافات لا سبيل لمعالجتها إلا بالمزيد من الدخان، والمزيد من انتهاك حقوق الطفل، المرأة، البيئة، والحياة عامة.
   اعترف بان هذه الإشارة لا علاقة لها بأجيال حلمت بإبداعات مغايرة للوضع الذي حول الكثير من المدن إلى متاهات، والى أزقة للموت، حتى كاد الفن أن يكون من الماضي، ولا اثر له، بين المجتمعات، وهي توغل ببناء دولة (الدخان) و (الخراب)، وما بعد الموت.
   ولا مجال للحديث عن أسباب انسحاب (النخب) الثقافية/ الفنية، أما بدورها المحدود، أو بهجرتها بحثا ً عن عالم آخر، أو القنوط والقبول بالهزيمة. فكما ثمة ما لا يحصى من العوامل قامت عليها حداثات العالم، فان ما لا يحصى من العوامل ـ اليوم ـ تعمل على بناء عالم من غير فن.
   وكي تستعاد المخبآت الروحية للإنسان ـ ولا اعرف كيف! ـ اضطر للحديث عن أقدم العلامات الفنية، مع اكتشاف النار، والكهف، والأدوات البدائية. تلك الفنون المبكرة بوصفها نشأت للعبور من عصر (الغاب) نحو (المدينة)، بينما نصدم اليوم ليس بموت (الفن) أو موت (الإنسان)، بل بما تحدث عنه اينشتاين نفسه: عصر الحرب بالحجارة وأغصان الأشجار! بعد فشل الجميع بالحفاظ على ما شكل عبقرية الإنسان، عبر آلاف السنين.
    ومع إن الخسائر المادية باهظة، ومع إن الخسائر بالأرواح بلا حدود، إلا أن لدى الفنانين ـ أو ما تبقى منهم ـ ما يتمسكون به: العودة إلى الماء، إلى السماء، إلى التراب، بإيجاز: بعث اللا وعي ـ واللا شعور أيضا ً ـ ومنحه لغز الآلهة الأم ـ إنانا وكل الأسماء التي مثلت دور الأم الكبرى ـ التي كونتها الأزمنة، لصياغة علامات تحتمي بها، كأنها تمارس لغز الطيور وهي تبني أعشاشها بحجم قلوبها، يعمل الفنان ببناء علاماته بحجم أحلامه، وهو يراها تتلاشى أحيانا ً، وفي الغالب، تبقى تحمل نقيض الموت.
* عضو رابطة نقاد الفن [الايكا]
22/9/2016
Az4445363@gmail.com




 

وثائق البنتاغون- كيف خططت أميركا لتدمير شبكة مياه الشرب العراقية وما الهدف النهائي؟-صائب خليل

وثائق البنتاغون- كيف خططت أميركا لتدمير شبكة مياه الشرب العراقية وما الهدف النهائي؟
صائب خليل
20 أيلول 2016
أعلنت الولايات المتحدة امس أنها قصفت 50 هدفا في موقع كيمياوي لداعش في الموصل.(1) وقالت ان الأهداف كانت مراكز تستخدمها داعش لإنتاج مواد مميتة مثل غازي الكلور والخردل.

لم يشر البيان الذي أعلنته القوات الأمريكية أعلاه إلى ان تلك "المواقع" هي معمل الموصل للأدوية! واتبعت أكثر وسائل الإعلام “العراقية” ومنها "المدى"، ذات الخط، ولم تشر إلى تلك الحقيقة ايضاً، كما أشار الزميل علاء اللامي في مقالة له. وللعلم فأن المعمل كانت وزارة الصناعة قد اهلته بعقد مع شركة أردينة عام 2012(2)
.
ولكن هل تم تحويل المعمل إلى معمل للأسلحة الكيميائية حقاً لتقصفه اميركا؟ إن بعض الأكاذيب لا يحتاج كشفها أكثر من طرح السؤال المناسب، والسؤال المناسب هنا: إن كان مصنعاً للأسلحة الكيمياوية، فكيف تقصفوه؟ كيف تفجرون موقعا ومخازناً داخل  المدينة، تعتقدون انها تحتوي غازات الكلور والخردل الشديدة السمية؟ الا تخشون انتشارها بين الناس الذين تدّعون انكم جئتم لإنقاذهم؟ إن وسائل إعلامنا لم ولن تطرح مثل هذا السؤال طبعاً.

لكن السؤال نفسه تم توجيهه لأميركا حين قصفت عام 1998، معمل الشفاء السوداني للأدوية، وبنفس الحجة. وقبل سبعة سنوات من ذلك نجد قصة وحجج مشابهة في قصف اميركا لمعمل حليب أطفال في العراق عام 1991 في منطقة أبو غريب، بحجة أن المعمل كان مصنعاً للأسلحة البيولوجية. (3)

أميركا تعلم أن متطلبات مصنع الأسلحة الكيمياوية شيء مختلف تماما عن صناعة الأدوية. إنه يتطلب إجراءات امنية خاصة وأبنية خاصة. أبواب خاصة وشبابيك خاصة وحاويات خاصة وانابيب خاصة وعمال مدربين بشكل خاص، وهذه كلها تجعل معمل الأدوية غير مناسب، حتى إن افترضنا انه كان يحتوي المواد الكيمياوية اللازمة. وكشف الشهود ومن بينهم البريطاني "توم كارنافن" (Tom Carnaffin) والذي عمل كمدير تقني للمعمل في الفترة من 1992 إلى 1996 أن المعمل لم يكن صالحا لإنتاج الغازات السامة، وأنه لم يكن هناك اية إجراءات امنية فيه وكان بإمكانه ان يدخل في اية غرفة في المعمل، رغم التشدد الأمني في السودان في تلك الفترة. (4)

لم تنتشر بعد القصف أية غازات سامة او جرثومية في الموصل أو السودان، أو أبو غريب. لأنه كما يبدو، لم تكن هناك مثل تلك الغازات أو الأسلحة الجرثومية أصلا. ولابد ان الولايات المتحدة تعلم ذلك جيداً، ولهذا بالذات فقد قصفت المعمل، وإلا لكانت الكارثة قد فضحت القصد الأمريكي بتدمير شعوب المنطقة. لكن الأذى قد حصل في السودان وفي العراق. فحسب «ذي إنترسبت» فأن المصنع السوداني كان يلبي 90 في المئة من احتياجات السودان في الأدوية، وأدى تدميره إلى وفاة عشرات الآلاف من المرضى، بينهم مصابون بالملاريا والسل، إضافة إلى التدمير الصحي للباقين.

إننا حين نقول ان اميركا كانت كاذبة وإنها تعلم ان المصانع خالية من أسلحة الدمار الشامل، إنما نأخذ الجانب الأنسب لأميركا. فلو كانت اميركا صادقة في ادعائها فأن مثل هذا القصف سيكون حرب إبادة كيمياوية على الشعب العراقي والسوداني! ومع ذلك يبقى السؤال محيرا وصعباً: لماذا يفعلون ذلك؟

ربما يساعدنا على الجواب ان نلق الضوء على الحادثة التالية.
في عام 1991 خلال حرب الخليج، لم تكتف اميركا بتحطيم الجيش العراقي، بل قصف سلاح الجو الأمريكي عن عمد، منشآت ماء الشرب العراقية ودمرها. وبعد الحرب فرضت الولايات المتحدة حظراً يمنع استيراد المواد اللازمة لتنقية مياه الشرب. ونتجت عن ذلك وفاة عشرات الآلاف من العراقيين الكثير منهم من الأطفال. وبينت الوثائق التي تم نشرها من "وكالة استخبارات الدفاع" (Defense Intelligence Agency) أو (DIA) أن وزرارة الدفاع الامريكية كانت على علم مسبق بنتائج ذلك القصف وقرارات الحظر على الشعب العراقي، ومن ضمنها دراسة بعنوان: "نقاط اختراق نظام تنقية المياه العراقية" (" Iraq Water Treatment Vulnerabilities."). (5)



وقد وجدت إحدى تلك الوثائق(6) وفيها تقييم مصادر المياه في العراق، والتأكيد أنه لا يستطيع الاعتماد على الأمطار وأن المحتوى الكيميائي لتربته يحد من إمكانية حفر الآبار وأن مياهه الجوفية ملوثة بمياه المجاري. وكتبت الدراسة أن "العراق سيعاني أكثر وأكثر من نقص المياه الصالحة للشرب بسبب نقص المواد الكيميائية والمرشحات اللازمة لها. وأن ذلك سيجعل من المحتمل "حدوث الأمراض وانتشار الأوبئة" وذكرت بان الأطعمة المحلية يمكن ان تصاب بالتلوث، وبأن العراق سيجبر على إغلاق محطات التصفية تدريجيا، وكذلك الصناعات التي تحتاج إلى الماء الصافي. ويشير التقرير إلى عدم امتلاك البلاد للاحتياطي من مواد التصفية والمرشحات الصالحة وان المياه النقية المحدودة "ستحول إلى المناطق ذات الأولوية الأكبر"، مؤكدة أن "الانهيار الكامل لمنظومة مياه الشرب العراقية قد يحتاج إلى ما لا يقل عن ستة أشهر"!

وتشير الوثائق الخمسة الأخرى إلى ان التأثير سيصيب الأطفال "بشكل خاص" وتحدثت عن تفاصيل ذلك. وتحدثت الوثيقة الأخيرة عن انسب الطرق الإعلامية لإلقاء اللوم في الكوارث المنتظرة على صدام حسين. (7)

نلاحظ أولاً، أن أميركا تفهم جيداً ان ما سيبقى للعراق من مواد واجهزة تنقية، وما سيتمكن من تهريبه منها مستقبلا، سيتم تحويلها إلى "المناطق ذات الأولوية"، اي إلى صدام حسين وحاشيته وربما ما يهمه من معامل. أي أنها تعي جيدا أن المتضرر من هذا الحظر والتدمير هو الشعب العراقي وحده، ورغم ذلك فهي تمضي بخطتها واعية بشكل كامل لنتائجها!

الهدف إذن واضح، وأميركا لم تقصف اليوم موقعا كيمياويا لداعش، لأن داعش فرقة إرهاب إسرائيلية تدعمها اميركا كما بينت احداث عديدة في سوريا والعراق، ولأنه لو كان معمل أسلحة كيميائية لرأينا آثاره واضحة بعد التفجير بشكل حرب كيمياوية على الموصل. لكن لا شيء هناك! لا أسلحة كيميائية ولا بيولوجية، وإنما كان الهدف إيجاد حجة لتدمير معمل الأدوية كخطوة أخرى في خطة تدمير الشعب العراقي.

إنها خطة شيطانية وحشية أن تقوم دولة بحجم الولايات المتحدة بقتل الشعب العراقي البسيط والصغير، مع سبق الإصرار والترصد والتخطيط الدقيق! ويعود السؤال: ما الذي تستفيده أميركا من قصف معامل أدوية في السودان والعراق؟
لا شيء، إلا إذا كانت مكلفة بها من جهة تستفيد منها وكان تدمير هذين الشعبين وبقية الشعوب العربية، من ضمن أهدافها! إننا نعرف جميعا قصة النصف مليون طفل عراقي الذين قالت مادلين اولبرايت صراحة ان قتلهم ليس ثمنا كبيراً لتحقيق الأهداف الأمريكية، وهي ماضية في طريقها لتحقيقها!

 إن اميركا لن تؤدي مهمتها بضرب الشعب العراقي بأسلحة الدمار الشامل مباشرة، فما زالت لعنة هيروشيما تلاحقها، لذلك فهي تجد بدائل تؤدي إلى نفس النتيجة، ولكن بضجيج أقل: بتدمير بيئته باليورانيوم المنضّب وخنق حاجاته الحياتية بالحصار وسوء التغذية وسلبه الأمان وحرمانه وسائل الدفاع عن نفسه امام العوامل الطبيعية والجرثومية بتدمير معامل الأدوية، وهكذا وبدون ان تتحمل اية مسؤولية، تمضي ضحيتها لتموت ببطء وهدوء!

(1) الولايات المتحدة تعلن تدميرها 50 هدفا في موقع كيمياوي لداعش شمال الموصل
 http://www.basnews.com/index.php/ar/news/iraq/299052
(2) المستلزمات الطبية في نينوى تبرم عقداً استثمارياً مع شركة أردنية
 http://www.dananernews.com/News_Print.php?ID=2562
(3)  Sudanese factory destroyed by US now a shrine - CSMonitor.com
 http://www.csmonitor.com/World/Africa/2012/0807/Sudanese-factory-destroyed-by-US-now-a-shrine
(4) Was the plant in Khartoum a weapons factory?
http://www.whatreallyhappened.com/RANCHO/POLITICS/SUDAN/sudan.html
(5) الولايات المتحدة دمرت منظومة الماء في العراق عمداً
http://projectcensored.org/5-us-intentionally-destroyed-iraqs-water-system/
(6)  IRAQ WATER TREATMMENT VULNERABILITIES (U)
 http://www.gulflink.osd.mil/declassdocs/dia/19950901/950901_511rept_91.html
(7) six documents partially declassified on the Pentagon’s web site
 http://www.gulflink.osd.mil
(*) جرائم اخرى: القصف الأميركي لمستشفى قندوز... التبريرات أفدح من الجريمة
 http://www.al-akhbar.com/node/243677