السبت، 17 مارس 2012

ليلة التمثال-قصة قصيرة- عادل كامل


قصة قصيرة
ليلة التمثال
عادل كامل
لا أحد يعرف اسمه الحقيقي، عدا لقبه الذي اشتهر به، وهو " المثال" أو "النحات" وحتى هذا اللقب لا أحد يعرف كيف حصل عليه أو من اطلقه لكي يتميز بين رجال حينا .
كان هاديء الطباع، متوسط القامة، يخرج في الصباح ولايعود الا قبيل الغروب .أعزب . ولا احد رأى معه أحدا . إلا أنه كان موظفا في الغالب، ومن النمط الذي يؤدي عمله بدقة وصمت فلم تكن لديه علاقات تذكر، ولم يكن وجوده على مدى ربع قرن في حينا… وان أسرار حياته لا تعني أحدا. ويبدو انه استسلم لهذا الأمر، بطيب خاطر.. ففي الليلة الغامضة، ليلة التمثال، اختفى من داره، ولا احد يعلم الى أين ذهب .
في مساء تلك الليلة، ولأسباب اجهلها، كنت أراقب المثال في غرفته، وهي صالة متوسطة الحجم، وقد انتصب أمامه تمثال لسيدة … كنت أراقب الرجل من نافذة صغيرة وهو، كما يبدو، يضع اللمسات الأخيرة، لقد تذكرت هدوء الرجل… أما في تلك اللحظات . فكان يتكلم بصوت حاد، مرتفع . وهو يشرب الخمر. كدت اهرب، لولا الفضول الذي جعلني أراقبه، قال للتمثال :
" وألان سأوشك على النهاية .. منذ ربع قرون وأنا اعمل، بلا كلل… "
وسأل نفسه :
" هل صورتك على حقيقتك يا عروسي… هل أنت هي ..؟ "
وتجمد .. ابتعد عنها … وأضاء مصباحا ذهبيا… ثم اقترب من التمثال:
-" لا اعتقد ان هذا الحجر سينطق ليقول لي : حسنا .
فعلت . أوه … أنا لا أحب المرأة وهي تتكلم . لا أحبها وهي صامته. أنا في الواقع لم أحب إلا هذا الخيال الذي رافقني طوال حياتي .. هذا الخيال العنيد … المؤلم… الجميل أكنت احبك حقا أم كنت أخاف منك؟ لا ابحث عن إجابات، أنا في نهاية حياتي وعلي أن أغادر ياأيتها المرأة العنيدة …"
ثم أبتعد عنها … جلس يقلب في مجموعة من الاوراق… كان يدخن ويشرب بلذة . أنا في الواقع لا أشرب لكني أعرف ماذا يفعل الخمر في بعض الرؤوس :
-" لم أكن أشرب لا نساك او اتذكرك… كنت لا أعرف غير ان أصنع هذا المجد."
ورفع صوته:
-" هذا الوهم . عندما انتهى من قصتي معك سأغلق هذا الكتاب . بالتأكيد كنت معي كل هذا الزمن … وكنت اعترف لك .. اكتب لك .. واغني. الاف المرات قلت انت نجمتي وكنت اعرف، في اعماقي، ان المرأة هي المرأة، والوهم هو الوهم… والقدر هو القدر لكن لا … أنا اخترتك من بين نساء الارض … ها …ها… أقصد من بين نساء هذه المدينة … فأنا لم أزر أي مكان غير هذا المكان، غير هذه المدينة.. وأحببتك" اقترب منها قليلا:
ـ" ماذا تقولين عن نفسك .لن ينطق الحجر ألان .. فانا اعرف أسراره .مثل القبر الذي لايتكلم .. إنها الأسرار التي تقود الى الأسرار .أسرار بسيطة مثل نسمات فجر .. لكن كلا ياروحي ..أنا أحببت التمثال الذي فيك ..وما فيك في التمثال .. وفي هذه الليلة سانتهي من قصتي كلها .فبعد اليوم لن أراك ولن..لن.. أعود اليك ..لقد منحتك حياتي، ثم، بهدوء، سأمنحك ِ موتي أيضا"
شرب وكان يدخن ..وقد جلس فوق الأرض:
ـ"علي أن أضع آخر اللمسات ..بل آخر لمسة..قبل أن أستمع الى صوتك .."
وصمت فترة طويلة من الزمن.كان يكتب ويدخن .ثم نهض وكان يدور حول التمثال . صرخ :
ـ" لماذالاينطق الحجر؟ اووه..أعرف.. أنا الوحيد الذي يعرف..يعرف سر هذا الصمت ..فأنا لم أعش قصة حب عابرة.كنت أدرك بعقل غامض ماذا كان يحدث لروحي من صخب وجنون ..إنما لم أسمح لخيالي إلا بهذا العبور . انه ليس القدر.. إنه أبعد وأعمق من هذا الليل .لو كنت معي لكنت امرأة مثل كل النساء.."
ورق كلامه:
ـ" كنا ندور في المدينة، معا،وكنا مثل نجمتين. لقد قلت لك ذات مرة: الحب لايختلف عن الوهم .فجاة لا أحد هناك .الحياة تبقى.. وأنا أردت أن يبقى هذا الحب .هل أنا على وهم..ستقولين،بسخرية :لا.لا.لا.ثلاث مرات،إنه صياح الديك..إنه الخصب الذي أفسده الزمن .لكن حبي لك صار قصة.."
وصرخ :
ـ "علي أن أصمت، في آخر ليلة من ليالي عمري.على الرجال أن يعرفوا ثمن الكبرياء .حتى اللص الجيد وهو يقتل يرفع راسه الى السماء.القتلة والعشاق لاينظرون الى مزابل الدنيا .الكلاب فقط تبحث عن العظام .ياله من مثل وسخ، غير لائق، وأنا في آخر ليلة معك يا تمثالي "
أقترب منها :
ـ"لا أعرف هل أنت على قيد الحياة ام ستبعثين حية مرة ثانية . التراب بشر، نساء ورجال واشجار وطيور ومنقرضات لاتحصى ..وأنا عند لحظة الحب المقدسة الاولى، بالعقل المتوهج والمر، أبعدت صمت الكلام. تفسخ اللذات، لكن، لسوء القدر، كنت مثاليا ..هل تصدقين اني أنا أستسلمت لك، على مدى ربع قرن وكأنك أنت أو لاأحد.أريد أن أعترف لك، المرأة لا التمثال:
اني لو كنت عشت معك، لذهب هذا العمر كله، كما يذهب زمن الاشجار . هل أبدعت شجرة سرها بسر أعمق منها .أنا فعلت ذلك بدافع الجنون . كنا في العام الاول لانعرف ماذا سنفعل بعد الجامعة .انا اصبحت موظفا وعاشقا لهذا الصمت انت، لااعرف مصيرك ولا قدرك ربما الان أنت اميرة عند أحد أثرياء المدينة..ماذا لو كنت معي؟..ماذا كان سيحصل من أخطاء ؟أنا كنت أتغذى بالخيال والاحلام والرغبات المستحيلة .أتذكر مرة واحدة قلت لي فيها : أترك الخمر .فقلت لك:كان عليك ان تقولي ذلك على نحو مختلف .العشاق لايتكلمون باصوات مرتفعة .عشقتك كنجمة على الرغم من انني أعرف أن حجرتنا برمتها ستذهب الى مصيرها .كل شيء الى زوال.ولم ابك أو أحزن أو أتراجع.كانت الحياة عنيفة وقوية ..لكني لم أبدل تمثالي"
كدت اصرخ فالرجل يتكلم على نحو عجيب.. لقد سحرني منجذبا إليه لدرجة اني فكرت أن أطرق الباب عليه.. الا اني تريثت .. فأنا كنت بمثابة جاسوس عليه.
تابع كلامه:
ـ" في ليلتي الاخيرة سارسم الابتسامة بضربة كنت أنتظرها منذ ربع قرن .
ستبتسمين للأجيال كلها… سعيدة بجمالك، خالدة بعض الوقت، بهذه الابتسامة المرة".
ونهض. كان مثل تمثال يحدق فيها. تراجع خطوة، وتقدم خطوة . لم يشرب ولم يدخن. كان يحدق في محيا التمثال الذي كان يشع فعلا. كنت أنا الذي أراه، وكان متجمدا تماما. وفي لمحة بصر، ضرب بأزميله ضربة شفافة خفيفة فوق نهاية الفم . كنت أتوقع انه سيصرخ " انطق" لكنه قال، بهدوء.
-"الآن انتهى عملي…"
فجأة، قالت له:
-" أريد ان أتكلم …"
لم أكن مخمورا….
-" تكلمي…"
-"تكلم أنت …"
-" الآن سيشيد هذا التمثال وسط المدينة .."
-"تحت الشمس المحرقة … وفي البرد. أيها الحبيب هل أنفقت حياتك كلها لتذلني …"
ورفعت صوتها :
-" ليراني عابر السبيل .. أكنت مقدسة في حياتك حقا؟ أم هكذا سيجلس السكير ويشتمني.. سيقول : لا يعترف الرجل الا لرجل … وسيلعن كل امرأة مثلي. وسيأتي الاطفال في النهارات ويتندرون مني .. وسأتحول الى ... وفي يوم من الايام سيأتي بعض اللصوص ويسرقونني . هل أنا روحك . بل ربما سيبصق علي مجنون. أو ستهدمني طائرات الاعداء… أو سأتحول الى عش طيور…".
تجمد تماما . كان يصغي اليها بذهول . ولم يفتح فمه . قالت :
-" أنت صنعت مني هذا التمثال وأنا كنت قد أحببتك بدمي وروحي. ماذا أفعل بهذا التمثال اليوم أو بعد اليوم و.؟ أنا لم اشع بالنور، كنت خجولة مثلك . كنا فقراء وكاد الحب ينقذنا لا من الفقر بل من العذاب… ثم لماذا لم تبدل تمثالك؟ الاخطاء كانت تلاحقك منذ البدء. ومن قال الانسان الى زوال… من قال العشاق لايتكلمون أو يرقصون أو تطربهم لعنات الغيوم . ثم اني لم أطلب منك أن تترك لذة الخمر إلا عندما كانت تقتلك . أنا كان الصمت عذابي ومسرتي .. ومثلك، أنا كنت نجمة . أنا على قيد الحياة وميتة. والبشر تراب. والحب المقدس يدوّن بالافعال . واللذة لاتذهب، وأنا لم أكن أنا بل أنا مثل امرأة ككل النساء."
صرخ :
-" سأغادر .. قلت إنها ليلة التمثال …"
-" لا … الى اين تذهب .. أنا صرت أحبك بروحي …"
وتابعت :
-" ربع قرن وأنا هنا سجينة معك "
-" وصنعت لك هذا التمثال …"
" أنتظر .. أين ستذهب … ولماذا أيها المثال العاشق ؟ "
لم يجب .. فقالت بكلمات رقيقة :
-"لن يراني عابر السبيل .. لانه لايمتلك البصر . وأنا كنت مقدسة في حياتك حقا لان السكير لن يشتمني بل سيتعلم الحب. بل سيقول : لولا المرأة لصارت الحياة قاسية قاسية . والاطفال كلما شاهدوا تمثالي في النهارات سيرقصون ويغنون.. والطيور ستكون سعيدة، تغرد وتغني وتسعد الناس .. وإذا سرقني اللص فانه لن يبيعني بثمن بخس .. وأنا روحك فالروح روح. والمجنون له أعذاره، أما الاعداء فأنا أمامهم حجارة وأعرف ماذا أصنع بهم دفاعا عنك ياأيها الحبيب الذي صنعتني من الصخر " .
قررت أن اهرب . وهربت بالفعل . لكني تريثت برهة سمعت " المثال" يقول لها:
-" من عذب من ؟… "
" لا احد"
أقترب منها . كانت قد تحولت الى امرأة حقيقية ثم أبتعد عنها.
قال :
- " خيالي " خيالي المر… سيطاردني الى الابد …"
-"أنت ستطارده .."
-"احدنا سيقتل احدنا .. آنذاك ستنتهي الحكاية .."
-"بل ستبدأ، أيها الرجل أنت علمتني الأسئلة … وسيكون لنا أبناء وأحفاد… يحملون الأسئلة .."
-" ولن تنتهي القصة بموتي …"
-إنها ستبدأ …"
فكر برهة وسألها :
" مع من ؟ .."
-" معك، معك أنت .. هل لديك شك ؟ "
ثم اختفى …
-" أين أنت ..؟"

لا اعرف لماذا فكرت إنها، وفي المكان ذاته، في حينا، ستشيد له تمثالا..فنهاية القصة، أو بدايتها، تتطلب هذا الحل، لكني في واقع الأمر، أهملت الموضوع، ولم انتبه له، إلا عندما، في ليلة باردة، تحولت الى تمثال.


1992

ليست هناك تعليقات: