الأربعاء، 23 مايو 2012

قصص قصيرة جدا-عادل كامل

قصص قصيرة جدا
[ذاكرة الليل] عادت الطيور إلى الشجرة مساء ً، كما في أماسي الصيف. وكنت، أنا الآخر، قد بلغت مكاني، في نهاية النهار، متعبا ً، وجلست حيث اجلس عادة في المكان نفسه، تحت الشجرة. فكرت لبرهة: "لقد تعبت كثيرا ً من نفسي، إذ ْ لا يطاردني إلا ..." وساد الصمت بيني وبين نفسي، والشمس كانت تجرجر بقاياها الملتهبة حيث كل يوم تنتهي بدورتها ومكانها وحيث لا احد له حق فهم مثل تلك القضايا. ودار بخلدي: " منذ سنوات وأنا في الجبل ازرع بعض الورود، وطعامي هو ماء الينابيع، ولا أتنفس إلا هواء الوديان .." وتخيلت أنني مازال في مدينتي، حيث كنت امضي حياتي بصعوبة بالغة فيها حيث لا احد كان يعرف كيف كانت تجري أموره، وكيف كان يشيخ، بهدوء. وتعجبت وأنا ألاحظ، أنني الآن قد بلغت نهاية المطاف، كنهاية سفينة صغيرة بلغت ساحلها الأخير. ولكن كلا، قلت: " مازال هناك زمن آخر للبدء، وللحياة، ولا معنى لهذا الانشغال. ." ابتسمت، بينما كانت الطيور تزقزق في عتمة الهواء الجذل. ولكني قلت: اصمت أيها الرجل. لأنني انشغلت بتأمل النجوم النائية، والمسافات الشاسعة الفاصلة بينها، تأملت ان ما من أمر سهل قط في المدينة، أو في الجبل، يمكن تجاهله، وأنا أصبحت مثل محارب فر من الحرب، ومثل من وجد سلواه في الهزيمة! فحاولت الرقاد، وتجنب إثارة الأسئلة، مثلما يفعل بعض من وجده حياته تنفصل عنه، في غبار المدينة، أو في فضاءات البرية. فليس ثمة جدوى أبدا، من سفر آخر، وليست هناك من جدوى، من تأمل ما تبقى من هذه الرحلة، إلا ان الليل وحده، في مساء تموز الملتهب، في أعالي الجبل، أثار في راسي هذه الانشغالات، وكأن صخرة سيزيف هي العقبة! رفعت جسدي ومشيت نحو الوادي. كانت الشجرة تختفي بهدوء، حتى زالت. صرت وحيدا ً في الوادي تاما ً، والليل وحده كان قد ملأ المكان، من أعالي القمم إلى المنحدرات، أما الليل الآخر، الذي امتد داخل فضاءات راسي، فقد بدأت أراه يتسع، بلا حافات، وأنا أدرك استحالة مغادرته، فاستسلمت للريح، وأنا أراها تمحو آخر ما تبقى من إشعاعات شمس النهار، وذاكرنها. [1970] [ولادة] كل نهار يأتينا، يعقبه نهار آخر، بأتعاب مضافة. ذلك ما دار بخلدي، عند الباب، وأنا أخاطب زوجتي: ـ ستكون ولادة سهلة. وتابعت النقر بأصابعي على خشب الباب. كنت أحدق فيها متذكرا ً خطاها الباردة القديمة. خطى امرأة مشت فوق الماء. امرأة الرمل. قلت لها: حسنا ً، ستكونين، بعد أيام، شجرة مثمرة! وكدت ابتسم ساخرا ً لولا أنها قاطعتني بابتسامة غامضة، ارتسمت فيها مخاوف كائن يشرف على الموت. قالت: ـ تعال هنا، انظر كم صار كبيرا ً هذا الكائن! ـ حتما ً، لقد كبر، مثل متاعبنا، كبر، وسيخرج إلى الدنيا.. ـ اوووف، أيها الرجل. ـ أعرف، كان يجب ان لا يحدث هذا، وكان علي ّ ان انهي حياتي منذ زمن بعيد، لا لشيء، إلا لأن هذا الرجل، كبر كثيرا ً، هرم، وبلغ ذروته، وآن له ان يغادر، يا عزيزتي، وعندما لم يحصل ذلك، وجدنا، أنا وأنت، نصنع كائنا ً سنترك له متاعبنا، لا كي يخلصنا منها، بل كي يراها تكبر معه، مثلما فعل أسلافنا، معنا، ومنذ أول جرثومة حملت ومضات الخلق، وأصبحت لا تعرف ماذا تفعل بها..! [1970] [ بقية حياة] قبل سنوات، كنت اعتدت كتابة رسائل إلى فتاة كنت أحبها، ولم يكن لدي ّ أمر ما أكثر أهمية من ان امسك القلم، واجلس ساعات طويلة، والكتابة إليها في أدق التفاصيل، وفي الأشياء كلها، وفي اللا أشياء أيضا ً،ثم الذهاب بالرسائل إليها. أما كيف حدث وتوقفت عن الكتابة، وأنني أدركت ان حياتي قد ضاعت قطعا ً، وانه يتحتم علي ّ، منذ ذلك الوقت، الكف عن كل شكوى. ولا اعرف تماما ً كيف حدث ذلك، ولا حتى الطريقة التي حدثت فيها، فانا اعتدت كتابة الرسائل، إلا أنني لم أكن على علاقة إلا بكائن آخر: شجرة في الطريق العام؛ شجرة يابسة، جرداء، ومهملة، ولا تلفت نظر احد. وها أنا انقل إليكم نص واحدة من تلك الرسائل، التي كتبتها في هذا المساء: " يا سيدتي، انه الأمر الوحيد الذي طالما تكلمنا عنه، هو أننا نشترك في أمر واحد، يخصني ويخصك أيضا ً، انه هذا الذي يحدث لك ولي، فكلانا أصبح خارج الحياة" وتابعت الكتابة بعد ذلك: " وقد بدت الأمور واضحة لدي ّ، ففي الشيخوخة لم يعد لدينا ما نبحث عنه، أو ما يبهرنا، وما ننجذب إليه. فلم نعد ننشغل بمن يذهب، أو بمن يأتي، لا بالغبار، ولا بالأمطار. أما طفولتنا وأيامنا الذهبية فإنها لم تعد إلا صفحات لا وجود لها، وكأنها، في الأخير، لم تحدث" وذهبت، في ذلك المساء، ووضعت الرسائل في شق من شقوق الشجرة، تحت أوراقها الجافة، كي أعود مسرعا ً إلى غرفتي، وأنا أكثر حماسة في متابعة الكتابة إليها. في الصباح، عندما ذهبت إليها، رأيتها تحترق. كان عندي بضع رسائل أمضيت الليل حتى الفجر في كتابتها، فاقتربت منها، وقلت لها: هذا كل ما استطيع عمله. ولم أغادرها إلا وأنا المح دخان الكلمات السود يتوحد بلهب دخان ابيض، ويتلاشيان مع الريح. [1970] [قصة حب] ركبت العربة الصغيرة وأغلقت الباب. كانت تريد ان اصرخ: " ان تقول لي: لا تذهبي، ولا تذهب هذه القصة ككل القصص" كان السائق ينتظر أيضا ً، ان أقوم بعمل من الأعمال. " كنت انتظرك ان تصرخ. فماذا تبقى لي غير هذا الأثر يعلن عن غيابه " ابتسمت. وابتسم السائق، لأنني تحركت قليلا ً: " تصوّرت انك تناديني، وانك تقترب مني، ثم اكتشفت انك تبتعد عني، وصارت الحركة لا تعني إلا ذلك. قلت في نفسي: هناك حدود لهذا اللهب تبلغ درجة الصفر، كثافة كأنها العدم! فقلت: آنذاك غير مهم ان نكون أحياء، أو أموات، إنما، في الأخير، يبقى يدرك استحالة ان يحافظ على ما هو عليه، وآنذاك ليس لديك ما ترغب ان تجهله، أو تود ان تعرفه" كانت العربة قد تحركت " ولما وصلت إلى المنزل جرجرت جسدي بهدوء إلى غرفتي، ومن النافذة تابعت التفكير، اثر حركة الضوء المناسبة، وقلت لنفسي: هل اصدق انه بلغ ذلك الحد، ذلك الذهول، الصفر! وجاءت أمي. قالت: هل كل هذا من اجل رجل سيموت! فخيل إلي ّ انك تغرق. آووه، وتصوّرت موتك حل في ّ، فانا فقدت حدود جسدي. فخرجت وركبت العربية ذاتها، وبحثت عنك" ـ حسنا ً.. ـ ماذا تفعلين ..؟ ـ لم أكن أفكر ان نفعل شيئا ً، لكنني كنت رايتك تغيب، قبل ان أراك هنا معي، هل كنت حقا ً معي! ابتسمنا. هل ابتسمنا حقا ً..؟ إنما كانت هناك ومضات لا اعرف إن كانت تبتعد،أم أنها كانت تقترب منا، لكنني لم اعد امتلك قدرة ان اعرف من أكون، ومن هو أنت، وماذا يريد كل منا من الآخر! [1970] [قصة واقعية جدا ً] "يا يدي الحبيبة!" ومددتها قليلا ً متفحصا ً الأصابع النحيلة المكسوة بجلد ابيض، ونظرت إليها، كأنني سأفقدها حالا ً، وحاولت الإمساك بها، بنفس اليد. قلت: ـ كلا، أنت كل ما تبقى لدي ّ.. أنت أنا.. أنت غيري! وكأنني أصغي إلى من يبتسم بسخرية باردة، سمعتها، وهي تتقلص وتنبسط. ـ أنت حبيبتي منذ الآن .. وبصمت جرجرت الأصابع ووضعتها في مكان آخر. ـ انك حبيبتي، سأقول ذلك، فرجل مثلي يمتلك مثل هذا الحب، يعلن عنه بهدوء، في بداية حياة جديدة. [1970] [حب] أنا لا امتلك غير بضع أشجار اعتدت ان اسقيها ماء ً وأغذيها من سنوات بعيدة. كنت افعل ذلك لأن الأشجار، والأشجار وحدها جديرة بالحب والوفاء، مما جعلني احلم ان أصير شجرة، في يوم من الأيام. كان عملي كله قد وضّح لي استحالة تحقيق مثل هذا الحلم. فبكيت. إلا أنني منذ ذلك الوقت صرت بستانيا ً يزرع مزيدا ً من الأشجار. وعندما تحتم قطع عدد منها، لمرور طريق سريع، صرت لا افهم كيف سلبوا مني كل ما امتلك. وصرت لا اعرف كيف أتوازن وأنا أودع أحلام حياتي برمتها. فكرت برهة، وأنا أرى بعض الأشجار يتم اقتلاعها بقسوة، ان الأشجار، هي الأخرى، غير جديرة بالحب أيضا ً، فجلست ابكي. قالت واحدة من الأشجار تخاطبني: ـ لا تبك، أنت نفسك حان دورك. ـ ماذا ..؟ ـ تعال معنا. آنذاك أدركت ان من يحب، يفقد الذاكرة، ولا يمتلك إلا ان يغادر بهدوء، وصمت. وهكذا، منذ زمن بعيد، لم اعد أرى شيئا ً. [1970] [الصدى] " لم ْ اكبر كثيرا ً كي أصاب برهاب الموت، بل الأشياء من حولي هي التي شاخت: سريري، جدران البيت، الغرفة، الكتب، هرم الكرسي، والنافذة لم تعد شفافة، ثم، تلك الشجرة، التي أراها أمامي، أصبحت دارا ً للطيور الميتة. ذلك العمر الذي امتد كثيرا ً يتحرك بهدوء الصدى مع ذاته ويمشي بلا مبالاة متتبعا ً ظله. التراب الذي لا اعرف هل استبدلني بنفسي، أم أنا استبدلته بنفسه، التراب الذي صرته أنا. التراب الذي صار عاشقي. التراب الذي سمعناه يغني بجنون. التراب هو الذي بلغ ذروته، ولم يعد يحتمل. ولابد اذا ً، في هذا السياق، بعد هذا كله، ان أهشم الأشكال واذهب بها إلى مقبرتنا الكبيرة، لتأخذ الدورة فاتحة لخاتمتها. اووووف. أيها الصدى، أنت مثل الزمن، لِم َأصبحت تمشي تتعكز بالظلال..وأنا، مثلك، امشي خلف آثار لا أرى مقدماتها، وها أنت تراني، لا أستدير، ولا أتذمر، بل وها أنا لا أتعكز حتى بما تركته لي. ـ تحرك. ـ نعم، ها أنت تراني، أتحرك، تارة ازحف، وتارة أدب، وتارة أهرول، وتارة ... أكوم الأصوات فوق الأصوات، والأصداء أراها تتجمع! ـ انظر، ها هو صداك يمشي خلفك، وهذا كل ما تبقى لديك! ـ أنا لا أرى إلا العدد، وقد بلغ ذروته: الصفر! [1970] نشرت في المجموعة القصصية الأولى [صوت الغابة] عن وزارة الثقافة والإعلام ـ بغداد 1979 . الصفحات33 ـ 39 [غبار] هل ستطلق الرصاصة، في رأسك، أم لا ..؟ إنها ليست لعبة نرد، بل أنت صغتها حتى نهايتها! ودار بخلده سؤال، ومازال إصبعه يلامس الزناد، هل ستكون الخاتمة مناسبة لمقدماتها؟ فجأة لمح ستارة النافذة تتحرك، وتتجه نحوه، مستنشقا ً رائحة زنابق كان سقاها في الصباح، في حديقة المنزل، وثمة نسمات هواء بارد داعبت محياه، فلم يجد أصابعه تنصاع لقراره الأخير: نفذ! فتركها تنبسط أمامه من غير عقاب، بل تركها تمسك برأسه، وقد استحال إلى غبار. 1970 [حركة] طلبوا منه ان يتوقف، فتوقف. وطلبوا منه ان يتحرك، فتحرك. بعد عقود سأل نفسه: أكان باستطاعتي ان لا أتوقف، وفي المرة الثانية: أكان باستطاعتي ان أجد ملاذا ً ما غير ان أتسمر، وأنا لا استطيع إلا ان أتحرك! [....] لا حظ، كلما أسرع في الركض، ان ظله يتقلص، ثم رأى، وهو يتوقف، ان ظله يمتد. آفاق، وراح يجري، كي لا يرى شيئا ً، فتوقف، فوجد جسده قد تلاشى تماما ً. 1970 [نقاط] في النقطة التي كان يقف فيها، نظر الشاب إلى الأمام، شاهد بقعة زرقاء تبتعد عنه. وعندما نظر إلى الخلف، شاهد بقعة مماثلة لكنها حمراء وهي تقترب منه. فسأل نفسه: ما الذي حدث في المشهد الأول...، وما الذي حدث في المشهد الثاني؟ بعد لحظات أدرك ان موقعه لم يعد ثابتا ً، فالنقطة الحمراء ازرقت، والزرقاء أصبحت بيضاء حتى انه لم يعد يستطيع ان يحدد موقعه بينها، فراح يرى الزرقاء تستحيل إلى حمراء، والحمراء تتوارى تاركة لونا ً رماديا ً، فيما كان لا يرى شيئا ً، وهو يكف عن المراقبة! 1970 [متاهات] ما المسافة، بين أن أكون منفيا ً واطرد من منفاي، وبين منفي يعثر على منفاه بالمصادفة..؟ وأي منفي هذا الذي لا عمل لديه، إلا البحث عن منفى لن يتخلى عنه..؟ ابتسم الشاب، وهو يخطط لمصيره، من غير عاطفة زائدة، مرددا ً الكلمات ذاتها التي نطق بها في منفاه القديم: أنا لست سوى حبة رمل في هذا الساحل العظيم، فان أواني منفاي، أو طردني، فما ـ هي ـ المسافة ـ وقد اتسعت ـ بيني وبين نفسي...، إن كنت منفيا ً بلا منفى، أو كنت في مكان بلا منفيين؟ مستعيدا ً كلمات والده وقد حفرت فيه هاجس الأسئلة: انك تتساءل ما معنى ان يكون لك عقل تحرص ان لا تستخدمه، وبين بحثك عن عقل سلب منك؟ فانا أتذكر ان جدي قال لي: طالما حلمت ان اخفي أحلامي، كي لا يراها احد، ولكن ما ان اكتشفت أنها قد توارت، حتى رحت ابحث عنها. قال الشاب، مع نفسه، وقد اجتاز خطر الموت، إنها ليست إلا ومضات، ومضات لا حدود لها، مثل المسافة وقد بلغت ذروتها: ان تجد ظلا ً تسكنه، وان لم تجده، تتركه يسكنك! وأنت ان لم تجد الموت الذي تبحث عنه، فهو وحده لن يتخلى عنك! 1970

ليست هناك تعليقات: