الاثنين، 12 مارس 2012

ثمن معجزة الكهرباء-كاظم فنجان الحمامي

ثمن معجزة الكهرباء

جريدة المستقبل العراقي 11/3/2012

كاظم فنجان الحمامي

قبل بضعة أيام وصلتني رسالة الكترونية من أخي الكبير الأستاذ سهيل المطوري, تروي قصه طفلة صغيرة كانت في يوم من الأيام بطلة لمعجزة إنسانية وقعت في مكان ما من هذا الكون الفسيح, سأعيد عليكم قراءتها هنا بعدما أخبركم بما تركته في نفسي من انطباعات وهواجس ماانفكت تقفز أمام عيني كلما تعمقت في تفاصيل المعجزة التي تحققت للطفلة, وقارنتها بما يحصل في بلد الأحاجي والألغاز والمعجزات من غياب تام للكهرباء التي أضحت عودتها من المعجزات. .
لقد كانت تلك الطفلة سببا في استنفار ملائكة الرحمة, فتحقق الحلم الذي كاد أن يكون مستحيلا بمبادرة طيبة من رجل واحد تعاطف معها, وهب لنجدة شقيقها, فمتى تتحرك عواطف أصحاب الحل والربط حتى يوفروا لنا الطاقة الكهربائية التي نصبت أبراجها فوق أكتاف المستحيل, ولوت أسلاكها حول أعناق الأمل فخنقته في عز الصيف, وشحنت مولدات التعقيد بأمبيرات التعطيل, فتبدد الحلم القديم في سراب الوعود المؤجلة. .

رجل واحد فقط عصفت به الغيرة والحمية, فتفجرت على يده القدرات الإنسانية الخارقة, ورجال وضعنا ثقتنا بهم, وذرفنا الدموع خارج مكاتبهم المحصنة, فأشاحوا بوجوههم عنا, وتركونا نلوذ بالظل خوفا من أشعة الشمس الحارقة. .
لا أريد أن أطيل عليكم, اقرءوا القصة ثم احكموا على الذين تباطئوا في تأمين الطاقة الكهربائية لشعب عريق يعيش منذ ربع قرن في أفران خط الاستواء. .
توجهت الطفلة سارة, ذات السادسة إلى غرفة نومها, تناولت حصالة نقودها من مخبئها السري في خزانتها, ثم أفرغت محتوياتها على الأرض, أخذت تعد بعناية ما جمعته من نقود في الأسابيع الفائتة, ثم همست في سرها: ((إنها بالتأكيد كافية, ولا مجال لأي خطأ)), أعادت النقود إلى حصالتها, ولبست رداءها, وتسللت من الباب الخلفي متجهة إلى الصيدلية, التي لا تبعد كثيرا عن دارها. .
كان الصيدلي منشغلا, فانتظرته صابرة, بيد إنه لم ينتبه إليها, فحاولت لفت نظره دون جدوى, فما كان منها إلا أن أخرجت قطعة نقود معدنية من حصالتها, فألقتها فوق زجاج الطاولة, التي يقف وراءها الصيدلي, عندئذ انتبه إليها, وسألها بصوت عبّر فيه عن استيائه: ((ماذا تريدين أيتها الطفلة, ألا ترين كم أنا مشغول في مناقشة شقيقي القادم من شيكاغو, والذي لم أره منذ زمن بعيد ؟)), فأجابته بنبرة طفولية حادة: ((إن شقيقي الصغير مريض جداً, وبحاجة لدواء اسمه (معجزة), وأريد أن اشتري له هذا الدواء)). .
أجابها الصيدلي وعلامات الدهشة ترتسم على وجهه: ((عفوا صغيرتي, ماذا قلتي ؟؟؟)), فاستأنفت كلامها قائلة بكل جد: ((شقيقي الصغير اندرو يشكو من مشكلة في غاية السوء, يقول والدي أن هناك ورماً في رأسه لا تنقذه منه سوى (معجزة), أرجوك أفدني حالا ؟؟)). .
أجابها الصيدلي بلهجة متعاطفة معها: ((أنا متأسف يا صغيرتي, فأنا لا أبيع (معجزة) في صيدليتي)).
ردت عليه الطفلة بثبات, وقالت له: (اسمع, أنا معي ما يكفي من النقود لشراء الدواء, فقل لي كم الثمن حتى أدفع لك الآن ؟؟)).
كان شقيق الصيدلي يصغي لكلامها, فتقدم منها, وقال لها: ((ما نوع المعجزة التي يحتاجها شقيقك أندرو ؟؟)). .
إجابته الطفلة بعينين مغرورقتين بالدموع: ((لا أدري, ولكن كل ما أعرفه, إن شقيقي مريض جدا, قالت أمي إنه بحاجة إلى (معجزة), وقال لها أبي إنه لا يملك نقودا تغطي تكاليف العملية الجراحية, لذا قررت أن استخدم نقودي)), فسألها شقيق الصيدلي مبديا اهتمامه: ((كم لديك من النقود يا صغيرة ؟؟)), فأجابته مزهوة: ((معي دولار واحد, وعشرة سنتات, ويمكنني أن اجمع المزيد إذا أحببت)). فأجابها مبتسما: (يا سلام. . دولار واحد وعشرة سنتات, يا لها من مصادفة, إنها تساوي بالضبط ثمن المعجزة التي يحتاجها شقيقك)), ثم تناول منها المبلغ, وامسك بيدها, طالبا منها أن تقوده إلى دارها ليقابل والديها, وقال لها: أريد رؤية شقيقك أيضا.

كان ذلك الرجل هو الدكتور (كارلتون ارمسترونغ) جراح معروف, وهو الذي تبرع بإجراء العملية الجراحية للطفل اندرو على نفقته الخاصة, وكانت عملية ناجحة, تعافى بعدها اندرو تماماً.
بعد بضعة أيام, جلس الوالدان يتحدثان عن تسلسل الأحداث منذ اليوم الذي تعرفوا فيه على الدكتور (كارلتون) وحتى نجاح العملية, وعودة اندرو إلى حالته الطبيعية, كانا يتحدثان وقد غمرتهما السعادة. قالت الوالدة في سياق الحديث: ((حقا إنها معجزة)), ثم تساءلت: ((ترى كم كلفت هذه العملية ؟؟)). .
رسمت الطفلة على شفتيها ابتسامة عريضة, فهي وحدها تعلم إن (معجزة) كلفت بالضبط دولار واحد وعشرة سنتات. .
تصوروا معها دولار واحد وتحققت معجزتها, ونحن معنا مليارات الدولارات ولم تتحقق معجزة الكهرباء. .
وقفت وحدها تبتهل إلى الله حتى تتحقق المعجزة, ونحن نقف بالآلف, لكننا نبتهل بقلوب مشتتة ونفوس متنافرة فلم تتحقق معجزة الكهرباء في ديارنا. .
وقف معها رجل واحد, ونحن وقفت معنا طوابير من فرق التكنوقراط, والوزراء والأمراء, ولم تتحقق معجزة الكهرباء. .
ترى ما هو الثمن الحقيقي لمعجزة ثبات التيار الكهربائي واستقراره في عموم المدن العراقية ؟. ومتى تتوقف آخر مولدة منزلية عن الضجيج ؟. .
--

ليست هناك تعليقات: