السبت، 20 فبراير 2016

أختام*- عادل كامل












أختام*





 عادل كامل

[16] قيود
    يتصدى الكاتب العراقي عبد الرزاق الجبران، لإشكاليات لا تخفي المعنى المشفر (للسلطة)، ولا تتوقف عند نشوء النظام الهرمي، حيث الهرم/ الزقورة/ والمعابد بصورة عامة/ والحتميات التي قادت إلى نخب في الأعلى، وأخرى في القاع ـ وتحته ـ، حيث الأولى تتكفل بصياغة التصوّرات، وتشريعها، فوق الأرض، والثانية، لا تمتلك إلا الاستجابة ـ قهرا ً ـ وبقوة العادات، فحسب، بل لتجديد القدرة على إعادة تفكيك الموروث برمته، وصياغته برؤية تهدم التاريخ من أعلاه إلى أسفله. وهو غير راديكالي، ولا معارض عنيد، في نبش هذا المدفن ـ مقابر الحضارات ـ أو واقعنا الشرقي/ الإسلامي، والعراقي، مرورا ً بالأقاليم العربية، كي يكون معنى الموجود ـ في الوجود ـ هو العبور من أحكام النظام الهرمي، نحو تحرير القاع ـ المحيط، من ظلماته، وما أصابه من قهر، وخراب.
   فبدل أن تمنع كتبه، وبدل أن يطارد، ويستهدف، ويقام عليه الحد، لأي سبب من الأسباب، فان الحكيم السومري، قبل خمسة آلاف عام، وضع إجابة تقول إن الإله أعلى من أن يكون (عاليا ً) وان الإنسان موضعه الأرض وما تحتها، فهو من الوحل وإلى الوحل يعود. هذا التصور استثمرته المعتقدات الحديثة، ولكن، بوضع مسافة، لا لتحرير الإنسان، بل لتكبيله بقيود إضافية، بلغت حد برمجته كرقم. انه نظام العبودية القديم، الزراعي، والجماهيري في عصر الثورات الصناعية الأوربية، باستحداث مناهج التفكيك، في عصر العولمة ـ السوق الحر ـ وسيادة الأنظمة الشمولية، بأقنعة تماثل التصورات السابقة، للحفاظ على الهرم ـ وقاعدته، على نحو أكثر إحكاما ً، وجبرا ً. 
   وفي تصوري ( وأنا اجهل مدى تحرري من البرمجيات وأثرها في ّ)، إن الجبران، ككل الرموز التي استعان بها، قبل محمد، ومع علي وبلال والفارسي، وبعد ماركس، مع غاندي، يعيد البحث في مفهوم (العدالة) ولماذا مكثت لا تجد تطبيقا ً موضوعيا ً لها، الأمر الذي حتم ديمومة التعارض، والاختلاف، واستحالة وضع نهاية له مادامت مقدماته، في الأصل، لا تمتلك عللها، إلا بحدود أدواتنا، اللغة، مما جعلها نائية، كوجود الإله، لا يصح أن يلقى هذا الاهتمام، بأدوات ما هي إلا حجابات، أصلا ً، لأن المحدود، الممثل لرأس الهرم، سيمارس غوايته، وأقنعته، في تعزيز تصوّراته ـ وأوهامه، لا من اجل الذي هو خارج التصورات، والحجابات، والمسافات، بل من اجل حفظ النظام الهرمي ذاته.
    إن تصوّرات الجبران، اللاشعورية (وربما التي تعمل باليات اللاوعي التي تتحكم بها الأنظمة الجينية) جعلتني أعود وأتفحص أقدم سلطة تشبث بها الصياد، في كهفه المحصن، فهناك، في زمن سحيق، قبل مليوني عام، وصولا ً إلى المائة ألف الأخيرة، كان الكهف، هو الهرم الذي تتوفر فيه متطلبات قيادة المجموعات الأولى: السحر، مع النار، وأدوات القتل، ومخلفات المعادن، والدمى، والدفن، والرسومات فوق الجدران ..الخ، كأدوات للسيطرة، بما تمتلكه من مهارات أنتجتها الرهافة، الأصابع والقلب ولغز عمل القشرة العليا للدماغ ـ بما تمتلكه من مخلفات عصري: الثدييات، والزواحف، حيث، للمرة الأولى، تتبلور تصورات باذخة، مترفة، حساسة، ميزت هؤلاء الصيادين ـ المحترفين، بإنتاج افتراضات بحدود خبرتهم، وحدوسهم، بما فيها من مقدمات للمشاعر ذاتها التي سيمتلكها (الفنان)، إن كان موسيقيا ً، أو عالما ً، أو مستشرفا ً لكل ما هو في عالم المستقبل (الغيب)، أو اللا وجود، التي بلورت أكثر الأسئلة إحراجا ً: لماذا الموت؟ كي يقود قلق الموت، إلى لغز التكوين: الخصب، من ثم للعثور على معادلات يكمل فيها الليل النهار، والموت الميلاد، عبر تداخل الأضداد، عبر دورات محسوبة، أو عبر استقصاء مناطقها غير المكتشفة.
   كان ذلك الهاجس، هو، تحديدا ً، لخص فقدان (أقدم ملكية/ أقدم رأس مال) ـ الجسد ـ متمثلا ً بالمتراكمات، أي، ببساطة: السلطة، مما تطلب اختراع آليات لديمومة كل هذا الذي لا يمتلك إلا زمن زواله ـ وحتمية غيابه، عبر التحولات، أو الحلول، أو ـ بحسب كتاب الموتى المصري ـ الثواب والعقاب في العالم الآخر.
    ولم يكن بناء هذا المعمار إلا نتيجة مهارة استثمرت رهافة الحواس، وطاقات الدماغ، عبر الأخطاء، ومعالجتها بأدوات تطلبت التعديل، وصولا ً إلى إدراك إن الحرية، كمفهوم، ليست مطلقة، بل ما هي إلا أداة (بخزينها المركب للخبرات الافتراضية المتخيلة) لصياغة قيود، تتطلب الكسر، كي تمثل الحرية، هنا، سحرها، في مواجهة المستحيل: العدالة ـ أو المعنى الذي لا يتأسس على تاريخ يصبح الجميع ضحاياه.
    فالنماذج البشرية الأقل تعسفا ً، إن كانوا في مراكز السلطة، أو في القاع، كانوا قد أعلنوا عن تخليهم عن ممتلكاتهم، بل وعن أجسادهم، من سقراط إلى المسيح، والى الانتحاري الذي يعانق جلاده، وليس الإرهابي الذي يحتقر جسده، وأجساد الآخرين، كي يمتلكوا ذائقة المتصوف، بتخليه عن الجنة ذاتها، وذائقة الفنان المهموم بعالم اقل عشوائية، قبحا ً، وبهاجس المفكر ببناء منهجه النقدي ...الخ، فهنا تتبلور سمات (الرهافة) بالتعرف على عالم لا يمتلك إلا سلاسل من التحولات، التصادمات، والإنذارات. فالمستحيل، في الأخير، يواجه بالمستحيلات، مما يجعل العدالة، الجمال، والشفافية، مفاهيما ً ذهنية، نائية، كالذي لا تدركه الأبصار، ولا تدركه اعقد تقنيات الرصد.
    فإذا كان هؤلاء القلة من المهووسين بالعدالة، وبهدم نظام الهرم، مقارب للاشتراكية، بمعناها، وليس بأقنعتها، يمتلكون رهافات الفنان، فان مقترحاتهم، عمليا ً، ستواجه أما بإعادتها إلى النظام ذاته، الذي أنتجها، أو إلى الجحيم. فهي تصوّرات رقيقة، وباذخة أحيانا ً، لا تؤدي سوى ما تتطلبه الديمومة، وليس باستطاعتها أن تغادر قيودها، حتى بالموت.




تأملات أثناء العمل ـ وقد سبق أن نشرت حلقات من التجربة تحت عنوان: اختما معاصرة، وهو الختم السابع.


ليست هناك تعليقات: