الخميس، 4 فبراير 2016

الذات والآخر في السرد: قراءة تحليلية لمعضلة الهوية في الرواية العراقية 2/3 - سعد محمد رحيم


الذات والآخر في السرد: قراءة تحليلية لمعضلة الهوية في الرواية العراقية 2/3

 

سعد محمد رحيم
     
 
أما رواية ( الأمريكان في بيتي ) لنزار عبد الستار فتبدأ بمشهد ساخر يرسمه لنا الراوي بضمير المتكلم ( جلال ) الذي وقف وإلى جانبه زوجته حنان، يحلق لحيته ويغني بعد ليلة عصيبة احتلت فيها قوة عسكرية أمريكية بيته في مدينة الموصل حيث أمضى الجنود أكثر من ساعة يراقبون الشارع من نافذة غرفة الطابق العلوي ويعبثون بأغراض البيت.. يقول؛ "بللت وجهي بكالونيا أولد سبايس لتطهير مسالكي التنفسية من رائحة الزيت المحروق التي أشاعها تنفس الجنود الأمريكان". لكن هذا لا ينهي محنته بأية حال. فليست هذه هي المرة الأولى التي يفعلون فيها ذلك، ويبدو أنها لن تكون الأخيرة. أما المشكلة الأكبر فليست في أن أولئك الجنود يلقون في نفوس أفراد عائلته الروع، ويسلبونهم راحتهم في وقت النوم فقط. وإنما يوصمونه ( هو الصحافي والناشط في المنظّمات المدنية ) بتهمة التواطؤ مع قوات الاحتلال أمام الناس، ومنهم جماعات متطرفة ومتعصبة لا تفهم ملابسات ما يحدث. وعليه أن يبرِّر أمام الآخرين موقفه. وأن يتخذ قرارات حصيفة في ظرف مبلبل ومشوش.
تعد رواية ( الأمريكان في بيتي ) وثيقة ذات مضمون واقعي وتاريخي تستثمر المتخيّل لتحكي عن كفاح مدينة عريقة هي الموصل، في السنوات الأولى بعد الاحتلال، من أجل استرداد حقها في حياة حرّة ومبدعة تحاول قوى ظلامية سحقها وإفراغها من روحها الحضارية.
يستعير د. محمد برادة في كتابه ( الرواية العربية ورهان التجديد ) مفهوم جاكبسون لـ "التلفظ"، والذي يعني "أثر الذات ( الكاتبة ) على نص ما"، فتمثل الكتابة عندئذ "جماع تفاعل وعي الكاتب مع شروطه التاريخية وأسئلة ذاته المنقسمة داخل مجتمع يمور بالفوارق والصراعات والاستلابات". فيتخذ الكاتب موقفاً من عصره "عبر الاستتيقا وإعادة تأويل القيم من زاوية تزاوج بين توضيع الذات، وتذويت المجتمع، بين التمثّل الواعي ومكنونات اللاوعي". ثمّ يعرّج إلى ما يسميه "استقلالية النص الروائي وتذويت الكتابة". وبالتذويت، مع ما يوضح برادة، نصغي إلى صوت الفرد الذي بقي لزمن طويل مستلباً ومخنوقاً، ومصادراً في خطاب إجماعي مؤدلج وشعاراتي، ولغة فاشية مغتصبة ومتخشبة.
تفتح الرواية بصوت الرواة الخارجين عن الطاعة كوّة أولى للحرية والعقل، مشرعة لعتبة حياة جديدة متنورة.
الذات وآخرها
تبقى الهوية مختزلة، ناقصة، هشة، مترددة، ما لم تتضمن صورة الذات وآخرها. الذات وقد تمثلت، من بعد رؤية وحوار، آخرها. إن غياب الآخر أو إقصائه وسلبه حقه في الكلام يجعل من صوت الذات ذي بعد واحد.. أنا لن أعرفك إلا في مواجهة آخرك.. لن أتعرف على موقعك إلا إزاء موقع آخرك.. وهذا ما غاب عن كثر من الروايات العراقية والعربية أيضاً.
"إن الهوية بما هي نتاج تاريخ ومكوّن له منحوتة كما لو كانت ذاتها والآخر الذي يمثل أمامها. إن الذات ومنذ الأمد مسكونة بالغيرية فـ ( الذات عينها ) هي ( الآخر ). مما يحملنا على القول أن الحياة سرد أو هي للسرد. فلا تتحقق الهوية إلا بالتأليف السردي حيث يتشكل الفرد والجماعة معاً في هويتهما من خلال الاستغراق في السرديات والحكايات التي تصير بالنسبة لهما بمثابة تأريخهما الفعلي"(3).
محدودية وجود الآخر في الفضاء السردي للرواية العراقية مردّها إلى عزلة المجتمع العراقي التي فرضتها الحكومات الشعبوية الثوروية المتعاقبة. فمعظم العراقيين لم يقابلوا شخصيات أجنبية، ولا يتقنون لغة أخرى.. إن الأجنبي في الاعتقاد العراقي الشائع، وهو ما كرسته الإيديولوجيات الراديكالية؛ العلمانية منها والدينية، هو مريب، نجس، سيء النية، متآمر، جاسوس، عدو، ومن الخطورة بمكان الاتصال به. لذا لم يكن الحوار مع الآخر/ غير الوطني، ثيمة متداولة في الرواية العراقية. فالآخرون لا يظهرون إلا كأطياف غريبة في تلكم الروايات.
واحد من أهم أسباب افتقادنا للمتعة في قراءة كثر من الروايات العراقية هو أنها منغلقة على الداخل؛ ( النفس، البيت، المدينة، الوطن ) أكثر بكثير من انفتاحها على خارجها. وبذا فإننا في القليل النادر نقع على رواية بوليفونية، وإن حصل فإنها تظل محدودة وناقصة.. فمثل هذه الرواية هي نتاج رؤية نرجسية، ضيقة النظر، وقامعة.
إن الذات في الفضاء الثقافي ـ الاجتماعي كينونة حوارية، فهي تستدعي الآخر لأجل أن تثبت ذاتها في مقابل ذلك الآخر، ساعياً إلى الحصول على اعترافه.. فنحن نتشكل في المبدأ الحواري، والتشكّل هذا عملية مستمرة لا تنتهي إلا مع الغياب الفيزيقي الحتمي للذات الإنسانية، أي الموت.. إن طرد الآخر من مجال الفاعلية والوعي قد يرفع من منسوب النرجسية، لكنه يصيب الهوية بالتكلس والضمور.. الهوية المتورمة بالنرجسية تقلل من فرص الحضور الفعال في العالم، وتحفِّز جرثومة التلاشي والموت.
ومثلما قلنا؛ لم يُمنح الآخر مساحة كافية في الرواية العراقية ليقول رأيه ويمثل نفسه.. إنه مقموع بالصوت الواحد الذي يستلبه ويمثله في صورة مختزلة شوهاء. وهذه السمة تكاد تكون ظاهرة في الرواية العربية، إلا باستثناءات، والتي أفقدتها صدقيتها، فما باتت مقنعة بعد ذلك.. تقول د. ماجدة حمود في كتابها ( إشكالية الأنا والآخر )، أن الرواية العربية: "ألغت صوت الآخر، في أغلب الأحيان، فافتقدنا اللغة المتعددة ( الغيرية ) مما أفسح المجال لهيمنة صوت واحد هو ( أنا ) المؤلف، الذي اعتنى بالشخصية الرئيسية، التي تمثل وجهة نظره في الحياة، وأهمل وجهة النظر الأخرى، التي تناقضه، أو في أحسن الأحوال قدّمها بطريقة مبتسرة، ومشوهة، فبدت مقموعة، تعاني استبداد مؤلفها، وهيمنة صوته عليها، وإقصائه لفرادتها، مع أن الشخصية التي لا تحمل بصمتها الخاصة، والتي توحي باستقلاليتها، تبدو هزيلة على المستوى الفني، تعاني استلاباً جمالياً، وقد عانت الرواية العربية مثل هذا الاستلاب، الذي يعكس استلاباً فكرياً"(4).
تواجه ( نجاة ) بطلة رواية ( الشاهدة والزنجي ) لمهدي عيسى الصكر مرغمةً ( الآخرَ ) في موقف دراماتيكي مؤلم، بعد أن تنزل قوات المارينز الأميركية في البصرة وتعسكر فيها، ( هذا في المتن الحكائي للرواية قبل نزول تلك القوات، بعد عقود، في المكان ذاته في الواقع التاريخي ).. الآخر الغازي الذي حضر قسراً، ينتهك بسلطته القاهرة وجودها الهش.. يغويها أحدهم ( إبراهيم ) ويستدرجها إلى أحد البساتين ليلاً، وهناك تتعرض للاغتصاب من قبل اثنين من الجنود الأمريكان وهما من أصل أفريقي. وحين تداهم الشرطة العسكرية الأمريكية المكان يضطر أحد المغتصبين إلى قتل شرطي عسكري، ويهرب الاثنان.
هذه المصادفة التعيسة تجعل من نجاة شاهدة على جريمة القتل تلك، حيث يكون عسيراً عليها تمييز وجه الجاني بعد ذلك، حين تُعرض عليها عشرات الوجوه من ذوات البشرة السوداء، فيلتبس عليها الأمر.. هنا تشعر بذاتها ضائعة ومستلبة الإرادة إزاء ( الآخر ) الذي لا تستطيع تحديد هويته. وبطريقة ما تجد نفسها متورطة في هذه القضية التي فضحتها أمام الناس، وبسببها طلقها زوجها.
ليس لنجاة أن تحتج، وصوتها يبقى خافتاً دائماً وخائفاً، فهي الشاهدة التي تكاد أن تكون متهمة أيضاً، أو على الأقل متواطئة في حادث قدري تعرضت له بسبب سوء الحظ وسوء التقدير.، وفي النهاية ليس لها إلا إعادة تجربة الاستجواب المرهقة للأعصاب، مراراً وتكراراً، والتي لا تبدو أن لها نهاية.
إن واقعة الاحتلال ( الاغتصاب ) تجعل بطلة الرواية تصحو على واقعها الكابوسي الشائك.. نقرأ في الرواية؛ "هل جاء مزيد من الجنود الأمريكيين لاغتصابها، الواحد بعد الآخر؟". وها هي تخسر كل شيء، في هذه المواجهة غير العادلة، قبل أن تخسر حياتها أيضاً. حيث يكافئ فعل الاحتلال فعل الاغتصاب الذي ما كان له أن يقع لولا غفلتها هي، ولولا خيانة وجبن من قادها إلى ذلك المصير التراجيدي.
يتسقط الراوي الذي لا اسم، ولا ملامح له، في رواية ( سابرجيون ) لعامر حمزة شظايا تاريخ مكان ما، مضمخ برائحة زمن فردوسي آفل.. هذا النص هو الآخر من الصعب تصنيفه في خانة الرواية لأنه مشبع بتفاصيل سِير أشخاص غائبين. فهل نقول أنه المثال للسيرة/ الرواية إن صح لنا اجتراح مثل هذا الاصطلاح المركّب؟!. والغريب أن الراوي لا يتكلم عن نفسه.. إنه الشاهد الكاتب الذي يسترجع ذكريات حميمة مفعمة بالشجن والوجع. فصوته يصلنا من غير أن نراه. فهو يحدِّثنا بضمير الجمع ( نحن ). لكننا لا نستطيع أن نتخيله إلا فرداً يشبه الآخرين، وقد أمضّه حبه لهم. و ( سابرجيون ) كما ( الحلم العظيم ) تحكي عن حلم تبدد في غياهب الزمان. وهو حلم جمعي يتصل بتاريخ وطن؛ ارتقاؤه وانحداره.. مسرّاته وأوجاعه. فبعد ذبول الأشياء التي تربطه بها واختفاء الشخصيات من على مسرح الواقع، وتشتتها في كل فج عميق؛ بعضهم أخذته المنافي وبعضهم طواهم الموت، وبعض ثالث قيدوا في سجل مجهولي المصير، تعيد لهم ذاكرة الراوي الحياة عبر السرد..
تجري الأحداث على خلفية مشهد سياسي متقلب مضطرب عنيف وقاتم... إذ كانت نذر الهول تتجمع، هناك، في أفق النظر.. في البدء لم يأبه أحد، وكأن سلام الدنيا وجمالها مصانان بقوة علوية غامضة.. وكأن كل شيء يسير على وفق المنطق الإنساني السليم.. لم يتنبه معظم الناس لما يحدث تحت الجلد الرقيق للواقع، وكيف تنخر دودة صغيرة، لئيمة في قلب العالم، تتكاثر بالانشطار، تسد الشرايين، وتهدد الحياة.
يقدّم الراوي الشخصيات غالباً بصيغة الجمع، أو في حالة تجاور وتعاضد، وكأن لا معنى لوجود أي منها إلا في ظلال الآخرين. "حياة وجدنا فيها ( روميل ) بعينيه الصفراوين الباهرتين بنظارته البيضاء بإطارها الأسود برائحة أحاديثه و ( ميري ) بأغنيتها الأثيرة دمعي شهودي، و ( ريمون ) بزغب جسده المذهَّب وحركة يديه العازفتين، والخياط بأولجيه المرقّم ومقصِّه الضخم ومرايا الحياة التي أمامه.. حياة وجدنا فيها ( أوسي ) بنزقه ونضجه.. حياة وجدنا فيها ( كاكا خالد ) و ( كاكا سردار ) يفرّان من بيت إلى بيت، ومن شارع إلى شارع، مالئين جرارهم الفضية بعشق ذلك العيد الكبير".
تختصر الرواية/ السيرة ( سابرجيون ) الزمن العراقي المتعرج والمتداخل، والحلم العراقي، والمحنة العراقية، من غير مواقف طنانة مفتعلة.. إنها بانوراما عريضة لذلك التنوع الأثني الوطني المتعايش الذي فتكت به السياسة وألاعيبها.. أو أنها ترنيمة حزينة في رثاء ما اختفى، ولكن ليس من غير بصيص أمل في النهاية.. فها هو محمد ( شخصية في الرواية ) يتلقى إيميلاً من ( ديانا )، وللأسماء هنا دلالاتها الاجتماعية؛ "هل تذكرني أنا من أطلقتَ عليها اسم البرنسيسة". هذه الرسالة التي ستجعله يخرج من عزلته صارخاً في ظلام الحي الطويل؛ "إيشا معي، البرنسيسة معي، ذاهباً حتى الطرف الآخر من الحي عند كنيسة المار كوركيس... مارا بالشوارع الواحد تلو الآخر، غير عارف بما يفعله بنوره الخاص، بفرحه الخاص.. فرحه اللذيذ.. فرحه الذي لن يقدر على إخفائه مرددا لمرات ومرات أغنيته.. أغنية ضيائه وعذابه.. أغنية حياته الأولى والأخيرة ( سابرجيون كخدرين بنوشي.. جوالاً أروح وأجيء لوحدي )".
إن الحرية الحقيقية التي تُكتب بهديها الرواية الحديثة هي في تحرير رؤيتنا إلى العالم مما علق بها من قيم سقيمة متخلفة.. لا معنى في تحرير الشكل الروائي ما لم يترصن ذلك بوجهة نظر عصرية متقدمة ذات مضمون إنساني تنويري إلى أنفسنا وإلى الآخر وإلى الحياة. فالرواية هي خطاب الحياة في عصر القسوة والعنف واللاتسامح. فقد يمجد الروائي القيم الإنسانية العليا ظاهرياً في عمله، ولكن المهم ألا تكون رؤيته المضمرة، في لاوعي العمل ونسيجه، مغرقة بكراهية الآخر، أو ازدرائه، أو بالنرجسية المريضة المتورمة، أو متضمنة لما يحط من قدر المرأة لا يتغنى إلا بجسدها الذي يجده موضع متعة أنانية وتسلية.. فالمعيار للتحرر من التابو الجنسي ليس في كم المشاهد الخليعة وإنما في تمثيل المرأة كياناً حراً إنسانياً مبدعاً مشاركاً في الفعالية الحضارية، وحتى في الفعل الجنسي، بوصفها الطرف المكافئ الذي به يتوازن الكون، وتتوطد قواعد المدنية.. هنا فقط يصبح المشهد الجنسي ترنيمة إنسانية حرّة، وذروة شعرية مشعة، يتألق خلالها كائنان ينتصران للحياة والحرية.

ليست هناك تعليقات: