بحث هذه المدونة الإلكترونية

إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

السبت، 25 مايو 2013

سبع قصص قصيرة جدا ً- عادل كامل


سبع قصص قصيرة جدا ً


عادل كامل

بحث

ـ لا تبحث عن الشيء الذي لا وجود له!
ـ وهل كنت ابحث كي أجدك، أم فقدك كي ابحث عنك!

اعتراف
ـ وجها ًلوجه، أخبرك، انك لم تبق أحدا ً لم تكذب عليه: على الناس بلا استثناء، وعلينا جميعا ً، وعلى الله، وعلى نفسك ...
   ابتسم الآخر وقال هامسا ً، قبل ان يتوارى:
ـ هذا ما تعلمته منك: الصدق!
ـ إنما سأبقى أتتبع خطاك، أينما ذهبت، فدوري لم ينته بعد. سأرافقك، كظلك، كالصدى يدلني عليك، كي أتسلل إلى مناطقك التي ... لم...، ولن تصل إليها.
ـ ها أنا ادعك، للمرة الأولى، تدرك انك لن تفتح الباب التي لا وجود لها. فانا وأنت، مثل الموت الذي يمتد عبر الولادات، ومثل الحياة التي لانهاية لها.
ـ فانا ـ إذا ً ـ لم اكذب على احد، لا على الله، ولا على نفسي، ولا عليك.  فانا شهدت موتي قبل ان أولد، وسأبقى أولد بعد موتي.
ومضات
ـ انظر، انظر إلى تلك الومضات...، هل تراها؟
ـ أراها، أراها تمتد خارج مدى بصري، وارها بلا حافات، ولا حدود لها.
ـ إنها، في يوم ما، كانت مجرات.
ـ لكن هذه الحقيقة لا تبعث في ّ المسرة، أو الرضا!
ـ ومن طلب منك ان تشفى!
أصوات
ـ عندما كنت تستطيع ان تصرخ، لم يكن صوتك يذهب ابعد من انفك...، فهل باستطاعة صمتك ـ الآن ـ ان يذهب ابعد من ذلك...؟
    لم يجب، فقد دار بخلده، انه لم يكن منشغلا ً بخلاصه، فقد كان منشغلا ً بأمر آخر، كان يمضي الوقت وهو يصغي إلى الحدود التي عبرها الصمت؛ صمتهم، أما الآن، فانه ـ قال من غير ان يفتح فمه ـ لا يمتلك قدرة الامتناع عن صد أصواتهم، وقد انهالت عليه من الجهات كلها.
أطياف
   كما لم تغب عن ذاكرته مشاهد الإمساك بالرجل، في ذات مرة، وتمزيقه، وتحول جسده إلى أجزاء متناثرة، غطت الأرض، وتلاشت، كأنها لم تحدث، قبل ساعات، ولم يكن الرجل، الذي توارى، وغاب، وحده صمام الآمان. لم تغب المشاهد المتتالية، وهو يستعرضها، الشبيهة بأطياف أو لا مرئيات انبثقت أمامه: رجال قدر لهم إدارة اللعبة، بما كانوا يتمتعون بها من سلطات فوق بشرية. ثم، بعد ساعات، من غيابهم، تزحف كتل رمادية، متفرقة، ومتراصة، مدججة بالأسلحة، في مواجهات، فتشتعل النيران، وترتفع أعمدة الدخان ملونة، ومن غير ألوان.
   أوقف الجهاز، محدقا ً في الفراغ: رجال، لعقود، يمسكون بهذا الذي غدا ساحة حرب. فجأة، كي يجهل من يقتل من...، ومن يهدم بيت من ...، من ...، ليسمع، في صمت الليل، من يطرق الباب، وينادينه من وراء الباب الخشبي:
ـ أنا هنا، أيها العجوز..
    من يكون هذا ..؟ سأل نفسه، وهو يفتح الباب، وحدق باستغراب، بل بشرود، في محيا  الآخر:
ـ من أنت ..؟
ـ أنا، أنا، أن هو أنت...، أنا هو الولد الخجول الذي كرست حياتك كي تبني له بيتا ً صغيرا ً يموت فيه، وليس ان تخرج كي تبحث عن عدو ...
لم يدعه يكمل:
ـ وهل جئت لهذا السبب، بعد ان غبت عني سنوات طويلة...؟
ـ جئت أساعدك على الموت!
  يساعدني؟ ذلك لأنه، استعاد اللحظة التي شاهد فيها كيف أطاحوا بالرجل، وتناثر، كأنه تمثال تحول إلى أجزاء، وشظايا، وهو يحدق فيه، يأمل ان يراه، وهو يلوّح له بوردة بيضاء، ولكنهم لم يتركوا شيئا ً من جسده.
ـ وما هذا الذي تحمله..؟
ـ احمل الوردة البيضاء التي كنت تود ان تقذف بها...؛ الوردة التي تركتها تسقط، ولم تقدر أصابعك الإمساك بها، أنا هو من التقطها من الشارع، منذ سنوات بعيدة، بعيدة جدا ً، وهي التي احتفظ بها، كي أعيدها إليك.
ـ لك أم لي ...؟
      تمتم العجوز مع نفسه، وقد أعاد تشغيل الفيديو، متتبعا ً رؤية مشاهد أخرى لرجل شارد، يهرب، يبحث عن ممر...،بعد ان وجد جسده  محاصرا ً من الجهات كافة.
ـ لك ولي!
   ومن غير إرادة، وبشرود، رفع أصابعه، فوجدها لا تقدر على حمل الوردة، فتركها تسقط على بعد مسافة سنتمترات، بين محياه وبين الشاشة.
مسافة
   وهو يفكر بإطلاق رصاصة في رأسه، أعاد قراءة الكلمات التي دوّنها، كوصية:
ـ" هذه الممرات التي توغلت فيها، وحدها أصبحت منفذا ً لك، إن تقدمت أو تراجعت، فأنت لم تخترها، ولا هي اختارتك، إنما لا مناص انك أصبحت جزءا ً منها، وتلك هي حريتك. ألم ْ أخبرك، عندما كنا في المنفى، ان اللا حرية هي تحديدا ً حريتنا، وانك محكوم بشروطها، التي غدت، بالتداول، شروطك، فانك عشت كي تبلغ هذا الإدراك: إستحالة الفرار منه. وجود طالما تخيلت مدى توغله فيك، وتوغلك فيه، فالهواء عندما ينعدم، ولا تجده، تكون قد عثرت على أثره، حاضرا ً كشبح تراه أينما ذهبت، وافقت، فهو كوّن اختيارك الذي لم تختره، كانعدام الصوت وقد أصبح هو صوتك الوحيد. لا عزلة أبدا ً وأنت تتوغل فيها بجوار ما لا يحصى من الذين لا يختلفون عنك، كميت بين موتى، وكمجذوم بين مجذومين، في مدفن سابق على وجودك،  طالما تعثرت في دروبه تارة، وطالما هرولت في مخفياته تارة أخرى، لكنك أبدا ً لست إلا الممر كلما حاولت مغادرته توغلت فيه، كالمرآة التي حاولت ان تمحوها من حياتك لتجدها قد تحولت إلى باب، والى طريق، والى منفى. ألم ْ أخبرك، منذ البدء، انك كلما بحثت عن ذاتك ازدادت استحالة عنك، وان العكس، كما أخبرتك، ليس إلا وهما ً آخر كنت تتبع أصداءه، فلا أنت هو الصوت، ولا أنت هو الصدى، ولا أنت هو من غاب، ولا أنت هو من سيولد. أنت هو الصفر وما عليك ان تفرح لكسب، أو تحزن لخسارة، فأنت هو الإقامة، وأنت هو فجوتها؛ ليس لديك إلا ان تراقب كيف تؤدي دورك، وتتفرج عليه، وأنت ترى الفراغات علامتك في العبور. ذلك لأنك لم تخلق كي تصل، إلا كي تتعثر بغيابك وبما هو في حدود هذا الغياب..."
   إلا انه ترك أصابعه تتحرك بتلقائية، كأنها بلا كثافة، من غير لون، وخالية من الحرارة، بلا ملمس، تتقدمه، فراح يمشي خلفها، من غير أسئلة، لأنه لم يعد يسأل نفسه، أهي التي كانت تجرجر رأسيه، وجسده، وإرادته، أم انه تركها تنفصل عنه، من غير ان يود ان يرى أكانت المسافة آخذه بالاتساع، أم بلغت الصفر.
شهادة
     بعد نصف قرن، قرر ان يزور قريته. فتجول في شوارعها، وفي أزقتها، فلم يثير وجوده انتباه احد، ولم يجد، هو الآخر، ما يثيره. كل هذا ـ دار بخلده ـ لا علاقة له بالماضي. إنما استعاد الصورة الأخيرة التي رسخت في ذاكرته: مقبرة القرية..فاتجه إليها، بحسب خارطة لم تمح أدق تفاصيلها في ذاكرته، وتوقف تحت الشجرة الوحيدة التي كان قد خاطبها، قبل ان يلوذ فارا ً، من القرية، ويغادر البلاد. جلس بجوارها، بذهن شارد، إنما أصغى إلى صوت خفيض خاطبه:
ـ  "لم يعد احد من اهلك، أو رفاقك، أو صحبك، على قيد الحياة، فمن نجا، بعد تلك المذبحة، توارى...، ومن مكث، مات كمدا ً. فهل جئت كي ترقد في المكان الذي ولدت فيه، أم انه هو الذي طلبك ...؟"
     لم يجد الكلمات التي يرد بها، لأنه بعد ان بحث عن فمه وجده غائبا ً، فراح يصغي إلى الصوت مرة ثانية:
ـ " أم لأنك لم تعثر على مأوى ترقد فيه ...؟"
    كانت المقبرة تمتد بعيدا ً في الأفق، من غير نهاية لحدودها. وعندما عثر على فمه، لم يعثر على الكلمات. وعندما عثر على الكلمات، لم يعثر على فمه. فأصغى:
ـ " صحيح، كنت أنت الشاهد الوحيد على ما حدث، ولكن ما معنى ان تدلي بشهادتك، أيها العجوز، بعد مرور هذه السنين ...؟"
ـ" نعم، أنا كنت الشاهد الوحيد على ما حدث، بعد ان اقتلعوا الأشجار، وتركوني كميت لا يستحق حتى الدفن"
 ـ"ولكن هل تريد ان تعرف شيئا ً...؟"
ـ " نعم"
ـ " ان أرواح الضحايا مازالت تخرج فجرا ً، وترفرف، بعد ان وجدت سكنها في هذه الأرض!"
ـ "    "
     لم يجد فمه كي ينطق بالكلمات التي ملأته. وعندما عثر عليه وجدها قد غابت. فأصغى:
ـ " إنها سكنت أرضها، ولم تغادر..." فرفع صوته:
ـ " أراها لم تغادرني أيضا ً..."
ـ " نعم"
ـ " ولكن ما معنى ان أدلي بهذه الشهادة...؟"
     للمرة الأولى لم يجد مبررا ً لمغادرة قريته، والعودة إلى البلاد البعيدة التي أمضى حياته فيها، فقد رأى المقبرة تمتد، وتمتد، وتمتد حتى شاهد احد الأزقة يتسع لخطاه، فسار فيه، متجها ً إلى بيته القديم، ثم رأى، خلفه، نوافذ بيوت، ونسوة، وأطفال يلعبون...، وشاهد، في الأفق، مساحات بيضاء، وأخرى خضراء. فشرد ذهنه، وهو يرى زمنا ً غاب، ولا اثر له سوى شجرة كبيرة، وجد لها بابا ً فدخله، فكاد يعثر على فمه لينطق به، لولا ان الشجرة أغلقته، وسمعها تخاطبه بصوت خفيض: حبيبتك التي كنت تهرول خلفها، مازالت تبحث عنك، فقد تم دفنها، هنا، في ّ، وهي التي طلبتك، لأنها، في كل موسم، كانت تورق، وترفرف، بانتظار عودتك.."
ـ " ها أنا أكون قد أدليت بشهادتي أخيرا ً..."
ـ " الم ْ اقل لك، ان الحرب لم تنته... وفرارك لم يكن هزيمة.."
ـ " ولكنه ليس نصرا ً.."
ـ " ذلك لأن روحك وحدها ستبقى ترفرف عند الفجر، ولن تتوارى مهما اشتدت عتمة الليل، فأنت الآن أكملت سفرك، وما عليك إلا ان تترك أجنحتك للطيران، ترفرف، مع هؤلاء الذين سكنوا ذاكرتك في هذه الأرض"

  
 


الأحد، 19 مايو 2013

الفنانة ليلى العطار -بقلم الاستاذ سيف الدين الالوسي



الفنانة ليلى العطار
بقلم الاستاذ سيف الدين الالوسي

حي المنصور من الأحياء النموذجية في مدينة بغداد , ليس فقط بجماليته , ولكن بتجانس سكانه جميعا والذين أصبحوا كمجتمع بغدادي عراقي نموذجي متطور مصغر .((حفظهم الله جميعا لمن بقى في العراق أو هج في أرض الله الواسعة )).....

منطقة الأميرات هي جزء من هذا الحي الجميل,تم تخطيطها من شركة المنصور وبيع الأراضي المقسمة الى مختلف العراقيين وبسعر دينار واحد للمتر في الخمسينيات .

هنالك ما يقارب الخمسين دارا,بنيت بالتوازي مع نهر الخر,بنيت معظم هذه الدور في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي , من ضمن تلك الدور دار لزوج الفنانة ليلى العطار المرحوم الشهيد عبد الخالق جريدان

قصفت هذه الدار مع الدار المجاور له في ضربة سنة 1990 وبعد قصف مديرية المخابرات عدة مرات , كونه ملاصق لأبنيتها

تركت عائلة الفنانة هذه الدار بعد تهدمه والمباشرة بأعادة بنائه , وأنتقلت الى دار شقيقتها ( الفنانة سعاد العطارو زوجها الأستاذ جميل أبو طبيخ الذين يسكنون في أنكلترا) والواقع في نفس الشارع وعلى بعد حوالي عشرة بيوت من دار الفنانة

هذا البيت ملاصق أيضا للمخابرات وقريب جدا من الدار الصيني , موقع لسكن رئيس المخابرات في بعض الأحيان (( سكنه فاضل البراك ,وسعاد الصباح وسبعاوي أبراهيم ومانع عبد رشيد والمرحوم رافع دحام )) للتأريخ

كان الجميع يحترمون الأهالي كل الأحترام هم وحماياتهم التي كانت معظمها تتصرف بمنتهى الأدب والأخلاق .

البيت الصيني هو دار كبيرة على النمط الصيني مع دار أخرى كبيرة كانت تابعة لعائلة حسو التجارية الشهيرة , أستملكت من قبل المخابرات في نهاية السبعينيات عند توسعتها , وفي المراحل الأخيرة من الأنتهاء من بنائها ....(لم يسكنها بيت حسو) .

هذه المنطقة تمتد من ساحة سباق الخيل الى نهر الخر , وهي منطقة كانت نموذج للجيرة والتجانس السكني والبيئي للسكان , حتى أصبحوا جميعا كعائلة واحدة عراقية كبيرة , وبعد أكثر من ثلاثين سنة من الجيرة ,,, كانت تضم عدد كبير من الأطباء والمهندسين والتجار والسفراء والسيياسيين السابقين كالمرحوم الطيب الذكر الرئيس عبد الرحمن عارف , والمرحوم رجب عبد المجيد , الدكتور عزة مصطفى أطال الله في عمره والأدباء كالمرحوم جبرا أبراهيم جبرا وغيرهم من الطبقة الوسطى المثقفة , بالأضافة الى عدد كبير من السفارات والقنصليات ودور السفراء والدبلوماسيين ،منطقة كانت نموذج للرقي والأمان والنظافة والأخوة .
كانت حماية هذه المنطقة تابعة الى المخابرات , والحق يقال ويجب أن يقال بأن الرجال المسؤولين عن حمايتها طيلة عقود كانوا في منتهى الأدب والأخلاق والامانة

تضررت بيوت هذه المنطقة بشدة خلال حرب التسعين لكونها واقعة بين المخابرات والأتصالات وقرب عدد من الدوائر المهمة , لكن الخسائر في البشر كانت شبه معدومة لترك أصحاب الدور دورهم بسبب تبليغهم من الجهات المختصة بضرورة الأخلاء( تكررت هذه الحالة عدة مرات أثناء وقوع أي عدوان مفاجئ )) وهذه حالة تشكر عليها تلك الجهات والحق يقال...( لم تحدث أي سرقة لأي دار طيلة حرب التسعين وبقية الضربات المفاجئة بسبب الأمانة العالية للمحافظين على أمن الدور ورغم معظم هذه الدور قد فقد شبابيكها وأبوابها بسبب العصف والقصف المستمر) .

في يوم 25 حزيران من سنة 1993 تم أذاعة بيان من الدفاع المدني بأنه سوف تتم تجربة صافرات الأنذار في ذلك الأسبوع , كل شئ طبيعي كوننا تعودنا على هكذا أمور وحتى الأطفال ( تعلموا أطلاق صافرات الأنذار بأفواههم لتخويف العجايز)!

في معظم الأيام من الأسبوع أرجع الى البيت في التاسعة أو أقل بقليل , حيث أتفرج نشرة التاسعة ومن ثم أصعد الى مكتبتي أذا كانت البرامج مملة وبرنامج (سو سو سو لا لاري مشتغل !!!) ,,لانه سيعاد مرة ثانية في نشرة الحادية عشرة ,أذا لم يستمر في بعض الأحيان من التاسعة الى الثانية عشرة ليلا دون أنقطاع .

كنت أصعد الى مكتبتي المتواضعة وأشغل البكرة مال أما أم كلثوم أو أغاني عراقية قديمة وحتى غربية قديمة , لأرسم في بعض الأحيان أو أقرأ ما أشتريه من كتب قديمة يوم الجمعة من شارع المتنبي ,,, رفيقي في هذه الرحلة اليومية تقريبا كأس من الأسكنجبيل وباكيت سومر الماني أزرق !!! ولحين الواحدة ليلا موعد الأخبار في لندن أو غيرها من الأذاعات .

كانت الحالة العامة متشنجة ودوائر المخابرات القريبة في حالات أخلاء مستمر (مثل أم البزازين ويومية جاك الواوي وجاك الذيب كولة أحد الأصدقاء من منتسبي هذا الجهاز ممن كان معي في الكلية وتطوع على المخابرات) .

في ليلة 27 حزيران, رجعت متأخرا بعض الشئ الى البيت, تعشيت مباشرة وصعدت الى المكتبة دون الأسكنجبيل لسماع الأخبار وقراءة صحف بابل والجمهورية والعراق !!!! كانت الجمهورية تمهد لكتاب المرحوم جبرا أبراهيم جبرا ( شارع الأميرات وقرب أصداره ) في القسم الثقافي منها .

البيت ساكنا والجميع نيام وأنا أستمع الى البي بي سي والتحليلات مع سكارة سومر ,,
كل شئ طبيعي ولم يذكر أحدا العراق في الأخبار,الساعة الواحدة والربع ليلا وما إلا صوت كصوت طائرة وأنفجار كبير جدا وعنيف هز البيت والشبابيك وفتح الأبواب , مع وميض قوي جدا ثم صوت صافرات الأنذار , ركضت مباشرة الى غرفة الأولاد أنا وأمهم حيث حملناهم بأغطية المنام دون شعور راكضين الى الطابق السفلي ,, عند منتصف الدرج وميض يعمي البصر ( الانارة موجودة داخل البيت ) , مع صوت أنفجار أخر أقوى من الأول ! عرفت من الصوت للمحرك النفاث أن المنطقة تقصف بالصواريخ !!! توالت الصواريخ والأنفجارات الهائلة وبمعدل صاروخين كل دقيقتين , ممزوجة مع أصوات تكسر الزجاج والأبواب وسقوط أنقاض وأجزاء حديدية على المنزل ( الأولاد كان أكبرهم في السادس أبتدائي والوسط في الثاني أبتدائي وأصغرهم أبنتي في التمهيدي وأمهم في زاوية صغيرة قرب باب المطبخ ) خوفا من سقوط الدار ! لا تسمع غير صراخ الجيران وأصوات طيران الطيور المفزوعة والمقاومات التي بدأت بالرمي بعد سقوط أربعة أو ستة صواريخ ..

أستمر هذا المشهد المفزع غير الأنساني والمفاجئ لنا لمدة خمسة وعشرين دقيقة تقريبا , ونحن نحبس الأنفاس ونتشاهد ( الحمد لله لم أشرب أسكنجبيل في تلك الليلة ) , وأصوات الاشياء المتطايرة تتزامن مع كل أنفجار .

أنتظرت أنا سكون المقاومات والصواريخ , لأخرج وأرى المنطقة عبارة عن ساحة معركة حقيقية بكل شئ ,,, دخان وروائح البارود وطيور ميتة من العصف , سيارات مدمرة ,أنقاض وكتل طينية كبيرة غطت البيت وبيوت الجيران والسيارات المهشمة , الجيران وخصوصا كبار السن والنساء والأطفال في حالة ذهول وهيستريا , حيث سمعت أبن الفنانة وهو يركض ووجهه مغطى بالدماء:

ألحگوا بيتنه وگع , أمي وأبوية جوه البيت!!

الناس في الشارع والشوارع القريبة والمنطقة تتراكض يمينا ويسارا كأنه يوم المحشر !!!! وأنا وغيري من الجيران ركضنا الى بيت المرحومة وبعد الأطمئنان على بقية عوائل بيتي ( الوالدين وعوائل أخوتي الملاصقين الى بيتي ) والجيران الملاصقين المنهارين كون معظمهم كبارفي السن ونساء ,, ركضنا الى بيت المرحومة لنرى الجزء الأمامي من البيت قد أنهار كليا ولم يبقى إلا الجزء الخلفي الملاصق للمخابرات , وصوت أنين تحت الأنقاض التي لم نستطع رفعها كون الكتلة الكونكريتية قد سقطت بالكامل

سقط صاروخ أخر على بيت تابع لعائلة ال دراغ الكريمة ,وكان مستأجرا الى عائلة عربية ولكنه وقع في الحديقة الأمامية وعمل حفرة قطرها خمسة عشر مترا وبعمق ثلاثة أمتار , حيث تناثرت كتل الطين من الحفرة لتسقط على كل الدور القريبة (أحدها ويقدر وزنها بمئة كيلو من الطين الحر وقع على سيارتي وخسف البنيد) , وأصبحت تلك الحفرة بركة كبيرة للمياه الجوفية وقد أنفجر أنبوب الماء أيضا لتغرق تلك الجهة من الشارع بالمياه .

هدأت النفوس قليلا من الصدمة , وبدأت سيارات الدفاع المدني بالقدوم وقد حاولنا مساعدتها قدر الأمكان ولكن الأمكانيات ضعيفة والتدريب بدائي ( كان محرك صاروخ نفاث في بيتي , سألت أبو الدفاع المدني أن يخرجه , أجابني من يبرد ذبه بره بباب الحوش !!!!!) , حيث كان رجال الدفاع المدني يتكلمون مع المرحومة وزوجها بواسطة صوندة المياه التي مدوها تحت الأنقاض !!ولم يستطيعوا فعل عمل مؤثر حتى شروق الشمس ونحن نحاول , حيث سلمت الأرواح الى بارئها فجر وصباح ذلك اليوم الساعة السادسة .

كان هنالك صاروخ ثالث أخطأ هدفه وسقط في منطقة الحارثية , شارع جامع الكبنجي , وقد أستشهدت فيه عائلة كاملة من خمسة أشخاص ( الزوج والزوجة وأطفالهم الثلاثة ) من بيت القيسي !! لم تأتي على ذكرهم وسائل الأعلام !!!؟؟؟؟؟

بقينا لمدة أيام لا ندري ماذا نفعل بعد تلك المفاجأة , حيث باشرنا بتصليح الدور وقد أصبحت المنطقة مكانا للفرجة من المواطنين للأطلاع على الدمار !!!!

للحقيقة أيضا وللتأريخ تم تشكيل لجنة لتعويض الدور, وعوضت بمبالغ لا ترتقي الى الأضرار ولكن كان هنالك أهتمام أخلاقي وسؤال من قبل تلك اللجنة .

للتأريخ أيضا أقول أن الفنانة ليلى العطار لم تكن مقصودة بالقصف , كون هنالك دارين قريبة قصفت أيضا وذلك أما خطا في الأحداثيات والجيروسكوب,أو الصواريخ التي أخطأت الأهداف قد أصيبت بالمقاومات القريبة وسقطت قبل أهدافها بعشرات الأمتار .

المرحومة ليلى العطار لم تكن من رسمت صورة بوش على أرض فندق الرشيد , وصاحب الفكرة ورسام اللوحة فنان من ديالى كان قد ظهرعدة مرات ببرامج تلفزيونية وشرح الموضوع

لم تكن المرحومة سوى مديرة عامة لدائرة الفنون وهي وظيفة أدارية ,,, ولكن كونها مشهورة ومعروفة فقد أستغل أسمها أعلاميا من الأعلام للنظام السابق للدلالة على الأجرام الأميركي , ومن الأعلام الأميركي لتبرير الخطأ في دقة الصواريخ !!! والضحية البشر !

تلك المعلومة فقط للتأريخ ولأبين مدى أستهتار الطرف الأميركي بالبشر , ومدى معنى رسم صورة لشخص مهما يكون من مجرم لتدوسها الأحذية , في وقت نحن نحتاج الى دعم دولي !!!تفكير متخلف لا يرقى الى مستوى المسؤولية في قراءة التفكير الدولي .!!!

بعد كل هذا عرفنا أن كلينتون أمر بقصف المخابرات لأتهامها بتدبير محاولة أغتيال لبوش الأب في الكويت ( سبب سخيف أخر يبين مدى الأستهتار بالبشر وعقلية الكاو بوي ) .

وهكذا أنضم عدد من الشهداء الى قافلة شهداء العراق الخالدين والمستمرين بالشهادة الى اليوم , بسبب أستهتار الساسة والدول والقيادات الفاسدة التي نعاني منها اليوم كما الأمس ...

الفاتحة على أرواح شهداء العراق كافة الى اليوم ,وحفظ الله تعالى لنا العراق وأهله المظلومين دائما .