مروان القادم من يلد
- كل انسان مثل القمر. له جانبه الثاني الذي لايريه لأيّ أحد. مارك توين
عدنان المبارك
أمر غريب. نحن اثنان في قارب كبير يشق ، برتابة، مياه شط العرب. واحدنا لا يعرف الآخر. كان أبيض البشرة وأشولا. أكيد أنه ليس من هنا. سألته فيما اذا كان يتكلم العربية أواحدى لهجاتها. ضحك بخفوت وهز رأسه بالإيجاب. في الأخير فتح فمه :
- أنا من يلد.جئت للتجارة.
كانت لهجته مضحكة : عربية من الموصل وكردية.، و لربما من قومية أخرى أيضا.
لم أقل شيئا رغم أن سؤالا دار في رأسي : ماهذه التجارة التي تريد ممارستها هنا بعد أن قضت الحرب الأخيرة على كل شيء يصلح للتجارة. ساد الصمت عدا ضجيج الماكنة والمويجات المسموعة بالكاد. أنا لا أعرف الكثير عن يلده هذه . لذا وجدت أن سؤالي عنها طبيعي. أجاب : - لا أعرف من أين أبدأ. بلدة صغيرة فيها عرب وأكراد ويزيديه وتركمان و آشور حتى أني لا أعرف من أنا. الكل شطّار وعمليون أيضا ، هل تعرف بأنهم وجدوا مسّرات مشتركة وحتى أن أحدهم وعلى الأكثر كردي خلق لغة جديدة مشتركة. عمدة البلدة سخر في البداية من الفكرة الا انها تراجع وأعتبرها تجربة ثمينة تعود بكثير من المنافع و( أوه ، لتكن خاصة بنا ، لكن لامانع اذا قلّدونا...).
لباسه لا يختلف عن اللباس الشائع : سروال وسترة وكوفيه على الرأس. عيناه خضراوان حرمتا من البريق ، كما حدست ، بفعل الاثنين : الحاضر والماضي القريب. ربما كان جنديا في حربنا الأخيرة. قدّرت عمره بأربعين سنة. كل شيء فيه يدل على الهدوء والخلق القويم. وهذا يشجعني على عقد محادثة طيبة معه. اذن سألته من جديد فيما اذا كان متزوجا وعنده أطفال : - أربعة أطفال. اثنان يواصلان الدراسة في جامعة الموصل. و الباقيان صغيران لم يذهبا الى المدرسة بعد. كلهم قرة عيني وعين الأم. أقول لك يا أخي لا أحد ينسينا هموم الدنيا مثل الأطفال. لدي حقل وأعمل في البناء وتصليح الأنابيب أيضا. الحمد له ، فالعمل يسد احتياجاتنا. وأنت يا أخي ؟
عليّ ب( صقل ) الجواب والا هل سيفهمني اذا قلت بأني كاتب متقاعد انتهى به الأمر الى فقدان الثقة بكثير من البشر والأحوال. وجدت أنه من باب الايضاح لابد من أن أتكلم عن مآسينا الأخيرة بشكل خاص لكني تراجعت وأكتفيت بكلمتين ( كاتب متقاعد ). وكي لا يأتيني سؤال آخر اضفت بأني أرمل ولي ابنان أحدهما محامي والثاني طبيب . شعرت بأن نظراته اليّ قد تغيّرت. ندمت على أني لم أكذب كثيرا كأن أقول بأني أرمل وكفى ، أما كلمة ( كاتب ) فهي فضفاضة. وقد تعني موظفا في احدى دوائر الدولة. الرجل لا يدخن ، فقد رفض شاكرا السيجارة التي قدمتها له ثم قال :
- كنت مدخنا نهما في اثناء الحرب لكني قررت الكف عن هذه العادة الرذيلة خاصة حين أخبرني الطبيب أن رئتي ضعيفتان.
توقف عن الكلام وراح كل واحد منا ينظر الى بساتين النخيل الذي صار هزيلا نصف ميت منذ الحرب. لا أعرف من أين جاءتني الرغبة في مواصلة الكلام .
قلت :
- انظر ! هذا البستان الذي عبرناه قبل قليل. في بيته ولدت أمي .
لابد من أن أوضح كيف التقينا نحن الاثنين في هذا القارب. كانت مصادفة بحتة. هو يريد الذهاب الى المشاوير المشهورة بصنع السبح والبسط ، أما أنا فأردت التمتع بسفرة نهرية في منطقة منحدرنا التي صارت الآن أخرى : كئيبة ، مسحوقة ، تنظر الى كل شيء بعداء وريبة. الرجل اسمه مروان. قاربنا بخاري وسائقه لا يلتفت الينا. ضجيج الماكنة ليس بالعالي لكنه أعلى بالطبع ، من ضجيج المويجات. لا أعرف ماهذه الماكنة ذات الضجيج الناعم. كل البساتين التي مررنا بها ليست تلك التي عرفتها صغيرا. ( يمّه هاي الحرب ما بقّت شيء ). كلمات الأم والجدّة التي كانت تتكرر كل يوم تقريبا. مررنا بنهر صغير كان على ضفتيه يلطم رجال يضربون بالأسواط المعدنية ظهورهم التي غطتها الدماء. منظر غريب في منطقة هذا النهر. مروان وكما يبدو أتعبه الحديث معي. صار يفضل الصمت ومراقبة الضفة العراقية بعين يقظة. التفت السائق الينا وقال مشيرا بيده المعروقة الى البساتين القريبة ( هايه المشاوير ). تأهب مروان الى القفز من القارب. لا أعرف كيف مرقت برأسي فكرة زيارة هذه القرية. أخبرت السائق برغبتي. أوضح لي أن العودة ليست بالسهلة وعليّ أن أخرج الى الشارع العام وأنتظر من ينقلني الى احدى الجهتين : الى قريتنا الكبيرة أو الى المدينة. قلت له : طيّب ، سأجازف.
أعترف بأن حالتي النفسية منذ مساء الأمس حرجة. فقد رحل اثنان من المقربين اليّ. الأول كاتب كلبيّ من الطراز اليوناني وكنت قد صادقته منذ عهد الملوكية ، وآخر من روسيا ، قرأت له بالمصادفة قصصا ورواية تنتمي كلها الى ذلك الصنف الذي أعتبر نفسي ، ومن دون أيّ أعلان وتبجح ، منتميا اليه. المشاوير ، المشاوير . مكان له تأريخ معيّن لكني لا أتذكره. عدت الى مروان. أسأله :
- سيّد مروان ! أظن أن الشاعر مسعود محمد من أبناء بلدتكم. هل لايزال موجودا أم أختفى مع العهد السابق ؟ { سكت قليلا ثم قال بصوته الخافت :
- اختفى ومعه رشاشته التي لم تكن تفارقه ليل نهار. أخي نعمان ! نزل علينا وليس منذ اليوم غضب سبحانه وتعالى. يروح واحد ويجي الثاني. ولا أعرف من هو أسوأ الجميع .هذا كلام طويل. أندم أحيانا على أني تركت التدخين ...
أراد أن يتكلم عن أشياء أخرى. ربما سيطرح بعض همومه في أثناء ذهابنا الى المشاوير. كانت الساعة قد اقتربت من الثالثة ، والطقس خريفي غير مؤذ كما يقال. سوق صغيرة فيها دكاكين لايتجاوز عددها العشرة. كان مروان قلقا بعض الشيء. سألني اذا كنت سأقف في الشارع العام بانتظار سيارة تقلني الى البصرة. اجبته بأني سأشرب الشاي أولا في هذه المقهى. رفض دعوتي وودعني بالقول : موفق أخي ، مع السلامة. كان الشاي طازجا والرواد قليلون. جلست على تخت بالقرب من رجلين انحنى أحدهما عليّ وسألني فيما اذا كان مروان من معارفي. أجبته بالنفي. سعل قبل أن يقول : - أنا أتذكره وأكيد أنه لا يتذكرني. الفضل لذاكرتي القوية التي هي مضرب الأمثال في المشاوير.
أخبرني الرجل بأنه كان جنديا لكن من فصيل آخر غير فصيل مروان. ساروا من الفاو الى بيوتهم في المشاوير وغيرها. قال أيضا : - أنتبهت الى أن مروان اختفى في ذاك البستان ( أشار بيده الى بستان ليس بالبعيد ) ، وها هو اليوم يتوجه الى هناك أيضا. مسألة كلها ألغاز، فماذا يفعل انسان غريب في بستان لمرتين في حياته. تذكرت بأنه كان يحمل كيسا ليس بالصغير حمله طوال الطريق بين الفاو والشاورية وتوجه معه الى البستان. كان القصف مستمرا وخشي الجميع أن يصل الموت الى قريتنا أيضا لكن رغم ذلك توجه مروان الى البستان الذي لايبعد كثيراعن الحدود النهرية. ربما أراد قضاء حاجته ، حينها واليوم أيضا ؟ بعد حوالي الساعة عاد مروان الى السوق وهو يحمل كيسا ليس بالصغير. وكان ذلك الرجل ذو الذاكرة القوية قد ترك المقهى على عجل. أشرت اليه بأن يجلس معي . قبل الدعوة. رغم اعتدال درجة الحرارة كان العرق ينضح من جبينه. قد يكون الكيس ثقيلا. أخبرته بحديثي مع ذي الذاكرة القوية. قال بما معناه انه لا يتذكر أي شيء عن ذهابه الى البستان في المرة الأولى. سألته فيما اذا اشترى سبحا وبسطا أجاب مشيرا الى الكيس :
- هذه هي . بالقرب من المقهى كان ، بالفعل ، دكان لبيع السبح والأبسطة لكن مروان لم يكن هناك.
أستر بارك – تموز / يوليو 2015
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق