سوق الحلة الكبير .. سوق طويل يمتد لمسافة متعرجة، تعلوه صفائح من (الجينكو) مثلثة الشكل تقريباً تمنع حرارة الصيف وبرودة وامطار الشتاء.. يتراوح عرضه بين اربعة الى خمسة امتار..
لم يكن السوق بطوله الحالي قد انشئ دفعة واحدة، بل لم يكن اول سوق في الحلة، انما هناك سوق صغير يحاذيه من الجانب الجنوبي يسمى بـ (سوق الغَيْبة) ذكره المؤرخون والرحالة الذين زاروا مدينة الحلة قبل قرون، واقترن اسمه بمقام للامام محمد بن الحسن المهدي (عليه السلام).
اما السوق الكبير فتطور على مراحل بعد عدة عمليات اعمار وبناء منذ اكثر من قرنين، حتى اصبح معلماً بارزاً من معالم الحلة الفيحاء..
تتخلل السوق، اسواق اخرى فرعية على جانبيه يعرف بعضها بـ (القيصرية) والتي تتكون من طابقين في الاغلب وهناك بعض آثار خانات قديمة كانت تستخدم كفنادق ودور استراحة للمسافرين..
ومن الاسواق المعروفة في السوق الكبير سوق الخضار وسوق البزازين (التجار) وسوق القصابين وسوق الخفافين وسوق الحدادين وسوق النجارين وسوق الصاغة وسوق الصفارين واسواق اخرى كثيرة لم تتخذ اسماً خاصاً لها لتنوع المهن والحرف فيها.
مئات المحال الكبيرة والصغيرة وعشرات الفروع والازقة على جانبي السوق الذي يقع في عدة محلات سكنية هي (جبران والمهدية والجباويين والطاق).. ويبدأ السوق الكبير من جهة الشرق بإطلالته على شط الحلة في المنطقة التي تعرف بـ(الجسر العتيك) وينتهي عند الجنائن المعلقة (الجبل) من جهة الغرب.
ومنذ اكثر من ثلاثين عاماً لم يكن السوق يضم سوى عربات معدودة لا تتجاوز اصابع اليد الواحدة، كان يعرف صاحبها يومذاك بـ (الخردة فروش) لكن الايام العصيبة التي انهكت العراقيين بحروبها ومرارتها جعلت تلك العربات الخشبية الجميلة تتناسل الى سلسلة متصلة من (الجنابر) و (البسطيات) احتلت وسط السوق حتى بات من الصعب جداً اختراقها فعرقلت حركة المرور وتسببت بزحام شديد، تزيد ضراوته العربة الخشبية التي يدفعها الصغار او الكهول ، محملة ببضائع متنوعة تخترق افواج المارة فجعلت منه سوقا يصارع هذا التوسع العشوائي ويجاهد الاهمال الذي طاله من قبل الاجهزة البلدية التي لا شغل لها سوى مطاردة الباعة الجوالين واصحاب (البسطيات).
سوق الحلة الكبير مكتظ في كل حين الا في المساء.. فمنذ اكثر من ثلاثة اعوام تقريباً بدأ الباعة واصحاب المحال يغلقون محالهم عند اذان المغرب خشية تعرضهم للسلب او الخطف من قبل اللصوص.. وهي حالات نادرة جداً في هذه المدينة غير ان للضرورة احكام..
وقبل عدة عقود من الآن كان للسوق نكهة خاصة ومراسيم خاصة، ففضاؤه الجميل يبعث على الراحة في التبضع وقضاء امتع الاوقات في التجوال فيه ومشاهدة ما يتمنى المرء مشاهدته او شراءه دون عناء.. فأغلب الناس يعرفون بعضهم بعضاً، وكذلك فضيوف المدينة لا يكاد يفوت احدهم زيارة هذا السوق والتبضع من محاله.
وحتى ايام رمضان كانت لها سمة تختلف عن الايام الاخرى فالفطور ترسله العوائل الى السوق ليفطر الباعة في اماكن عملهم ولا يغلق السوق ابوابه حتى بعد انتصاف الليل.. فالمساجد كثيرة في السوق وعلى جانبيه اشهرها جامع الحلة الكبير ومسجد ابو كبة ومسجد القطانة ومسجد الصفارين ومسجد التجار، ومساجد صغيرة متفرقة هنا وهناك، فضلاً عن الكثير من مراقد الاولياء والعلماء المنتشرة في الفروع والازقة المتفرعة من السوق الكبير، وجميعها تفتح ابوابها للصلاة والدعاء والمحاضرات الدينية. اما المقاهي فتبدأ العمل في هذا الشهر عند اقتراب موعد افطار الصائمين لتقدم لأصحاب المحال (القنداغ) و (الشاي) و(الحليب) لتعج بعد ساعات بروادها حتى وقت السحور في ممارسة الالعاب الشعبية (المحيبس) و(الصينية) و(لعبة الديكة) وغيرها.
اما اليوم فقد اصبح السوق عبارة عن تجمع حاشد من الاجساد البشرية تحفّها البضائع المحلية والمستوردة وهي معلقة بكلاليب او منضدّة على رفوف خشبية او حديدية او مطروحة على قارعة الطريق تعرقل سير المارة..
(البسطيات) التي افترشت السوق لا تختص بنوع معيّن من البضائع، بل هي متنوعة يغلب عليها طابع ما خف حمله من المواد.. فالملابس الرجالية والنسائية والعطور والبهارات والاكسسوارات وغيرها.. والجديد في اتساع هذه الظاهرة ظهور مهنة بيع الاقراص (سي دي) وهي ظاهرة غير مقبولة لما فيها من انتهاك لحقوق المواطنين الذين يفرض عليهم سماع ما يبثه اصحاب البسطات من اغانٍ رخيصة او (لطميات) او غير ذلك..
والباعة اصحاب (الجنابر) فهم من الشباب الذين لم يجدوا وظائف لهم هنا او هناك، او من المتقاعدين الذين من المفترض ان يقضوا بقية سنواتهم في راحة وسعادة.. لا ان يلتجأ الواحد منهم الى هذا العمل المضني.. فهم يقضون الساعات الطويلة من اليوم وقوفاً جنب (جنابرهم).
وواحد من الاسواق الفرعية المعروفة في السوق الكبير هو سوق الحدادين الذي يزدحم بالعديد من الحرفيين المتخصصين بصناعة وعمل الادوات لبدائية التي تدخل في الزراعة مثل المناجل والمساحي والفؤوس التي يحتاجها القرويون من ابناء الريف وتسمع من بعيد طرقات الحدادين والصفارين والسمكرية والبعض من مصلحي الادوات المنزلية مثل المدافيء والمراوح والمولدات الكهربائية.
وحين تتوغل داخل السوق يلفت انتباهك محل صانع الغرابيل او المناخل حيث يديره الاسطة جبار عبدالله الكواز الذي ورث هذه المهنة عن ابيه الذي افتتح هذا المحل في ثلاثينيات القرن الماضي وكان كوازا اضافة الى هذه المهنة وها هو بدوره يعلم اولاده لهذه المهنة وهو يقول بأنه يقوم بتصنيع مختلف الغرابيل وهو المجهز الوحيد لكافة مناطق العراق.
ويشتهر السوق الكبير كذلك بورش الصفارين وقريب منهم مسابك صناعة الدبس والراشي ، وعند مدخل السوق الشرقي ينتشر باعة الجرزات ومن ثم يليهم باعة الاقمشة والملابس المختلفة والى يمين السوق توجد قيصيرة خاصة بصاغة الذهب وتعرف بسوق الصاغة والى العمق ينتشر باعة المواد الغذائية بالجملة ومن ثم باعة الحلويات واخيرا وبالقرب من (الجبل) الى الغرب من السوق المسقف تنتشر مخازن الحبوب الكبيرة التي تعد المصدر الاول لتخزين وتجميع الحبوب والتمور على اختلاف انواعها في بابل.
ولعل من اشهر الاسواق الفرعية التي لا يكاد مواطن في الحلة لا يعرفه هو سوق الحطابات الذي تنتشر فيه بائعات الخضر والفواكه فضلا عن عدد من القصابين.
والى وقت قريب كان السوق المسقف يعد المركز التجاري الاول في المحافظة ،غير ان العمليات الارهابية الكثيرة التي استهدفت بعض الاسواق والشوارع مثل شارع المكتبات الذي يقع في الجانب الشرقي من السوق الكبير بمحاذات شط الحلة جعلت غالبية المواطنين والمتبضعين يبتعدون عن دخول السوق الكبير الذي يصعب السيطرة عليه امنيا بسبب كثرة الاسواق والازقة المتفرعة عنه والمؤدية اليه، وازاء هذه الظاهرة فقد توسعت اسواق الجملة في مدينة الحلة واخذت تنتشر في مناطق تمتاز بقلة الكثافة البشرية مثل شارعي الطهمازية واربعين الذان انتشرت فيهما محال بيع الجملة مما اصابت بعض تجار السوق الكبير بالكساد، خاصة ان بدلات الايجار في هذا السوق اخذت ترتفع بشكل خيالي مع زيادة عدد المشتغلين بالتجارة وتوافد عدد كبير من تجار بغداد الى محافظة بابل هربا من الارهاب الذي تشهده العاصمة