السبت، 25 مايو 2013

سبع قصص قصيرة جدا ً- عادل كامل


سبع قصص قصيرة جدا ً


عادل كامل

بحث

ـ لا تبحث عن الشيء الذي لا وجود له!
ـ وهل كنت ابحث كي أجدك، أم فقدك كي ابحث عنك!

اعتراف
ـ وجها ًلوجه، أخبرك، انك لم تبق أحدا ً لم تكذب عليه: على الناس بلا استثناء، وعلينا جميعا ً، وعلى الله، وعلى نفسك ...
   ابتسم الآخر وقال هامسا ً، قبل ان يتوارى:
ـ هذا ما تعلمته منك: الصدق!
ـ إنما سأبقى أتتبع خطاك، أينما ذهبت، فدوري لم ينته بعد. سأرافقك، كظلك، كالصدى يدلني عليك، كي أتسلل إلى مناطقك التي ... لم...، ولن تصل إليها.
ـ ها أنا ادعك، للمرة الأولى، تدرك انك لن تفتح الباب التي لا وجود لها. فانا وأنت، مثل الموت الذي يمتد عبر الولادات، ومثل الحياة التي لانهاية لها.
ـ فانا ـ إذا ً ـ لم اكذب على احد، لا على الله، ولا على نفسي، ولا عليك.  فانا شهدت موتي قبل ان أولد، وسأبقى أولد بعد موتي.
ومضات
ـ انظر، انظر إلى تلك الومضات...، هل تراها؟
ـ أراها، أراها تمتد خارج مدى بصري، وارها بلا حافات، ولا حدود لها.
ـ إنها، في يوم ما، كانت مجرات.
ـ لكن هذه الحقيقة لا تبعث في ّ المسرة، أو الرضا!
ـ ومن طلب منك ان تشفى!
أصوات
ـ عندما كنت تستطيع ان تصرخ، لم يكن صوتك يذهب ابعد من انفك...، فهل باستطاعة صمتك ـ الآن ـ ان يذهب ابعد من ذلك...؟
    لم يجب، فقد دار بخلده، انه لم يكن منشغلا ً بخلاصه، فقد كان منشغلا ً بأمر آخر، كان يمضي الوقت وهو يصغي إلى الحدود التي عبرها الصمت؛ صمتهم، أما الآن، فانه ـ قال من غير ان يفتح فمه ـ لا يمتلك قدرة الامتناع عن صد أصواتهم، وقد انهالت عليه من الجهات كلها.
أطياف
   كما لم تغب عن ذاكرته مشاهد الإمساك بالرجل، في ذات مرة، وتمزيقه، وتحول جسده إلى أجزاء متناثرة، غطت الأرض، وتلاشت، كأنها لم تحدث، قبل ساعات، ولم يكن الرجل، الذي توارى، وغاب، وحده صمام الآمان. لم تغب المشاهد المتتالية، وهو يستعرضها، الشبيهة بأطياف أو لا مرئيات انبثقت أمامه: رجال قدر لهم إدارة اللعبة، بما كانوا يتمتعون بها من سلطات فوق بشرية. ثم، بعد ساعات، من غيابهم، تزحف كتل رمادية، متفرقة، ومتراصة، مدججة بالأسلحة، في مواجهات، فتشتعل النيران، وترتفع أعمدة الدخان ملونة، ومن غير ألوان.
   أوقف الجهاز، محدقا ً في الفراغ: رجال، لعقود، يمسكون بهذا الذي غدا ساحة حرب. فجأة، كي يجهل من يقتل من...، ومن يهدم بيت من ...، من ...، ليسمع، في صمت الليل، من يطرق الباب، وينادينه من وراء الباب الخشبي:
ـ أنا هنا، أيها العجوز..
    من يكون هذا ..؟ سأل نفسه، وهو يفتح الباب، وحدق باستغراب، بل بشرود، في محيا  الآخر:
ـ من أنت ..؟
ـ أنا، أنا، أن هو أنت...، أنا هو الولد الخجول الذي كرست حياتك كي تبني له بيتا ً صغيرا ً يموت فيه، وليس ان تخرج كي تبحث عن عدو ...
لم يدعه يكمل:
ـ وهل جئت لهذا السبب، بعد ان غبت عني سنوات طويلة...؟
ـ جئت أساعدك على الموت!
  يساعدني؟ ذلك لأنه، استعاد اللحظة التي شاهد فيها كيف أطاحوا بالرجل، وتناثر، كأنه تمثال تحول إلى أجزاء، وشظايا، وهو يحدق فيه، يأمل ان يراه، وهو يلوّح له بوردة بيضاء، ولكنهم لم يتركوا شيئا ً من جسده.
ـ وما هذا الذي تحمله..؟
ـ احمل الوردة البيضاء التي كنت تود ان تقذف بها...؛ الوردة التي تركتها تسقط، ولم تقدر أصابعك الإمساك بها، أنا هو من التقطها من الشارع، منذ سنوات بعيدة، بعيدة جدا ً، وهي التي احتفظ بها، كي أعيدها إليك.
ـ لك أم لي ...؟
      تمتم العجوز مع نفسه، وقد أعاد تشغيل الفيديو، متتبعا ً رؤية مشاهد أخرى لرجل شارد، يهرب، يبحث عن ممر...،بعد ان وجد جسده  محاصرا ً من الجهات كافة.
ـ لك ولي!
   ومن غير إرادة، وبشرود، رفع أصابعه، فوجدها لا تقدر على حمل الوردة، فتركها تسقط على بعد مسافة سنتمترات، بين محياه وبين الشاشة.
مسافة
   وهو يفكر بإطلاق رصاصة في رأسه، أعاد قراءة الكلمات التي دوّنها، كوصية:
ـ" هذه الممرات التي توغلت فيها، وحدها أصبحت منفذا ً لك، إن تقدمت أو تراجعت، فأنت لم تخترها، ولا هي اختارتك، إنما لا مناص انك أصبحت جزءا ً منها، وتلك هي حريتك. ألم ْ أخبرك، عندما كنا في المنفى، ان اللا حرية هي تحديدا ً حريتنا، وانك محكوم بشروطها، التي غدت، بالتداول، شروطك، فانك عشت كي تبلغ هذا الإدراك: إستحالة الفرار منه. وجود طالما تخيلت مدى توغله فيك، وتوغلك فيه، فالهواء عندما ينعدم، ولا تجده، تكون قد عثرت على أثره، حاضرا ً كشبح تراه أينما ذهبت، وافقت، فهو كوّن اختيارك الذي لم تختره، كانعدام الصوت وقد أصبح هو صوتك الوحيد. لا عزلة أبدا ً وأنت تتوغل فيها بجوار ما لا يحصى من الذين لا يختلفون عنك، كميت بين موتى، وكمجذوم بين مجذومين، في مدفن سابق على وجودك،  طالما تعثرت في دروبه تارة، وطالما هرولت في مخفياته تارة أخرى، لكنك أبدا ً لست إلا الممر كلما حاولت مغادرته توغلت فيه، كالمرآة التي حاولت ان تمحوها من حياتك لتجدها قد تحولت إلى باب، والى طريق، والى منفى. ألم ْ أخبرك، منذ البدء، انك كلما بحثت عن ذاتك ازدادت استحالة عنك، وان العكس، كما أخبرتك، ليس إلا وهما ً آخر كنت تتبع أصداءه، فلا أنت هو الصوت، ولا أنت هو الصدى، ولا أنت هو من غاب، ولا أنت هو من سيولد. أنت هو الصفر وما عليك ان تفرح لكسب، أو تحزن لخسارة، فأنت هو الإقامة، وأنت هو فجوتها؛ ليس لديك إلا ان تراقب كيف تؤدي دورك، وتتفرج عليه، وأنت ترى الفراغات علامتك في العبور. ذلك لأنك لم تخلق كي تصل، إلا كي تتعثر بغيابك وبما هو في حدود هذا الغياب..."
   إلا انه ترك أصابعه تتحرك بتلقائية، كأنها بلا كثافة، من غير لون، وخالية من الحرارة، بلا ملمس، تتقدمه، فراح يمشي خلفها، من غير أسئلة، لأنه لم يعد يسأل نفسه، أهي التي كانت تجرجر رأسيه، وجسده، وإرادته، أم انه تركها تنفصل عنه، من غير ان يود ان يرى أكانت المسافة آخذه بالاتساع، أم بلغت الصفر.
شهادة
     بعد نصف قرن، قرر ان يزور قريته. فتجول في شوارعها، وفي أزقتها، فلم يثير وجوده انتباه احد، ولم يجد، هو الآخر، ما يثيره. كل هذا ـ دار بخلده ـ لا علاقة له بالماضي. إنما استعاد الصورة الأخيرة التي رسخت في ذاكرته: مقبرة القرية..فاتجه إليها، بحسب خارطة لم تمح أدق تفاصيلها في ذاكرته، وتوقف تحت الشجرة الوحيدة التي كان قد خاطبها، قبل ان يلوذ فارا ً، من القرية، ويغادر البلاد. جلس بجوارها، بذهن شارد، إنما أصغى إلى صوت خفيض خاطبه:
ـ  "لم يعد احد من اهلك، أو رفاقك، أو صحبك، على قيد الحياة، فمن نجا، بعد تلك المذبحة، توارى...، ومن مكث، مات كمدا ً. فهل جئت كي ترقد في المكان الذي ولدت فيه، أم انه هو الذي طلبك ...؟"
     لم يجد الكلمات التي يرد بها، لأنه بعد ان بحث عن فمه وجده غائبا ً، فراح يصغي إلى الصوت مرة ثانية:
ـ " أم لأنك لم تعثر على مأوى ترقد فيه ...؟"
    كانت المقبرة تمتد بعيدا ً في الأفق، من غير نهاية لحدودها. وعندما عثر على فمه، لم يعثر على الكلمات. وعندما عثر على الكلمات، لم يعثر على فمه. فأصغى:
ـ " صحيح، كنت أنت الشاهد الوحيد على ما حدث، ولكن ما معنى ان تدلي بشهادتك، أيها العجوز، بعد مرور هذه السنين ...؟"
ـ" نعم، أنا كنت الشاهد الوحيد على ما حدث، بعد ان اقتلعوا الأشجار، وتركوني كميت لا يستحق حتى الدفن"
 ـ"ولكن هل تريد ان تعرف شيئا ً...؟"
ـ " نعم"
ـ " ان أرواح الضحايا مازالت تخرج فجرا ً، وترفرف، بعد ان وجدت سكنها في هذه الأرض!"
ـ "    "
     لم يجد فمه كي ينطق بالكلمات التي ملأته. وعندما عثر عليه وجدها قد غابت. فأصغى:
ـ " إنها سكنت أرضها، ولم تغادر..." فرفع صوته:
ـ " أراها لم تغادرني أيضا ً..."
ـ " نعم"
ـ " ولكن ما معنى ان أدلي بهذه الشهادة...؟"
     للمرة الأولى لم يجد مبررا ً لمغادرة قريته، والعودة إلى البلاد البعيدة التي أمضى حياته فيها، فقد رأى المقبرة تمتد، وتمتد، وتمتد حتى شاهد احد الأزقة يتسع لخطاه، فسار فيه، متجها ً إلى بيته القديم، ثم رأى، خلفه، نوافذ بيوت، ونسوة، وأطفال يلعبون...، وشاهد، في الأفق، مساحات بيضاء، وأخرى خضراء. فشرد ذهنه، وهو يرى زمنا ً غاب، ولا اثر له سوى شجرة كبيرة، وجد لها بابا ً فدخله، فكاد يعثر على فمه لينطق به، لولا ان الشجرة أغلقته، وسمعها تخاطبه بصوت خفيض: حبيبتك التي كنت تهرول خلفها، مازالت تبحث عنك، فقد تم دفنها، هنا، في ّ، وهي التي طلبتك، لأنها، في كل موسم، كانت تورق، وترفرف، بانتظار عودتك.."
ـ " ها أنا أكون قد أدليت بشهادتي أخيرا ً..."
ـ " الم ْ اقل لك، ان الحرب لم تنته... وفرارك لم يكن هزيمة.."
ـ " ولكنه ليس نصرا ً.."
ـ " ذلك لأن روحك وحدها ستبقى ترفرف عند الفجر، ولن تتوارى مهما اشتدت عتمة الليل، فأنت الآن أكملت سفرك، وما عليك إلا ان تترك أجنحتك للطيران، ترفرف، مع هؤلاء الذين سكنوا ذاكرتك في هذه الأرض"

  
 


ليست هناك تعليقات: