اتركها ، فإنها سمكتنا !
روى لي ابنه رياض العائد من الأسر في إيران بعد أحداث عام 2003 بعد مدة عصيبة قضاها هناك ، روى حكاية طريفة وقعت أيام صباه مع والده ، فحينما ذهبوا للصيد في نهر الحلة في احد الأيام ، جلسوا هناك منذ ساعات الصباح الأولى عند حافة معروفة لدى أهل المدينة بـ (( السورة )) والقوا سنارتيهما على أمل أن يصطادا بعض السمك ، وبقيا يرميان سنارتيهما ويخرجانها فارغة من الطعم ، شك أبو رياض ان ثمة جنيّاً يختبيء في أعماق النهر يقوم بسرقة ( الطعم) بهذه الطريقة الماكرة ، وارتفع صوت آذان الظهر من المرقد القريب ولكن دون جدوى ، بعد قليل جاء احد الأشخاص مرتدياً دشداشة بدراجة هوائية ، وتوقف بالقرب منهما وأوقف دراجته واستخرج عدة الصيد التي كانت متخلفة قياساً إلى العدة التي جلباها وبعد ان اتخذ مكانه من النهر رمى سنارته ، ولم تمر سوى دقائق قليلة حتى اهتز خيط سنارته فسحبه بقوة فإذا هو عالق بسمكة كبيرة تزن حوالي ( 2كيلو غرام ) امسك بها الصياد الوافد ووضعها في كيس كان معه ، ثم ذهب إلى دراجته وهيأها للانطلاق ؛ ( أبصر أبي هذا المشهد على مضض ، ثم ان الصياد لما أراد ان ينطلق بدراجته استوقفه أبي صائحاً به بحدة ؛ توقف ، إلى أين أنت ذاهب ؟ أجاب الصياد والدهشة تعقد لسانه ؛ أنا ذاهب إلى بيتي ، فقال أبي ؛ إذن فان عليك ان تترك هذه السمكة ،
- ولكن لماذا ، أليست سمكتي ؟!
- كلا ، ليست سمكتك ، فهي كانت تأكل طعامنا منذ الصباح ولحد الآن ، وتريد أنت بكل بساطة ان تأخذها منا هكذا ؟
واسقط في يد الصياد المسكين بعد ان رأى عزم أبي وانه لا طاقة له على مغالبته وبقي حائراً ماذا يفعل ، فما كان من أبي إلا ان أطلق ضحكة مجلجلة ثم قال مخاطباً الصياد ؛ لقد كنت امزح معك ، خذها هنيئاً مريئاً ، فهي سمكتك ، وهذه هي أحوال النهر ومقالبه
سمك مسكوف على مشارف القصر الجمهوري
عرف عن شبان منطقة الكرادة في ذلك الوقت ، انهم كانوا شباناً متطلعين إلى كل ما هو جديد في عالم الموضة والملابس مع احتفاظهم وتمسكهم بالقيم الاجتماعية التي درج عليها آباؤهم وتلقفوها منهم ، كما عرف عنهم حبهم وولعهم بتزجية أوقات فراغهم ولا سيما في العصر بالتنزه على ضفاف نهر دجلة اللصيقة ببيوتهم ، وقد اعتاد بعضهم على امتطاء زورق والتوجه به إلى منتصف النهر أو قريباً من الضفة الأخرى التي جرى تشييد القصر الملكي الجديد وملحقاته فيها ، إلا ان قيام ثورة تموز عام 1958 جعل تسمية القصر الملكي تتحول إلى القصر الجمهوري ، مع الأخذ بنظر الاعتبار ان عبد الكريم قاسم لم يتخذه مقراً له وإنما كان يستقر في وزارة الدفاع ، حيث جعل القصر مكاناً خاصاً للتشريفات ، في إحدى المرات وبالتحديد في أواسط ثمانينيات القرن الماضي ، انزلق صاحبنا بزورقه إلى وسط نهر دجلة ، ولما صار في منتصف الشط أخذت تضرب انفه رائحة السمك المسكوف القادمة من الجهة المقابلة ، وقد كانت من القوة والنفاذ بحيث انها تملكت مشاعره وبعد ان جال ببصره رأى ضباطاً برتب عسكرية وهم يقومون بعملية الشواء، فرمى مرساته وأوقف زورقه قبالتهم وهو يتلمض في سره ، ومضى وقت قليل فإذا به يسمع اصواتاً تناديه ، فانتبه ورآهم يشيرون إليه ان يرفع مرساته ويقود زورقه إليهم ، ففعل ، وبعد ان وصل إليهم ، عرف انهم كانوا منتشين بفعل الخمرة الراقية التي يحتسونها ، وأدرك انه يقف إزاء ضبّاط كبار من المؤكد ان بعضهم قادة للفرق والفيالق العسكرية أو الأجهزة الأمنية ، إلا انه تمالك نفسه وقرر المضي قدماً ، كان أول سؤال يوجه إليه بطريقة مازحة ؛ لماذا نراك متوقفاً قبالتنا وتنظر إلينا ؟ أجاب على الفور ، عذراً أيها السادة ، فانا فنان تشكيلي وأي منظر طبيعي جميل يستهويني ، وكان السؤال التالي ؛ من أين أنت ، قال ؛ من منطقة الكرادة وبيتنا هناك وأشار إلى الجهة المقابلة، سأله احدهم مشككاً ؛ ان كنت فنان تشكيلي حقاً فهل تعرف الفنان نوري الراوي ؟ أجاب السائل وأعطى تفاصيل دقيقة عن الفنان ، سأله الضابط ذاته عن الفنان رافع الناصري فأجاب صاحبنا بان رافع صديقه وكانا معاً يدرسان في الابتدائية والمتوسطة ثم اخذ يتكلم وفق ما تسعفه ذاكرته المتقدة بشأن الفن والفنانين ، إلا ان سؤالاً أخيراً بقي في جعبة السائل ؛ ان كنت فناناً حقاً وتسحر مخيلتك المناظر الطبيعية فلماذا لم تصطحب معك عدة الرسم المعتادة ، أجابهم بثقة ؛ هنا يكمن سر اختلافي عن الآخرين ، فانا ارسم على لوحتي بعد ان أعود إلى البيت ما يظل عالقاً بذاكرتي ، لاسيما وأنا أرى في ذلك نوعاً من التحدي ، وعند هذه النقطة اسقط في يد السائل ، ودعوه إلى المشاركة في لذتهم وتناول السمك المسكوف بعد ذلك ، وصعد إلى زورقه ووعدهم بأنه سيرسل إليهم اللوحة بعد ان ينتهي منها ، بعدها ودعهم وعاد من حيث أتى ، فوجد أصدقاءه يجلسون في ذات المكان من الشاطيء ، وقد انتهوا للتو من تناول ( الهبيط ) وهو نوع من تشريب اللحم ، واعتذروا له لكونهم قد أتوا على نصيبه من الطعام ، فقال لهم بصدر رحب ؛ هنيئاً ومريئاً لكم ، قال احدهم ؛ ولماذا نراك منشرح الصدر هكذا ، وأين كنت ؟ أجاب ؛ كنت آكل السمك المسكوف هناك مع قادة القوات المسلحة ، حيث بمقدوركم ان تروا بقايا لدخان ما يزال تتصاعد !!
مقلب
عرف والد أبي رياض بين أوساط الناس في محلته بدماثة خلقه وطيبته واستعداده لتقديم المساعدة للآخرين ، إلا انه عرف أيضاً بولعه بتدبير المقالب مع الآخرين ، حتى وان جاء بعضها ثقيلاً ، ففي إحدى المرات ، والوقت كان خلال سني الحرب العالمية الثانية ، حيث شحت المواد الغذائية ولا سيما الأساسية كالرز والطحين والسكر والشاي ، الأمر الذي أدى بالحكومة آنذاك أن تتخذ قراراً باعتماد نظام البطاقة التموينية الذي تعرف إليه العراقيون ثانية في أعقاب غزو صدام للكويت ، ومن ثم الحصار الاقتصادي الذي تم فرضه على العراق، شاهد ( أبو فايق) عن بعد وهو يوقف سيارته نوع (بيكب ) ، شاهد حشداً كبيراً من أهالي المحلة تجمعوا أمام احد الدكاكين ، ولما استفسر عن الأمر اخبره احدهم بان الناس يقفون منذ ساعات في هذا الطابور الطويل على أمل أن يستلموا حصصهم التموينية المقررة ، اطرق ( أبو فايق ) ملياً ، ثم هداه تفكيره الى مخرج ، قاد سيارته باتجاه الحشد وتوقف بالقرب منهم ونزل من السيارة ، وصاح بأعلى صوته ؛ يا لكم من حمقى ومغفلين ، انتم تقفون هنا تنتظرون الماء الذي يتساقط من ( ناگوط الحب ) بينما أهالي المناطق المجاورة يهرعون الآن الى مكان سقوط إحدى طائرات التموين الانكليزية الضخمة التي سقطت بحمولتها ( عالبرة ) أي في الكرادة خارج ، وهم الآن منهمكون بالاستيلاء على جزء من الغنيمة السماوية ، فصاح الجميع ؛ وكيف عرفت ذلك ؟ قال ، ها اني قد عدت للتو من ذلك الطريق وشاهدت الواقعة بأم عيني وأخذت حصتي من الغنيمة ، فتحمس الجميع وهرولوا الى بيوتهم جالبين معهم الأكياس والأواني وأبناءهم واتجهوا صوب المكان الذي أشار إليه وأسرع ( أبو فايق ) الى استخراج البطاقة التموينية الخاصة بعائلته ، وذهب الى الدكان ليستلم منه المواد الغذائية بكل سهولة ويسر ، ولم يمض وقت قصير حتى عاد هؤلاء المغرر بهم من رحلتهم الشاقة وتجمعوا أمام منزله على شكل مظاهرة صغيرة غاضبة ، فخرج إليهم ، فتكلم احدهم بحدة ؛ لابد انك كنت تضحك علينا حين دبرت لنا هذه ( الداوركيسه ) ، فأجابهم وكأنه ينتظر ذلك منهم ؛ وما ذنبي أنا إذا كنتم مغفلين هكذا الى هذا الحد ، وكيف تعقلون ان طياراً انكليزياً يمكن ان يدع طيارته تسقط في غير المعسكرات التابعة لهم وما أكثرها ؟!
بئر إرتوازي
في مرحلة الأربعينيات والخمسينيات من القرن الماضي لم تكن السيارة متاحة على نطاق واسع ، وكان تداولها مقصوراً على عدد من السياسيين المرموقين والأثرياء وكبار التجار ورؤساء العشائر ومن هم في طبقتهم ، وكذا الحال بالنسبة لمعظم دوائر الدولة ، وبالذات المدنية منها ، الأمر الذي كان يضطر موظفي هذه الدوائر الى إستئجار إحدى السيارات من شركات النقل الخاص ، التي كانت تقتني السيارات الامريكية والأنكليزية للمتانة والقوة التي تتميز بها ،
يذكر أبو رياض أن مصرف الرافدين الكائن في بغداد كان أحد الزبائن على شركة والده لتأجير السيارات ، وأن والده ( أبو فايق) كما كان الجميع ينادونه ، كان يذهب مع موظفي البنك وبرفقتهم المدير في أحيان كثيرة ، بوصفه سائقاً كذلك ، من اجل إجراء الكشوفات الضرورية والتنقل بين المدن والأقضية للوقوف على إمكانية إفتتاح فروع للمصرف هناك ، أو البحث عن فرص للاستثمار، وفي أحد الأيام وفيما هم بصدد القيام برحلة الى مدينة الأنبار المحاذية للصحراء ، وبعد أن زاروا مركز المدينة و عدداً من أقضيتها , وأجروا كشوفاتهم ، ولم يلبثوا أن أحسوا بالجوع ، لاسيما وأن وقت الظهيرة يوشك أن يحل ، وعبثاً حاولوا العثور على مطعم ملائم ، ولما أحس أبو فايق بما يعانون منه ، قال لهم ؛ هل ترغبون أن أطعمكم لحم ضأنٍ مشوياً ، إستغرب المدير لهذا العرض السخي ، وظن أن أبا فايق ربما يمزح معهم كعادته ، إلا أنه رغب بمجاراته ، قال له ؛ وأنى لك أن تُطعمنا في وسط هذه البرية الشاسعة ،
ـ إن هذا هو بالضبط ما سأفعله ، ولكن بشرط !
ـ هات شرطك فعسى أن لايكون صعباً .
ـ ليس في الأمر أية صعوبة ، سوى أن تجعلوا خرائطكم تحت تصرفي ، وأن لا تتفوّهوا بأية كلمة إذا رأيتموني أفعل أي شيء ، وأخيراً أن تتذرعوا بقليل من الصبر .
قال المدير ؛ لك ذلك !
قاد ابو فايق سيارته بسرعة كبيرة خارجاً من تخوم البلدة ومتوجهاً الى عمق الصحراء ، وبعد أن سار بهم حوالي الساعة شاهد الجميع مضارب للبدو ، فأتجهت السيارة نحو أكبرها حجماً ، وما أن ترجلوا من سيارتهم حتى تحلق حولهم رجال البدو وصبيانهم مرحبين بهم ، إضطلع أبو فايق بدور الزعامة حاملاً الخرائط بيده وسار موظفو البنك من بعده ، وقبل أن يستجيب لطلب كبير القوم بالدخول الى المضيف ، أخذ يُلقي نظرة متفحصة على المكان ، ثم نشر الخرائط على الأرض يحوطه موظفو البنك وحشدٌ كبير من رجال الصحراء ، قال مخاطباً إياهم (أي البدو) ؛ والآن ، أين تريدون أن نحفر لكم البئر الإرتوازي؟! ، فتصايح الرجال مبتهجين وفرحين ، وكذا النسوة حين تناهى الى سمعهن هذا الخبر السار ، فعلت الهلاهل والهوسات ، وللحال أتوا بشاتين وذبحوهما عند أقدام ( أبو فايق) ، ثم شمروا عن سواعدهم وهيأوا حطباً وإبتدأت عملية الشواء التي إستغرقت بعض الوقت ، وبذلك يكون أبو فايق قد وفّى بوعده .
البو شجاع
تقع جزيرة ( أم الخنازير ) التي جرى تغيير اسمها الى ( جزيرة الأعراس ) في منتصف سبعينيات القرن الماضي بوسط نهر دجلة ، وهي جزيرة تمتد طولياً مع مجرى النهر بعرض حوالي 50 متر الى مسافة قد تصل الى 6 كم ، وتمتاز بان أرضها خصبة ورسوبية ومن اجل ذلك فقد انتشرت فيها النباتات والأدغال بشكل كثيف أغرى عددا من الحيوانات البرية ان تتخذها موطناً ومرتعاً وبالذات الخنازير التي تكاثرت بشكل كبير حتى ضاق بها المكان ، الأمر الذي اضطر بعضها الى العبور سباحة في الليل ليتجه صوب الكرادة ، وقد كان ذلك يثير فزعاً وهلعاً بين الأهالي الذين لم يعتادوا على وجود هذه الحيوانات بينهم ، وفي إحدى المرات عبر احد هذه الحيوانات واخذ يتجول بين أماكن النفايات فيما كلاب الحي تتجمهر حوله محاولة طرده بالنباح والهرير دون جدوى ، فتنادى بعض فتيان الحي واستخرجوا سكاكينهم وبعض الآلات الحادة ، ووجدها بعضهم فرصة لإظهار البطولة ، ووقفوا بوجهه ، إلا ان الحيوان وكمحاولة غريزية للدفاع عن نفسه هاجمهم واسقط أرضاً احد المهاجمين وكاد ان يفتك به ، وفي هذه اللحظة هجموا عليه هجمة رجل واحد وانهالوا عليه ضرباً وطعناً حتى خارت قواه وسقط أرضاً فأسرع احدهم الى قطع بلعومه بمديته ، وبعد ان اطمأن الناس ، خرجوا من بيوتهم وتجمهروا حول جثة الخنزير وكونوا حلقة حوله واخذوا يهتفون ويهزجون ، وكأنهم لم يقتلوا مخلوقاً مسكيناً قادته الى حتفه رائحة القمامة بل مارداً ووحشاً خرافياً ، وفي ذات الليلة تناهى الخبر الى أسماع أبناء المحلات الأخرى فأسرع احد ( المهاويل ) الى إطلاق تسمية (البو شجاع ) على أهالي الحي الذي خرج منه هؤلاء الفتية ، حيث بقيت هذه التسمية شائعة وجرى تثبيتها في بطاقات الأحوال المدنية .
ـــــــــــــــ
المهوال : شخص كان يعتبر لسان حال العشيرة او قومه وكان يجنح الى قول الشعر في بعض الأحيان .