بحث هذه المدونة الإلكترونية

إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الأربعاء، 17 مارس 2010

حوار مع الفنان د غالب المسعودي




حاوره زهير الجبوري

ان المتفحص لتجربة الفنان التشكيلي (د. غالب المسعودي) في السنوات الأخيرة يجد انه يواكب التحولات الفنية بما تجيء به من مزايا حديثه ثم بعد ذلك يعمل صوب تأسيس واقع خاص به من حيث الاسلوب والثيم المستخدمة داخل اعماله، وقد استطاع ان يقدم (لوحات) في الفترة الأخيرة وهي تنطلق (موضوعيا) من الواقع المعاش،

مع ان الرموز المستخدمة عنده جاءت ضمن تركيبات حديثة، ولأن الحديث يتسع في هذا الموضوع، التقيناه فكان معه هذا الحوار:

* من خلال مشاهدتنا لأعمالك الأخيرة، فقد لمسنا انك قد اشتغلت بانفتاحية الموضوع وصراحة الألوان، ثم الاعتماد على ثيم تحمل دلالات منفتحة؟
ـ بما انك قارئ ومتابع لأعمالي منذ سنوات، فأقول لك بان الانسان وليد ظرفه الموضوعي ومن ثم عندما يحصل تقدم اجتماعي واقتصادي ينعكس على الإبداع ذاته، ولديّ انا شخصيا تقنياتي الخاصة كما هو الحال لكل فنان وفي كل اختصاص، لذلك اتعامل مع منتجي كـ (نص) مشبع فيه تقنية الرموز والانفتاح أمام الاجناس الاخرى.. أي تراني في منطقة معينة استثمر قصيدة ما وأحولها الى نص جمالي، ومن جهة اخرى فان الواقع الاجتماعي وتأثيراته في الوقت الحالي يساعد على تأسيس ما نريده. كما وان التقنية الفنية في التعامل مع اللوحة في مثل هذا العمل تحتاج الى رعاية دقيقة.
* من هذا نجدك تنطلق من ثقافة خاصة تكرسها داخل اعمالك؟
ـ بالتأكيد، فانا متعدد القراءات، وبالنتيجة ينعكس ذلك على اعمالي.. وعلى كل فنان ان يخلق لوحة بأدواتها الموضوعية والفنية، فحين نخوض في مجال المعرفة فاننا نعمل على خلق ما هو جديد فترى احيانا حتى( البشاعة) تحمل جمالا شاخصا مرتبطا بالواقع المباشر، مثال على ذلك عندما قمت برسم (مع عدد من فناني الحلة المهمين) لوحة خاصة بالانفجار الى هز الاوساط الاعلامية وغيرها في العراق في مدينة الحلة في العام الماضي، كانت هناك شواهد عيانية سحبتها وادخلتها في لوحاتي بتكثيفية عالية، فحين شاهدت الرؤوس والأيادي والأرجل متناثرة (اذ واقع الانفجار كان بالقرب من عملي في عيادة الاسنان).. جعلني اكرس المنظر هذا الى توثيقية / فنية فبالرغم من التشظي الذي حصل، فهو بلا شك يؤثر على ذائقتنا الفكرية والنفسية لنقوم بتكريس ذلك فنيا .

* في بعض من اعمالك نجد استعارات للرموز الاسطورية الموظفة بطريقة حديثة، فهل يعد ذلك مدروسا، أم ماذا؟
ـ للاسطورة ومفهومها المعرفي شكل خاص بي، ولعل هناك فهما إلقائيا وآخر عيانيا من خلال طرح الشكل العام للآخر / المتلقي فملحمة كلكامش من حيث وظيفتها الموضوعية تعطي جوانب معرفية واضحة، ولكني" كفنان تشكيلي "، ، أوظفها بما هو معاصر (فنيا) عن طريق ادواتي الحديثة كما وان اللعب باللون والشكل يسحب المتلقي للاستمتاع بما هو ممتع وجميل، وبذلك يتحقق في نهاية الأمر الموضوع الحديث لمسألة تاريخية.
* ولكن هناك اضافات في تقنية اللوحة ذاتها؟
ـ بكل تأكيد، فهناك تقنيات الكولاج والشطب واللصق والتعرض الحراري، كلها موجودة في أعمالي، وخاصة الأخيرة منها.. ولكنني لا استطيع مغادرة المواضيع المثيولوجية، والاضافات التي تقصدها تتمازج بين المواضيع التاريخية المتصلة بأدوات الفن الحديث من حيث الاستخدام.
* اذن أنت تبحث عن تجربة جديدة تطرحها تجربيا الى الساحة التشكيلية؟
ـ أعتقد ان الفنان الحقيقي وبجميع الاختصاصات ديدنه الخروج عن السائد التقليدي، فاذا كان مسلحا بما هو معرفي في مجاله، فانه بلا شك سيؤسس فنانا قائما على ذائقة سليمة، والاسطورة لا تنضج الا بالتجريب، ربما هو خلاصة وعي الانسان ببيئته وما يدور حوله من ظواهر طبيعية.
* من كل ذلك، ما المطلوب من الفنــان التشكيلي ليقدم ما هــو جديد؟
ـ الفنان هو الذي يصوغ اللوحة مثلما يريد ومثلما تحدده ذائقته الفنية، ولا توجد وصايا على المبدع.. وبصورة عامة نحن بحاجة الى نظرية نقدية تستمد الى ارثنا الحضاري، وهذا الأمر لم نلمسه ولم نشاهد محاولات للخوض فيه، ومن ثم فان الفنان يسير نحو المستقبل ليحقق ذاته امام تراكم الأحداث، ولم تتأسس حركة تشكيلية حقيقية باستثناء مدرسة بغداد للفن الحديث وكان رائدها الفنان الكبير (جواد سليم).. وبذلك نحن نجعل من الماضي ما هو مفخرة لحاضرنا، ولا زلنا في الوقت الحالي نستعير الجماليات من الخارج.

الاثنين، 15 مارس 2010

سوق الحطابات في الحلة

سوق الحلة الكبير .. سوق طويل يمتد لمسافة متعرجة، تعلوه صفائح من (الجينكو) مثلثة الشكل تقريباً تمنع حرارة الصيف وبرودة وامطار الشتاء.. يتراوح عرضه بين اربعة الى خمسة امتار..

لم يكن السوق بطوله الحالي قد انشئ دفعة واحدة، بل لم يكن اول سوق في الحلة، انما هناك سوق صغير يحاذيه من الجانب الجنوبي يسمى بـ (سوق الغَيْبة) ذكره المؤرخون والرحالة الذين زاروا مدينة الحلة قبل قرون، واقترن اسمه بمقام للامام محمد بن الحسن المهدي (عليه السلام).

اما السوق الكبير فتطور على مراحل بعد عدة عمليات اعمار وبناء منذ اكثر من قرنين، حتى اصبح معلماً بارزاً من معالم الحلة الفيحاء..

تتخلل السوق، اسواق اخرى فرعية على جانبيه يعرف بعضها بـ (القيصرية) والتي تتكون من طابقين في الاغلب وهناك بعض آثار خانات قديمة كانت تستخدم كفنادق ودور استراحة للمسافرين..

ومن الاسواق المعروفة في السوق الكبير سوق الخضار وسوق البزازين (التجار) وسوق القصابين وسوق الخفافين وسوق الحدادين وسوق النجارين وسوق الصاغة وسوق الصفارين واسواق اخرى كثيرة لم تتخذ اسماً خاصاً لها لتنوع المهن والحرف فيها.

مئات المحال الكبيرة والصغيرة وعشرات الفروع والازقة على جانبي السوق الذي يقع في عدة محلات سكنية هي (جبران والمهدية والجباويين والطاق).. ويبدأ السوق الكبير من جهة الشرق بإطلالته على شط الحلة في المنطقة التي تعرف بـ(الجسر العتيك) وينتهي عند الجنائن المعلقة (الجبل) من جهة الغرب.

ومنذ اكثر من ثلاثين عاماً لم يكن السوق يضم سوى عربات معدودة لا تتجاوز اصابع اليد الواحدة، كان يعرف صاحبها يومذاك بـ (الخردة فروش) لكن الايام العصيبة التي انهكت العراقيين بحروبها ومرارتها جعلت تلك العربات الخشبية الجميلة تتناسل الى سلسلة متصلة من (الجنابر) و (البسطيات) احتلت وسط السوق حتى بات من الصعب جداً اختراقها فعرقلت حركة المرور وتسببت بزحام شديد، تزيد ضراوته العربة الخشبية التي يدفعها الصغار او الكهول ، محملة ببضائع متنوعة تخترق افواج المارة فجعلت منه سوقا يصارع هذا التوسع العشوائي ويجاهد الاهمال الذي طاله من قبل الاجهزة البلدية التي لا شغل لها سوى مطاردة الباعة الجوالين واصحاب (البسطيات).


سوق الحلة الكبير مكتظ في كل حين الا في المساء.. فمنذ اكثر من ثلاثة اعوام تقريباً بدأ الباعة واصحاب المحال يغلقون محالهم عند اذان المغرب خشية تعرضهم للسلب او الخطف من قبل اللصوص.. وهي حالات نادرة جداً في هذه المدينة غير ان للضرورة احكام..

وقبل عدة عقود من الآن كان للسوق نكهة خاصة ومراسيم خاصة، ففضاؤه الجميل يبعث على الراحة في التبضع وقضاء امتع الاوقات في التجوال فيه ومشاهدة ما يتمنى المرء مشاهدته او شراءه دون عناء.. فأغلب الناس يعرفون بعضهم بعضاً، وكذلك فضيوف المدينة لا يكاد يفوت احدهم زيارة هذا السوق والتبضع من محاله.

وحتى ايام رمضان كانت لها سمة تختلف عن الايام الاخرى فالفطور ترسله العوائل الى السوق ليفطر الباعة في اماكن عملهم ولا يغلق السوق ابوابه حتى بعد انتصاف الليل.. فالمساجد كثيرة في السوق وعلى جانبيه اشهرها جامع الحلة الكبير ومسجد ابو كبة ومسجد القطانة ومسجد الصفارين ومسجد التجار، ومساجد صغيرة متفرقة هنا وهناك، فضلاً عن الكثير من مراقد الاولياء والعلماء المنتشرة في الفروع والازقة المتفرعة من السوق الكبير، وجميعها تفتح ابوابها للصلاة والدعاء والمحاضرات الدينية. اما المقاهي فتبدأ العمل في هذا الشهر عند اقتراب موعد افطار الصائمين لتقدم لأصحاب المحال (القنداغ) و (الشاي) و(الحليب) لتعج بعد ساعات بروادها حتى وقت السحور في ممارسة الالعاب الشعبية (المحيبس) و(الصينية) و(لعبة الديكة) وغيرها.

اما اليوم فقد اصبح السوق عبارة عن تجمع حاشد من الاجساد البشرية تحفّها البضائع المحلية والمستوردة وهي معلقة بكلاليب او منضدّة على رفوف خشبية او حديدية او مطروحة على قارعة الطريق تعرقل سير المارة..


(البسطيات) التي افترشت السوق لا تختص بنوع معيّن من البضائع، بل هي متنوعة يغلب عليها طابع ما خف حمله من المواد.. فالملابس الرجالية والنسائية والعطور والبهارات والاكسسوارات وغيرها.. والجديد في اتساع هذه الظاهرة ظهور مهنة بيع الاقراص (سي دي) وهي ظاهرة غير مقبولة لما فيها من انتهاك لحقوق المواطنين الذين يفرض عليهم سماع ما يبثه اصحاب البسطات من اغانٍ رخيصة او (لطميات) او غير ذلك..

والباعة اصحاب (الجنابر) فهم من الشباب الذين لم يجدوا وظائف لهم هنا او هناك، او من المتقاعدين الذين من المفترض ان يقضوا بقية سنواتهم في راحة وسعادة.. لا ان يلتجأ الواحد منهم الى هذا العمل المضني.. فهم يقضون الساعات الطويلة من اليوم وقوفاً جنب (جنابرهم).

وواحد من الاسواق الفرعية المعروفة في السوق الكبير هو سوق الحدادين الذي يزدحم بالعديد من الحرفيين المتخصصين بصناعة وعمل الادوات لبدائية التي تدخل في الزراعة مثل المناجل والمساحي والفؤوس التي يحتاجها القرويون من ابناء الريف وتسمع من بعيد طرقات الحدادين والصفارين والسمكرية والبعض من مصلحي الادوات المنزلية مثل المدافيء والمراوح والمولدات الكهربائية.

وحين تتوغل داخل السوق يلفت انتباهك محل صانع الغرابيل او المناخل حيث يديره الاسطة جبار عبدالله الكواز الذي ورث هذه المهنة عن ابيه الذي افتتح هذا المحل في ثلاثينيات القرن الماضي وكان كوازا اضافة الى هذه المهنة وها هو بدوره يعلم اولاده لهذه المهنة وهو يقول بأنه يقوم بتصنيع مختلف الغرابيل وهو المجهز الوحيد لكافة مناطق العراق.

ويشتهر السوق الكبير كذلك بورش الصفارين وقريب منهم مسابك صناعة الدبس والراشي ، وعند مدخل السوق الشرقي ينتشر باعة الجرزات ومن ثم يليهم باعة الاقمشة والملابس المختلفة والى يمين السوق توجد قيصيرة خاصة بصاغة الذهب وتعرف بسوق الصاغة والى العمق ينتشر باعة المواد الغذائية بالجملة ومن ثم باعة الحلويات واخيرا وبالقرب من (الجبل) الى الغرب من السوق المسقف تنتشر مخازن الحبوب الكبيرة التي تعد المصدر الاول لتخزين وتجميع الحبوب والتمور على اختلاف انواعها في بابل.

ولعل من اشهر الاسواق الفرعية التي لا يكاد مواطن في الحلة لا يعرفه هو سوق الحطابات الذي تنتشر فيه بائعات الخضر والفواكه فضلا عن عدد من القصابين.

والى وقت قريب كان السوق المسقف يعد المركز التجاري الاول في المحافظة ،غير ان العمليات الارهابية الكثيرة التي استهدفت بعض الاسواق والشوارع مثل شارع المكتبات الذي يقع في الجانب الشرقي من السوق الكبير بمحاذات شط الحلة جعلت غالبية المواطنين والمتبضعين يبتعدون عن دخول السوق الكبير الذي يصعب السيطرة عليه امنيا بسبب كثرة الاسواق والازقة المتفرعة عنه والمؤدية اليه، وازاء هذه الظاهرة فقد توسعت اسواق الجملة في مدينة الحلة واخذت تنتشر في مناطق تمتاز بقلة الكثافة البشرية مثل شارعي الطهمازية واربعين الذان انتشرت فيهما محال بيع الجملة مما اصابت بعض تجار السوق الكبير بالكساد، خاصة ان بدلات الايجار في هذا السوق اخذت ترتفع بشكل خيالي مع زيادة عدد المشتغلين بالتجارة وتوافد عدد كبير من تجار بغداد الى محافظة بابل هربا من الارهاب الذي تشهده العاصمة

الأحد، 14 مارس 2010

الحلة وشقاوات ايام زمان -بقلم حامد كعيد الجبوري



الحلة وشقاوات أيام زمان
(أبراهيم عبدك) أنموذجاً حامد كعيد الجبوري
لا يخفى أن أيام زمان وقبل تأسيس الحكومة العراقية كان العراق على شكل دويلات أو قل أقاليم أو مقاطعات يحكمها المتنفذون أصحاب المال والإقطاعيات الشاسعة ، وبالطبع أن هؤلاء المتنفذون بحاجة لمن يُدّعم سلطانهم ويقدم الحماية لهم ولعوائلهم ولمعيتهم ، ويختار المتنفذون هؤلاء الأشخاص –الحماية - من عوام الناس ممن تتوفر فيهم شروط اللياقة البدنية،من عضلات مفتولة وقوة إرادة وتجربة بفنون القتال ، وله سمعة بين أوساط المدينة بالشجاعة ومجرب بكذا معركة خاضها وحقق نصراً بها ،وبقدر السلطة التي يملكها المتنفذ وبقدر مملكته أو إمارته يكون حجم هذه الحماية ، بعد أن أسست الدولة العراقية الجديدة في عشرينات القرن المنصرم ودخول المستعمر الأنكليزي للعراق أنحسرت مهمة هؤلاء الحمايات – الشقاوات – بل وشكلوا خطراً واضحاً على مسيرة الدولة الحديثة وما على الحاكم الجديد إلا أن يفتت عضد هؤلاء الشقاوات وتجزئة عصاباتهم بالترغيب – المال – أو الترهيب – القتل أو الأعتقال أو النفي – لبسط نفوذ الدولة ، وبالطبع أن المستخدم الأول وأعني به المتنفذ أو الأقطاعي أفرحه ذلك ليتخلص من عبأ ما يقدمه لهم من مال أولاً ومن تطاول البعض منهم وتدخلهم بشؤن الشيخ أو المتنفذ أو الأمير الشخصية ثانياً ، وتختلف الصفات لدى هؤلاء الشقاوات ، فمنهم من يبرز بأوساط عشيرته حامياً ومنجداً ومئآزراً لعشيرته أو منطقته أوحتى عائلته من تدخل الأخرون ، وهي صفات محمودة وحميدة لدى الجميع وهم القلة، ومنهم من يبرز قاتلاً ومنفذاً لأوامر قتل لقاء مبلغ أقل من القليل لقاء مهمته ، وبالطبع أن أخلاق مثل هؤلاء منفرة غير محببة للناس وعوامهم ، وسأتحدث عن شخصية من هؤلاء الشقاوات علماً أن سلوك هذا الرجل كان مرضياً لجميع من يعرفه من أهالي الحلة الفيحاء ، في منتصف الثلاثينات من القرن المنصرم جاء للحلة الفيحاء شخصية أسطورية منفياً من مدينته ( ديالى ) ، أو من المناطق المحيطة بها وهو رجل من الكورد (الفيليين) يسمى (أبراهيم عبدك) طبقت شهرته الأفاق وأصبح مضرب مثل


للكثير بالشجاعة والبأس والقوة وتقول العامة مثلاً لمن هو هكذا (قابل أنت أبن عبدك) ، وجاء الرجل للحلة الفيحاء ومعه أخت أو بنت أخت لتقدم الخدمة له ، ومن محاسن الصدف التي لم نستغلها للتوثيق ، أنه سكن (محلتنا) وتسمى (الوردية) بجانب الحلة الصغير ، والحلة يشطرها النهر لشطرين الكبير يسمى الصوب الكبير ويضم سبعة أو ستة (أطراف) لتداخل (طرفان) فيما بينهما والصوب الصغير يضم ثلاثة (أطراف) أحداهن (الوردية) ، أدركت هذا الرجل ولم أعرفه أو أراه ، ولو كنت بوعي هذا لأرشفت كل شئ ولأغناني عن التتبع والتقصي والسؤال عن (أبراهيم عبدك) ، وكما فلنا سلفا أن الحكومة البريطانية ترغب و ترهب الأخرين لذا فأن (أبن عبدك) وعى ذلك بحسه الفطري وقبل بوظيفة مرشد آثاري بمدينة بابل ، ويقول الدكتور المغترب( عدنان الظاهر )أني رأيت (أبن عبدك) بآثار بابل مرشداً سياحياً ومتحدثاً للأنكليزية بطلاقة ملفتة للانتباه ، وهو يرتدي الزي العربي لأهالي الفرات الأوسط من عقال وكوفية وعباءة رجالية ، ويقول الظاهر أن (أبن عبدك) في أوقات دوامه الرسمي يلف كوفيته على رأسه ويترك عقاله لما بعد الدوام ، وهذا ما أورده الأستاذ جعفر هجول بكتابه (الحلة بين العشق والأنتماء) ، وأخالف الأستاذ هجول الذي وصف (أبن عبدك) أنه رجل أٍسمر البشرة بعد أن تحدثت مع كثير ممن رأى هذا الرجل فقالوا أن (أبراهيم عبدك ) بوجه أبيض يميل الى الحمرة ، ليس بالقصير ولا الطويل ولا النحيف أو البدين وقرٌ جدا يحمل بيده عصى لأغراض شتى ، وحدثني صديقي وقريبي الأستاذ ( صبري ديكان) أن (أبراهيم عبدك ) كان جاراً لعمه وقد رآه أكثر من مرة وأستمع لحديثه المشوق ، ومرة حدثهم -(أبن عبدك)- كما يقول الأستاذ (صبري) في أحدى مقاهي الصوب الصغير قائلاً ( خرجنا أحد الأيام لنكسب رزقنا كما يقال ونحن أكثر من عشرة أزلام بقيادتي _ أبن عبدك _ وصادفنا بطريقنا رجل بدوي لوحده يقود عشرة جمال محملة بحاصل الحنطة والرجل البدوي لا يملك إلا عصاه الخيزران ، ونحن مسلحون بالهراوات والسيوف والخناجر والرجل البدوي أكبر منا سناً فاستسهلنا عملية السطو عليه جهاراً وأخذ ما لديه عنوة دون قتله وأخبرناه بذلك ولم يكترث الرجل البدوي وقال لنا أن



أردتموها بالقوة فلا أعطيكم إياها إلا بقتلي وأن أردتموها مروة فخذوها هنيئاً مريئاً ، فقلت له _ ابن عبدك _ لا وإنما نأخذها منك بالقوة ، فقال البدوي إذن والله لا أعطيها ، وتقدمنا نحوه وكان يضرب منا الرجل فيوقعه أرضاً من هول ضربته ، ولم نستطع الوصول لمأربنا منه بتاتاً ، وأصاب الكثير منا ، وكان باستطاعتنا قتله بمسدس نملكه أو بندقية أنكليزية يحملها أفراد عصابتنا ، ورأيت أن مثل هكذا مراجل حقيقية يجب أن يكرم بالبقاء حياً وأمرت أصحابي بتركه ووقفت بعيداً عنه وخاطبته أذهب بدعة الله وسوف نتركك لشأنك ، ضحك البدوي وقال لنا بصدق ، تعالوا خذوا نصفها هدية مني ، قلت له هذا لن ولم يكون أذهب يحرسك الله ، وكان يفترض بنا أن نحسبها بشكل أفضل ولا نعرض أو نتعرض إليك ، لأن قومك أو أهلك عرفوا وخبروا قدراتك ورجولتك وأنك (كدها وكدود) )، والرجل موضوع بحثنا له ثارات كثيرة في موطنه الأول فلذا هو يحمل (مسدساً) تحت ملابسه ولا يكاد يغادر بيته من دون سلاحه ، بعد شيخوخته وإحالته على التقاعد أتخذ من مقهى (محمد الحايج) مقراً دائماً له للراحة والجلوس يحيطه شباب كثر من أهالي الحلة وبخاصة (الوردية) ليستمعوا لحديث بطولاته وغزواته التي لا تخلوا من فخار بنفسه ، في أحدى ليالي الحلة الشتائية سُمعت أصوات أطلاقات نارية بمقهى (محمد الحايج) وهرع أهالي الوردية لصوت الأطلاقات فوجدوا (أبن عبدك ) مضرجاً بالدماء وهو يمتلك وعيه وقال دونكم الرجل ،ورواية أخرى تقول كان القاتل كامناً له بأحد الأزقة المؤدية لداره ، ونقل المصاب لمستشفى الحلة الجمهوري ، وأخبر ضابط الشرطة المكلف بالتحقيق (أبن عبدك) أن أحد رجال (الوردية) ألقى القبض على الجاني فتهللت أساريره وقال هل لي أن أراه ، جلب الجاني له وسأله – أبن عبدك – من أنت ؟ ، أجاب الرجل بنشوة واضحة أنا أبن (فلان) الذي قتلته بيدك وأنا لا زلت في المهد ، ضحك –ابن عبدك – وقال أنت رجل أخذت بثأر أبيك وسجل أيها الضابط أنا متنازل عن حقي الشخصي ، وهذه الرواية لا تنهض مع الحقيقة لأن الشرطة لا تجلب القاتل للمقتول رغم تأكيد القاضي الراحل الذي حقق بالقضية هذه الرواية ، والذي مسك بالقاتل يسمى (عبيد القصاب) والذي يسميه أهل


الوردية (صخيله سوده) بسبب ذباحته (للصخول ) أكثر من الخراف ، أضافة لعمل أخر له وهي الحراسة الليلية ، فبينما هو يؤدي واجبه ألحراسي ، لاحظ رجلا ً هاربا باتجاه البساتين التي تحيط محلة (الوردية) وأغلب هذه البساتين محاطةبأسيجة من نبات بري كثيف له مابين أغصانه ( دبابيس ) قوية جداً تسمى بالعامية (العلكة ) ومن سوء حظ هذا القاتل أن سقط بوسطها ويقال أن الحية لا يمكنها أن تنفذ من خلال هذه (العلكة) – للمبالغة والطرفة – وكثافة أبرها النباتية الحادة ، سُلم الجاني طالب الثأر لمديرية شرطة الحلة من قبل الحارس (عبيد القصاب) وأسدل الستار عن قصة هذا الرجل الذي قُتل ثأراً بجريرته ، بعدها عادت أخته أو أبن أخته لديارها وأهلها في ديالى ، التقى السيد جعفر هجول والأستاذ المحامي جاسم الصكر بقاضي هذه الدعوة وأيد ماذكر عن تنازل المقتول عن حقه الشرعي وذلك كان عام 1961 وأنا – القاضي - الذي كتبت تنازل المقتول عن حقه من القاتل والقاضي هو المرحوم (خليل أسكندر الجبوري) .


المصادر
------
1: متابعة شخصية ولقاءآت مع أفراد عاشوا حياة أبراهيم عبدك ومنهم السيد محمد دهيم
2 : الحلة بين العشق والأنتماء / جعفر هجول
3 : مذكرات حلية / الدكتور المغترب عدنان الظاهر