بحث هذه المدونة الإلكترونية

إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الأربعاء، 12 أكتوبر 2016

في المكتبة- إصدارات فنية وجمالية ونقدية- عادل كامل

في المكتبة

إصدارات فنية وجمالية ونقدية


 عادل كامل
    لولا آثار متفرقة نقشت فوق العظام، البردي، الطين، الجلود، الحجر، الورق، وصولا ً إلى عصر المعادن، والى عصر تقنيات عالمنا المعاصر، فهل كان ممكننا ً التعرف على ما لا يحصى من الوثائق ـ العلامات، تتحدث عن تاريخ راح يرسخ ريادته باستحداث: تحديات، مضادة لعوامل التلف، الإهمال، والنسيان، للحفاظ على كل ما يؤرخ تاريخ الإنسان، وأسفاره.
   إن الانتقال من عصر (الأصوات) إلى عصر (الكتابة) والحفر، شبيه بالانتقال من الغريزة إلى الوعي بإرادة الوجود، وديمومته، لمنح الحضارة اهتمامات أرقى بالبناء، والتقدم، والتهذيب.
   فكل وثيقة، مهما بدت غير مهمة، حملت آثار غائرة أو كلمات دوّنت بخامات قاومت الزمن، ما هي إلا حلقة في سفر شبيه بالخزين الكامن في قاع (الذاكرة) الجمعية، والفردية/ معا ً، ذاكرة تحكي قصة مشوقة، وشاقة، للمواجهات المبكرة مع قسوة الطبيعة،  وتقلباتها، مرورا ً بكوارث الحروب، وليس انتهاء ً بعصر يحدق في مستقبله المجهول: عصر الإبادات، الانخلاع والتشتت، وصناعة الموت.
    إن هذا الانتقال من (الأصوات) إلى (المدونات)،  كالانتقال من البرية إلى القرى، ومن المدن إلى العواصم، وكالتطور في أدوات الإنتاج، نحو الأدوات المنتجة لها، وكالانتقال من عصر الأم الكبرى، إلى عصر الإمبراطوريات بزعامات الرجال، وكالانتقال من عصور العبودية، إلى عصور تحرير العاملين على تطبيقات: الحرية...
    فالحرف، في الكلمة، والكلمة في العبارة، والجملة في الصفحة، والأخيرة في الكتاب، كلها تشكل موسوعة مركزية للرأسمال البشري الرمزي الذي شيّد بجهود مضنية للحفاظ على أسفار الإنسان، بمذاقها اللاذع، أو الشفاف....
   فثمة مدونات تبلورت عبر (الحرف) و (الصورة)، اجتمعت فيها خبرات: الكاتب، المصمم، الحفار، الطباع، و ....، كي تشكل خطوة في سلم لا يهبط إلى الأسفل، بل يرتفع إلى الذرى، موازيا ً حلم الحفاظ على الإنسان، وحضوره فوق هذا الكوكب.
[1] مصطفى عبد المعطي
نحت ـ برونز
    خصصت قاعة الزمالك للفن ـ بالقاهرة في مصر العربية ـ عرضا ً للأعمال البرونزية للنحات المصري الرائد مصطفى عبد المعطي (1938/الإسكندرية)، مع إصدار كاتلوك ـ دليل أنيق ـ بمثابة كتاب مصوّر لأعماله الفنية.
    إننا إزاء وثيقة تسمح للمتلقي أن يشعر بالأسف لمئات المعارض ـ الجمعية والشخصية ـ التي أقيمت، على مدى القرن الماضي، ولم تترك أثرا ً دالا ً عليها، كهذا الكتاب الذي تضمن عرضا ً لأعماله الفنية، ولكتابات نقدية مرافقة لتجربته الرائدة

   فكتب د. فاروق وهبة: " تقوم التجربة الإبداعية عند الفنان مصطفى عبد المعطي على شمولية الرؤية المترامية الأبعاد بأبجدية تجريبية شديدة الخصوصية هندسية المقاصد، يخرج فيها العمل الفني من مصنف الحدود الحاسمة بين التصوير والنحت. توالت التجارب مرورا ً بالتنقيب في الإشارات والرموز الرياضية والفلكية والسحرية، بحثا ً عن أبجدية ميتافيزيقية، وتوازي مع التصوير سلاسة في فن الرسم كفن مكتمل، له أصول وأحكام. وتدور تجربة الفنان في الذاكرة الفرعونية وطبيعة ملخصة إلى أقصى حدود وتفاعلت تجربته وتفاقمت لتصل إلى إطلاق العنان للبعد الثالث، ليتسيد الموقف، ولا مناص في أن يتحول هذا التجسد، إلى أعمال نحتية، تفاجئنا بملكة فاعلة، كمن يمارس النحت منذ أمد بعيد وهو يثبت بهذا إن ذاكرته البصرية تحمل مساحة عريضة من المخزون الثقافي والفني. إن تجربة النحت عند الفنان مصطفى عبد المعطي هي ارث له أصول ارابسكية وفرعونية وشعبية، وهي مقدرة تعبر عن اقتداره ووصوله إلى أعلى درجات الموهبة التي تعطي للفنان بلا حساب ما تمليه إرادته. إن الفنان مصطفى عبد المعطي، من فناني مصر القلائل، الذين يملكون تفوق القدرة النادرة، التي تتيح له أن يوضع في مصاف الفنانين العالميين."
 * قاعة الزمالك للفن/ القاهرة ـ جمهورية مصر العربية/ 2015


[2]  [تحولات تقنيات
الإظهار في النحت المعاصر]

     يرصد النحات الراحل أياد حامد، في كتابه [تحولات تقنيات الإظهار في النحت المعاصر] العلاقات القائمة بين فن (النحت) والمتغيرات الحاصلة في المجالات الاجتماعية، ومنها العلمية، والتكنولوجية، والنفسية، بوصفها علاقة غير منظورة، في الغالب، عند المراقب العام، أو لدى المتلقي. فالثورات (الفنية) ـ على صعيد الأشكال والمعالجات والخامات ـ وعلى صعيد الرؤى والأساليب وطرق المعالجة ـ  تحدث على نحو لا يمكن عزله عن التطور الحاصل في المجالات المختلفة لبنية الحياة، وأنساقها.
    ولأن الكاتب ـ والكتاب رسالة ماجستير ـ يمتلك ممارسة عملية لفن النحت، فقد راح يحفر في المناطق ذات الصلة بالحركات الفنية، وأثرها في الرؤية الجمالية. فالنحت ليس فنا ً مستقلا ً عن العلم، فثمة نسبة معينة من المعارف العلمية لدى النحات، مثلما نجد أن أصحاب النظريات العلمية والمخترعات المستحدثة يسهمون بإزالة الغموض والالتباسات الخاصة بالمنجزات الفنية، والجمالية.
   فلقد شهد النحت المعاصر استعمال العديد من الأساليب والتقنيات في اظهر المنجز النحتي للوجود، فقد كان هذا الفن يسير بموازاة التحولات الفنية الأخرى التي حدثت في العالم...ن وقد شكل نهاية القرن التاسع عشر، بداية الانطلاق الحقيقي للنحت بتجاربه المعاصرة ممثلة في تجارب النحاتين الرواد لتأسيس المبادئ  التقنية والجمالية للإظهار. وهذا ما أدى إلى نشوء حركة نحتية نشطة ذات أساليب جمالية وتقنية عديدة خضوع كل مرحلة من مراحله إلى ضوابط اجتماعية وثقافية وسياسية كان لها الأثر الكبير في تحديد مسارات التحول التقني والجمالي لعملية الإظهار.
  • صدر الكتاب عن "شبكة الإعلام العراقي" بغداد ـ 2014



[3] [جغرافية الجدل في الفكر والفلسفة والفن ـ العصور القديمة ـ رنين ورموز وبشر]


    يذكر الفنان د. شوقي الموسوي في كتابه [جغرافية الجدل في الفكر والفلسفة والفن ـ العصور القديمة ـ رنين ورموز وبشر] ان كتابه يقدم مجموعة من المبادئ والأسس الجدلية في مجال الفكر لدى الإنسان القديم، ويحاول أيضا ً ان يتتبع تطور الفكر الإنساني القديم بحدود مفهوم الجدل أو الجدلية التي توصل به إلى مراحل متقدمة من التفكير، إلى مراحل إنتاج الأسئلة، وخاصة عندما جوبه الإنسان آنذاك بمشكلات تتعدى الظواهر المجردة، مثل مشكلة (أصل الكون) ومشكلة الغاية (غاية الوجود)، حاول جاهدا ً التوصل إلى بعض الإجابات المرضية عن مثل هكذا أسئلة، أقحمته فيها تأملاته في صراع جدلي مع هذا الكون العجيب الممتلئ بالأسرار والأطياف، التي تفسر ظواهر عالم المرئيات ...، وبهذا التصوّر الفكري يصح لنا عد هذا الاتجاه المتمثل بالتفكير التأملي المستعين بالجدل، احد أوجه محاولات الإنسان الأولى الرامية إلى تنظيم تأملاته المبعثرة وبنائها جدليا ً، بشكل يسهل له إدراك المرئيات (الجزئيات) المتعددة في إطار فكري شامل موحد.. وكلها قد لا تشكل مشروعا ً لتأسيس منهج جدلي موحد حسب، بل يرتقي به إلى دلالات أعمق بواسطة معان العلم الكلي بالمبادئ الأولى.
   فيحلل الكاتب موضوعات، مثل: مفهوم الجدل فلسفيا ً/ جغرافية الجدل في الفكر الإنساني القديم ما قبل الطوفان، وفي الفكر العراقي، والفكر المصري/ وثمة تطبيقات في فنون الإنسان البدائي، وباقي الحضارات/  من ثم يدرس التطبيقات في فنون حضارتي الهند والصين القديمتين/ ليدرس التطبيقات الجدلية في فلسفة وفنون حضارة اليونان القديمة. مستنتجا ً ان آليات الجدل والتصورات الكلية، هي إحدى أهم القوى الفكرية الفاعلة في تشكيل بنية الصورة الزمانية في حضارات الشرق القديمة ـ العراقية على وفق منظور جدلي يستعين به الفنان القديم للوصول إلى بنية متراكبة ومتداخلة بين ما هو معلن وما هو مخفي لخلق انساق تقترب من الهندسة متسمة بالوحدة. وقد لعب عنصر الخيال المشحون بالطاقات الروحانية المستحصلة من آليات الجدل في فنون الحضارات القديمة، دورا ً رئيسيا ً في اقتراح أشكال مشبعة بالقيم الروحية التي تسهم في ترحيل ما هو جزئي إلى كلي. كي يلاحظ ان المحرك الأول للفنون الشرقية القديمة هو القوى اللا مرئية، مما سمح للفنان ان يحاول على وفق منهجه الجدلي المستند إلى رؤية حدسية، تضمنت نتاجاته بمسحة من المثال المتجسد بعالم الحريات.
  • صدر الكتاب عن دار (رند) للطباعة والنشر والتوزيع ـ دمشق ـ 2011




[4]   [السطح التصويري
بين التخيل والمنطق والتأويل]


  كما هي العلاقة بين العلم ـ والتكنولوجيا لا تمر إلا عبر التطبيقات/ التجريب، فان هذه العلاقة لا يمكن ان تحقق تقدما ً، بين التنظير والمتلقي العام، فضلا ً عن دارسي الفنون، إلا عبر الدراسات التي  تعمل على ردم الفجوات، إن لم اقل الانقطاعات، بينهما.
   ولابد من الاعتراف بالصعوبات، بعد الاعتراف بندرة الدراسات المعنية بتقليص المسافات بين المجالات النظرية/النقدية، والمجالات العملية/ التطبيقية..، في مسارات الفن الحديث، وتحولاته، خلال القرن الأخير.
    في كتابه [السطح التصويري ـ بين التخيّل والمنطق والتأويل] لا يهدم الباحث أ. د. علي شناوة وادي، جسورا ً قائمة، بل يعمل على تأسيسها. فثمة موضوعات تعنى بالفن الأوربي، وجماليات (الحداثة)، التأويل، وقضايا كموت الفن ..الخ، التي تناولها الباحث، تبقى محفزا ً لدراستها، في واقعها، وإعادة استثمارها، وإنتاجها، بعد ان بلغت ذروتها، وربما أفولها، في بلدانها التي ازدهرت فيها. فالمنحى العام للدراسات النظرية/ النقدية،  لن يسهم بردم الفجوات والفراغات بين الجمهور العام، والفن المعاصر حسب، بل بين الفلسفات الحديثة وطلاب الفن أنفسهم، بما يحدث من تنوع في مجالات المعرفة المعاصرة، وتعقيداتها.
   فيذكر المؤلف ان دراساته، عبر منهجها الوصفي التحليلي تارة، والتحليلي النقدي بمدياته التأويلية تارة أخرى..، تتقصى المنظومة العلاماتية لمصطلحات فنية لها انشغالاتها الفاعلة في السطح التصويري، وتلمس البنية التأسيسية التي تقوم عليها هذه المصطلحات الجمالية فلسفيا ً ونفسيا ً ونقديا ً، فضلا ً عن دراسة حركة العناصر ووسائل التنظيم فيها، ودراسة المنحى الابستمولوجي عبر  التأسيسات المعرفية والروحية والرؤيوية والفلسفية والنفسية، الذي يعد إثراء ً مفاهيميا ً عبر جدله وإشكالاته وإفرازاته ومخرجاته، بل معطياته مع التعبيري والشكلاني والتقني والأسلوبي. إذ ْ يعد السطح منظومة علاقاتية مركبة تقوم على أساس إبداعي بقدرات كيفية معقدة تتسم بالأصالة، وتستنهض كما من المسميات الاستطيقية بشكلها الانتقائي، لتعبر بذلك عن معطى جمالي يقف وراءه كم من العوامل الذاتية والموضوعية، وعلى مستوى التأويلية  والتفكيك، يأخذ الخطاب الجمالي صورا ً مغايرة كمثل هذه المسميات.

* رقم الإيداع في المكتبة الوطنية (585) لـعام 2007. الحلة ـ مطبعة الصادق.




[5] فن الرسم
في القرن العشرين

     لو لم يكن الفن ضرورة، تماثل ألتوق للتحرر، لكان انتشاره محدودا ً، وليس ظاهرة رافقت المجتمعات، منذ نشأتها، وحتى تحول عالمنا إلى قرية صغيرة.
    وفن الرسم ـ المعني بالبصريات ـ لا يمكن عزله عن الفنون السمعية، والحدسية، من ناحية، ولا عن المجال العملي النفعي الخاص بالتطور في مجالات الحياة اليومية، من ناحية ثانية.
    فالكاتب "جيان كاسو" في كتابه [فن الرسم في القرن العشرين] ترجمة: لؤي مثنى بكتاش، يسلط الضوء على قرن  شهد تحولات شتى وفي مجالات مختلفة ومنها فن الرسم.
    ففي مناقشة مستفيضة واضاءات على مسيرة الحركات الفنية التي ظهرت في القرن العشرين وازدهرت فيه وأثرت في مجمل الاتجاهات الفنية العالمية خاصة: الانطباعية/ التكعيبية/ التعبيرية/ الوحشية/ المستقبلية/ السريالية/ والطليعية...الخ، من الاتجاهات التي أبدع فيها رواد الفن التشكيلي في هذا القرن الذي شاعت فيه مفاهيم الثقافة والأدب والفلسفة، وازدهرت ازدهارا ً تجاوز الحدود الجغرافية لعاصمة الفن، باريس، نحو العالم بأسره.
    على أن المؤلف ـ وإن كان يؤدي دور المؤرخ ـ اتخذ من النقد الإبداعي منهجا ً له يسمح للمتلقي بقراءة شاملة لدراسة الاتجاهات الفنية وتنوعها، ضمن العوامل المؤثرة في إنتاج الفن، وأهميته في إثراء المعرفة الجمالية.
   فإذا كان فن الرسم ـ في القرن العشرين ـ قدم مفهوما ً يخص تحطيم الصورة، بدءا ً بالانطباعية، فانه ذهب ابعد من ذلك في منح الرسامين مغامرة استحداث أساليب ترى الواقع من زوايا تمنح الأفكار شرعية، ومغامرة أيضا ً، في عالم ظهرت فيه النسبية، وتفكيك الذرة، مثلما شهد حروبا ً مروعة أدت إلى تحولات كبرى على صعيد الأنظمة الحضارية، وتطبيقاتها، لتجد موقعها في تحرير (الخيال)  ومده بتحديات تتجاوز المفاهيم التقليدية، نحو عالم بصري زاخر بالمشفرات، والتأويلات، والأسرار.
   فيذكر الكاتب كاسو: " يجب البحث عن جذور هذا التغيير خارج الفن. فقد اظهر النظام الاقتصادي الرأسمالي قدرته حتى الآن على التجدد الذاتي. ولكن تناقضاته العميقة نتج عنها انحلال الصيغ الثقافية. وان الظروف الاقتصادية التي خضع لها الفن هي حتمية في الواقع. وفي التحليل للسوق الحالي وانعكاساته في الفن نجد انه لم يترك فجوات كثيرة للحرية الفنية: فهمل ذو معنى يمكنه أن يكون امتصاصا ً للأعمال الطليعية ذاتها. على الرغم من انه ـ كما اظهر ادوارد سانجنتي ـ ان الطليعية هي ظاهرة برجوازية، لجأ إليها الفنانون الذين أرادوا معارضة وحرية في هذا المنهج. وعلى الرغم من ذلك، ولحد الآن لم يكن تحقيقها ممكنا ً، وان كان ذلك بنسبة قليلة."
    إن قضية تهديم الخيال التقليدي اتبعت طريقين متداخلين بصورة منطقية:  احدهما يسمى بالبنائي، وهو ذو عامل عقلي راجح، والآخر يسمى بالمعبر، وهو إظهار المعنى الباطني.
موضحا ً: " إن عصرنا ـ عصر الصورة ـ كما اسماه بحق ميشيل راغون، يخلو في الواقع من الخيال الحقيقي. ويعبر بالتحديد عن الآتي: عن عدم امتلاك الخيال،  وتفتيت المعروف، والمقبول.  إن ظروف مجتمعنا منعت، بلا شك، خلق خيال جديد: لأن انحلال تلك الصورة التقليدية، وعدم الإمكانية لأخرى غيرها هي مظاهر للمشكلة نفسها. ويبدو  اليوم إن الفن نفسه هو الذي تلاشى، والطليعية طغت على ما فُهم بوصفه فنا ً."
  • الكتاب صدر عن  وزارة الثقافة/  دار المأمون ـ بغداد ـ2013

[6] الانزياح في الخزف المعاصر
    يأتي كتاب د. محمد ألعبيدي [الانزياح في الخزف المعاصر] بجزأين، 2016، لاستذكار مسارات بلغت فيها الحداثة الأوربية ذروتها، ممهدة لمفهوم إعادة إنتاج (الفن) بروح العصر، بما يتمتع به العصر من صخب، تصادمات، اختلافات، وتقنيات تذهب ابعد من خيالها النظري، العلمي، بل ومن العلم بوصفه لم يترك حيزا ً لم يحاول سبر مناطقه القصية.
   فعلى خلاف موقف الناقد الانكليزي "هربرت ريد" الذي منح الخزف مرتبة الفنون اليدوية، التطبيقية، والنفعية، نجد الباحث محمد ألعبيدي، يتمسك بالحفر في لغز (الخزف) بوصفه رافق الإنسان بالانتقال من عصر الأصوات إلى زمن الكتابة، وبقراءة أكثر خصائص العصور اشتباكا ً للمفاهيم، القيم، المثل، والأشكال المستحدثة.
    فإذا كان "جون كوهين" يُعد احد مؤسسي تيار (الانزياح)، والذي طوره "تيري تيدوروف"، فان ألعبيدي سيتوسع بالعثور على اشتباكات لا تحصى في الفلسفة، النظريات، الاتجاهات الأدبية، الأفكار، التقنيات، والابتكارات الأسلوبية التي غذت أنظمة الانزياح، بالاستناد إلى دحض (الثابت) و (الأبدي) و (المقدس)، نحو فهم أعمق  لديالكتيك فن الخزف بالحداثة، وما بعدها. مراقبا ً بدقة جدلية التأثر والتأثير، والحذف والاضافة، بوصف الخزف احد علامات استلهام أكثر الرهافات قدرة على احتواء التركيب، التداخل، الانصهار، التوليف، برصد فن الخزف وهو يتبنى مقولة غوته: روح العصر.
    فبعد تحليل مصطلح (الانزياح) ومنهجيته في النقد الحديث، أعطى عناية فائقة لهذا المقترب الرئيس والفاعل في دراسة النصوص الفنية، وتحليلها، وتسليط الضوء على دور (الانزياح) في ضرورة التوفيق بين المصطلحات الكثيرة، من اجل تعريف حدود النظرة الشمولية للظاهرة الإبداعية بإسنادها إلى : حضور المبدع، مؤلفا ً أو مستهلكا ً، وحضور الشكل أو الصورة، لتشكل الظاهرة الجمالية.
   فالانزياحات ستتنوع بتنوع المغامرات الفنية المعاصرة في شتى المجالات؛ من الفلسفة إلى الأسلوبية، من البنائية إلى التفكيكية، من التعبيرية إلى الرمزية، ومن النقد إلى الشعرية ..الخ، كي تحتم دينامية النفي، ونفي النفي، عن قدرات فن الخزف على صياغة علاماته المستمدة من مكونات عصر قائم على الوفرة، الاختلاف، والتقويض.
   ولعل المكانة التي أولاها الباحث لفن الخزف، ستمنح المتلقي، المعني بالمعرفة، والثقافة، والخزاف على وجه التحديد، لقراءة تستند وتقوم على قراءات ترجعنا إلى الأصول البكر للخامة، وموقعها في التدشين الفني،  بوصفها حاملة للغز الجسد ـ ولروح الإنسان، وليس بوصفها حاملة تطبيقا ً نفعيا ً، فضلا ً عن نزعة الانزياح المتواصلة لدينامية العلامات، الأشكال، الرموز، ومدى انشغالها بروافد العصر العلمية، التقنية، في سياق تبلور ظاهرة  فنية لها خصائصها الذاتية ـ الفردية، في عالم تحكمه انساق الموجة الثالثة، عصر ما بعد الصناعة، وتتحكم به تيارات العولمة، حيث أصبح فن الخزف مدفنا ً، لكن ليس للموتى، بل لكيانات وأجيال تحثنا أن نتلمس فيها خصائصها الفريدة، أسلوبا ًيحقق دينامية المفاهيم التوليدية، لفنون تكاد ـ هي الأخرى ـ تتعرض للانزياح، في عصر البضائع، والسلع، مانحا ً مغامرته الجمالية أصولها بروافدها المعرفية، الفلسفية، وكل ما يخص اللا متوقع الحاصل في زمن التصادمات، ومغامرات الخيال الأبعد، نحو قراءة يتحول فيها المتلقي، إلى جسر أو ممر نحو الإقامة في أكثر المناطق: خلخلة، حركة، وشوقا ً لاكتشاف ما لم يكتشف بعد.

* صدر الكتاب بجزأين عن دار الفراهيدي للنشر والتوزيع ـ بغداد ـ 2016.



كينيث كوك: سحر الأعداد- شعر

شعر
كينيث كوك: سحر الأعداد

Previous image Next image
/


كينيث كوك (1925-2002) شاعر ومؤلف مسرحي وأستاذ جامعي أميركي من مواليد مدينة سنسناتي بولاية أوهايو. تلقى تعليمه في جامعة هارفرد ونال شهادة الدكتوراه من جامعة كولومبيا. بدأ النشر مبكرا وامتد نشاطه الأدبي والأكاديمي منذ عام 1950 حتى وفاته. أصبح عضوا بارزا في جماعة أدبية أطلق عليها اسم ((مدرسة نيويورك)) تضم شعراء من بينهم فرانك أوهارا وجون آشبري.
بدأ كوك نشر كتبه خلال ستينات القرن الماضي الا انه لم ينل حظه من الشهرة الا في السبعينات مع ظهور مجموعته المعنونة ((فن الحب: قصائد)) عام 1975 تلتها مجموعات عديدة نال بعضها جوائز أدبية مهمة مثل جائزة بولنغن عن مجموعته ((قطار)) عام 1994 ثم جائزة فاي بيتا كابا عن مجموعته ((عناوين جديدة)) عام 2000.
عمل كوك في التدريس الجامعي وتدريس الكتابة الإبداعية، كما أطلق عام 1970 كتابا رائدا في تعليم الشعر عنوانه ((رغبات وكذبات وأحلام: تعليم الأطفال كتابة الشعر)) تبعه بكتب أخرى ومختارات شعرية تعنى بتعليم الأطفال والكبار تذوق الشعر فهمه وتأليفه. نشر كوك أيضا مئات المسرحيات الطليعية ورواية واحدة ومجموعة قصصية.
سحر الأعداد
سحر الأعداد— 1
كم كان غريبا سماع الأثاث يُنقل من مكان إلى آخر في الشقة في الطابق العلوي!                                       
كنتُ في السادسة والعشرين وأنتِ في الواحدة والعشرين.
سحر الأعداد— 2
سألتـِني إن كنت أريد الهرب، لكنني قلت لا وواصلت المسير.
كنتُ في التاسعة عشر، وأنتِ في السابعة.
سحر الأعداد— 3
أجل، ولكن هل سين يحبنا حقا؟
كنا كلانا في السابعة والعشرين.
سحر الأعداد— 4
تشبهين جيري لويس (1950)
سحر الأعداد— 5
جدي وجدتي يريدانك أن تذهبي إلى منزلهما لتناول طعام العشاء.
كانا في التاسعة والستين وأنا سنتان ونصف.
سحر الأعداد— 6
في أحد الأيام عندما كنت في التاسعة والعشرين من العمر التقيت بك ولم يحدث شيء.
سحر الأعداد— 7
كلا، بالطبع لم أكن أنا من جاء إلى المكتبة!
عينان بنيتان، وجنتان متوردتان، شعر بني. كنتُ في التاسعة والعشرين، وأنتِ في السادسة عشرة.
سحر الأعداد— 8
بعد أن مارسنا الحب في إحدى الليالي في ((روكبورت)) خرجتُ وقبـّلت الطريق
كنت أشعر ببالغ الإثارة. كنت في الثالثة والعشرين وأنت في التاسعة عشرة.
سحر الأعداد— 9
كنت في التاسعة والعشرين وأنت كذلك. قضينا وقتا مفعما بالعاطفة والشهوة.
كل شيء قرأته كان يتحول إلى قصة عنك وعني، وكل شيء قمت به يتحول إلى قصيدة.
_________________________________



الثلاثاء، 11 أكتوبر 2016

سلافا حجازي ثورة قلب في فنجان مكسور-ابراهيم ابراهيم


مبدعون
سلافا حجازي ثورة قلب في فنجان مكسور
ابراهيم ابراهيم 

     قد تكون سلافا حجازي اسم من الأسماء في لغة من لغات البشر لا يحمل سوى دلالة انثى في معناه الدلالي لكن تفاصيل خارطتها و قراءة فنجانها فيما بعد أو قبل لحظة الشمس تظهر لك عمقاً إنسانياً أكثر من مساحة عشق أو وطن يمكن للمرء أن يحلم به. 
نعم العالم قرية صغيرة و المسمى بالافتراضي " الفيسبوك " قرية أصغر، و تحية الصباح و المساء بين أقصى الجنوب البعيد و أقصى الشمال الابعد تَعبرُ حالاتنا النفسية ببرودة تشبه نسمات الياسمينة التي راقصت طفولتنا وهكذا كانت أمسيتي مع خطوط و ظلال و في بعض الاحيان الوان المنتشرة في الحقول المحيطة بالفيسبوك.

 كائن بشري مغاير و عملية ولادة مسلحة تديرها حركات قلم سلافا حجازي بالابيض و الاسود خطوط ناقمة و مستاءة كما توحي خلفية الباهتة في انحناءاتها على أشياء لا ترغب بها القلوب الصغيرة التي تشبه قلبها، تلك الخطوط التي تمتد إلى ما بعد خطها الاصلي لتُعَبِر سلافا عن لحظة صمت مخيفة تنتمي و ينتمي إليها دمشقها التي هي نفسها بدأت تفوح برائحة الرصاص بدلاً من بردى و ياسمينها، الكائن الممتد هو ليس انثى و هو ليس رجلاً لكن ايحاء لكائن بشري يتمتع بصمت لا يشبه صمت سلافا و أشيائها الجميلة الي تحاصرها في ظل الصخب القاهر. لا تنسى شفافية الفنانة بياض الامل الممدد عبر بقع تحيط بالسكاكين و القنابل و الرصاصات كي تحلم بالعودة قليلاً إلى صباحات القهوة الدمشقية.

هل للمرء حقيقتان تشبها بعضهما البعض مع فارق الممارسات و معالجة المَشاهد الايحائية التي تعبر عن أرشبف تنهداته أو رقصات مشاعره تجاه الامتدادات الروحية اللامتناهية التي تباغت سلافا حجازي في لحظات اللالون و اللا عالم و اللا حدود لخيالاتها .. لا مسافات ممتدة طويلة بين سلافا و زوايا التحديد الحسي في حركات التي تحمل من العناوين ما يكفي لكل واحد تحميلها كيفما يشاء.

 تراقص الاسئلة ريشتها الرصاصية ليحاصر الاسود الابيض القادم و بعنوان مسلسل جديد عن وطن مربوط من قلب سلافا إلى شفاه الصغير الذي بات يخجل من صدر أمه و يتركه ليلعب لعبة الوطن... مَنْ يقتل مَنْ..؟؟ مشاعرها تجاور الازقة التي هاجرت دمشق بالاسود و تركت الاحمر الدامي يلون وجوه القادمين مع طيور الاغتراب لتسكن في رعب مسدس كاتم للحب و العشق و الوطن.. نعم سلافا ثائرة مغايرة تفعل كل شيء من أجل دُمَّر و الزبداني وحلب وحماه و حمص إلا الرصاصات و الفلسفات..!!! 
تبقى التوافذ الخشبية في أحيائها المهاجرة و مواعيد القهوة دمشق.. دمشق...دمشق و الباقي أصابع لم يبق منها سوى واحدة.. لترسم بكائها بالحناء و قليل من الالوان.. حجازي هذه تلغي بعض ما تعودنا عليه من أن الانتقال من التشكيل إلى التصوير إلى الرسم المخطط بالابيض والاسود تتطلب استعداد الذائقة الجمالية لمجسمات اللون و الفكرة حسب توحي الزوايا و النظر.. النقطة لدى سلافا لوحة مليئة بالاشياء قد لا يراه المرء للوهلة الاولى.

..   
و اللحظات التي تلي العيون تكبر تلك الأشياء و تتمدد إلى مساحات عشق تكفي كل عشاق الارض. ما الفرق مثلاً في أن تسمع فيروز و تتألم من سطوة الموسيقى و الصوت و بين أن تتألم بموسيقى مرسومة بالألوان، مفروشة الألم بتفاصيله و أنت تراقب القادم. سلافا لم تعرف نوع الموسيقى التي تعزفها لكنها المؤكد أنها الموسيقى و هذا أجمل ما في تنهداتها و المؤكد أنها تخترق الجراح الإنساني لكنها تباغتك بأن جدائل فتاة سورية صغيرة معلقة بحبل غسيل شائك لا بد أن تنشف و يلبسها القادمون من بعدها هو فستان واحد فقط لكنه أبيض يشبه قلبها. 
  




المحـــرقـــــة-فرج ياسين


قصة قصيرة
المحـــرقـــــة


   
(ذا كان القلبُ مرتاباً، فإن الكلمات لا تُجدي نفعاً)
((مسلسل الحسناء والوحش))
حين شددتُ قامتي متوازناً فوق المنضدة. كانت حافة النافذة تمس سرتي، ويكاد حرفها العلوي يقع تحت أرنبة أنفي، الأمر الذي لم يتح لي النظر إلى داخل الفجوة العميقة السوداء . ثم تسلقت إلى مسامعي نبرة أبي الجافة الآمرة .
- رويدا ، رويدا . انحني الآن وأسند مؤخرتك إلى الحائط. أشد ما كان يخيفني علوق شباك العناكب في أصابعي نسيجها اللزج، واحتمال وجود بيضها أو صغارها الميتة، ودوت في رأسي أصوات انسحاق بطونها الجوف اليابسة بين أناملي . لكنني انحنيت وأسندت مؤخرتي متوازناً في قتام رجفة ، أخذت بجماع جسدي قلت : أنني مستعد يا أبتي .
كانت الساعة قد جاوزت الثامنة ، والعتمة حشت كل مرافق البيت وزواياه. وقد ظل أبي يتصبب عرقاً منذ الساعة الثالثة ظهراً تحت شمس تموز اللاهبة، جاثياً أمام المحرقة التي صنعها بنفسه .
نصف برميل مثقب الجوانب في خطوط متوازية شديدة القرب من بعضها ، تنفث الدخان موجات رصاصية سريعة، تحت ربوة متأرجحة من اللهب المستمر. عشرات الكتب، ورزم الأوراق الصغيرة والمجلات والصحف، ألقى بها في ذلك الأتون . وكنت أحمل إليه صناديق الكارتون المملوءة ، وأضعها بين يديه وهو يجلس في ظل رفرف النافذة في الممر العريض، أمام الحديقة. جيب دشداشته المفتوح، يكشف عن صدره الكثيف الشعر وطيات بطنه الأسمر المغضن الجلد. ومن وراء زجاج نظارته، جعلت فقاعات العرق تنفجر وتنسرب حول زاويتي عينيه، وفي الغضون الشائكة في وجنتيه.
كم فكرت بأن ذلك الماء البراق يختلط بعصارة من نوع مختلف، ينبجس من أعماق تكتظ بالندم والأسى! دأبت على مراقبته ، وهو يقلب الأوراق. ويتصفح الكتب والمجلات التي كنت أدفع بها إليه. متجرءاً في محاولتين أو ثلاث، إقحام عيني من وراء رأسه فأفلح في قراءة عدد من العناوين، أو مشاهدة تلك السطور التي وضع تحتها خطوطاً مختلفة الطول. بقلم الرصاص، ولسبب لا أعرف كنهه، ما كنت لأمتلك الجرأة على النظر الصريح إلى أي من هذه الأوراق ، أو الكتب، كان إحساساً عميقاً بالخجل تسربلت به كل هبة في نفسي! مم كنت خجلاً ؟ وقد زين صمته الجريح لنفسي أن تغلف هجسها الحزين ، بالانقياد الآلي إلى تنفيذ ما يريده مني . وتخفي كل ذلك وراء غبار صمت يفهق ببلاغة دقائقه .
في الساعة الثامنة ، وبعد رفض دعوتين للوالدة من أجل الدخول ، وتناول شيء من الطعام أو الشراب ، طرح نظارته وجفف عرق جبهته ، وجعل ينظر في وجهي لأول مرة منذ الساعة الواحدة . وقد خيل إلي أن شيئاً ما جعل يطوف حول وجهه تلك اللحظة . لم يكن ابتسامة - على كل حال - بل شيء يشبه كلمة شكراً إذا قيلت بطريقة تجعلها مصممة ليس من أجل أحد ، بل من أجل كل شيء .
ثم دخل البيت صامتاً فدرجت خلفه ، وتوقفت أمام الثلاجة في المطبخ ، تناولت قنينة ماء مبرد ، فساورني برهة أن أذهب بها إليه . ألم يكن ضامئاً ؟ بيد أنني فشلت في احتراق قلقي ، فأوثقت خطوتي في مكانها ، واكتفيت بالشرب .
أعدت القنينة إلى مكانها ثم ذهبت خلفه . فرأيته وهو يقف في الفسحة المربعة التي في وسط السلم ، يستل نظارته ثم يضعها فوق انفه . التفت إلي غير انه لم يقل شيئاً . بعد ذلك بقليل عاد أدراجه ، فتراجعت نزلاً حتى أتيحت لي رؤيته وهو يتم طي منضدة أحضرها من إحدى الحجرات . ثم عاد إلى مكانه في صحن السلم فنصب المنضدة . ثم نقر على الحائط بأنامله . تسمع خاشعاً لكأنه يتوقع وجود من سيبادر للإجابة على إشارته ، وكنت أراقب لاهثاً حين بصرت به ، وهو يرمي الجدار بسلسلة من الضربات بجمع كفه . حتى تشققت صفحة الجدار في خطوط رقيقة . أول الأمر راسمة مستيطلاً كبيراً ، لم يصمد أمام الضربات الجديدة ، فتقصفت أطرافه كلها ، ولم يزل كذلك حتى خيل إلي أن الجدار قد تهاوى . لكنه استقبل اللوح الخشبي المنتزع بكفيه وأمسك بحاشيته السفلى ، ثم أدناه إلى صدره فأحتضنه واركنه في طرف من المكان .
قال : هيا يا بني أعتل هذه المنضدة ؟
ليس ثمة غير الظلمة الحالكة في عمق الفجوة أما شباك العناكب ، فمن غير المعقول أنها ستكون هناك - قلت لنفسي - لأن المكان محكم الغلق ، ما شككت به مرة قط .. لذلك فقد كانت الظلمة هي الهاجس الوحيد الذي بات يحرك مخاوفي . ولم أمتلك الجرأة لأطلب إليه الذهاب حتى نهاية السلم ، والضغط على زر النور الذي يوجد هناك. لذلك اكتفيت بإرسال بصري في عمق الحلكة . لقد عز علي أن أخيب ظنه ، فلم أقل له أنني لا أرى الرزمة . بل عزمت على إطلاق يدي في الفجوة ، حقاً لقد كنت وجلاً ومروعاً . بيد أن الأمر لا يحتمل التأخير . أنه الفصل الأخير في يوم يضج بالمفارقة، فأغمضت عيني وأطلقت كفي في الفراغ مستقرئاً بأناملي ما وراء الحافة الدنيا . ثمة مس مكهرب لزج تسرب من ذرات التراب اللازبة هناك في القاع ، وعام فوق زغب جلدي . فهجست رفيف الشعيرات الصاعق المروع ، لكن ابي كان يفكر - لا بد - بأمر مختلف تماماً . إنها تلك الرزمة ! ولا يريد إلا أن يتم كل ذلك بسرعة ودقة . فالمحرقة ما زالت تنتظر في الحديقة وهو جاد في القضاء على كل الكلمات التي أحبها ، وأعتنقها ذات يوم ، والتي خاب بها أيضاً . وما كنت سأنقل أناملي إلى أبعد من ذلك لولا أن ذلك المس اللزج قد أفرغ سورته برمتها وانقشع مفسحاً لشيمتي التي شحذها الامتحان السبيل أمام خطوة جديدة .
وفعلت . كانت قوائم المنضدة تزق تحت قدمي ، بينما انتهزت بقعة بحجم الدرهم من شمس الغروب المحتضرة ، وجود ثغرة في الستارة المزاحة قليلاً ، فتسللت وانسكبت فوق جبهتي وكانت ستنهمر في عيني حال لمسي لرباط الرزمة . فهتفت :
- ها هي الرزمة يا أبي .
لم يجب . فسحبت الرزمة . كانت كبيرة جداً ، فاستعنت بيدي الأخرى ، وأدنيتها فشممت رائحة وخمة ، إنها رائحة الفراغ والعطن . ثم نفثت زفيراً حاراً عميقاً ، ولعل أبي فطن إلى سعادتي بذلك النجاح الصغير ، حين سارع إلى إغماد ابتسامة سريعة حاول برهة انتزاعها
من بين شفتيه .
قال : والآن أسقط هذه الرزمة .
فأزحتها بيدي ، وسمعت صوت ارتطامها بحرف المنضدة ، ولما نظرت إلى تحت رأيت ظل حركة تدحرجها على درجات السلم . وكانت الوالدة في المطبخ فقالت : هل حصل شيء ؟ لكن أبي أجابها : لا . أبداً ، ثمة رزمة كبيرة فقط .
ثم هبط السلم مقتفياً أثر الرزمة فألتقطها وأحتضنها ملتفتاً إلي .
- أما أنت فأهبط بسلام . ودع المنضدة في مكانها الآن .
وجعلت أهبط راعش الركبتين ، حتى تم لي ثني ساقي ، ثم تشبثت بحاجز السلم المعدني ، وقفزت وراء المنضدة نافضاً ثوبي ، وأسرعت في النزول ، ثم انفلت خارجاً إلى الحديقة .
كان أبي قد فك أربطة الرزمة ، ونشر محتوياتها من الصحف والمجلات والأوراق ، وأمسك بواحدة من تلك الصحف القديمة ، ثم أغرق في قراءتها ، ولسبب ما لم أجرؤ على الاقتراب منه هذه المرة . لقد تراجعت ووقفت تحت سقف الطارمة ، وبقيت كذلك حتى امتصت الظلمة السنة النار التي أججها أبي من جديد .

* من مجموعة (واجهات براقة)  


الهولندي لاورنس فان دير زي: الحنين إلى الزمن المغاربي- ترجمة عبد الرحمن الماجدي

ثقافات
الهولندي لاورنس فان دير زي: الحنين إلى الزمن المغاربي

 ترجمة عبد الرحمن الماجدي

 لاورنس فان دير زي  Laurens van der Zee شاعر وقاص هولدني. ولد عام 1948. بدأ النشر عام 1972في بعض المجلات الأدبية الجادة. ونشر عددا من أعماله في الاعوام 1988 و1994 ضمن طبعات محدودة. وصدر له عام 2003 كتاب "لا توجد معجزة" إضافة لكتب شعرية ونثرية أخرى مثل "الهولندي الطائر" و "الفتاة ذات الشعر الذهبي" عام 2003 و "ثمة هواء في أذني" 2004 و "ذلك ماسوف نفعله" عام 2006. إضافة لعدد من الكتب الشعرية والقصصية الاخرى. أختير عام 2012 شاعرا لمدينة فاخنينيغن لمدة 3 سنوات.
النص التالي كتبه لفعالية "نقطة اللاعودة" التي يحييها شعراء وكتاب وتشكيليون هولنديون في مدينة فاخنينغن الهولندية مطلع شهر نوفمبر المقبل. يصور فيه بعضا من مشاعره وانطباعاته حول رحلة آنفة قام بها لدول المغرب العربي.
الحنين إلى الزمن المغاربي..
لم أكن أعلم، إنما البحوث تشير إلى أني في العام 1971 كنت أدرس علم الاجتماع في المجتعات غير الغربية، حيث كنت شابا في الثانية والعشرين من العمر، في قرية جبلية بتونس، فكانت نقطة اللاعودة- شيء لايمكنك الفكاك منه أو العيش بدونه.

مع مضي السنوات أصبح واضحاً بأن انطباعاتي التي تكونت خلال مايقارب الأربعين سنة قد حددت أفكاري وتصرفاتي. حيث لم أكن أعلم، وكيف كان لي أن أعلم: بالحيرة والاحباط والشعور بالوحدة الذي كان يقطر من رسائلي للمنزل.

فاذا كانت لي أمنية هي بانتهاء رحلتي والذهاب للبيت ونسيان كل شيء بسرعة! وهذا ماحصل بالفعل: فخلافا لما معتاد لدينا في الجامعة، فقد غيرت موضوع دراسي، وكان بالامكان إنجاز أكثر من مقدمة للموضوع لكنها لم تمر من بين أصابعي (فقط بيننا كعلماء أنثربولوجيا: بدأت تقريري بالقول: إنني كنت في القرية
A، أنجزت عملي الميداني، حيث كل شخص يعمل لنفسه لايجاد موديلات وأنواع غير موجودة في كتبنا).

بعد بضع سنوات، دأبت على تلقي طلبات من طلاب القرية ومساعديّ الثقاة تستجدي سنتات معدودة تسبق طلب الكتب المدرسية.
اذا ماتجاهلت خجلي الدائم من عدم التجاوب معهم، فإن الخجل الأكبر أن القرية التي كنت أعيش فيها تقع في الطريق نحو الجزائر، بحيث لا يمكنني العثور عليها في الخارطة في وقت لاحق، "أوجيا"، لم أسمع بها أبداً من قبل.

باختصار، ما من شيء حدث، أنا لم أعش هناك، كان حلماً. كابوس منذ البداية، فمترجمي الاول من الفرنسبة للعربية؛ من خلال محادثاتنا بالفرنسية مع القرويين، فخخ أبحاثي المتقلبة، فدون أن أعلم، وربما هو لم يكن يعلم ذلك، حين كان ينتقي مايراه مناسبا من إجابات السكان، وكان يهين كبار السن بعبارات غير مهذبة، ويتعامل بطريقة غير لائقة مع بنات القرية.

الكابوس كان في أكل الماعز للنصوص من آلة طباعتي، وفي البراغيث التي على سريري القش في كوخ طيني معتم في قرية فقيرة، وفي الكلاب البرية التي تحتم عليك أن تحمل بيدك دائما حجراً، والأسوأ: هو الخوف من الاعتراف أن القرية كلها تبدو بلا فائدة، وما من أحد يود أن يكون أنثربولوجياً فاشلاً مثلي.

بعد عقود، يمكن التنبؤ بأني، سأدفع آخر مالدي من سنتات لشراء دروس اللغة العربية، وسابحث في الأسواق عن أشرطة أم كلثوم المستعملة.
وسأنفق مئات الخلدنات واليوروات على المزيد من الدروس والكتب، وحتى على استحصال شهادة اللغة العربية الفصحى، ستكون حزيناً على هدر تلك المعارف بوقت سريع، وستظن بأني أحمق.

لكن ربما كنت هناك، سراً، في العام 1971، فمن وراء شجرة زيتون قديمة جداً كنت ترى، عند الغروب، الرعاة عائدين من الحقول، وأعداداً كبيرة من الأطفال العابثين. مشاعر كل هؤلاء الناس كانت ترنو بعيداً نحو مصر حيث يُبث حفل غنائي لأم كلثوم في كل أنحاء المغرب العربي، الهدوء عمّ كلَ شيء هناك، جاءت القرية كلها مجتمعة تحت شجرة، كانت كل أجهزة الراديو ترانسيستور والناس تغني معاً.

 تلك الروائح، تلك الأصوات، تلك الطبيعة، و أوئلك الناس الطيبون...
 الدموع تنزل من عيوني وأنا أكتب كل هذا، إنهم لن يعودوا، إنهم يسمعوني، دائما وأبداً.