بحث هذه المدونة الإلكترونية

إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

السبت، 19 يوليو 2014

ومضة نص راسم الخطاط التخطيط غالب المسعودي

فقر-رسم طفلها ثوبا غسلته بدموعها-راسم الخطاط

كتاب في حلقات همنجواي في الحلة (12) لحية رئاسية



كتاب في حلقات
همنجواي في الحلة (12)

لحية رئاسية

                                                        أحمد الحلي
في  العام  1982  وفي  ذروة  الهزائم   العسكرية التي  تعرض لها جيش  النظام  في  الحرب  العراقية  الإيرانية التي كان صدام  يأمل  منها  تكريس اسمه وتسويقه على  الأقل  عربياً  بوصفه قائدا عسكرياَ مرموقاً وبالتالي بطلاً للتحرير  القومي،  هذه  العبارة  التي  تم  رفعها  والترويج  لها إعلامياً على  نطاق  واسع  على  طول  جبهات القتال  من  زاخو  إلى الفاو  وعبر  وسائل  الإعلام والأبواق المختلفة .
في  هذا  العام  تم تجنيده وزجّه في  احد  قواطع  الجيش  الشعبي  ، وجرى  ترحيلهم  على  الفور إلى قاطع  (ديرة لوك) في  محافظة  دهوك  ،   وأثناء  ذهابه  من ديرة لوك  إلى سرسنك  بوصفه  سائقاً  لإحدى سيارات  التموين ، شاهد  قائد  الفيلق  وقد  ترجل  للتو من سيارته العسكرية وهو  بصدد  القيام  بجولة  تفتيشية  للقاطع   ،  ولما  علم  الجنود والمراتب  بالخبر ارتعبوا وأصيبوا  بالهلع ، وتواروا  عن الأنظار كما لو أنهم  فئران  مذعورة  تهرب  من  مخالب قط جائع ، وبقي هو وحيدا  في  وسط  الساحة  ، إلا  انه تسلّح بعدم المبالاة ولم يأبه  للأمر ، وقعت  عينا  القائد عليه وهو يتمشى  بحذاء (الكَيوة) الشعبي  بطريقة غير مكترثة وملتحيا  بلحية  طويلة  مشذبة ، جن جنون القائد وصاح به ؛
يا أنت ! تعــــــال .
 فأدرك انه المقصود ،  فمشى  إليه  وهو  يقول  في سرّه ؛ سأجعل  منك أيها  القائد  العفريت  أضحوكة  وعبرة للجميع هنا  !  اقترب  منه  بطريقة  بطيئة  ليشعره  بعدم  اهتمامه بل وازدرائه له ،  وبعد  أن  صار  قريباً  بما  يكفي  لم  يؤدّ  التحية  العسكرية  ،  فطاش  عقل  القائد  وصاح  بهستيرية  ؛  ما هذه  اللحية  أيها  المقاتل  ،  فقال  له  على  الفور  ؛  هوّن  عليك  أيها  القائد  فأنا  على  ملاك  وزارة  الأوقاف  !   فما  كان  منه  إلا  أن  انحنى  أمامه  إلى  الأرض  قائلاً  بخشوع ؛  آسف  أيها  الشيخ  المبجل  ،  لقد  أزعجتك  ،  وأرجو  أن  تصفح  عني  ! 
ذلك  أن هذا القائد  يعلم  جيداً  أن  الشيوخ  الذين  هم  على  ملاك  وزارة  الأوقاف  والمنسّبين  على  القطعات  العسكرية هم  في  حقيقة  الأمر  عناصر  مجندون  في  جهاز  المخابرات  أو  الاستخبارات  العسكرية  وان  لديهم  رتباً  عسكرية  عالية  ودرجات  حزبية  ليس بوسع أحد أن يعلم ما هي  ،  وهم  مرتبطون  مباشرة  بديوان  رئاسة  الجمهورية  ،  وكنوع  من  التكفير  عن  الذنب  طلب  منه  القائد  أن  يذهب  بمعيته   في  الجولة  التفتيشية  وان  يعودا  معا  إلى  مقر  قيادة  الفيلق  حيث  سيولم  له  وليمة  فاخرة  .. 
فقال  له بحدّة  ؛  إن  الجنود  ينتظرونه  ليجلب   لهم  أرزاقهم  ،  فوجد  القائد  نفسه  في  موقف  لا  يُحسد  عليه  ،  فقال ؛ بارك  الله فيك  أيها  الشيخ  الجليل ،  واني لشاكرٌ  لك  موقفك  النبيل  هذا  مع  الجنود  الذين  هم  بمعيتك ، وسأدوّن موقفك النبيل هذا في سجل الزيارات  ...
وبعد  عودته  إلى  مقر  القاطع  دخل  إلى  غرفة  آمر  القاطع  ،  فأخبره  بما  حدث  له  مع   قائد  الفيلق  ،  وطلب  منه  ،  بحكم  انه  كانت  تربطه  به  علاقة  خاصة ،  أن  يخبر  القائد  إذا  ما  استفسر  الأخير  عنه  ،  أن  يصادق  على  الكذبة  التي جعلها تنطلي  على  القائد  فصاح  آمر القاطع  ؛  استحلفك  بالله  أن  تحلق  لحيتك  ،  وان  لا توقعني  في  هذه  المآزق  التي  يبدو  انك  تستمرؤها  وترتاح  لها  ،  فقال  له   بحدة ؛  اقسم  بالله  العظيم  إنني  لن  احلق  لحيتي  إلا  بعد  أن  يقوم  عدي  صدام  حسين  بحلاقة  لحيته  !!


مَنْ يقاتل بشرف يستحق الـ......

أتيح لنا من خلال قاطع الجيش الشعبي ، أن نقيم صلات مودة وصداقة مع  جنود ومراتب إحدى الوحدات العسكرية المحاذية لنا ، وبالنسبة لي فقد كنت شغوفاً بمطالعة الصحف اليومية ، التي لم تكن لأسباب مجهولة تصل إلى مقر قاطعنا ، كنتُ تواقاً لأن  أقرأ فيها النصوص المترجمة وما كان ينشره بعض الأدباء والكتاب من قصائد ومواضيع لا تدخل في خانة السياسة ولا تتحدث عن الحرب أو تمجّد الطاغية ، لا سيما وأنه لفت نظري في الآونة الأخيرة أن عدداً من الأدباء ، وجراء الضغوطات الأمنية التي كانت تحوط بهم ، كانوا يعمدون إلى المواربة والاحتيال على المعنى من أجل إيصال رسالتهم الإنسانية الرافضة للحرب وتوجهات الحزب القائد على حد سواء ، وقد نجح بعض هؤلاء في ذلك ، فيما تمكن البعض الآخر من الهرب إلى خارج العراق ، كان من الطبيعي أن تكون لي صلات مودة مع أحد الخطّاطين في تلك الوحدة العسكرية ، والذي أنيطت به مهمة توزيع الصحف على سرايا الوحدة ، استطعت بسهولة ويسر أن اكسبه لنفسي صديقاً ، كان يحدّثني عن مكابداته وآماله العريضة التي كان يحلم بها قبل تخرجه من الكلية ، وإذا بكل ذلك يطير ويتبخّر هكذا بغتة بسبب رعونة وجنون القائد الضرورة ، بعد أيام التقيته مساءً ، كان مزاجه رائقاً ، قال لي ؛ أتعلم ما حدث لي بالأمس مع رئيس عرفاء الوحدة ، الذي كان واحداً من الحزبيين الذين يخشى المرء جانبهم ، قلت ؛ تحدّثْ !
قال ؛ بينما كنت بمفردي ، أقوم بخط عدد كبير من اللوحات التي كنت أعددتها في اليوم السابق ، وكانوا قد زوّدوني بقائمة طويلة جديدة من شعارات المعركة ، كنتُ منهمكاً بعملية الخط ، ولكنني ، وكعادتي ، حين أكون بمفردي ، كنت أردد مع نفسي أغنية ما ، أو أتمتم ببعض العبارات التي لم أفقهها أنا بنفسي ، وفجأة وجدت رئيس عرفاء الوحدة يمد وجهه خلف أذني مباشرة ، وهو يقول لي بحزم ؛
- ماذا قلتَ للتو ؟
- لا شئ ، لم أقل أيَّ شئ ، هل سمعتَ أنتَ شيئاً ؟
- نعم ، سمعتك تقول شيئاً ، ثم ضحك بمودة ، واستحلفني بالله أن أعيد على مسامعه ما قلتُ آنفاً ، وأقسم بابنه الوحيد بأنه لن يبوح لأحد بما سمع مني وأنه سوف لن يفعل أي شئ ضدي .
وحين تأكدت من صدق لهجته وثقت به ، وأعدتُ عليه قراءة الشعار الذي كنت قد أكملت خطّه على اللوحة ، ولكن ، كما فهمته أنا ، قلتُ
ها أنت تقرأ العبارة المكتوبة ؛ " مَنْ يقاتل بشرف ، يستحق القنادر" ! ممرّغاً مفردة الــ(المجد) التي أراد القائد الضرورة إضفاءها على المقاتلين مستبدلاً إيّاها بــ ( الوحل) ...
فضحك طويلاً بنشوة كما لم يضحك من قبلُ ، وودعني .



مرثية في مقبرة ريفية-ترجمة لقصيدة الشاعر الانكليزي توماس كري - حامد خضير الشمري


مرثية في مقبرة ريفية

حامد خضير الشمري
ترجمة لقصيدة الشاعر الانكليزي
 توماس كري


مرثية في مقبرة ريفية / ترجمة: حامد خضير الشمري

ينعى جرسُ المساء النهارَ الآفل
ويتهادى القطيع الثاغي على المرج
ويشق الفلاح طريقه المضنى صوب البيت
ويترك العالم للظلام ولي

والآن يعتم المشهد الريفي الوامض أمام الأنظار
ويسود الهواءَ سكونٌ وقور
إلا حيث تحلق الخنفساء في طيرانها المتواني
ويهدهد رنين الجرس الحظائر النائية

وحيث تشكو البومة المكتئبة للقمر
من برجها الذي يكسوه اللبلاب
ممن يطوف قرب عريشها السري
ويزعج سلطانها القديم المنعزل

ويرقد أسلاف القرية البسطاء
تحت أشجار الدردار المتجهمة تلك وظل شجرة الصنوبر
حيث تتنهد الأرض الخضراء أكداسا متهرئة
ويهجع كل منهم في قبره الضيق إلى الأبد

لن يوقظهم من رقدتهم المتواضعة
نداءُ الصباح العابق الذي تحمله الأنسام
والسنونو وهو يزقزق من الحظيرة المبنية بالقش
وَزُقاء الديك الحاد أو البرق الرنان
لن يشعل لهم الموقد المتضرم
أو تبدي الزوجة المشغولة اهتمامها المسائي
ولن يهرع الأطفال ويلثغوا بعودة أبيهم
أو يتسلقوا ركبتيه ليقتسموا قبلة حميمة

غالبا ما استسلم الحصاد لمنجلهم
وشق محراثهم الأرض الصلدة
كم كانوا سعداء وهم يسوقون قطيعهم صوب الحقل
وكم انحنت الغابات تحت ضربتهم الصارمة !

على الطموح ألا يسخر من كدحهم المثمر
ومسراتهم المألوفة ومصيرهم الغامض
وعلى العظمة ألا تسمع بابتسامة مزدرية
سجل تاريخ الفقراء الوجيز البسيط.

ينتظر الساعة  َ المحتومة  َ على حد سواء
تبجحُ الأبهة ومظهر القوة
وكل ذلك الجمال وكل ما تعطيه تلك الثروة
وتفضي طرقُ المجد إلى القبر

وأنت أيها المتباهي لا تلق ِ اللوم عليهم
إن لم تقم الذكرى أنصابا على قبورهم
حيث يتناهى عبر الممشى الطويل والقبو المتآكل
نشيد الثناء المجلجل

أبوسع أصيص منقوش أو تمثال مفعم بالحيوية
أن يعيد النفـَس الهارب إلى مستقره ؟
وهل يستطيع صوت الشرف أن يحرض التراب
أو أن يريح التملق أذن الموت الباردة الكئيبة ؟

ربما ترقد في هذه البقعة المهملة
قلوب تأججت ذات يوم بالنار السماوية
وأيد هزت صولجان الإمبراطورية
وداعبت القيثارة الحية حد النشوة

لكن المعرفة لم تفتح أمام أعينهم صفحتها الرحيبة
التي أثرتـْها غنائم الزمن
وكبح الفقر المدقع البارد غضبهم النبيل
وجمد تيارَ الروح العبقري

كم من جوهرة شديدة النقاء هادئة
تضمها كهوف المحيط المظلمة التي لا يسبر غورها
وكم من زهرة تولد وتتفتح خفية
وتبدد عذوبتها على هواء الصحراء!

ربما يرقد هنا " هامبدن " قروي
صمد بقلب جريء ضد طاغية حقوله الصغير
أو " ملتن " صامت مغمور
أو " كرومويل " بريء من دم بلده

كان بوسعهم أن ينالوا استحسان النواب المنصتين
وازدراء تهديدات الألم  والخراب
وأن ينثروا الوفرة فوق الأرض الباسمة
ويقرأوا تاريخهم في عيون الأمة .

لقد حرمهم قدرهم ولم يحدد
فضائلهم النامية فحسب بل دون جرائمهم
ومنعهم من خوض المجزرة إلى العرش
وغلـْق بوابات الرحمة بوجه البشر

ومن إخفاء الحقيقة الواعية الخانقة
وإطفاء حمرة الخجل البريء
وتكديس ضريح الترف والزهو
ببخور يؤججه لهيب ربات الفنون

ولم تعرف رغباتهم الوقورة الطواف بعيدا
عن كفاح الحشد الدنيء المجنون
وحافظوا على نهج حياتهم الصامت
على امتداد وادي الحياة البارد المنعزل

لكن نصبا تذكاريا لا يزال قائما عن قرب
ليحمي هذه العظام من المهانة
تزينه أشعار خرقاء وتمثال لا شكل له
يتوسل من العابرين تنهيدة وقورة

تهجت ربة الشعر الأمية أسماءهم وسنينهم
لتحل محل الشهرة والرثاء
ونثرت حولهم نصوصا مقدسة
تعلم القروي الصالح كيف يموت

فمن يسلم هذا الوجود السار القلق
فريسة للنسيان الأصم
ويترك تخوم النهار البهيج الدافئة
دون أن يلقي خلفه نظرة شوق تواقة؟

تركن الروح المحتضرة إلى صدر حنون
وتتطلب العين المغمضة بعض الدموع الورعة
وينادي صوت الطبيعة حتى من القبر
وتتضرم نيرانهم المألوفة حتى في رفاتنا

فإن حدث لك عرضا
يا من تروي في  هذه الأبيات قصتهم الساذجة
أن استغرق فكرك في الموتى بلا تكريم
فإن روحا شقيقة ستسأل عن قدرك

قد يقول راع ٍ أشيب:
لقد رأيناه عند انبلاج الفجر
وهو يزيل الندى بخطاه العجلى
ليلاقي الشمس على المرج العالي

هناك أسفل شجرة الزان البعيدة المتمايلة
التي تضفر جذورها القديمة عاليا
كان يمد قامته المتوانية في الظهيرة
ويتأمل في الجدول الذي يتناهى خريره جنبه

ويهيم حينا جنب تلك الغابة وهو يبتسم بازدراء
ويتمتم تصوراته المتمردة
ويبدو في بعض الأحيان تعيسا حزينا قانطا كمن هجره أحبابه
أو أصابه الهم بالجنون أو ابتلاه حب يائس

افتقدته ذات يوم على التل المألوف
على امتداد المرج وقرب شجرته الأثيرة
جاء آخر ولم يكن جنب الجدول
أو في أعالي المرج أو جنب الغابة

وفي اليوم التالي رأيناه محمولا في موكب حزين
ترافقه الألحان الجنائزية ببطء على طريق الكنيسة
تقدم واقرأ ( فبوسعك أن تقرأ ) النشيد
المنقوش على الحجر أسفل شجرة الزعرور الهرمة تلك

* الشاهدة *
هنا يريح رأسَه على حضن الأرض
شابٌ لم تعرفه الثروة أو الشهرة
لم يعبس العلم الوسيم عند مولده المتواضع
واتخذته الكآبة حبيبا لها

واسعا كان سخاؤه وكانت روحه مخلصة
كافأته السماء بسخاء
لقد أعطى الحزن كل ما ملك : دمعة
وحاز من السماء كل ما تمنى : صديقا

لا تبحث عن فضائله لتكتشفها
أو تستخرج نقاط ضعفه من مستقرها المرعب
فهناك ترقد كلها على السواء في أمل مرتجف
على صدر أبيه وربه .

الأربعاء، 16 يوليو 2014

الرسم المعاصر في العراق- بثلاث لغات



الرسم المعاصر في العراق
بثلاث لغات

 




     في بغداد، وعن دار المأمون للترجمة والنشر، صدرت ترجمة كتاب [الرسم المعاصر في العراق] للفنان والكاتب عادل كامل، بثلاث ترجمات، قامت الفنانة عشتار جميل حمودي، ترجمته إلى الفرنسية، وندى مهدي إلى الانكليزية، والأستاذ د. موفق المصلح إلى الألمانية، وقد صدر الكتاب ضمن فعاليات بغداد عاصمة الثقافة العربية 2013، تناول المؤلف نشأة الرسم خلال القرن الماضي، استنادا ً إلى المراحل، والأجيال، مع تتبع للأسماء التي شكلت ملامح الرسم الحديث في العراق. والكتاب، في الأصل، كان قد صدر في دمشق، عن وزارة الثقافة السورية، عام 2008، والكتاب مزود بعدد كبيرمن النصوص التشكيلة الملونة.


همنجواي في الحلة(11)-الشهيد العائد

همنجواي في الحلة(11)
 

الشهيد  العائد
                                                        أحمد الحلي
دخل بسيارته الخاصة من نوع  موسكوفج  في احد  شوارع محلته الفرعية ، وعلى  الرغم  من أن الوقت كان ليلاً إلا  أن الشارع كان مضاءً بصورة كافية مكنته أن يرى شبحَ  أحد  الأشخاص ، استغرب لأول وهلة وهو يراه يقترب من  سيارته  المتوقفة ، قال مع  نفسه ؛ ربّاه انه هو بلحمه ودمه ، فرك  عينيه  وحدّق  باتجاه  الشبح  المريب  الذي  اقترب  من  السيارة ، توقف الشبحُ ثم قال ؛  أظنك عرفتني؟   
-  اجل ، اجل .. وكيف لي أن لا أعرفك ، ولكن  ...
-   لا تكمل ، فأنا اعرف تتمة الحكاية ، فلأول وهلة خالجك  شعورٌ بأني شبحٌ لشخص ميّت رغب أن يتجول في دياره ، إلا أنني  لست  كذلك ، وبإمكانك أن تلمسني لمس اليد ، لقد عرفت بل وتوقعت أن الجميع  وكذلك أهلي يعتبرونني في عداد الأموات ، وقد  اخبرني  احدهم  أن  أهلي  أقاموا لي مراسيم الفاتحة في مسجد المحلة  باعتباري احد  شهداء  الحرب ، ولكن  وكما  ترى،  فأنا  لست  شهيداً  والحمد  لله..
-  ولكن ،الشخص  الذي  جاء  احدُ  جنود  وحدتكم  بجثته  ،  من  تراه  يكون إن لم يكن أنت ؟
ثم  أردف  قائلا ؛ ترى ، كيف  تم  تمرير هذا  الأمر  الخطير  بمثل  هذه السهولة  ؟
-  اعلم أيها العم أن الأمر عصيٌّ على الفهم حقا ، ولكن وكما تعلم أو لا تعلم ،  فأن وحدتنا قد تم تدميرها عدة مرات ، وأنها  بمجرد  أن  يعاد  تنظيمها حتى يتم  الزجُّ بها في أتون معركة جديدة ، وقد ضقت  ذرعاً من هذه الحرب المجنونة ، لذا اتخذت قراري بالهرب  لبعض  الوقت لأنجو بجلدي و لألتقط  أنفاسي ، ولربما حالفني  الحظ في اجتياز  الحدود  والهرب إلى تركيا ومنها إلى أوربا كما فعل  ذلك  بعض المحظوظين ، وسأروي  لك  ما فعلت  بالضبط  ، ففي  آخر  معركة  اشتركتْ  بها  وحدتنا  ، فاني  نزعت  قرص  التعريف  الخاص  بي  عن عنقي  وبحثت  بين  جثث  قتلى  المعركة  الذين  سقطوا  في  الليلة  الماضية، فعثرت على  ضالتي  ؛ جثة  شبه  متفحمة  بوجه  مموّه  الملامح  ،  فاستخرجت  قرص  التعريف  الخاص  به   ودسست  مكانه  قرص  التعريف  الخاص  بي  ،  ثم  أني  اتخذت  طريقي  في  المسالك  الوعرة  في  الجبال  وهربت ، وحصل  الذي  كنت  أتوقعه  ،  فقد  ذهبوا  بالجثة  المتفحمة  إلى  أهلي  باعتباره  أنا  ،  وها  أنت  ذا  تراني  أمامك  ثانية  بعد  موتي  !  تعجّب من هذه الحكاية الغريبة ،  وسأل  الهاربَ  العائد  ؛ ولكن  يبدو  انك  لم  تطرق  باب  اهلك  لحد  الآن  ..  
-  أخشى  ذلك  بل وأتهيّبه  !  
فهو لا يريد  لامّه  وأبيه  أن  يتفاجآ  بعودته  ،  لاسيما  وانه  ابنهما  الوحيد ،  كما  أن  الأب  مصابٌ  بجلطة  دماغية  والأم  مصابة  بمرض  السكري  منذ  اللحظة  التي  جنّدوا  فيها  ابنها  وساقوه  إلى الحرب عنوة  ، وبعد  تفكير  قصير  طلب  الجندي  منه  أن  يذهب  به  إلى  بيت  خالته  في  منطقة  المسيّب  ،  وان  يطرق  بابهم  بمفرده  في  حين  لا يكون  هو  موجوداً  في  لحظة  اللقاء  ، على  أن  يقوم  بإفهامهم  خلال  ذلك سبب  زيارته  لهم  وهو أن  خبراً  جاءه  من  احد  الأشخاص يتعلق  بابن  خالتهم الذي  يبدو  انه  ما يزال  حيا  يرزق ، وانه  الآن  موجود  في  مكان  ما  .
وبهذه  الطريقة  يمهد  لحضوره  ،  واغتبطت  العائلة  بالخبر  بعد  أن  تأكد  الأب  من  سلامة المخبر العقلية  ،  ثم  انه  ما  لبث  أن  احضره لهم في اليوم التالي ، فعلت زغاريد  الخالة وبناتها  وهلهلن  ابتهاجاً  لقدومه  ، احتفوا  به  وشكروه  على  الطريقة  الحاذقة  التي  أوصل  بها  الخبر إليهم  ومن  ثم   إحضاره  لابن  خالتهم  ، وأصروا  عليه  أن  يبيت  ليلته  تلك  في  بيتهم  لاسيما  وأنهم  يعرفونه  حق  المعرفة  ،   وأثناء  ذلك  اتصل  احد  أفراد  العائلة  هاتفياً  ببيت  بأهله  لينقل  إليهم  الخبر  السار  الطازج  ،  ثم  امسك  المعني  نفسه  بالهاتف  واخذ  يتحدث  مع ذويه  بحديث  ذي  شجون  ودموع..... 




قصة قصيرة- اللعب على الحب!

قصة قصيرة

اللعب على الحب!





بلقيس الدوسكي
    اعتكفت في بيتها وانقطعت عن زيارة معارفها وصديقاتها لفترة طويلة من الزمن، حتى بدأ الأصدقاء المقربين يتهامسون عنها، للتعرف على أسباب غيابها عنهم.
ـ ألا تعرفين يا بهيجة لماذا انقطعت عنا نرجس؟
ـ ربما سمعت كلمة عابرة ومنحتها تفسيرا ً جارحا ً.
ـ هي حساسة.
ـ لماذا لا نبادر ونزورها...؟
ـ ليس إلى هذا الحد، فهي رقيقة القلب.
ـ إذا ً، لنتصل بها هاتفيا ً أولا ً.
ـ لا بأس.
ـ نعم..
ـ أنا صديقة بهيجة..
ـ أهلا ً بك.
ـ ما هذا الانقطاع الطويل يا نرجس...؟
ـ لكل أمر سببه.
ـ هل بدرت منا إساءة بحقك..؟
ـ ربما!
ـ ما هي بالضبط يا عزيزتي..؟
ـ لا وقت للحديث عن أشياء مضت..
ـ إذا ً، سنزورك الآن.
ـ لتكن الزيارة في وقت آخر.
ـ لم أتوقع منك ِ هذا الرد يا نرجس.
ـ لكل منا توقعاته.
ـ وأخيرا ً..؟
ـ مع السلامة!
   غلقت ُ الهاتف بوجه بهيجة لأنني لا أريد ان اسمع صوتها ولا أحب زيارتها، كيف انسي لعبتها الخبيثة التي جرحت مشاعري وأدمت قلبي..! إنها امرأة لعوب.

ـ من ..؟
ـ أنا أسعد.
ـ ماذا تريد..؟
ـ أحسك منفعلة.
ـ انفعال مشروع..
ـ اسمعيني أرجوك.
ـ لعبة جديدة..؟
ـ لا أبدا ً، وإنما أردت ان أوضح لك ِ بعض الأمور.
ـ الأمور واضحة كلها.
ـ ولكن..
ـ أتمنى لك السعادة مع بهيجة.
ـ اللعنة على بهيجة!
ـ لا تلعن حبيبتك يا اسعد.
ـ لا حبيبة  لي سواك.
ـ أنا امقت المجاملة على حساب الحقيقة.
ـ لقد خدعتني بهيجة يا عزيزتي نرجس.
ـ وأنا ضحية خداع الاثنين...، أنت وهي.
ـ دعيني أحدثك عنها.
ـ حدّث غيري، فانا لا أحب الحديث عن الخداع.
    غلقت الهاتف بوجهه لأنه ـ كما اتضح لي ـ إنسان مراوغ ويتسم بالطمع والخداع والجشع المادي.
ـ ماذا بك يا اسعد ..؟
ـ بي هموم الدنيا كلها.
ـ ما الذي حدث؟
ـ خسرت نرجس بإغراءات بهيجة.
ـ كيف ..؟
ـ كنت أحب نرجس حبا ًعنيفا ً وكانت تبادلني الحب نفسه..؟
ـ ولماذا خسرتها..؟
ـ أغرتني بهيجة بالمال لاشتري سيارة حديثة، ثم سرقتني من نرجس.
ـ وماذا حصل..؟
ـ لا بهيجة ولا السيارة ولا نرجس!
ـ لو كان حبك لنرجس حبا ً صادقا ً لضربت بكل إغراءات بهيجة عرض الحائط. وبصراحة انك تستحق هذه النتيجة المرة.
ـ كما تقول، حتى نرجس كرهتني وغلقت الهاتف بوجهي.
ـ لها الحق، فأنت البادي والبادي اظلم.
ـ ماذا افعل..؟
ـ لن ينفعك اللعب على الحب!








في التشكيل العربي المعاصر-في تجارب د. علي الخالد الكرافيكية النص وذاكرة المشاهد - عادل كامل

في التشكيل العربي المعاصر

في تجارب د. علي الخالد الكرافيكية
 النص وذاكرة المشاهد




  عادل كامل




* تضادات التماثل والاختلاف :

      إلى أي حد نجحت فلسفات ما  بعد ــ الحداثة ،  ان تدفع بالنص  خارج ذاتية الصانع ، وتجعل من الاخير ، موتا ــ أو قطيعة ..؟ والى أي حد ، في سياق ما بعد التقنية ، يأتي  النص الفني ، بمعزل  عن مخيال ـ وحواس الفنان ؟ ان  الكرافيكي السوري ، د. خالد سليم الخالد ، لا يغامر بالانحياز الى فلسفة ما قبل ـ موت ـ الإنسان ، أو بعده ، في سياق  برامج عولمة تسندها مظاهر صورية ـ وعملية  لا تحصى ، ولكنه ، في نصوصه  الطباعية ، يضعنا في بنية أقدم النصوص الفنية : آثار  التخطيطات  فوق جدران الكهوف ن وتميل عشتار ، والأختام ، والتشفيرات  الموازية لتقاليد  الفنان القديم . ان علي الخالد  لا يغامر بالحفاظ على  باثات نصوص  تجدد مأزقها فحسب ن بل تضع الإدراك  الفني ،  بموازاة التأمل ، والرصد .. فأعماله  الطباعية تأتي  خلاصة تدريبات طويلة  أفضت  الى ضرب من التركيب ، والاختزال .. فالتشفير  لا يمثل  إلا نهاية  عمل تقنيات الآلة ، مع بقاء الحساسية تشتغل شغلها عبر  الأزمنة . ففن الكرافيك  لا ينتمي الى عصر محدد ، حتى على صعيد الحرفة ؛ انه يلتزم خفايا عمل  نظام النبض ، والإيقاع ، وعمل الحريات في سياق نظامها .. كي تتشكل بنية ذاتية ولكن بمواصفات عصر لم تعد للإنسان فيه إلا مراقبات وتنفيذات تقنن الغايات  ولا تفسح للتعبير ، إلا مكانة الحذف . ان الفنان د . علي الخالد  يشتغل داخل  شغل تقنيات الطباعة ، يشتغل  للامساك بما هو غير قابل للرصد ، والتحديد ، والمعرفة .. بيد انه يذهب حيث أكثر الموضوعات خفاء ً تبدو قد تشكلت عبر التراكم  والحذف ، داخل  النص  ، حيث صار النص  يولد سلاسل تدريبات تتوازن مع  المخفيات المعلنة : دوائر وأقواس وحروف وإشارات .. تعمل على تقويض حالات السكون ، أو جماليات  الرؤية الأحادية ! وهل ثمة جماليات للثوابت ..؟ ان نصوص الفنان الكرافيكية  تستمد ديناميتها بتحاورها حد التوحد مع موضوعات الزمن / الطيف : هذا المتحرك عبر فضاءات كوكبية .  فليس ثمة  موضوعات  للسرد ، أو قابلة للتأطير  إلا كمنطلق للتوسع ، مع خواص الفن العامة ، وفي حدود إمكانية فن الكرافيك تحديدا ً .  


* التراكم ــ اشتغالات المخفي







      لو لم تمتلك أقدم البصمات وأقدم  الرسومات ، تلك التي ولدت متضمنة  خفاياها ، وأسباب  ظهورها ، لكف  الماضي ان يكون مستقبلا ،، عبر الحاضر  الرائي  وكثافة وجوده ــ ألعلاماتي ــ لغدا فن الرسم ، والكرافيك في مسارات تحولاته ، لا يؤدي  إلا دورا  يمكن الاستغناء عنه . لم يكن الفن  لغة ، أو معان قابعة في القاع  ؛ انه لغة نفسه ،  وهو ما يريد ان يرسله كي يمتد بمغزى موته المنبعث . فالتكرار  الحاصل على صعيد المأزق ، يرسخ ، دينامية الاتصال .  فالتكرار يكف ان يكون استنساخا ً .  انه إلغاء . فالمأزق  لا يتشكل بالأحلام ذاتها  التي تعيد المخيلة  افتراضاتها ، وإنما ، بما هو متحد بالمحركات  وأشكالها  المحورة . أليست هي أول حداثة تؤشر  للفجوة بين الجدار  والقلب ..؟  لأن النص  سيتحدث ـ بما فيه ـ عن كيانه المنفصل . انه  نص القطيعة عن مكوناته حد ان الظاهر ، صار يولد   متتاليا ته . ولكن هذا لا يدحض ان الإشكال مكث دافعا ـ ومحركا في كل الأشكال ـ والبنية الفنية . ان  ألواح علي الخالد  تحمل موضوعات مكثت تمتلك قدرتها على  الانبعاث . انه هذا الذي  ناره  مازالت كامنة في الرماد . فالمحركات تجد أشكالها بما يمتلكه الرسام من رهافة تبلغ حد الوجد الصوفي.. فالأشكال تكاد ، في حدودها ، تتكون مندمجة : المشهد الكلي للأجزاء  المندمجة .. أما التفاصيل  فأنها حروف تكوّن عبارات الكتاب / النص . لأن محركات الفنان كامنة في هذا الترابط بين [1 ] عالم يزداد تراكما [ 2 ] وتقنيات تنوع رؤية ما تم رؤيته [ 3 ] مع حساسية  تجاور / تحاور  آليات التنصيص ، والخبرة  الكلية  للقلب والبصر والخلايا . فالرسام  لا يرى .  انه يصنع مرايا  ترى  الآخر  الذي يمدها بقدرة  التوغل في جدلية  الأبعاد . فلم يعد الجدل الهيجلي ــ وما قبله منذ الديانات الفارسية والهندية  والشرقية المثنوية ــ  إلا مفتاحا لما بعد الجدل ، وليس لـ ( ما بعد ) موت الفن / الإنسان . هذه الشرعية لحضور أبعاد ترى ما لم ير ، تمنح عمل وسائل الاتصال ، طاقات مستحدثة أو مصنّعة . ثمة  أبعاد توّلد فعل التراكم ، بمرور الأزمنة ، الذي نسف أحادية الأساطير ونظامها التكراري ، دخلت الفضاءات بما تمتلك – موضوعيا ً- لجعل الذات  لا تكف من التوغل في مساحاتها غير الساكنة . د . علي الخالد  درس فن العصور السابقة ، وتوقف عند  عصر النهضة ، والمدارس  الغربية المعاصرة  ، يجعل نصه بعدا ً ـ يتضمن المغامرة : انه يذهب  ابعد من المعنى  ، وابعد من السطح ، حيث الحقب ، الأزمنة ، والمحن ، كلها تشكل تحويرات  التقانة .
     فمع تطور الكهف الى ناطحات سحاب ، والمحراث الى آلات عملاقة  ، تكون التقنية قد كفت  ان تكون كهفا ً أو محراثا ً . إنها ، منذ بدأت تفكر ــ التقنية / الحاسوب ــ ذاتيا ً ، راحت ، في المراقبة ، تراقب  مداها المحدق ، والمتدحرج ، حيث التوغل عميقا في  المجهول . ان التقنية  لا تنفصل  عن ذات شذبت حد إعادة صياغة أقدم  الأسئلة . ليس ( لماذا ) .. بل :  كيف يغدو النوع نوعا قادرا ً على بناء كثافات  تتوازن فيها الأزمنة .. والثقافات .. والغايات .
     نصوص الفنان السوري ، تشترك ، مع عدد آخر م الرسامين العرب ، بالدق على لوح خالٍ إلا من تراكمات تتراكم حد  إنها لا تقول إلا ما تخفيه : محنة موجودات في وجود يتبعثر . أليس الدحض ، منذ ربع قرن ، لا  يرغب إلا  بعيد يختفي فيه الإنسان ..؟   بيد ان اشكاليته ، لن تمكث  بما هي عليه ، عندما  تجد دحضا موضوعيا ينقلها من حد الى حدود مندمجة في أبعاد  تجعل الأسئلة وقد  صارت ترى كل الذي كان يقع خلف المرآة  . ومن الصعب ان أدوّن – إن لم نتأمل  أعماله الغزيرة – وقبلها شخصيته  النادرة توقدا يدمج فيها تصادمات المناهج  واللامعاني واللااسباب  وتفكيكات الضؤ وعمل ترليونات جينات أجزاء الخلية الواحدة ، كي أوضح ان النص  الكرافيكي يتمتع  بعلاقة مع هذا التوغل داخل  اتساع  اللاحافات ، وفي كل الذي يكف ان يكون له وجود  في  الوجود .
     يوضح هذا  الرصد ،  رصد الفنان لـ [ 1 ] تراكمات تتعاقب ، تمحو  أشكالها ،  ولا تتخلى عن أسرارها وانكشافاتها وزولاتها  ، عبر  [ 2 ] منح الجدل ن نفيا يناسب سياقات  الحلول المستحدثة ، لمآزق  تتعاقب [ 3 ] مع انكشاف  خلايا زمنية ، غير أسطورية  أو قائمة على الخرافة والأحاديات ، وإنما  ، في موضوعات تقود الى موضوعات عبر  سلاسل الانقطاع ، والاندثار [4 ] حيث الرائي ، مع تطور  التقانة ومجاورة كثافات  الوقائع ، وتعددية  الأزمنة والأدوات والمسافات والمجهولات ، يغدو  مرئيا ورائيا  أمام مصائر ليس  لها إجابات ناجزة . انه يكرر – في نصوصه – كل الذي يخفيه البركان ، في الطبيعة ، ان آخرين ، بعد استقرار الرماد فوق الأرض ، لن تدهشهم  إلا الأزهار  وهي تنبت في اصلب  الصخور قسوة .    
 
*اختزال:














     لا يفسر ظهور فنون الطباعة ، مدى تحول الوعي الى تطبيقات ، ومدى التطور الحاصل في وسائل إنجاز النص ألطباعي فحسب ، بل ، إن  التراكم ذاته قد أدى لظهور لغة  أكثر إخفاء ً لمرجعياتها . إن د . علي الخالد ، بثقافته النظرية ، يعيد قراءة أكثر العلاقات تداخلا ً : التراكم والاختزال .. هذا  الضرب من  الاختزال  يتوخى ، في دينامية النص ، البوح  بما كتم . لكن هل ثمة قول أخير ..؟  نصوص الطباع ، تنفي ، إنها لا تذهب الى العمق : ما هو  ابعد من التحدي والاستجابة ، وابعد من نفي النفي .. فثمة ــ في الحاضر ــ  مسافة مرئية لكنها تقع بين بعدين متحركين .. تجعل الفنان يتحرك داخل  الحركة .  فليس ثمة قضايا ناجزة  إلا  عبر امتدادها . انه  يراقب ويحصي  الاختلافات ، كما يتأمل  أسرار تكرارات  إيقاعية  تبلغ حد التماثل ، ليدمجها ، بدينامية ، في إطار بنية حاملة لدوافعها ، وانفتاحها  الهندسي . ان صوره تبدو للنظرة البكر ، إنها  حاصل ترتيب وتجميع وتركيب ما لا يحصى من الأشكال الهندسية  والعضوية .. والتراكم  مسلمة .. بيد ان الفنان لا يحذف ، بمعنى الحذف  الشكلي ، بل  بمعنى الإخفاء . انه يخفي سلاسل الأصداء  والمآزق  والتكيفات ، حد ان الحذف  ذاته يصير كثافة .  مثل المسار  الطويل الذي صار  عليه الرمز ــ وصارت عليه العلامات . فنصوصه  ، فنيا ً ، تقول الأقوال ـ أو التعبيرات ــ  التي ما زالت تمتلك ــ تدفقها . إنها  لا تعلن عن نقص الماضي ، خارج سره ،  بل عن سره في نقص لا يردم ، نقص يماثل عدم قول القول  التام . فالنص يصير مسرحاً  لصمت أشكال لا تعزل فيها دالاتها  عن مدلولاتها : ولا تبعد مكونات  النصوص ، ودوافعها ، في مشهدها الكلي . فهو جمع مركب ومندمج لمصائر وتجارب وصبوات صهرها كي يبقى فن الكرافيك يؤكد انه لا يتكرر ، ولا يتماثل ، بل يختلف داخل مسار الأسرار التي بدأ منها : الخط المتعرج فوق جدار الكهف وفوق الأواني الفخارية .. إنها حساسية الحواس ـ عبر الأصابع ـ كأقدم وسائل للعمل التي حملت أثقال  الرأس ــ وقد  وضعت  داخل إطار ـ أو مفهوم . فالفنان يحرص أن يجمع مراكزه داخل مركز النص : أشكال وعلامات وشفرات وحروف ورموز صورية  كلها لا تحكي  إلا الذي يحركها  : إنها أشكال  لا تغادر محركاتها ، عبر أزمنتها ، لكنها ، في الزمن  المعاش ، تفتح شرخا ً ـ شقا ً ـ في الذاكرة : عصر  كفت اللغات أن تقول إلا بذهابها نحو لغات مجاورة ، أخرى ، كي  تكمل مسار  لوعة  الوعي ـ واشتغال الأصابع عبر الزمن . إن نصوص علي الخالد تعيد صياغة المخيال وقد تكشف عن فضاءات دفعت بالإطار وبالمفهوم ـ نحو فضاء الاتساع . انه  لا يصور  شواخص أزمنة ، أو خرائب حضارات ، إلا بما يحمله الأثر من مغادرة : حركة فعالة ، وتوقدات . انه ، يعمل بسر العمل ولا  يترك للسر أن ينكشف ... فالدينامية  لا تصبح ، بحسب ( عمانوئيل كانت ) الشيء في ذاته ـ إلا  لأنها ـ في ديالكتيها  البنيوي ، تظهر الذي يبقى في القاع . فالمعنى يغدو كل الذي ينبثق عبر معناه  المضاف ، والمحذوف  وغير القابل للحذف . فالحركة لا تستقل ـ في ذاتها ـ ولا تنفصل البنية عن متجاوراتها .. لأن مهارة الرسام لا  تكف عن دراسة العلاقات : الحركات ، والبنيات ، داخل  نظام يولد ، في هذا التفاعل أو ما فوقه ، مخفيات الطبّاع الأول . أن د. علي الخالد لا يستنسخ ، بل يشتغل  كما يشتغل الرحم .. انه مشغول بالتتابع .. لأن كل ( ولادة ) هي تاريخ عنيد وطويل  للموت . وهو تاريخ لا ينفي الموت  القادم .. لكن ، تبقى ثمة مسافة  لا تغيب ، مسافة الكثافة ن والحضور ، وكل  ما  هو تأمل فعّال  في الوجود ، وغير منفصل  أو مقطع .. مسافة  يجعلها  الاختزال ، في خطاب الفن ، لا تحقق اتساعها ، ولكننا لا نراها إلا في إطارها ، حيث يتدخل مخيال ، وأصابع ، وحساسية الرسام ، كي تجعلها مرئية ، ومراقبة : انه ينظم المعنى المولد لمصيره ، حيث يكف الموت ( المعنى )  إلا أن يكون  قد حمل فضاء ً للتوق ، أو إضاءة وجيزة  تسرد كل الذي يتستر وراء الأشكال ؛ وكل  الذي صار ذاكرة ـ ومشفرات ـ لا  تكف تمتد بكثافات أحلام  توّلد خفاياها . انه ، على حد قول لباشلار : بمثابة فلسفة تختزل  غنى لمختلف في فقر المتشابهات .    

الكلي ومظاهر الأجزاء ـ حول الأثر












     يثبت فن د. علي الخالد ، الكرافيكي ، ان قواعد العمل الفني ، لا تنتمي الى طبيعة  الأشياء ، ولكنها  ليست ذاتية خالصة . ان هذا التوازن ، في معالجة العناصر ،  يجعل عالمنا أمام مصائر تكمل خفايا  مقدماتها . هل ثمة مضامين ملغية ، أم هي قيد الانبثاق ..؟ ما المخفي ، في وضوح نصوص الرسام : حساسية  الصانع ، أم باثات  الفن ؟ وأخيرا ً ، كما اشغل شاكر حسن أل سعيد على ( وقائع الأثر والمراقبة ) ، ما الذي يدل عليه الأثر ــ الذي صار نصا ً .. ؟ يسهم الفنان علي الخالد ، بقصد أو بدونه ،  انه صار  هو الذي يدوّن  ما يراه ، منذ  لم تعد الأصابع إلا طرفا ً خاصا بالوعي . فالكلي  يسمح بالذهاب ، ابعد فابعد ، في الخفايا : ان الرسام لا يغادر حدود الأشكال الهندسية ، بعد  ان دمج التشخيص بها . فموضوعات  اغتراب الوعي ــ عن مساراته وامتداداته  النفسية والاجتماعية ، جعل المشهد الجمالي  يأخذ صيغة التعارض  ، أو النقد . ثمة مشاهد  لا تحتفل ، بل تتكون  : إنها  تتصادم ، وتتقاطع ، كي تقول الذي كان كامنا ً وراء فن التعبير . ثم جاء الإعلان : علامات للمقارنة  : سماءات ومشاهد  أرضية يتداخلان كانهما  في حلم ؛ كابوس  مصدع ، وحلم تغدو شفافيته طريقة تنفيذ ؛ وسيلة غدت غاية  ، جاعلا ً ذاته أمام الاتساع ، تتلصص الوقائع . ان الإنسان لا يختفي ، ولكنه لا يظهر . فالنزعة ما بعد التعبيرية ن وما بعد التجريد الخالص ، تتوقف  عند هذه النزعة  : ان الفن يبوح بما  سيبقى كامنا  في مجموع العلاقات ، وليس في غاية أخيرة .  والفنان ، في تنويعات  أشكاله  وعلاماته يدمج ، ولا يجد صعوبة في ذلك ، بين  المتضادات : الهندسية  والعضوية ، وبين  الاتساعات ونقاط التلاشي . فالنص خلية كونية تم تفكيكها  وجعلها  تجد وثباتها عبر  حساسية الفنان ــ وفنه : الطباعة بالحجر ، والزنك ، وبالمواد الأقل كلاسيكية ، الى جوار : ذات صاغتها القواعد والمفارقات . ان هذا البوح ، لا يغادر فضاء قرن كان التشكيل العربي  قد بلغ فيه ذروته ( في الانغلاق ) : ان الحداثة  لا تستقل ، ولا تنفصل ، عن حساسية  لا تغادر وعيها ، ومرجعياتها . ففي مشهد التشكيل العربي المتماثل ، كمرآة ، ونقوش زخرفية ، ولذائذ أحادية ،  لا يتوغل بل يتردد ، لا يغامر بل يمضي بعيدا في التبرج والتزيين ، نجد الفنان الخالد  يقاوم صعوبات الحفر في الصمت المدفون . ان فنه  يمسك بما وراء  اللعب ـ والتقنيات ـ فهو  لا يغادر خفايا  جعلت الخارج مرسوما بنظام ضربات الداخل ، وعمل المخيال المحاصر ، والمنفي . انه  لا يرثي ، ولا يمجد ، بل يفكك . انه لا يشهد كي يؤدي الفن دور الشاخص أو مآثر الأطلال ، ففي الخفايا  ، ووراء  المرئيات ،  النبض الذي يكمل ، انبثاقا ته  ، بقدر يناسب  مكونات مآزق  عصرنا : زيادة السكان ، وتقسيم مستند الى فعل التراكم ، وقرارات الحاسوب ، التلوث ، وموارد تنذر بالنفاد ، في عمق مشهد النزاع بين الارتداد من ناحية وبين وقائع  التدحرج في المجهول من ناحية ثانية . ان  فن علي الخالد ، له ـ مثل الوعي ـ  استغاثات : انه يصوّر خصائص عصرنا كما يفعل الطباع : انه  لا يستنجد إلا بوسائله في قهر انغلاق المديات . ففنه لا يتوخى ان يكون  علامة استهلاك ، عبر مظاهر الموت  والرفاهيات ،  أو مراقبة قائمة على شرعية النقض ، بل يذهب ، حيث  ثمة ما يقال ، في عالم تحكمه آليات  بدأت بالإيقاع المبكر للتكرارات ، ولا تريد التسليم برضاها  لحتميتها ، المحسوبة ،  بل القول  الذي  لم يقل إلا ما أخفاه ، طوال  أزمنة التدوين . ثمة أمل ، أو أمل  مضاد  لا يجعل المشهد أكثر انفتاحا ، أو اقل انغلاقا ،  إلا بصفته لا يريد ان يغادر ، أو يصمت ، وإنما ـ  هو ـ  كلاهما ، مسافة بين حدين  لا يلتقيان .  






الثلاثاء، 15 يوليو 2014

همنجواي في الحلة ح 10-احمد الحلي

مأساة كلب

في رحلة تالية إلى مدينة الشوملي ، التي طارت شهرتها من خلال الأغنية الذائعة ؛ "عالشوملي الشوملي ، نارك ولا جنة هلي"
 إلى أحراج هذه البلدة الكثيفة ، ذهب بمعية عدد من أصدقائه في رحلة لاصطياد ما يمكن اصطياده  من طيور أو أسماك .
  وكعادته في كل مرة قرر أن يبتعد عن أصحابه ، فوجد نفسه يدخل في أدغال كثيفة انفتحت بعد قليل على  فضاء متسع وقبل أن يلتقط أنفاسه رأى كلباً ضخم الجثة يزمجر متّجهاً نحوه ؛ " تلفتُّ يميناً وشمالاً ، فلم أجد أحداً فعلمت بأني المستهدف بهجوم الكلب المباغت هذا ، وبأسرع من لمح البصر وبطريقة لا شعورية وجدت نفسي ارفع يديَّ مقلصاً أصابعي وأخذت ابحث برجليَّ في الأرض مثيراً نقيع الغبار الكثيف من حولي محاولاً إيهام الكلب بأن الكائن الذي يستهدفه ليس من بني الإنسان ، وإنما هو وحش كاسر مثله وربما يكون أكثر فتكاً منه ، وبعد ان صار الكلب قريباً مني وأبصر هذا المشهد المروع ارتد على أعقابه هارباً . "
بعد مرور حوالي سنة على هذه الحادثة التي لم يجرؤ بالحديث عنها لأحد ، عادوا إلى المكان ذاته لغرض الاصطياد كعادتهم ؛ " فإذا رجل بدوي يتوجه نحونا ، وبعد أن ألقى التحية ، استفسر منا إن كنا نحن نفسنا الذين قدمنا إلى المكان في العام الماضي ، فقلت له : نعم ، فقال بعد أن تفحصّني ملياً ؛
لقد شاهدت عن بعد هجوم كلبي عليك وارتداده السريع ، والغريب في الأمر أن هذا الكلب وبعد مرور ثلاثة أيام ، أحسسنا انه أصيب بصدمة ثم مات بعدها ، فأرجو منك أن تخبرني ماذا فعلت له ، فقد فحصنا جسده فلم نجد أثراً لضربة ، فقلت له سأخبرك ماذا فعلت معه ؛ فقمت على الفور بتمثيل الحركة والهيئة التي اتخذتها دفاعاً عن نفسي ، وكذلك الصوت المزمجر الذي أطلقته ، فأحس الراعي بالخوف والهلع وعراه الاضطراب وساورني إحساس في تلك اللحظة الخاطفة بأنه ينظر إلي على إنني مجنون ، ولأخفف عنه قليلاً قلت له ممازحاً ؛   "إن كلبك مات مخروعاً  يا ولدي" !

حجّي مو  مستر !!

بينما  كان  يسير  بملابسه  ذات  الطابع  الأوربي  وقبعته  البيضاء  ،  ببشرته  البيضاء  المشربة  بالحمرة  وعينيه  الزرقاوين ، عائدا  من  رحلة  الصيد  على  الشاطئ  الذي  لم يظفر  منه بطائل ،  إذ  لحق  به  احد  الصبيان  وامسك  بردن  قميصه  صائحا  به  بوقاحة  ؛  مستر  .. كود  فش  !   فالتفتَ  إليه  بعد  أن  ألقى  نظرة  على  الجهة  التي  قدم  منها   فأبصر  عدداً  من  صيادي  السمك  وأمامهم  بضاعتهم  وهم  يترقبون  عودة  فتاهم  بصيده  السمين  ،  فزجره  بشدة ؛  ولك  شتريد مني ؟  تريدني  افش  لك  بطنك  ؟  
فما  كان  من  الصبي  المتذاكي  إلا  ان  تراجع  قليلا والدهشة تعقد لسانه صائحا  على  جماعته ؛ 
ولكم  هذا  طلع  حجّي  مو  مستر   !!

سمكتان

في إحدى المرّات وخلال فترة الحصار أيضاً ، وبينما كان يتجوّل في سوق الأسماك ، أعجبته سمكتان، كانت إحدى النساء تضعهما  أمامها ، وقدّر أن الواحدة منهما  تزن حوالي كيلوغرام ونصف،اقترب منها ومد يده إلى إحداهما ؛
- بكم سعر هذه ؟
- لا أبيع إحداهما ، وإنما الاثنتين معاً !
- ولماذا يتوجب عليّ أن أشتري الاثنتين معاً ، هل هما فردتا حذاء ؟

أسماك الله الحسنى

مشى بضع خطواتٍ أخرى في السوق ذاته ، فوجد امرأةً أخرى وهي تضع أمامها في حوضٍ صغير عدداً من الأسماك الحية من النوع الممتاز  ، اقترب منها وسألها عن سعر الكيلو الواحد منها ، فنظرت إليه متفحّصة ، وقالت باستهانة واستخفاف ؛ اذهب ، هذا مو أكلك .
فتعجّب من عجرفة هذه المرأة القروية الشمطاء ، وقال لها مازحاً ؛ يرحم والديك ، بكم سعر الكيلو ؟
قالت ؛ بعشرة آلاف ، فهاله ما سمع منها ، وقرر أن يولي الأدبار ، وهو يردد بصوت مسموع ؛ يبدو أنها أسماك الله الحسنى !