بحث هذه المدونة الإلكترونية

إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الجمعة، 4 مارس 2016

رسامو(الحمير) في التشكيل العراقي الحديث! [ لا تحرقوا فائق حسن مرة ثانية]- عادل كامل











رسامو(الحمير) في التشكيل العراقي الحديث!
[ لا تحرقوا فائق حسن مرة ثانية]



عادل كامل
     كيف يصبح، كائنا ً من كان، رساما ً، وهو لا يجيد رسم: (بطة) ..؟ هكذا تساءل فائق حسن، المؤسس لأصول الرسم الحديث في العراق، منذ أربعينيات القرن الماضي، وكيف يصبح، حتى لو درس الرسم، فنانا ً، إن لم يجتز محن الضرورة ـ متطلبات الحياة اليومية ـ نحو: الدخول في معضلات الفن، وإشكالياته؟
    على أن انجازات الأستاذ فائق حسن، الرائدة، ومنها تأسيسه لفرع الرسم في معهد الفنون الجميلة (1939 ـ 1940)، وتطبيقاته الفنية، التكنيكية، التي تعلمها من أساتذته في (البوزار) ـ بفرنسا ـ ورؤيته التي زاوج فيها بين (البدائية/ التلقائية/ العفوية ..الخ) والفن كمجموعة من القواعد ـ والأسس، كلها، إلى جانب مهارته بخلق بنيات فنية غير مزيفة، وليست قائمة على المحاكاة، نسقا ً يماثل  مفهوم:الحافر على الحافر كما قال الجاحظ، ... الخ، لا تقلل من المسارات التي بدأت منه، ومعه، وانتهت إلى: أخطاء، وتشويهات، لا على صعيد الرسم الواقعي، ورسم الخيول تحديدا ً، ولا على صعيد الرسم (التجريدي) الذي اعترف لي، في حوار منشور: بان تنفيذه لسلسة من اللوحات التجريدية، ليست إلا: تلويصا ً!
   والاعتراف الأخير، للأسف، لم يثر انتباه تلامذته، أو من غدا يمثل دور (الأستاذ)، رغم انه لا يجيد رسم (بطة)، لا بهيئتها الواقعية، ولا برمزيتها، مثلما تحولت (خيوله) لدى 90% من مقلديه، إلى علامات فنية، على مدى سنوات غير قصيرة.
    فالتجريد لدى الأستاذ فائق حسن، كان بمثابة نزعة  تجريبية، مستمدا ً مغامرة التنفيذ إلى مهاراته، وشهرته، بوصفه غدا رائدا ً ـ وقدوة.
    ولهذا لم تمض حياة فائق حسن، بسلاسة، ومن غير جدل...، فالفجوات بين (الرسام) و (الفنان) لم تنته، ولم تردم. كان فائق حسن رساما ً ـ من فعل رسم وهو ما سيقوم به الفنان في المجال البصري المستحدث ـ أم كان فنانا ً عاصر نهايات الحداثة، وعاش في مراحل نشؤ (ما بعدها)، في بلد مازال يرزح تحت مهيمنات عصور ما قبل عصر الزراعة ـ مع خليط من الأنظمة البدائية، الرعوية، الريفية، إلى جانب التطلع لتأسيس مجتمع يمتلك شروط التحديث ـ وصولا ً إلى مفهوم الإنتاج بمعناه الصحيح، وليس بمفهوم الاستيراد، والاستعارة، والمحاكاة. 
    بالطبع، لم يكن فائق حسن، معجزة، ولا كان جواد سليم، يعمل بدواعي الخرافة، والكرامات(في عصر الحقائق العلمية)،  ولكن حصيلة الدراسات لمنجزيهما، تثبت إن أي تأسيس للإبداع الفني المميز، بل والجديد، لابد أن يمر عبرهما، في الرسم وفي النحت، كي لا تزداد القطيعة، بين الفن والمجتمع، مسافات إضافية، كالحاصلة اليوم، في المجتمعات العربية التي برهنت إنها قائمة على (ورق)، وليس على أسس تاريخية/ منطقية، في مواجهة العنف، الإرهاب، والارتداد، بل في موجات التدمير وهي تقوض حتى أهم منجزات ومميزات وعلامات حقبة الريادة، وتطلعاتها لبناء مجتمعات تنتمي إلى العالم الحديث، وليس الانحدار إلى القرون المظلمة.
    إن فائق حسن ـ وليس وحده مسؤولا ً ـ عن وزر الشروع برسم الخيول!، بل كل من غذى منهجه للحفاظ على واقعية ليس عملها الحفر في أصولها، جذورها، مكوناتها، بل الاحتفال بسطوحها، وقشورها، تلبية تناسب ذائقة صنعتها ووفرتها ثروات، لم تهبط من السماء، بل خرجت من باطن الأرض، في هذه المرة، فالطبقة الوسطى، حتى تسعينيات القرن العشرين، كان لحضورها الأثر في وجود تقاليد ثقافية، اجتماعية، تعود أصولها إلى مراحل ما بعد الانسلاخ عن ظلمات عهد (الرجل المريض)، هي التي  احتفت بأنماط تناسب كيانها غير المنتج، إن لم يكن رثا ً، في تأويل معاني الحياة، ومستقبلها.
   فالثروات الهابطة من السماء (المطر)، هي التي شكلت الاقتصاد البشري، لحقبة لم تترك، للزراعة ـ الصناعة، وللموجة الثالثة، إلا ما يتوازن مع وجود (الدماغ) في قشرته العليا، فيما شكلت خلايا زمن الثدييات ـ المفترسات نسبة 99% من مكونات الدماغ البشري!
    ولأننا لا نريد مواصلة ارتكاب آثام الاحتفاء بمن لا يجيد رسم (البطة) ـ وقد ارتبطت سماتها بكل ما هو مستحدث/ ومبتكر ومروج له بعنايةـ فان (إثارة) جدل آن له أن يعلن،  مادامت موجة الخراب (العربي) لم تكتمل دورتها، ومادامت، في الوقت نفسه، تعمل على تدمير (المدمر)، من اليمن إلى العراق، ومن مصر إلى سورية، ومن لبنان إلى ليبيا ...الخ، فان إعادة قراءة مفهوم (الإنتاج) تعني، بالدرجة الأولى: المحاكاة أم الابتكار، الاستنساخ أم الاستحداث...؟
     ولأن إثارة هذا الإشكال، بحد ذاته، يتطلب مجلدات تتوخى العثور على جواب لسؤال: لماذا مكثت هذه البلدان، أما بانتظار ما يوفره لها المطر ـ أو ما توفره لها كنوز الأرض، رغم تفاوت الدرجات بين إقليم وآخر، فانا آمل أن نعثر على مداخل تتناول مفهوم المجتمعات (الورقية)، التي تتعرض للحرق، وهي في طريقها إلى التواري، والزوال، وأسباب وقوعها في فخاخ الأحاديات، بأشكالها السائدة، وهي تتراجع إلى القرون المظلمة، في محاولة للحد من تطورها، حتى نحو عصر: الكفاية، أي عصر: الزراعة، وليس عصر الصناعة، التي تأسست فيه حداثات أوربا، منذ القرن الخامس عشر؟
     ولأن أستاذا ً موهوبا ً، كفائق حسن، حدد أهداف عمله، وأتقنها، فقد نجح بخلق  أساليب تجاوزت شروط رسم (البطة)! فخيوله، وصقوره، ونساءه، فلاحيه،في اغلبها، لم تتخل عن مسعاه بالعثور على العناصر ذاتها لدى أساتذة الفن الكبار.! وقد لا يكون لعلامة (التعجب)، هنا، إلا ما تعنيه من مفارقة لفنان شرقي ـ في بلد خرج توا ً من ظلمات العصور الوسطى ـ ليرسم بمهارة ديلاكروا، أو بونار....، ولكن نماذجه المتقدمة ـ حتى لو كانت قليلة ـ بهويتها الايكولوجية، بعيدا ً عن العلامات، تسمح للمتلقي أن يستنشق غبار العراق، ودخانه، ففي هذه النماذج، وليس في الأعمال الفنية التي أنجزها لأسباب ـ غير فنية ـ كنا نراه مثالا ً للرائد، كالذي رأيناه في جواد سليم، وهو يخرج من تأثيرات عشرات الرسامين والنحاتين الأوربيين، كتأثيرات هنري مور، أو بيكاسو، أو بول كلي ..، مثلا ً..
    فما ـ هو ـ النقد الفني...؟ إن لم يكن يشخص (الظاهرة) ويرجعها إلى عوامل تكونها، من ثم، تحولها إلى نموذج أو قاعدة، ليؤشر الانحرافات وتحول الأوهام إلى حقائق؟
   حيث شكلت تجارب خيول فائق حسن جاذبية للمتلقي ـ كبضاعة نادرة في سوق ينتظر المزيد منها ـ فلم يتخل عن المضي في رسم المزيد منها، معتمدا ً، في الغالب، على الصور الفوتوغرافية، مادام المتلقي ـ حديث العهد بنعم الثروات المتدفقة من باطن الأرض ومن غير جهد يذكر ـ بانتظار المزيد منها؟
    في هذا المجال، تحول الأسلوب، من بحث، في ماهية الفن، ومعضلاته، إلى تطبيقات لنموذج تم اختباره: مهارة في التكوين، الأشكال، والألوان...، ومهارة في تحقيق الدهشة، إنما ليست دهشة الاكتشاف، بل دهشة الاحتفال/ الاستهلاك.
    وفائق حسن نفسه، كان على وعي بالخسران الذي كان يستنزفه، جراء تلبية طلبات لم تنقطع، حتى فقدت خيوله أصالتها! كما فقدت لوحاته الفنية مميزاتها...، فأدرك، في لحظة محاكمة لذاته، انه أسرف في هذا المنحى، وابتعد عن مشروعه الفني، الذي منحه ـ عن حق ـ شارة الريادة، فرسم لوحة مشهورة لحصان هزيل يتأمل جمجمة حصان، ضمن مناخ شبيه بنهاية معركة لم تترك سوى الخراب.






    لكن من صار يحاكي ـ يستنسخ/ يقلد ـ فائق حسن، حاول أن يتجاهل إن أستاذ الرسم، فائق حسن، كان إزاء عزل الأصالة عن تمويهاتها. فليس المهم إجادة رسم (البطة) ـ وإن كانت شرطا ً لكل رسام ولكل محترف ـ ولكن ماذا بعد  ذلك؟ ماذا بعد المضي في تلبيه طلبات ذائقة لا  تتمتع حتى بالحد الأدنى، ليس في الفن، بل من الحياة كحقيقة إنسانية قائمة على الإنتاج، وليس على الاستهلاك؟
     فامتلأت صالات المعارض، وأجنحة الفنادق، والعديد من جدران المؤسسات، بما يشبه الخيول، حتى صار المتلقي، لا يميز إن كانت بغالا ً، أو حميرا ً، أو ألعابا ً كارتونية، عدا إنها تستمد شيئا ً ما من خيول الشيخ، الذي رحل، ولم يترك لنا إلا علبة تحتوي على قليل من رماد جسده، أصبحت، هي الأخرى، غائبة، كالكثير من نصوصه الفنية المهربة بعيدا ً عن وطنها.
   والأمر لا يختلف كثيرا ً، إن لم يكن اشد خطورة، واعني به: التجريد. فالقليل من أكثر تجاربه (رداءة)، التي حاول فيها محاكاة أساليب شاخت في أوربا، وهرمت، معترفا ً لي بأنه، في هذه التجارب القلية، في ستينيات القرن الماضي، وسبعينياته، تلويصا ً!
     ولا أجد معنى مقاربا ً لهذه الكلمة، باللغة العربية، اقرب من: الخداع أو التمويه ...، ولأن فائق حسن كان يتمتع بأدق مميزات عصر (التحديث)، عصر الريادات في مجالها الزمني، وصولا ً إلى بناء الهوية الثقافية/ الاجتماعية/ والجمالية أيضا ً، المواكب لبرامج تنموية وتعليمية وصحية لم تصمد، بعد 1958، حتى سرعان ما تلاشت، ليتم استيراد (الماء) من دول تفتده، فضلا ً عن استيراد المواد الأساسية، بلا استثناء، والاعتماد على ما تستخرجه الأرض، بنسبة بلغت 99%، من الناتج الوطني! فان أستاذا ً كبيرا ً  كفائق حسن، ستتحول (هفواته) إلى تمويهات، تزييف، وخداع...، كانت حداثات أوربا قد تخطتها، في خمسينيات القرن الماضي، بينما نجدها قد تحولت عن رسامين لا يجيدون حتى التقليد الحرفي لصور الخيول الفوتوغرافية، فصارت تجاربهم، اقرب إلى مخلوقات خرافية، ورقية، ولا صلة لها حتى برسومات الحمير، التي كان أستاذ الرسم المصري، راغب عياد، قد أبدعها، في ثلاثينات القرن الماضي.
    فصار الخلط، والتمويه، لا يستند إلى من لا يعرف رسم (البطة)، بل للتباهي بأنه أستاذ كبير في معرفة أسرار ما (بعد الحداثة)، فراح يذهب بالتجريد إلى أقصاه، متجاهلا ً غفلة المتلقي ـ حديث العهد ـ بان هناك تجاربا ً فنية ترجع إلى فاتحة القرن العشرين،  مع موندريان، كاندنسكي، ميرو، كلي .. الخ ولرسامين آخرين، بذلوا جهدا ً (منتجا ً)  ومتطورا ً لمفاهيم الفن، وليس ما ينقشه الرسام الأعمى، عن لوحات عمياء!
    واليوم، عبر الخارطة العامة للتشكيل العربي، نجد من يلفت النظر للذين يستنسخون، الحافر على الحافر، في يسمى فنا ً حديثا ً، لسبب بسيط، يكمن في اتساع الفجوات، بين النخب الثقافية/ الفنية، والجمهور المنشغل أما بالبحث عن ملاذ امن له، في العالم، أو حماية مصيره من الموت جوعا ً، أو من القتل، بالذرائع التي قامت عليها محاكم التفتيش، في القرون المظلمة.
   ولا مناص من الاعتذار للحمير، الحقيقية، وليس للذين لا يميزون بينهما وبين الزرافات، والبغال، فلا بد من الاعتذار لهذا الكائن الوديع الصبور وهو يتأمل أفول مصيره، وانقراضه، أمام تقدم الحواسيب  العملاقة، ما بعد الذكية، ودورها في تحديد معاني الحياة، للمستقبل، إزاء المجهول، وهو لا يرى أثرا ً لهذه الفجيعة!، أكثر من بناء تصوّرات تموه الواقع بأساليب مازالت تجد رواجا ً، لكن، لا علاقة لها بملايين تفتقد إلى: الماء الصالح للاستخدام، والشرب، وأحيانا ً، لا تجد إلا الهواء الملوث، لتتنفسه!

تشكيل :حسني أبو المعالي وروح التحدي بين الكلمة واللون والنغمة- مؤيد داود البصام









 تشكيل
حسني أبو المعالي وروح التحدي بين
الكلمة واللون والنغمة



مؤيد داود البصام
        في جو العتمة، وبين حفريات المدن المغلقة على نفسها وعلى من فيها، يغدو كل شئ قابلا لان يتحرك نحو الانفجار، ويصبح الإنسان بركان يغلي، أما السؤال لماذا لم ينفجر؟ يقول عزيز عذاب، وهو ابن مدينة الفنان حسني أبو المعالي، ( لأننا كنا نغوص في الكتب ونخلق تجاربنا، ولا نخشى أن نسير عراة أمام أنفسنا والآخرين، لان التجربة مهولة حينما تنظر لها من أسفل ستجد أنك تقف تحت عشرة من صخور سيزيف)، فأي عالم هذا الذي يتحدث عنه (العذاب)، هذا الذي كرس نفسه في حب الحرية والعيش فيها من دون أن يلتفت للوراء، و يصرخ بأعلى صوته حينما تمس كلمة الحرية بخدش من قبل من لا يؤمن بها، أنه يروي لنا حياتهم في تلك الحقبة من ستينيات القرن الماضي ونحن نتجول في معرض الفنان الراحل حسني أبو المعالي في قاعة مدارات في منطقة الوزيرية في بغداد عن أيام الطفولة والشباب في مدينة كربلاء، المدينة التي تنام هادئة وتصح على لغط آلاف الناس كأنهم في يوم المحشر يزورون أضرحة الأئمة على مقربة أمتار من أسرة نوم أهلها، وحتى إذا ما خرج الصبية والشباب للنزهة، فهي مقرونة بمراقبة الآخر، لأنهم أبناء المدن المحرم عليهم الخروج عن العرف والتقاليد، فكيف إستطاع حسني أبو المعالي أن يتحمل ثوبه اللاصق على جسده، وهو يبحث عن متنفس الحرية. وكما كتب الفنان صاحب أحمد صديق طفولته ( وقتها لم نجد الفرصة للتواصل في مرسم الابتدائية لمخاوفنا من أبائنا خشية معرفتهم بانحراف اتجاهاتنا نحو شئ أسمه (فن).



التمرد خالق الإبداع
التمرد الأول: تلك اللحظات المشوبة بالخوف والرهبة والمغامرة، خاضها معظم أبناء المدن المحافظة على العادات والتقاليد المتزمتة، وتعيش ضمن تقاليد اجتماعية صارمة، تسحق الطموحات وتغدر بالآمال، وقد يكون بعضها زائفا ً كما فضحها نجيب محفوظ في تزمت سي السيد في ثلاثيته، إلا أنها تبقى ذاتُ فاعلية في حراكها الاجتماعي، ومدينة كربلاء من مدن الشرق والعراق التي تضم أضرحة الأئمة الذين يقدسهم ملايين المسلمين بادراك أو عفوية، تحمل في باطنها هذا التزمت الذي خلق في داخل أبنائها روح التمرد، وهو السبب الغير مرئي لانبثاق عشرات المبدعين في مدينة كربلاء أو في المدن الشبيهة، المدن المغلقة على نفسها ومنهم الفنان حسني أبو المعالي، عندما بدأ يخط ويخربش ويرسم ويصنع لعب من الطين، كانت تلك اللعب أول خطوات التمرد التي ستقوده لاكتشاف ذاته بين الرسم والنحت والشعر ثم الموسيقى، ولكن لان النسقين الرسم والنحت يحملان الكثير من المخاطر لبث الشجون الجوانية، فانه التجأ إلى الكلمة التي جاءت للتعبير عما لا يستطيع من الإتيان به خطا ً ولونا ً، فظهرت أولى قصائده، لتصرخ في وجه ذلك الكبت والحرمان الذي يضغط على كل مفاصل الإنسان ولا يملك قوة الخلاص، فهو محكوم بإرادة أقوى منه، ويرسم عبر الكلمات آهاته ولواعجه، وصورة الحبيب، أي حبيب ؟، الحبيب الذي يتخيله من وراء الحجب والممنوعات، فالمحروم يصور الأشياء بغير مقاسها الحقيقي لا اختلاط المرئي وغير المرئي لديه.
التمرد الثاني: إذا كان البيت والعائلة والمدرسة هما حمل الضغط الأول الذي ينوء تحت ثقله الإنسان المرهف الحساس ، ويعتقد واهما انه عندما يبلغ الحلم، سيملك حريته الذاتية، يكتشف وهمه عند أول اصطدام بعد تقاليد البيت والمدرسة المتزمتة، بتقاليد السلطة المدمرة، وهنا تتراكب لحظات الألم والقهر والكبت، إما بخلق النموذج المقهور الذي لا يملك وعيا ً يؤهله لتغيير واقعه، فيلجأ إلى لعبة التمرد ويصبح القاهر للآخرين، ( الاحتيال والغش والكذب والعنف والقتل والسلب والنهب وكل الأنساق التي تعشش بها المجتمعات المكبوتة)، وهو نتاج القهر الرأسمالي في بقاع الأرض شرقا ً وغربا ً، أو العكس تتفجر الإبداعات التي ترفض القهر والعبودية والظلم وكل أنواع القسوة، الإنسان الذي يبحث عن إنسانيته الضائعة بين محاور يفرضها الواقع لا دخل له فيها، فيظهر لنا رامبو وأمثاله في الغرب وحسين مردان وعبد الأمير الحصيري وجان دمو وأمثالهم في العراق وفي الشرق، ولكن هل أختار أبو المعالي طريق الصعلكة بشكل وآخر ليظهر خزينة ؟، هذا ما لا تشير لنا به الأدبيات التي خلفها أو التي كتبت عنه، لقد أختار طريق النضال من أجل الإنسان، المثقف الفاعل ليصطدم بالسلطة بأي شكل من إشكال طغيانها، ومع زبانيتها متمثلة بالحوشية من الانتهازية والمنتفعين الذين يلتفون حولها لتنفذ أوامرها، ويمارسون ساديتهم على الآخرين بمعرفة السلطة أو بعدم معرفتها بحجة أنهم جزء من السلطة وحماتها، وقد كان أحدهم في منطقتنا يحمل عبء حماية السلطة على ظهره، فيقرع أبوابنا ويلاحقنا ويرسم خطانا، لأجل عيون السلطة، ولكنني في يوما ما وكنت أسير برفقة الصديق الكاتب فاروق ناجي وإذا بهذا الشخص أمامنا فسأله فاروق وكان على معرفة به: ( هاي وين محد يشوفك ؟ فأجاب بانكسار: مو طردوني من الحزب، وأردف: إني صحيح ساكت لكن اكدر افضح كل إلي سمعته الناس والي ما سمعته.) فطيب فاروق خاطره وسرنا، وسألت فاروق متعجبا: يا أخي كان هذا أكثر من القيادة متفاني للحزب والثورة معقول؟ ضحك فاروق وقال: معود أمثاله بالعشرات يشتغلون لمصلحتهم مو لوطنهم ولا لحزبهم، آذى الناس والآن يتخفى منهم بعد من يحميه... من أمثال هؤلاء بالحوشية قابل حسني أبو المعالي أثناء وجوده في مدينته أو عندما التحق في كلية الفنون الجميلة في مدينة بغداد كان يومها تسمى، (أكاديمية الفنون الجميلة)، وعانى ما عانى على يد هؤلاء الساديين حتى توضح لديه أن الأفق الذي كان يحلم أن يراه بات ليس أزرقا وممكن أن ينفتح على ألسمائي، إنما آخذً بالاسوداد، لهذا قرر الرحيل، عندما لم يجدي الرسم ولا النحت ولا القصيدة ولا الموسيقى مبعثا ً للأمل، وبسط السكينة، في بلد ينتج من يقتل الجمال بأسماء عجيبة يخترعونها ليمارسوا ساديتهم وجهلهم وتخلفهم، كان الرحيل الطريق الذي اختاره لإيجاد الحرية التي يتوق لها.
 

اللون والموسيقى تحاكي عذابات الذات والغربة.
         امتلك أبو المعالي أنماط متعددة من الإبداعات الفنية والأدبية، وحاور من خلال هذه الكثافة الإبداعية الذات للخروج بها من الغربة  التي كانت تلف حياته وواقعه، وقد صاغ الاضاءات الجمالية التي اتسمت بها إعماله على صعيد الرسم الذي كان الأكثر انحيازا ً إليه بثقل كبير مع اتكاءه على الموسيقى والتلحين للتعبير عن تهدئة الثورة الداخلية التي كانت تشتعل بين آونة وأخرى فيحاول كبت التفجير بالغرق في التأمل والتخيل المجرد، وفي معرض كتابته عن تجربته الفنية يقول، " وجدت أن كلا ً من الموسيقى والتشكيل وجهان لعملة واحدة يتبادلان الأدوار معي بين رحلة فنية وأخرى، ومع هذا فأنا لا أحترف الموسيقى ولستُ سوى محبا ً وعاشقا ً لها، ولا ألحن إلا بريشة الرسام " ، لم تكن الموسيقى إلا الترياق الذي يحمله إلى عالم اللا مرئي، إلى عالم الخيال المجرد، أحلام اليقظة التي لا نحصل عليها إلا عندما تشحنا رؤية لشئ جميل أو صوت الموسيقى، هذه الروح التواقة للحرية كانت تستنزف أعماقها لإيجاد المنطلق الذي تحاول إن ترتوي منه بحثا ً عن الحرية المفقودة ، وهو ما دعاه لان يمارس الأنساق الثقافية جميعا للوصول إلى نبع المشاعر الإنسانية المتدفق في داخله، فماذا كتب، د.عباس الصراف في دلالة هذه التعددية الإبداعية ، " كان يشعر أن في داخله تجارب شعورية مكثفة ربما يعجز النحت الإفصاح عنها بقيم تعبيرية فائقة، ومن هنا زاوج بين النحت والرسم في دراسته، فاثبت قدرته على تكييف واقع الرسم وذلك بربط مكونات الأول مع تفاصيل الثاني شكلا ومضمونا." ، تحملنا هذه التعددية على النظر إلى أنه، كان يبحث عن طريق أكثر صدقا للتعبير عن ذاته ومكنوناتها التي شوشها الواقع المر، مبعث أول معاناة لديه، المعاناة الأولى لمعرفة القمع والاضطهاد من الآخر، إن ألرؤية التي كان من الممكن أن يمنحها النحت لإظهار قساوة الواقع ومحاولة التعبير عن المرارة في عدم تحقيق الحلم، كان يشوبها فقدان التعبيرية اللونية للإفصاح عن هذه الغربة الساحقة في الداخل، لهذا لجأ إلى اللون ليحاكي الألم الجواني وتجريد الواقع وإعطاء اللون المساحة الأكبر، في محاولة أن تكون الرؤية الجسر الذي يعبر من خلالها بحار الحلم الذي ينقله صوت الموسيقى إلى عالم خالي من الواقع الذي يعيشه مضطرا ً بكل فساوته، لون ازرق يمثل حلما ً ما زال يشرق في الذهن ولكنه يأخذ في العتمة تدرجا ً كلما توغل إلى داخله، ودائما هناك في مكان ما من اللوحة بصيص ضوء ينبثق من العتمة، ومن خلال لون الحلم الأزرق، أبواب غير متناسقة وجدران مضببة كلها باللون الأزرق ومن خلال هذه الأبواب الموصدة والمصدات التي تخلقها الجدران الصماء، هناك فتحة صغيرة لأحد الأبواب يظهر منها ضوء لا يسع لانفتاح الضوء للمرور، ومن خلف المصدات هناك نقطة ضوء جاءت من ضربة فرشاة وانتهت، أو شلال نور ضيق المساحة، كان يرسم حلمه ولكنه في وسط الحلم يتوه ويرحل في البحث عن ذاته، عن ضياع الحلم الذي أراد أن يكرس حياته له، فهل اغرق وقته لأجل إن ينسى؟ لهذا تحولت الألوان الزرقاء الفاتحة والسمائية بعد فترة إلى ألوان غامقة معتمة، وفي وسطها أو على الطرف منها في زاوية يظهر بصيص من ضربة فرشاة بالأبيض والأصفر، تلك هي اللحظات التي كان يريد أن يصل فيها إلى تطابق بين الذات والموضوع فلا يجد إلا السراب والعتمة والأبواب المغلقة، هذه المحنة في عشق كل شئ في الوطن و الأرض، ولكنها بعيدة عنه، فليس هذا هو الوطن الذي يحلم به ولا الأرض التي تنسم رائحتها وظن انه سيشيد حلمه عليها، عندما كان يهرب خائفا مذعورا لئلا يكتشفوا هو ورفاقه أنهم يمارسون العاب المحرمات، (الرسم والنحت)، وتلك هي اللحظة التي تحول فيها من السطح الذي يتيحه القماش أو الكتلة النحتية عندما وعى وأدرك، أن هناك لحظات لا يمكن القبض عليها، فيها ترحال إلى السمو والتعالي إلى لحظة تجريد ذهنية، لا يمكن بلوغها إلا بالمجرد التي تمنحنا اياها الموسيقى والشعر، هذا هو المؤشر الذي يدلنا عن عمق الغربة التي كانت تلفه، هو لا يرسم درابين وشوارع وحارات معينة، ليست مدينة كربلاء وحدها التي تجسدت في إعماله، كان يرسم صحاريه الجوانية شوارعه التي رآها والتي يحلم إن يراها، المدن المضببة والمدن غير المرئية عندما تكون الوحشة وقت الغروب على أشدها في التذكر والنسيان، حين تبدأ الحياة تسير نحو السكون والهجوع، ويأخذ ألتأمل مساحته وتنثال الذكريات، وهي الإشارة التي توصلنا إلى إعماله الأخيرة بعد أن تخلى عن التشخيص ليأخذ التجريد مساحة واسعة في لوحته، كان أبو المعالي يتجول في اشتغالاته  الإبداعية  ضمن البعد الذي آمن به، ألا وهو الصدق الذاتي، إذا ما نظرنا إلى أعماله، فهي لحظة فراق ووحشة تتمثل فيها الغربة موضوعا ً ولونا ً،  (خيل)، لوحدها تهيم في عالم مضبب ورجال تمتطي الخيول لا نرى إلا أشباح، يلفها السكون والوحشة، ترحال دائم وعدم استقرار، لا يمكن لشيء ينقل لنا هذه الغربة والوحشة مثل اللون الذي لجأ إليه أبو المعالي ليكتب إبعاد مأساته الوجودية ومرارة الواقع، تكتب سناء الموصلي عن هذا العالم الذي سيتأكد عند أغلب من كتب عنه، "تمتاز أعماله بتوالف وتناغم موسيقي بين الألوان المنثورة على اللوحة والتي تتمتع بأصوات ساحرة حيث ينتقل المتلقي إلى عالم ساحر "، هذا العالم السحري يفسره الناقد جاسم عاصي عبر فهمه لدخيلة أبو المعالي ورؤاه ، " فألوانه وخطوطه طيفية، لا تحدد عزلا ً عن مجمل تشكيلات موجودات اللوحة، بل هي نوع من المشتقات تفرضها حركة اللون، وميلها إلى الروحانية، التي تصل حد الرؤيا الصوفية. "، إن الإحساس الذاتي الذي لاحق أبو المعالي بغربته الذاتية عن مجمل الواقع الذي حاول إن يسترد بعضا ً منه في المملكة المغربية، عندما هاجر للعمل، ظل يلازمه لأنه كان مدركا ً أن هناك بعدا ً ليس من السهل غلقه مستمراً في حفرياته عند تخوم الذكريات، وفي اللوحة هنا تجرد الأشياء من دلالاتها الواقعية لتتحول إلى رؤيا خارج إطار الواقع، فيلجأ إلى اللون ليعبر عن هذا الجواني، وهو ما يتطلب الدربة والتجربة والممارسة، وهذه المعالم التي اشتغل عليها أبو المعالي، شخصها الفنان علي النجار حينما كتب ، " عالم الرسام الراحل حسني أبو المعالي عالم ألوان بالدرجة الأولى، ولكي نفهمه حق فهمه لا بد لك من أن تأتيه عبر بوابة اللون بالذات . " ، وهذه هي الدلالة التي تحدث عنها د. عباس الصراف، في تبنيه الرسم لأنه يمنحه الفضاء الواسع كما هي الموسيقى في بث المكبوت والخلاص مما يثقل عليه.


الرمزية  والتجريد في إعماله..
         إن الروح الموسيقية التي تتسم بها إعمال أبو المعالي تضفي هذا الطابع الرمزي على لوحته، فالألوان بشفافيتها وتدرجاتها اللونية مع استخدام اللون الأبيض، يوصل الخطاب الذي اشتغل عليه ، لينقلنا إلى مساحات من التخيل والطقوس الأسطورية، التي يؤكد فيها غربته، ويشكل للعين رؤية بالراحة والهدوء الذي يتيحه اللون الأزرق بعد رحلة التعب والإرهاق الذهني، وعندما تتحول  الإشكال إلى خطوط هندسية وألوان شفافة بانسيابية تعطيها هذا الجمال العذب، فيضحى الشكل المجرد أقرب إلى الواقعية منه إلى التجريد الخالص لأنه مستمد من الواقع ولكنه يأخذ طريقه نحو المعاصرة لاستعارة ما يحمله الداخل، في الإيهام وكسر الأطر الواقعية، التي تظل الأساس في اشتغالاته، وهو ما ينقله اشتغالاته بالكولاج، حيث تتضح الفكرة التي تنزع نحو الاختلاف  والتضاد موضوعا ً ولونا ً، فتأخذ مساحة أكبر في التجريد ويقترب فيها من لحظة الفرح والاندماج التي يتشارك فيها مع الآخر، ولكنه دائما ما ينكفئ على ذاته ليعيد اللون الغامق مع الألوان المفرحة.
         على الرغم من اشتغال أبو المعالي بالتجريد لكنه لم يتخلى عن واقعيته حتى في لوحاته المتشكلة بالكولاج، لأنه كان يؤمن أن الفنان عندما يخرج عن الواقع يسقط وينتهي، لكونه يفقد القاعدة التي يقف عليها ويسوق شيئا ً ليس له وجود و لا يمتلك المرتكزات ألأساسية التي تحدد مدى إمكانياته والروح التي عبر عنها، وهذا هو سر روعة أعمال الفنان الراحل حسني أبو المعالي، وعندما ننظر إلى إعمال بالكولاج نجد ملامح قوة الخط والكتلة التي تمثل بداياته الأولى في التشكيل كونه نحاتا قبل إن يكون رساما  ً.


متحف جوجينهايم نيويورك ينظم معرضا للفن المعاصر في الشرق الأوسط وينحاز لمجموعة شابة من فناني الأعمال التركيبية (الانستاليشن) والملتيميديا فقط !- د.إحسان فتحي









متحف جوجينهايم نيويورك ينظم معرضا للفن المعاصر في الشرق الأوسط وينحاز لمجموعة شابة من فناني
الأعمال التركيبية (الانستاليشن) والملتيميديا فقط !




د.إحسان فتحي
    ينظم متحف جوجينهايم الشهير في نيويورك معرضا للفن المعاصر في الشرق الأوسط خلال الفترة 29 نيسان- ابريل إلى 5 تشرين الأول- أكتوبر، تحت عنوان غريب هو" لكن العاصفة تهب من الجنة". والمسؤول (القيم – الكيوريتر) عن هذا المعرض هي ( سارة رضا ) المولودة في لندن 1979 والحاصلة على الماجستير في تاريخ الفن من جامعة لندن. ومن الواضح جدا بان هذه "القيمة" منحازة تماما لمجموعة من الفنانين الشباب، واغلبهم مقيم في دول غربية، الذين يتبنون ما يسمى بفن التركيب "الانستاليشن". ان قائمة المدعوين للمشاركة في هذا المعرض يبلغ عددهم 11 وكما يلي:
1-   عباس اخفان 1977- إيران
2-   قادر عطية 1970- جزائري فرنسي
3-   ارجن جافوش أوغلو 1968- بلغاريا
4-   ريم غني 1978- امريكية والدها هو الرئيس الأفغاني الحالي
5-   ركني حائرزادة 1978- ايراني مقيم في دبي
6-   سوزان حفونة 1965- مصرية مقيمة في ألمانيا
7-   إيمان عيسى 1979- مصرية مقيمة في نيويورك
8-   نادية كعبي 1978- تونسية روسية
9-   محمد كاظم 1969- من الإمارات- دبي
10-          احمد مطر 1979 – السعودية – جدة
11-          ألاء يونس 1974 – الأردن
   

ليس هناك ما يمنع اختيار هؤلاء الفنانين الواعدين ولكنهم، مع تقديرنا الكامل لجهود الست سارة، لا يمثلون بأي حال من الأحوال " الفن المعاصر في الشرق الأوسط" لان هذا الاختيار المنحاز يمثل إجحافا كبيرا لعدد كبير من ابرز الفنانين في منطقتنا، وهم فنانون لهم تاريخ ومواقف فكرية مؤثرة لما جرى ويجري في هذه المنطقة. وتنحاز قائمة سارة إلى اتجاه فني واحد دون الاتجاهات الأخرى مما سيعطي انطباعا خاطئا ومختلا بالنسبة لزائري المعرض. وقد يكون هذا الاختيار مقصودا تماما من قبل إدارة هذا المتحف الذي يميل إلى الصرعات الشاذة وغير المألوفة حاله حال العدد الأكبر من المتاحف الغربية الآن. إن النسبة الأكبر من محاولات ما يسمى بفن التركيب لا تزال غير مقبولة او مستساغة عند اغلب الناس. وفي الواقع ان اغلب مثل هذه المحاولات تبعث على السخرية والسخط أحيانا.  خذ على سبيل المثال "السرير الشخصي وأغراضه المبعثرة بعد فعل جنسي" للفنانة البريطانية القبرصية الجذور (تريسي أمين) والذي  اشتراه شارلز ساعتشي (العراقي الأصل) بمبلغ 150 ألف باون في 1999 واعد غرفة خاصة له في بيته عرضه فيها، ثم بيع لاحقا بمبلغ مليوني ونصف باون إسترليني في مزاد كريستيز!



 
ولكن الحقيقة تقال بان مفهوم "الفن" تغير كثيرا وأصبحت الثقافة الغربية تستوعب أي محاولة مهما كانت عبثية أو نرجسية أو شاذة أو مستفزة أو إباحية، وبأي وسائل وأدوات ممكنة، تخطيطات،رسومات، ألوان،أفلام، مكائن، حطام، حبال،أحجار، طابوق، ملابس، معادن،أي شيء...الشرط هنا لبزوغ فنان ما هو" تبنيه" من قبل احد المقتنين الكبار أو الجالريات المؤثرة. لا يمكن لأي فنان، مهما كان متميزا ان يبرز إلى الساحة الفنية دون عملية "صناعة النجومية" . أصبح الفن بضاعة تجارية لها أسواق ومسوقين ومزادات عالمية معروفة...وظهر هناك فجأة فنانين شباب وأصبحوا نجوما "كبار" بين ليلة وضحاها. وفجأة أيضا ظهر هناك أجانب "خبراء" بالفن العربي أعمارهم في العشرينات! هم يختارون وهم يقررون الأسعار..يصعدون وينزلون.. ولا يميزون أحيانا حتى بين العمل الأصلي والمزيف. انه حقا وضع مزري يبعث على الشفقة.

* أستاذ العمارة وعضو الرابطة الدولية لنقاد الفن [الايكا]
 


الأربعاء، 2 مارس 2016

. ديمترا ميلان-فنانة موهوبة في السادسة عشر من عمرها










.
ديمترا ميلان فنانة في السادسة عشر من عمرها, دعتنا الى عالمها السريالي الجميل حلم متفرد ممزوج بخيال خصب,ديمترا بدأت الرسم قبل اربعة اعوام,لذا اختارت التعليم المنزلي كي تتوحد مع شغفها, كل عمل من اعمالها مزيج غريب من الانسان والحيوان في بيئة غير اعتيادية.


Dimitra Milan is an artist who is only 16 years old. She invites us to her beautiful surreal universe, dreamlike and unique filled with imagination and passion.

Dimitra began to paint four years ago and to do so she even chose home schooling to devote herself completely to her passion. Each work of the young artist is a strange mix of human characters and animals of all kinds in an unreal atmosphere.
                                  

أختام* - عادل كامل
















                                               أختام*

عادل كامل
[19] ديمومة
    هل حصلت تغييرات جذرية، بعد ظهور الفلسفات، واختفائها، وانبثاق أنظمة اقل قهرا ً، أو أكثر، لديمومة الحياة، في تحديد معانيها، ومعنى وجود الإنسان...، بوصفهما علاقة صاغتها أسبابها التاريخية، وأسبابها السابقة على مكوناتها، عناصرها المرئية، واللا مرئية، المبنية على تتابع له غاياته، أو بوصفها أنأى من القبض عليها، والتسليم بها، كي تتغير الرؤية، تقلب، تعدل، أو يتم التسليم بذهابها ابعد من مداها التاريخي ـ ومن كل محاولة لوضعها داخل سجلات من الأعراف، والقيود، والمحرمات؟
     لا توجد مؤشرات باستطاعتها أن تخترع إيمانا ً لإنسان لم يعد أسير برمجته المادية، من الأرض ـ مرورا ً بالمجموعة الشمسية، إلى المجرة، وباقي مكونات المديات ذات الحافات الأبعد، وقد برهن (الدماغ) انه سيبقى يحث خطاه نحو ما لا يمكن حصره، أو حتى فهمه بوصفه حقيقة راسخة، تامة الشروط، والعلل.  فكلما تقدمت العلوم، والأفاق، والبرامج، والأدوات..الخ، بدا إن العالم يتكون من اتساعات، امتدادات، مخفيات، لا تعمل وفق نسق الفلسفة (المبنية على اللغة) أو الرؤية المشيدة بالتصورات، بل على خلع الإنسان وتركه في مواجهة اللا متوقعات، معزولا ً؛ معزولا ً حتى عن وعيه، جسده، ممتلكاته، رموزه، وهو  يدرك إن التراتبية، وأي سلم مكون عدد محدد من الدرجات، وليست المثنوية، أو الجدل، ولا الصراعات الجانبية، التي لم تخطر على البال، ستعمل على إعادة صياغة مفهوم يبعث على: الذهول، الخشوع، تارة، وعلى الارتداد والتزمت حد استحالة زحزحته، تارة ثانية.
   فإذا كان حكماء الأزمنة السحيقة،  بما امتلكوا من سحر، وعلوم سحرية، ومهارات تجريبية مستحدثة، أكثر تقدما ً، صاغوا إضافات لمكتشفات لا وجدود لها إلا بوصفها وجدت توا ً، بحسب البيئة، المعلومات، والمهارات المنبثقة، وفق التقدم أو اللا محتمل، فان الدوافع ـ في عصرنا ـ تجعله يتقدم بثقة لا يمسها الشك، نحو ذروته، وليس لديها ـ هذه المواقف والفلسفات ـ ما تتستر عليه، أو تخفيه.
    وليست نزعة اللا انتماء، التي لفت كولن ولسن النظر إليها، في كتابه (اللا منتمي) حديثة، أو مستحدثة، فهناك، منذ البدء، ذلك الهاجس الداخلي لمرهفي الحواس، دفع للسير من المحدود إلى الحافات المتحركة؛ ثمة مجرات لم تكتشف بعد، فيما هناك، في الأعماق، قوى لا مادية غير قابلة للرصد، وعبثا ً جاءت النتائج ووضعتها في اطر، وأشكال، فالكون اللا حافاتي، غدا خلاصة مفاهيم مثل: المطلق، واللا محدود. فثمة صدمات يصعب على الوعي المحدود أن يحافظ على توازنه، وأصوله، مع إن (النمل) البشري، في البرمجة التاريخية، هو النسبة العظمى، وهو الذي يمتلك وقود الحضارات، ورمادها. فهل ثمة ـ بعد بزوغ تطبيقات للمفاهيم العدمية، المدمرة، ولظهور عبادات للموت، والجثث، وعبادات هستيرية تمجد العدم، خطابات فنية، أو معادية للفن، باستطاعتها أن تعدل، وليس أن تقلب، هذا المشهد؟
    ليس باستطاعة المحدود، إزاء اللا كل، وغير القابل للمعرفة، وللتعرف، أن يترك حواسه تتطابق مع القوانين التي صاغت منه هذا التنوع، في الاستجابة، ودحضها، كي لا يجد خلاصه، وسكينته، إلا وهو  يرى أطيافا ً لا لون لها، ولا أشكال، مثل أثير أو غبار أو أية مادة استحالت إلى نقيضها، كي تغيب المقدمات، مثلما  سيعترف باستحالة وضع نهاية لا نهاية لها مادام اللا ـ محدود، لا بالاسم، ولا بالمعنى، ولا بالرمز، يعوض المسار بافتراضات وهمية، وإنما بأصولية تضع الإنسان وكأنه وجد كي يغيب، لعلة، مهما تنوعت الإجابات عليها، ستمتد،وهي تدحض مقدماتها، أو باستكمالها لذاكرة لم تنقش بعد فوقها زوالات لم تتكون بعد.  إنها ليست دورات، من الإلكترون إلى غبار المجرات الذي يبدو سديما ً، أو أثيرا ً، أو معتما ً من شدة لمعانه لمرات مضاعفة عن درجة إشعاع شمسنا، بعد أن بدا ً مظلما ً إزاء تلك الأنوار اللا محدودة في توهجها (بل وكأن نجمنا ليس أكثر من لهب قنديل في كهف أو في كوخ)، بل جنونا ً احتفاليا ً، إن كان مهرجانا ً للقتل، والعنف، أو كان ابتهاجا ً، أو فرحا ً حد الغيبوبة، لا معنى له خارج معناه إلا برؤية الأثر يأخذ موقعه في رماد الأبدية، من غير سر، لغز، ومن غير أسف، أو فعل للدفن، إنما على قوة الغواية ـ وديناميتها ـ أن تعمل على اختراع من تغويه، ولا تسمح له إلا أن يكمل تتابعها، وإكمال برنامجها، وما على (الموت) إلا أن ينجب المزيد من المواليد، بضرورة باليات عمله، وعلى المعضلة، كي تبدو بالغة الإتقان، أن تعجن، من الوحل والنار والهواء والماء، عصاة ظرفاء،  لا تمنحهم إلا لغز الذهاب ابعد من فتح الأبواب الموصدة، فالذي يأتي، ويتم الاحتفاء به، ليس إلا من الماضي، إنما من المستحيل عزل مصيره عن لا حافاته الأولى، وهي لا تدع مجالا ً إلا للاحتفال بهذا العبور..!



تأملات أثناء العمل ـ وقد سبق أن نشرت حلقات من التجربة تحت عنوان: اختما معاصرة.


الاثنين، 29 فبراير 2016

الحب في مرآة الفلاسفة... روح إيروسية وازدراء متعالٍ-*ريتا فرج


الحب في مرآة الفلاسفة... روح إيروسية وازدراء متعالٍ
*ريتا فرج


اختارت أود لانسولان وماري لومونييه نماذج لحالات عشقية مضطربة في «الفلاسفة والحب: الحب من سقراط إلى سيمون دي بوفوار» («دار التنوير» ــ ترجمة: دينا مندور). في كتابهما المشترك، تطرح الباحثتان الفرنسيتان موضوع الحب في أبعاده المتعالية والجسدية كما عرفه الفلاسفة مثل أفلاطون، ولوكريس، وجان جاك روسو، وآرثر شوبنهاور، وكيركيغارد، ونيتشه، وصولاً إلى جان بول سارتر وسيمون دي بوفوار.

وصف الفيلسوف الفرنسي آلان باديو (1937) الحب بأنه «نتاج الحقيقة» وخبرة ترتكز إلى فعل اثنين واستهلال يتحقق بلقاء استثنائي، ومرحلة فارقة تميز النشاط الاستنمائي الخالص. لم ينظر الفلاسفة إلى الحب بفرح روحي جسدي، بل تعاملوا معه بتحفظ شديد يشبه صرامة أفكارهم الفلسفية الباحثة في عالم المُثل والحكمة. قلة منهم ابتهجت بالعشق كطريق لفهم الحياة وسبيل لخرق عدمية الوجود.

في «الفلاسفة والحب: الحب من سقراط إلى سيمون دو بوفوار» الذي صدر بالفرنسية عام 2008 (انتقل أخيراً إلى العربية عن «دار التنوير» ــ ترجمة: دينا مندور)، تطرح أود لانسولان وماري لومونييه في عملهما المشترك موضوع الحب في أبعاده المتعالية والجسدية كما عرفه الفلاسفة: أفلاطون، ولوكريس، ومونتاني، وجان جاك روسو، وإيمانويل كانط، آرثر شوبنهاور، سورين كيركيغارد، فريدريك نيتشه، والثنائي مارتن هايدغر وحنة أرندت، وجان بول سارتر وسيمون دو بوفوار. اختارت الباحثتان الفرنسيتان نماذج لحالات عشقية مضطربة، باستثناء الفيلسوف الدنماركي كيركيغارد التائه في «الحب المطلق» الذي قال عنه جاك لاكان «إنه المتسائل الأكثر حدة حول النفس البشرية قبل فرويد». لم يهتم الفلاسفة بالحب، تحدثوا عنه بازدراء ذكوري وهاجموا كل من يرفض تحليلهم، لأنه بدا مقاوماً لكل أشكال العقلنة. احتفى أفلاطون في «المأدبة» الأبدية بـــ «إيروس» (إله الليونة والشهوة) بأسلوب غرائبي يبرهن على المعنى الأقصى للكشف. وعلى الرغم من أنه واجه «الرغبة المشؤومة» للشاعر لوكريس، فقد رأى في الحب هدفاً للسعادة، وليس نزوة شهوانية عابرة، وهذا لا يعني احتقار البعد الجسدي وإنما مرحلة أولى لارتقاء النفس، فحب الأجساد لا يؤدي سوى إلى بديل للخلود. دعا الشاعر الإيطالي لوكريس إلى إدمان العلاقات الجنسية المفتوحة هرباً من خطر العاطفة المستمرة. تناوله في كتابه «عن طبيعة الأشياء» الذي يعد بمثابة قصيدة فلسفية طويلة حول التطور المستمر للكون، واضعاً صورة مرعبة للتوله الغرامي، ناظراً إلى الحب كنهم غير محدود تسيطر عليه حالة من السوداوية الداعية إلى التحرر الجنسي، ناصحاً إيانا بـ «محو الجراح القديمة بندوب جديدة» وألا نتردد في استخدام «الحب الجديد لطرد متعة قديمة». حقق مونتاني في الفصل الخامس من كتابه «المقالات» رغبته في الوصف الذاتي لفلسفة المتعة «باكتمال وعري تامّين»، معترفاً بغزواته الجنسية مادحاً المُتع الأرضية. تلاحظ الكاتبتان أن مديحه للمباهج تزامن مع إعادة تأهيله الجسدي بعد السقطة التي لحقت به من أعلى صحوة جواده، فكسر المحرمات التي فرضتها الأخلاقيات الدينية المسيحية التي دشنت عصراً جديداً من الكبت الجنسي. هذا الإخصاء المسيحي قال فيه نيتشه: «المسيحية سقت السّم لإيروس: ولكنه لم يمت به، بل تحول إلى فاسق». مونتاني أستاذ الإيروتيكية تحدث عن الحب بلغة واضحة دون ترميز أو «لغة مهذبة»: «من يسألني عن الجزء الأول من ممارسة الحب، سأجيبه: أن تأخذ وقتك. وهو الجزء الثاني أيضاً بل والثالث». على النقيض من مونتاني، أصيب الأديب والفيلسوف الفرنسي جان جاك روسو برهاب الحب ولعنة المساواة. كتب في الاعترافات أنه لم يعرف حباً كبيراً حقيقياً، معتبراً أن الحب «شعور اصطناعي». وقدم في «إميل» الرغبة الجنسية على أنها احتياج غير طبيعي. وذهب إلى تخيل أنه إذا عاش رجلاً وحيداً على جزيرة منعزلة من الممكن أن يموت من دون أن يجربها. ينضم صاحب «دين الفطرة» في رؤيته هذه إلى الأخلاقيين في القرن السابع عشر من الذين اعتبروا أن الحب قوة مُعدية وانعكس ذلك على علاقاته المضطربة مع النساء. ولعل أهم درس يلحظه القارئ في كتابه «إميل» اعتباره أن ممارسة الجنس بلا حب هو نوع من العبودية. إذ يفقدنا احترام الذات ويؤسس لحياة غير سوية. يماثل الحب عند الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط قوة الارتياب والغريزة الهدامة. في كتابه «أسس ميتافيزيقا الأخلاق»، يثير الحديث عن الجنس كأنه حالة تهبط بالإنسان «لما هو أدنى من مرتبة الحيوان». ويضيف: «حتى العلاقة الجنسية التي يسمح بها الزواج، ينبغي أن نغلفها بالكثير من التهذيب حين نتحدث عنها في المجتمع المتحضر». هذه الصرامة الكانطية الفلسفية تفاجئنا برفضه لحق النساء في التصويت «ليس فقط بسبب انعدام مسؤوليتهن عن أنفسهن مادياً واجتماعياً، ولكن أيضاً لأنهن وُلدن نساءً» أي لا يحق لهن إلى الأبد.
«يُعد تأمل الجنسانية أحد المصادر الأساسية لمذهب شوبنهاور» كما لاحظ الفيلسوف الفرنسي كليمان روسيه صاحب «شوبنهاور فيلسوف العدم». اتصف شوبنهاور بنزعة معادية للمرأة وللزواج، نافياً عن إناث البشر أي سحر جسدي حقيقي، قائلاً إننا نخطئ حين نطلق لفظ «الجنس الجميل» على تلك المخلوقات القصيرة عريضة الأرداف. والأغرب دعوته إلى تعدد الزوجات انطلاقاً من إيمانه بأن عند الشعوب التي تقبل التعدد في آسيا والشرق لا يمكن العثور على عانس لم يلمسها أحد بعد. وذهب – كما تشير الكاتبتان- إلى حد توصيفه للعاهرات، بـ «الضحايا الحقيقيين للزواج من زوجة واحدة، وقرابين الوقوف على مذبح العرس»، و«فلنلغِ الزواج الأوحد وستختفي العاهرات اللواتي تعج بهن شوارع لندن». كانت علاقة شوبنهاور بأمه علاقة مضطربة، كما هو الحال مع روسو ومونتاني. ربما هذا ما يفسر التصورات التي وضعها هؤلاء العظماء عن المرأة والحب. مع كيركيغارد، تحولت علاقته العشقية مع حبيبته ريجينا، أو كما كان يطلق عليها «شمس النساء»، إلى صورة رمزية للعشق الأوحد الباحث عن الانفلات من المحبوب ضمن منظور فلسفي أراد تعرية الوجود البشري انطلاقاً من الحياة الحميمة. جعل كيركيغارد القطيعة مع المرأة التي أحب تجلياً من تجليات العشق، ويعود سبب هذا الانفصال إلى توجسه من الروتين اليومي للحياة الزوجية. هذا التوجه دفعه إلى رفض الزواج حيث كان يزدري القناعات الموروثة كمتمردٍ لا يقبل «الغرق المشترك» في القيود التي تفرضها هذه المؤسسة. تسامى كيركيغارد بروحه العليا، ما أنتج عنده هوة كبيرة بين الأفكار وعالم الحياة المملوسة.
عشق نيتشه الموسيقى ورأى فيها «الفكرة الحقيقة للعالم»، غير أن علاقته بالحب شهدت توتراً على المستوى الذاتي. أسس لنظرية حادة تجاه موقف الحضارة الأوروبية من الجنس التي عملت على «شيطنة إيروس». يدين صاحب «إنسان مفرط في إنسانيته» الدعوة إلى العفة معتبراً أنها تحريض علني نحو الطبيعة المضادة «إن كل احتقار للحياة الجنسية باستخدام فكرة الدنس هي محاولة اغتيال للحياة، إنها الخطيئة الحقّة ضد الروح المقدسة للحياة (...) ليست الشهوة سماً إلاّ بالنسبة إلى الذابلين الذين يحتقرون الجسد والمصابين بهذيان العالم الآخر». نيتشه الذي اشتهر بكونه «فيلسوف الحَبَل» وفقاً للمصطلح الذي أطلقه جاك دريدا شكلت مسألة الأمومة محور اهتمام عنده؛ فالحبل هو ما يجعلهن «أكثر نعومة وحنواً وتسامحاً، وأكثر خوفاً». عرف نيتشه علاقات عاطفية عدة. تعتبر علاقته مع الكاتبة والروائية الروسية لو سالومي الأكثر تأثيراً فيه، كحضور أنثوي صاخب. انبنت العلاقة مع شريك ثالث هو رينيه ريلكه. وضعت الأديبة الروسية الواقعة بين ضفتين خطة من نوع المعيشة الثلاثية الخاصة بالمثقفين. ولعل الصورة الشهيرة التي قرر نيتشه التقاطها «سالومي تمسك سوطاً في يدها وتعتلي عربة يجرها مفكران لامعان مسخران هما ريكله ونيتشه» تعد تمثلاً واضحاً عن أشكال من الروابط الاستثنائية. شكلت –آنذاك- صدمة قوية في الأوساط الثقافية.
شكل الثنائي مارتن هايدغر وحنة أرندت، وجان بول سارتر وسيمون دي بوفوار علامة فارقة في الكتاب تخللها الحب والكره في خطاب الفلاسفة والروابط الإنسانية. لم يكن ثمة حب خالص. جريمة عدم الاخلاص حضرت وإن ظهرت «المرأة الفيلسوفة» كحضور عشقي منتج للأفكار لدى هايدغر وسارتر. تأسست هذه النزوات الحيوية والحسية على اتفاق بين «الفلاسفة المتحضرين». حافظ هايدغر على زواجه بعدما استسلمت لسحره الفلسفي أو لشهيته الحسية نساء كثيرات. كانت تفصله عن زوجته فوارق طبقية. وصفتهما أرندت وهي تتحدث مع زوجها الثاني بلوخر قائلة: «كانت حالة كلاسيكية من الارتباط الشعبوي – النخبوي». تنم قصص الفلاسفة مع الحب والجنس عن حيوات متداخلة ومعقدة، اتسمت –غالباً- بوجهتين متناقضتين: لزومية النشوة؛ والتعالي على الجنس المحكوم بالضوابط الأخلاقية. تظهر بعض الحالات المدروسة هنا كجزء من المكبوت الجنسي، لكنها تبقى في النهاية أنماطاً عشقية لا تكتسب صفة الفرادة بقدر ما تعكس طبقات النفس البشرية.
________
كلمات
العدد ٢٨١٨


التاريخ : 2016/02/24 02:12:42

الأحد، 28 فبراير 2016

نجاح زهران في منتدى فلسطين الوطني للثقافة والفنون وقصيدة اناواولئك البشر...

22 قصة قصيرة جدا ً -عادل كامل


 
 تخطيط للفنانة سيمون فتال

22 قصة قصيرة جدا ً


[ لتكن ملعونة تلك المدينة التي تضطرنا إلى قتل الناس في سبيل المحافظة عليها...]
دستويفسكي

عادل كامل


[1] الفيل والضفدعة
     عند بركة الماء، ذات صباح، التقت الضفدعة ملك الغابة ـ ولم يكن سبعا ً أو تمساحا ً، بل كان فيلا ً ـ ، ولكنها رأته على هيأة خروف جرد من الصوف، فظهر هيكله شبيها ً بهيكل كلب أجرب، فأبدت تعجبها ودهشتها:
ـ ما هذا...، ما الذي حل بك...، حتى أني بصعوبة بالغة عرفتك..؟
   لم يجد الفيل رغبة لديه بالرد، إلا انه ود أن لا يترك لها مجالا ً للنقنقة، بوصفها وكالة أنباء متنقلة، فقال لها بمرح وجدته كان بلا لياقة:
ـ أنت ِ تعرفين مصير زعيمنا الديناصور الأعظم...، لم يترك، بعد خلعه، وطرده، إلا هذه المخلوقات المتسترة وراء الدغل، وفي الأنقاض، وداخل شقوق الجدران المتهالكة....
ـ آ ....، أتذكر ....، سيدي، ولكن هل حقا ً هكذا الحياة، لا عمل لها، إلا أن تعاقب سادتها ..؟
   ارتج جسده، بعنف، فرد عليها، بعد أن هز خرطومه بلا مبالاة:
ـ بالعكس...، فانا عدت إلى الأصل...، أما أنت ِ، فقد ازداد وزنك حتى إنني لم اعد أميزك عن الأبقار السمان، ولا عن الجاموس، ولا عن الخنازير...، في حديقتنا، فهل الحياة عمياء حقا ً...؟
    لم يترك لها إلا أن تعالج كلماته اللاذعة، وهي تهم بالغطس في ماء البركة:
ـ  لم تكن الأولى هي القوانين الصائبة، التي صنعت منك زعيما ً وقدوة...، ولا هذه هي القوانين التي صنعت مني بقرة أو جاموسة أو خنزيرا ً، كما قلت؟
    ذعر من جوابها، فقرب رأسه منها، متمتما ً بسخرية:
ـ سيدتي، إنها القوانين ذاتها، تارة يصير العصفور صقرا ً، وتارة يجد الفيل نفسه صار يبحث عن حفرة ليموت فيها ولا يجدها!


[2] وصية!
    وهي تلفظ آخر أنفاسها، لم تجد النملة أحدا ً تخبره بأنه لا معنى لكل ما كانت حفظته، عن أسلافها، وأجدادها، وانه لا معنى أبدا ً إنها لو كانت أمضت حياتها تتأسف، ندما ً، أو لا تجد لديها الرغبة بترك اثر دال على إنها كانت شعرت بالحنين إلى أمر تأسف عليه!


[3] اثر

    وهي تراقب تبخر آخر قطرة ماء في الجدول، خاطبت نفسها:
ـ آ ...، حقا ً...إذا جف ماء الجدول، واختفى...، فهل إن مصيرنا الذي طالما عملنا من اجله، ليس إلا الماضي الذي كنا نخشى عليه من الضياع، والتلاشي...؟
     سمعتها جارتها، فقالت لها من غير أسف:
ـ اجل...، طالما كنا منشغلين بإقامة الجنائز، على موتانا، وعلى إقامة الأنصاب لهم...، أما اليوم فلا احد يكترث لو هلك الجميع،  مادام الجدول هو ذاته لن يترك أثرا ً لوجوده..
قالت لها بتعجب:
ـ الغريب إنني أجد من يهتم  بأمر موتي!
فردت بحزن:
ـ سنزول بعد زوال جدولنا الذي ولدنا فيه، وسيزول الجدول عندما لم يترك أثرا ً له، ولكن هل سيتم القضاء على أرواحنا، وهي تحمل رائحة ما ستبقى ترفرف حتى لو غاب الجدول، وزالت ذكراه عن أعيننا، وأبصارنا؟



[4] انتصار
ـ سيدي، سيدي لقد انتصرنا!
ترك القائد مساعده يتكلم، لأنه كان  على علم  بأن أحدا ً ما من المنتصرين لم يعد من الحرب:
ـ لم نهزم، فلم يرتد احد، ولم يتراجع...، فقد كان شعارنا النصر وليس إلا النصر...!
ابتسم القائد، وسأل مساعده:
ـ  ومن أخبرك إننا انتصرنا...؟
ـ سيدي، لا احد اخبرنا بأننا هزمنا!


[5] وجهان

سأل الحفيد جده:
ـ بعد أن رأيت هذا العدد الكبير من الطغاة، وبعد أن رأيت العدد الأكبر من الضحايا....، فمع من أنت؟
أجاب الجد بصوت هادئ:
ـ لا مع الطغاة ضد الضحايا...، ولا مع الضحايا ضد الطغاة! ليس لأنهما، يا حفيدي، وجهان لعملة واحدة، بل لأنهما  مثل شاهد القبر، لا تعرف من الدال على الآخر، مع إنهما، الميت وعلامته، يصعب تحديد أيهما يعمل على محو الآخر!
ـ يا لها من محنة...؟
ـ أبدا ً...، لا محنة في الأمر...، لأنني لم أقم إلا بحملها، من الميت إلى العلامة، ومن الأخيرة إلى الميت!
ـ ولا تدعوها محنة...؟
ـ يا حفيدي، لو كانت محنة، لهرمت، وزالت، وانتهى أمرها، أما وهي مازالت تعرف كيف تقاوم اندثارها، وغيابها، فلابد إنها مازالت بانتظار المزيد من الضحايا، ولكن، بانتظار المزيد من الطغاة! لأنك، في الأخير، لا تمتلك قدرة أن تعرف من كان الطاغية، ومن كان الضحية؟!




[6] مدنية
ـ هل شاهدت ما حدث....؛ كانوا يمسكون بهم، فيشطرون أجسادهم، يقطعونها، يمزقونها، يثرمونها، ثم ينثروها  في الفضاء...، فتتلقفها أسراب الطيور، بنهم كأنها لم تذق الطعام منذ دهر، ثم يطلقون الرصاص عليها، فتتهاوى أرضا ً، لتنهشها أنياب الضواري، تفترسها، بشراهة، بانتظار أن تلقى مصيرها، هي الأخرى...، حيث كانت اشد المفترسات بانتظار دورها في الهجوم.....؟
ـ نعم...، شاهدت، ورأيت..
ـ وماذا فعلت؟
ـ تذكرت كلمة دستويفسكي : " لتكن ملعونة تلك المدنية التي تضطرنا إلى قتل الناس في سبيل المحافظة عليها..."

[7] معضلة
   صدر الأمر بإطلاق النار، فاستقرت مئات الرصاصات في جسده:
ـ سيدي...، انه لا يموت!
اقترب القائد من الضحية:
ـ تضرع... استنجد.. اطلب الرحمة!
فأجاب بصوت هادئ:
ـ كي تحتفل بنصرك، أم تبتهج بهزيمتي؟
ـ لا الأولى ولا الثانية، وإنما كي لا ادع الضواري تتلهى بجسدك!
ـ المعضلة إنني لم أكن ضدك...، ولا مع نفسي...، المعضلة إنها هي وحدها اختارتك فاخترت أن تكون معها!
صرخ القائد الذي نفد صبره:
ـ  أطلقوا ...
  صوبوا فوهات بنادقهم نحو الجسد المضرج بالدم، مرة أخرى، وأطلقوا النار:
ـ سيدي، سيدي ألا تراه يبتسم!
   ابتعد القائد عنه خطوات، ثم اقترب، وحدق في عينيه:
ـ كأنك تحتفل بهزيمتي؟
ـ أبدا ً...، لكن أحدا ً ما لن يتحدث عن نصرك، لأن المعضلة، أيها القائد، وحدها وجدت لتدوم!

[8] بحث
    حدق في المرآة:
ـ كأنني أشبه نفسي!
   ليشاهد أجزاء محياه تتناثر:
ـ وها أنا أشبه روحي!
   وعندما لم يجد شيئا ً يراه في المرآة، ابتسم:
ـ هذه هي الحقيقة، ما أن تغيب، حتى نستجمع قوانا للبحث عنها!

[9] غواية
  خرج الحمل من وكر الذئب، مهرولا ً باتجاه القطيع، وهو يهتف بأعلى صوته:
ـ عاش الذئب..، عاش الذئب...
فصاح القطيع بصوت واحد:
ـ عاش، عاش، عاش الذئب...
   لكن نعجة هرمة اقتربت منه، وسألته:
ـ لِم َ خنت القطيع، ورحت تهتف بحياة الطاغية؟
حدق في عينيها الشاردتين:
ـ لقد عفا عني، ولم يفترسني، بل وغفر لي ذنوبي أيضا ً!
فقالت بأسى عميق:
ـ لكنه سيفترسك في وقت لاحق...
ضحك الحمل:
ـ لا! لقد همس في أذني: أريدك أن تخبرهم إن رحمتي بلا حدود!
ـ الملعون....، حتى الذئب تعلم فن التمويه، كي يوقعنا في فن الغواية!



[10] ذنب
قبل أن يطبق التمساح فكيه على الغزال، طلب منها أن تغفر له، وتقبل اعتذاره، فسألته:
ـ على ماذا...؟
ـ قد أكون أذنبت بحقك!
فهتفت:
ـ لا ... لا أبدا ً ... بل أنا هي من أذنبت في حقك، واطلب الاعتذار!
فصاح بصوت حاد:
ـ ماذا تقولين أيتها الغزال...؟
   ما أن فتح فمه، حتى وثبت هاربة، بعيدا ً عن فمه، وهي تقول:
ـ أؤكد لك مرة ثانية إنني أنا من أذنبت بحقك، لكن، بعد هذا اليوم، لن أذنب بحق نفسي!

[11] غواية
  سأل العصفور أمه:
ـ لماذا ارتكبت جدتنا الخطيئة الأولى...، هل كي نطرد من  الفردوس؟
ـ اقترب... اقترب... ماذا قلت؟
   فقال ضاحكا ً:
ـ لو لم يقع جدنا بالغواية لما أصابنا هذا الشقاء!
ابتسمت وقالت له:
ـ  بل كانت لا تعرف شيئا ً عن الفردوس أيضا ً!
فقال لنفسه بصمت تام: ما اغرب هذا المنطق...، في هذا العالم، فلو لم يشتركا في ارتكاب الإثم، لكنا لا نعرف شيئا ً عن الخلاص!

[12] طيف
   وهو يحتضر، دار بخلده: لو كانت صانت فرجها واحتمت بالعفة، لما وقعت في الغواية، ولما كنت طلبت الغفران، بعد أن تذوقت كل هذه الآثام، والخطايا!
    فشاهد طيف جدته الأولى يحوّم أمامه:
ـ ما كان جدك شريرا ً وما كانت جدتك لعوبا ً....، أيها الابن الذي لم يترك شرا ً إلا وارتكبه، ولم يترك دناءة إلا وفعلها!
ـ وها أنا أتضرع بالتطهر، وطلب الغفران...، والرحمة!
ـ  وما فائدة ذلك...، بعد أن زرعت بذرتك وتركتها تترعرع يانعة في القطيع...؟
ـ الم أخبرك يا جدتي إنني لم اطرق أبواب جهنم بإرادتي أبدا ً!
ـ ولكنك صرت تطرق أبواب الفردوس؟
ـ  أما تشاهديني وقد وهن جسدي، وأصاب الشرود عقلي، وكل عضو من أعضائي ذبل، واشتعل البياض في رأسي، فماذا تفعل جهنم بحفنة عظام وبجلد سد على ّ منافذ الهواء؟


[13] هزيمة
ـ هل حصلت على ما تريد...؟
رد ابن أوى يخاطب الكلب الذي امسك به:
ـ نعم، سيدي، فانا لم اترك للهزيمة مكانا ً في ّ لم أجربه، واستثمره، واستهلكه...، ثم أعيده إلى الأصل!
ـ تقصد انك لم تترك نصرا ً لم تحرزه؟!
ـ لا ... سيدي، فلو لم أدرك أن الهزيمة هي قدري، لكنت شعرت بالأسف، وتضرعت أن تطلق سراحي! أما الآن، فما عليك إلا أن تفترسني، فقد لا تجد حتى هزيمة تختتم بها حياتك!

[14] كابوس
    عندما أدرك انه أصبح داخل جوف الأفعى، ولا مجال للهرب، ترك جسده يتراخى، مستسلما ً، بدل بذل جهد لا فائدة منه. لكنه سرعان ما وجد نفسه يقف أمام فم الأفعى، وهي توشك أن تبتلعه، فصاح:
ـ ألا يكفي انك لم تتركي لي حتى أمل الهرب...، والفرار...، كي تعيدين الكرة، مرة أخرى، وتضعي خاتمة لحياتي!
ـ أيها الفأر الوديع...، مادمت فكرت...، فاهرب...، فانا لا اعتدي على من لم يتخل عني ويمجدني في أحلامه!
   عندما نجا واختفى ترك صدى كلماته ترن داخل رأس الأفعى:
ـ لم يكن تمجيداً ، بل كان كابوسا ً لا اعتقد أن الخلاص منه يمكن أن يدوم طويلا ً، أو يمكن أن  يصبح حقيقة!


[15] ورطة
  راح يردد، مع نفسه، وهو يتخبط في الجري:
ـ أينما أولي، فلا أرى إلا وجه الجلاد أمامي...
قالت حبيبته التي كانت تجري خلفه:
ـ هذه أنا...، هذه هي من عشقتك، أيها الحبيب!
ـ وهل اقدر حقا ً أن أميز بين وجه من لم يتركني أعيش لنفسي، إن كانت حبيبة، أو كان جلادا ً؟!
ـ لا تهرب مني...،  فأينما تواريت، فانا لن ادعك تغيب عني!
ـ آ ...، هذا ما كان جلادي يقوله لي: أينما ذهبت فانا لن ادعك تذهب ابعد مني!

[16] وصية
   نادت الجدة حفيدها، لتوصيه، وهي توشك على الرحيل:
ـ في هذه الحديقة، حذار أن تعمل إلا بحدود أن لا تدع أحدا ً يراك فيها تعمل!
صمتت برهة، ثم قالت:
ـ وحذار أن تراقب من يعمل، فانه سيظن انك تفكر بسرقة عمله، فيؤذيك!
ثم أضافت:
ـ  وحذار أن تفكر ...، وحذار أن تحلم...، وعش كأنك بلا وجود..، ومت كأنك لم تولد...، فسكان هذه الحديقة إن شاهدوك تعمل سخروا منك، وإن لم يسخروا منك، بتروا أصابعك، وإن لم يفعلوا ذلك، قطعوا يديك! وإن عرفوا انك تفكر...، فأنهم سيرسلونك إلى المشنقة، أو يقطعون رأسك ويرمونه إلى الضواري!
قهقه الحفيد حد انه راح يبكي، وقال لها:
ـ كأنني أنا هو الذي يودع هذه الحديقة، وليس أنت ِ يا جدتي الغالية؟
ـ ما الفارق؟ فانا سمعت وصية جدي، عن جده، الذي بدوره حفظها عن أجداده، وأجداده حفظوها عن أسلافهم، وها أنا أكملت وصيتي إليك، أيها الحفيد الغالي!
هز رأسه متمتما ً:
ـ  علي ّ ـ إذا ً ـ أن أجد عملا ً يبعد عني شبح الموت، وأفكر بوسيلة تمنعني من التفكير، واحلم كأنني لم أولد أبدا ً!

[17] نهاية
ـ انظر...، الذئاب ترقص مع الغزلان، السباع تلهو مرحة مع الثيران، انظر: الصقور تحّوم مع العصافير ، وبنات أوى يستمعن إلى تغريد البلابل....
متابعا ً، أضاف الغراب لغراب عجوز كل ّ بصره، وصار لا يرى:
ـ لقد هدموا الأسوار، وكسروا أقفال الأقفاص، وحرروا الجميع من عبوديتهم...، وها أنت تراهم يحتفلون، يلعبون، يرقصون، من غير ذعر أو حذر أو خوف!
   رد العجوز الأعمى:
ـ أتعرف لماذا فقدت بصري...؟
ـ لا.
ـ لأنني ـ بعد أن فقدته ـ عرفت إن هؤلاء يؤدون الأدوار التي لا مناص من أداءها!
ـ وأنت؟
ـ  بعد أن فقدت بصري...، صرت أرى!
ـ وماذا رأيت؟
ـ إنها لعبة شبيهة ببركان ما أن يقذف حممه حتى يهدأ...، وما أن يهدأ حتى يعمل على تجميع قواه كي يزمجر!
ـ  لم افهم قصدك؟
ـ لأن الذين يفكرون، أيها الفتى، لا يمتلكون إلا أن يفكروا! فانا ـ بعد أن أصابني العمى ـ ساترك لك فرصة انتظار نهايتك المقررة!


[18] ديمومة
   عبر شاشة الحديقة العملاقة، المطلة على جناح القرود، واصلت الطائرات تدك أهدافها، فترتفع أعمدة النار والدخان عاليا ً، حتى تحولت الشاشة إلى مساحة بيضاء!
قال قرد لزميله:
ـ من... في تصورك...، سينتصر؟
هز الآخر رأسه ولم يجب. فقال الأول:
ـ كنت تريد أن تقول: لا احد! فكما قال حكماء الصين: على المنتصر أن يمشي في جنازته، وكما قال قدماء قومنا قبلهم بألفي عام: على المنتصر أن يحفر قبره بيديه!
ارتبك، فأجاب بصوت مشوش يسأله:
ـ لماذا كنت تتجسس علي ّ؟
ـ سألتك.. ولم تجب، فكان على أن اعرف ماذا كان يدور في راسك!
    لكمه بضربة قوية أوقعته أرضا ً، فتمتم بصوت حزين:
ـ  أنا لم أخسر...، وأنت لم تنتصر....، لأنني لن اغفر لك هذا الاعتداء!
ـ أصغ إلي ّ...، الآن تبلور لدي ّ الجواب..
ـ ....
ـ مادامت المعركة بلا نهاية... فان شبح الهزيمة يدعوا الجميع إلى النصر! وتستطيع أن تقول: مادام النصر مستحيلا ً في معركة لا خاتمة لها، فلا احد سيستسلم للهزيمة!
ـ كأنك بدأت تفكر؟
ـ  تقصد... بدأت استعد لاسترداد حقوقي المغتصبة؟


[19] دورة
   في أعلى الشجرة، راقبت الحمامة المجزرة، فأدركت استحالة الهرب بعيدا ً عن عشها، فقالت لرفيقتها:
ـ غريب أمر هؤلاء الناس...، يذبح احدهم الآخر بسلاسة، وهدوء..، ثم، بعد أن يصابوا بالتعب، والإعياء، يدفنون قتلاهم، من ثم يعملون على المصالحة!
بأسى أجابت:
ـ  استعدادا ً لمجزرة أكثر هولا ً...!


[20]قدر
   صاحت القملة في أذن السبع القابع في قفصه:
ـ ألا تخجل أن تأكل الفضلات؟
ضحك السبع:
ـ عندما لا استطيع القضاء على قملة تمتص دمائي بهدوء...، فعلي أن انتظر لحم الحمير البارد...، وبقايا عظام الثيران...؟


[21] قيود
  كف البلبل عن التغريد، وهو يتأمل، من وراء قفصه الحديدي، مجموعة من القطط، والكلاب، تقترب...، لتدور من حول القفص، فقال لشريكه:
ـ  الآن فقط أدركت أهمية هذه القيود، في هذا القفص!
أجاب بمرح:
ـ غرد!
   تأملهم يحدقون نحوهما بنظرات اشد قسوة مما لو كانوا يمزقونهم بمخالبهم، ويفترسونهم بأنيابهم...، فقال للآخر:
ـ المؤلم جدا ً إننا لن نتخلى عن هذه القيود...، إن لم نمجدها...، ونتغنى بها، في كثير من الأحيان!

[22]
ـ سيدي، لِم َ أفكارك معتمة، وتصوراتك سوداء، حتى إن كلماتك لا تبث إلا عفنا ً مر المذاق؟
ـ اجل..، هذه ـ هي ـ المحنة...، إني لم أصل إلى هذه الخاتمة إلا بعد أن حاولت العثور على بصيص من الضوء....، فلم أجد!
ـ لكن أشعة الشمس تملأ الرحب، والفضاءات، والحدائق...؟
ـ  لو تأملتها بإمعان...، وحللتها، فانك ستدرك إن هذا القليل منها يجعلك  تخرس وأنت ترى كم ـ هي ـ  مساحة الظلمات بلا أسوار، جدران، وحافات!
24/2/2016
Az4445363@gmail.com



مجمع القشلة والسراي: حقل تجارب لهواة الترميم!- د. إحسان فتحي




مجمع القشلة والسراي: حقل تجارب لهواة الترميم!

د. إحسان فتحي

   قبل أيام رأيت صورا تبين عمليات هدم كبيرة أمام وجوار قصر الوالي في سراي بغداد!  حقا أدهشني الأمر لأنني كنت اعتقد بان هذا المجمع الهام يخضع لحماية الدولة الصارمة ولا يمكن المس به فهو محرم من محرمات التراث الوطني. إن هذا المجمع الذي يشمل مباني القشلة وبرجها، ومبنى السراي الحكومي ببواته الرائعة، وقصر الوالي، ومبنى رئاسة الوزراء، ومباني أخرى، يعتبر احد أهم المواقع التراثية في بغداد والعراق على الإطلاق. كما ان طول واجهة مبنى القشلة (المقر العسكري لفرق المشاة العثماني) يبلغ حوالي 200 متر مما يجعلها اطول بناية في تاريخ العراق المعاصر، الا ان تغلبت عليها بناية مجلس الوزراء التي شيدت في 1980 وبلغ طولها 215 متر، وبعد توسعة القصر الملكي – الجمهوري في كرادة مريم في التسعينات اصبح طوله 335 متر بعد ان كان 150 متر.
والملاحظ ان هذا المجمع الهام، الذي شيد بين الاعوام 1861 و1870، قد تعرض إلى اهمال شديد في الفترتين الملكية والجمهورية والى عدد من اجراءات الهدم والتغييرالجاهلة التي ادت الى خسارة كبيرة في معالمه الاصلية. فعلى سبيل المثال، فأن القصورالعثمانية التي كانت تطل على نهر دجلة بعدد من اجمل الشناشيل البغدادية قد هدمت تماما ولم يتبق منها سوى قصرالوالي الذي سلم من ايادي الجهلة لحسن الحظ، لكن واجهته الاجرية الحالية لاتمت بأي صلة للاصل. كما هدم الجزء الغربي من بناية "المشيرية" المطلة على دجلة دون سبب، وغيرالدرجان المؤديان الى الطابق العلوي للقشلة دون مبرر، ورمم الطابق العلوي بجسور حديدية (شيلمان) مؤخرا وهذا يخالف ابسط مبادىء الترميم. وان بوابة السراي (وليس القشلة) المقببة، والتي اعتبرها شخصيا احد درر بغداد المعمارية، قد جرى "ترميمها" بشكل خاطىء سابقا ومؤخرا وطابقها العلوي يختلف كثيرا عن الاصل كما تظهر ذلك الصورالقديمة. وحتى برج الساعة فقد تم تغيير الجزء العلوي منها تماما.
كان هذا المجمع بمثابة خلية النحل المزدحمة بالعاملين والمراجعين وموظفي الدولة الكبار ورجال الشرطة والجنود، معتمرين الازياء المختلفة بعماماتهم الملونة وفينهم القرمزية وسداراتهم السوداء...صراخ الباعة... رائحة التراب والقداح... كانت فيه العديد من الدوائر الحكومية كمجلس الوزراء، والمتحف العراقي، ومطبعة الحكومة، ووزارت المعارف والداخلية والعدلية، ومحكمة الاستئناف، ومديرية الشرطة العامة، ومركز شرطة السراي الشهير. كان هذا المجمع ينبض بالحياة والحيوية وكان جزءا لايتجزء من نسيج الرصافة ومحلة جديد حسن باشا تحديدا. الذي ميز ووحد العمارة البغدادية واعطاها هذا الطابع الجميل والمؤثر بصريا وروحيا هو هذه الاجرة (الطابوقة) الذهبية اللون التي كانت هي المادة الاساسية الام والابسط والتي شكلت اساس الابداع الانشائي والمعماري منذ الحضارة السومرية قبل اكثر من 5000 سنة.
وعليه، فان مثل هذا المجمع التراثي يجب ان لايتعرض الى تجارب الهواة من "المرممين" ومن كل هب ودب، ومن المقاولين الذين يجهلون ابسط مبادىء الصيانة العلمية. انا حقا اطرح هنا سؤالا بسيطا واساسيا:  من هو في الحقيقة المسؤول "النهائي" عن هذا المجمع؟  هل هي محافظة بغداد؟ ام امانة العاصمة؟ ام هيئة الاثار ةالتراث؟ هل هناك مسؤول سري يتحكم بمصير الاف المباني التراثية؟  وهل فرغ العراق من متخصصين في ترميم المباني التاريخية؟ وما هو دور اقسام الاثار في العراق والتي تخرج عشرات الاثاريين كل عام؟
ان وضع المواقع الاثارية والمباني التاريخية والمناطق التراثية هو في حالة يرثى لها وكلها مهدد بالسرقة أو التشويه والتغييرأو الهدم بسبب هذا الجهل العجيب. ان الاغلبية الساحقة من الجوامع والحسينيات والكنائس التاريخية قد تم اعادة بناؤها بشكل جديد تماما وهذه خسارة كبرى تتحملها جهات الأوقاف المختلفة. ان هذا ان العراق، بفضل هولاء المسؤولين، قد استحق بحق لقب "المدمر الأول لتراثه في العالم". لقد كتبنا وصرخنا مئات المرات عن مبان مهددة يجب معالجتها فورا ولم يحصل، ولا مرة واحدة، ان اجاب علينا اي مسؤول في الاثار او الدولة، او تم اتخاذ اي اجراء وقائي. لقد كتبت عن تخطيط مناطق بغداد القديمة والمدن العراقية الاخرى دون جدوى، عن هدم الكاظمية بحجة تطويرها، عن مبان مهددة عديدة مثل قبة السهروردي، وخان الزرور، والميدان، وشارع الرشيد، وحمام الباشا، والاعظمية، وعن هدم البيوت التراثية، وتغليف المباني بالالكوبوند الملون الصارخ، وعن إهمال المدرسة المستنصرية، وجامع مرجان الذي تحول إلى مكب قمامة، وعشرات الحالات الأخرى!
يبدو إن الامر صعب جدا، فنحن امام جدار هائل من اللا مبالين والجهلة، لا يهمهم أي شيء!  هم ابعد مايتصوره المرء عن الاحترافية والمنهجية العلمية...هم حقا في كوكب اخر تماما...فيبدو ان المعركة خاسرة اصلا.. طالما ان استمروا في التحكم في مصير تراثنا...ويبقى أن اقول بأن كل ما قلناه او نقوله الان هو تسجيل وتوثيق لهذه المأساة الكبرى للاجيال القادمة.

معماري متخصص بالحفاظ على التراث