أختام*
عادل كامل
[6] ملغزات المحو ـ الانبثاق
حتى عندما لم يعد هناك فقراء، ولا وجود لفيالق من العبيد، والمستعبدين، قسرا ً، بلا تعليم، وليس من المعرفة ما بعد (الايدولوجيا)، وقد فرضت التعددية، في الحريات كافة، نسقها، وحتى عندما لا تشكل الخساسة والنذالة والمغالاة هيمنة على السكان، وردود أفعالها، الخالية من الحياء، والانضباط، وعندما لم يعد للملكية (الاغتصاب) هيمنتها في التقسيمات الهرمية للسلطة، وللمجتمعات، وحتى عندما تستبعد الحياة محركات التصادم، بالاستناد إلى التصوّرات، والأساطير، والاحتمالات ..الخ، حتى يأتي هذا اليوم، الذي حلم به إنسان ما قبل (الكتابة) وما قبل (التاريخ) بوصفه فردوسا ً، يتآخى فيه الذئب مع الحمل، وتتوازن فيه الحقوق مع الواجبات، وتكف الانشغالات عديمة الجدوى من إضاعة الوقت، وحتى أن يكون هذا الحلم قد دمج الفجوات الحاصلة بسبب التنافس، والتصادم، وعدلها، وشذب الدوافع، وصاغ مفاهيما ً لا يشكل الاغتراب، والغربة، والاغتراب، قضية تذكر، تكون الحياة، بما هي عليه، قد اقتربت من حتفها! فاليوتيبيا، منذ البدء، لم تدفع أسلافنا في الغابات، والكهوف، والبحار، إلى صناعة السحر، وصياغة حياة قائمة على: صياد ـ طريدة، فحسب، بل ستكون محاولات تفكيك السحر، ضرورة منهجية في الانتقال من البسيط إلى المركب، لتعزيز الفجوات ذاتها، لا على صعيد الوعي، ومجتمعات المعرفة، والشفافية، بل على صعيد عدم الاكتراث لأي مفهوم يعزز ان الحياة ليست فائضة، وإنها جديرة بالعناية، والاحترام...
حتى حضور ذلك (الأمل/ الوهم)، فان ملياري إنسان يعانون من وضع ما تحت الفقر، ومن تدهور بيئي، وانخلاعات مازالت تقتلع الإنسان وتقذفه إلى فراغات يصعب التكيف معها، أو مع لا إنسانيته شديدة القسوة، والجور، وسيادة مبدأ: اللا متوقع ـ اللا محتمل ـ الموازي لمفهوم المعجزة ـ وانتظار المخلص ـ فان هذا التأثير العام، لشعوب الأرض، وأنظمتها، لم يعد عابرا ً، في أي بناء ـ وسلوك ـ وإدراك للعبور نحو: الأمل.
فكيف، يا ترى، اسقط دوافع الكلمة التي أدونها، والفن الذي أكرس حياتي له، وأنا غير قادر ـ إلا بصعوبة بالغة ـ أن أجد جدارا ً احتمي خلفه من الموت...، واخلص وجودي من طعنات شركائي في المصير؟
ها أنا انتقل من لا معقولية العالم، وقد شكلت نظاما ً مضطربا ً خسائره تعرض ـ كتسليات أو هكذا تصبح للترفيه ـ عبر الثواني، وليس خلال الدقائق، إلى لا معقولية الحياة، وبأي معنى من المعاني، في أدق مفاصلها، وتفاصيلها اليومية ـ وأثرها في ما سيشكل أدبا ً ـ أو فنا ً.
فالتقارير تؤكد، عبر حرية عمل المواقع الالكترونية ـ وهي حرية ما بعد ليبرالية نتائجها مازالت مبهمة قياسا ً بما أدته الأنظمة الأحادية، إن كانت رأسمالية، أو اشتراكية، أو همجية، أو من غير ملامح أصبحت تعزز كل ما يغذي البرمجة في تنوعها، وفي اختلافها، للحفاظ على النظام ذاته: الهرم.
ـ إن ثلث العرب، لم يدخلوا المدرسة، بمعنى ان هناك 100 مليون ـ من أصل 300 ـ لا يقرأون ولا يكتبون.
ـ وان معدل دقائق القراءة، عند العربي، هي 6 دقائق، مقارنة بـ 200 ساعة، لدى الأوربي.
ـ وان جامعة بغداد، التي طالما مثلت، حتى سبعينيات القرن الماضي، مكانة مرموقة بين الجامعات العربية، والإقليمية، أصبح تسلسلها يحمل الرقم ما بعد العشرة آلاف بين الجامعات في العالم!
ـ وفي بلد مثل العراق، يتمتع بمساحات من الأراضي الصالحة للزراعة، والشمس، والأيدي العاملة، والموارد المالية الكبيرة، أصبح يستورد أكثر من 95% من ضروريات الحياة، ومنها، على المثال: الماء، وأشجار النخيل الطبيعية، والبلاستكية! (والأخيرة للزينة! ومازالت قائمة حتى عام 2016)
ـ وإذا كان مسموح للعراق ان يستورد5% من مستلزمات الحداثة، قبل 1990، على حد قول رئيس المجمع العلمي الأسبق، فان الحصار عليه شمل حتى أقلام الرصاص!
ـ وجود أعداد متزايدة، بعد 1958، من الأرامل، والأيتام، وبنسب مروعة نتيجة الحروب، الداخلية، والحروب مع الدول المجاورة، ومع العالم، ومن ثم ازدهار الإرهاب، الذي قلب شعار: الكل مشاريع للاستشهاد...إلى شعار: الكل مهددون بالموت.
ـ تصفيات منظمة للعقول/ للعلماء/ أساتذة الجامعة/ وفرار الملايين من النخب، ومن مكونات الشعب الأصلية، وهرب رؤوس الأموال، والحرفيين ...الخ
مما يقود للحفر في مناطق نائية: ما هو دور هذه (المحركات) أو (العلل) في: الوعي ـ وفي الوعي الكامن في الثقافة، إن كانت عالمية، أو إقليمية، أو كانت ذات جذور عميقة، أو عرضية، لتصدعات الحاضر، والمستقبل...، وما اثر هذا كله في الفن: إن كان مستقلا ً، أو انعكاسا ً، في الحياة، ومن سيعيد قراءتها، على صعيد التحليل، التأويل، أو البحث عن (أمل) لا ينبني على منافع محدودة، وهمية، وغير جمالية ...الخ
بإيجاز: لا توجد أشكال مستقلة، ولكنها، ليست معادلات تنقصها المرونة، أو كأنها تعبر كما تعبر الأطياف التي لا تترك أثرا ً يذكر.
فنظرة أولية لتجارب عام 2012 والسنوات التالية، لا تساعدنا على إصدار نتيجة، ليس لأن المراقب تنقصه المعلومات، بل لأن ما يسمى بـ (الحرية) لم يعد يمتلك شيئا ً منها.
وسيقال: وما علاقة هذا بالأسلوب؟ لنجد إجابات مغايرة تفند تحول الفن ـ والثقافة عامة ـ إلى سلع، مهما كان ثمنها كبيرا ً، فهي لا تحفر في الإشكالية الانطولوجية (الوجودية)، بمعنى لا توجد مقاربات للفن، خاصة التيارات المضادة للفن، منذ (الدادا) لم تولد بمحض المصادفة.
ها أنا لا امتلك إجابة، ليس لأنني لا امتلك وجهة نظر فنية، أو خاصة بتاريخ الفن، ونظرياته، وتحولاته، أو إنني لم اختر ـ الذي لم اختره ـ أو الذي اخترته بحسب قناعتي، بل لأنني، في الأصل، نتيجة برمجة ـ مهما اجتهدت ـ فانا لا استطيع مغادرتها. هل تتذكرون الدادائي الذي صرخ: كلنا دادا، حتى من لم يكن معها، بل ومن وقف ضدها!
وهذا ليس تصوّرا ً مضطربا ً، لكن من ذا يستطيع ان يخبرني بوجود عقلانية، أو واقعية خالية من التشوش؟ ففي نظام كلي للمعاني ـ وأشكالها، بدءا ً من الجزء اللا مرئي في الذرة، وصولا ً إلى المجرات العملاقة، وبدءا ً من تكون خلايا الخلق البكر، وصولا ً إلى البرامج ذات القدرات الذاتية في التحكم، ما: معنى ان تجد ان تاريخ الأكوان لا تشكله إلا دينامية الصراع المرير، وقد برمج، للأغلبية، بأنظمة يجد فيها (غريغوري سامسا ) قد تحول إلى حشرة، أو مدينة كهيروشيما، إلى مخلفات، وتجد العرض الشامل لعالمنا تحكمه أكثر الخرافات قسوة، وجورا ً، التحكم بالمصائر...
وهذا كله لا تجد له إلا أصداء ً متناثرة، هي الأخرى، ستدخل المتحف، وكأنها ترغمنا الاعتراف بان (الهزيمة) وحدها سيدة الأنظمة، وان الموت، لا يتحكم بالحياة، بل ـ عبره ـ بما هو خارج الإشكال، ومنها اللغة والتصورات، وعلينا ان ندرك إن كنا سيزيف أو صخرته، أن نؤدي العمل ذاته، إن كان خاليا ً من المعنى أو ابعد من معناه، وعلينا ان نجد لأجسادنا، كأرواحنا، ملاذات لا يتحكم فيها اقل البشر نفعا ً، بل أكثرهم ضررا ً، وقد تحول (الطيف) إلى (طريدة)، مهددة بالهلاك، أو بالانتهاك، فإنها لا تستطيع ان تغادر منفاها، وان القيد (الشكل) غير منفصل عن سياق الضرورة، فحسب: بل ان يدحض المرء نتائج ما آلت إليه البرمجة، وتشبثت بالخلاص، الشبه مستحيل، ليكرر رمزية (تموز) أو (المسيح) أو (الحسن): ليس للبذرة إلا أن تجد موتا ً تموت فيه كي تنبت!
ويا له من منفذ، درب شديد الضيق، إنما، ككأس سقراط، حرية ان لا تختار إلا موتك، ومثال الطائر (الحر)، كأقدم، وانصع، رمزية مبنية على معادلات، ومشفرات، منحت الأمثلة السابقة غواية تجعلها غير قابلة للنسيان، والزوال. وأنا أرى نفسي بلغت الارتواء من السم، لأنني لا أرى سوى حتفي، قياسا ً بحرية، لا وجود لها، فلو أعدت قراءتها، وفق هذا النهج، سأدرك تماما ً إنني أدرك كم كان هذا القليل من الضوء (المعرفة) قد أتاح لي أن أدرك كم كانت الفراغات تمتد خارج أية نهاية يضعها الضوء لها! فسم الأفعى لم يكن إلا اختيارا ً شبيها ً بنهاية جلجامش ـ وهي نهاية سقراط، ومن قبل هي نهاية تموز، ومن بعده في قصة الحسين ـ اختيارا ً لا شعوريا ً ـ ولا واعيا ً ـ حتم على مالك بن الريب ان يدحض الاندماج ـ والمحو، مع جيش غريب عنه، ليدوّن رائعته المعروفة.
إنما هذا الذي أكاد أراه، هذا الذي يبدو كالطيف، أو كالصفر غير المادي، غير المعّرف إلا بحروف سود فوق شاشة الكومبيوتر، أو كومضات في الدماغ، أو كبقع رمادية فوق الورقة البيضاء، ليس أملا ً استمد حضوره من وهمه، أو وهما ً تأسس على أمله، بل كأنه (الأفعى) عبثت بخلود جلجامش، وقدره، ولم تسمح له إلا بالنتيجة ذاتها التي دفعت بمالك بن الريب أن يكّون قصيدته، وسقراط أو تموز أو المسيح أو الحسن، بترك كلمات مازالت تعمل عمل كل ما هو مضاد للدفن، لكن لحياة كأنها اخفت معناها، أو لغزها، خارج احتضار الكون، موته، وانبثاقاته.
أليس الضوء وحده أكثر ريبة مقارنة بلا حافات الظلمات، أم لا معنى للأخيرة، من غير بزوغ أنوار تقول كل الذي يكون قد سبقنا إلى أبديته...؟ يا له من حضور وجد ليدوّن مروره فوق صفحات في الأصل خارج مدى هذا الحضور...، عدا الانشغال بجمع تراكماته التي بلغت ذروتها في الصفر، قبل أن يمتلك اللا ـ كل، كليته، عميقا ً في هذا الانبثاق، وبمنأى عن غيابه في الحضور، وحضوره في الغياب. أليس اللا ـ كل وحده يجدر أن يكّون حافة لوجود لم يبلغ ذروته بعد....، أم ها أنا ذا لا افعل إلا من امسك بالسراب، ليدوّن، رغم حتفه، مشهدا ً لا اختيار فيه، ولا تسوية لي فيه، وقد جعلني مثل الأعمى لا ابحث إلا عن مباهج الألوان، إن كانت تقع في خلايا الدماغ، أو خارجه، أو كعلاقة ما بينهما، وإنني ـ وأنا أحث خطاي نحو اللا ـ كل ـ لم احصل إلا على الذي أومأ لي، فتبعته، فكان القفل، وكان المفتاح، ولم يكن متاحا ً لي أن أكون سوى المسافة بينهما. فلا أنوار إذا ً، ولا ظلمات، لا ولادة ولا موت، لا طاغية ولا ضحية...، إنما لا وجود إلا للمرور بينهما: مسافة بأبدية الزوال.
وكي لا تبدو (الميتافيزيقا) إشكالية عديمة الجدوى، في مواجهة موقفها إزاء المصائر، أي مصائر النوع البشري، وليس مصائر نخبها، وكي لا يبدو الكفاح من اجل الخبز، وحريات الشعوب، خالية من الجمال، والإمتاع، ولذائذ اللعب، والمرح، فانا ـ مع نفسي ـ أتوغل في الارتباك حد الشك ـ كمصدر من مصادر الثقة، في ما إذا كنت امتلك إدراك السؤال، أو حتى: شرعيته؟
فانا عشت أراقب نصف قرن من الفكاهات المريرة: لا يسحق فيها الإنسان، ولا يرغم أن يهتف لموته، ويدوس على ضميره، بل لا يبحث إلا عن لا مبالاة لا متعة فيها. لقد كنت أتندر، مع أستاذي مدني صالح، طوال لقاءاتنا اليومية، وحتى قبيل رحيله بعد أن كف عن النطق، وأقول له إنني أصبحت ابحث عن اللامبالاة الأجمل! وقبل ذلك، في سبعينيات القرن الماضي، كنت اكرر ـ لفاضل العزاوي ـ بان المستقبل ـ من حولي ـ شبيهة بوردة قطفت. كان فاضل العزاوي يتهمني بالمثالية، وهو على حق، لأنني لم أكن امتلك قدرة تفكيك قرون لم تخلف إلا رمادا ً، كان فاضل يبحث عن عالم لا تمحى فيه أثار القلب قبل حضورها.
هو ذا مدخل لختم مندرس: اللاوعي إزاء التاريخ، فالأدوات الأولى، شبيهة بمن يجري عملية إصلاح حروف تالفة بسكين عمياء، أو الانخداع بالشفافية التي لم نقدر أن نراها حتى في مناديل النساء، وليس في ملابسهن الداخلية!
هو ذا ما لا يصح أن يبلغ حتى درجة: العبث، وليس من اجل لذّات اللامبالاة الأجمل!
فثمة عماء لا يسمح بالتعرف على ما يجري لإنساننا المعاصر، عماء يرغم الأعمى أن يمشي خلف لا احد.
ذلك لأن اقرب إنسان تلتقي به، أو تعيش معه، لم يعد يمتلك أدوات الإصغاء، فماذا عن الوعي، ومن يصغي إليك، في الغالب، لا يبحث إلا عن مكسب عابر. وسواه، لا يفكر إلا بانتصار على اليسار المتطرف، أو انتصار اليسار المتطرف على اليمين، ثم البحث عن مصالحة، أو عقد هدنة، لإشعال حرائق تعقبها ظلمات....، وبمعنى ما تفقد المقدمات منطقها، كي تأتي النهايات كباب نجهل فتح قفله، وهو ما يسمح للميتافيزيقا أن تدوم، ولحروب الفقراء أن تزدهر، وتمتد، وكأنها مسرحية ترغم جمهورها على المتابعة، بالشكل الذي تتحول فيه الحياة إلى: غوايات لن تذهب ابعد من عميان يخترعون لنا ألوان الخرافات الخالدة!
فهل يحق لي أن اشغل ـ القارئ الكريم ـ الذي لا اعرفه، وأنا اشغل نفسي، بلهو يكاد يفقد براءته! بكلمات كائنات أدرك لا جدوى عويلها، ولا جدوى صمتها أيضا ً...؟
انه ختم يصعب تنفيذه إلا بصمت يختزل الكلمات كي يقودها نحو محوها، أعالي التاريخ، ومغادرته، بأسف كظيم، بل ومن غير أسى، أو حزن، فالحب، ذاته، لم يعد لا مبالاة للإمتاع، بل للمعاقبة! وهنا يجدر بي أن اعثر على طبيب لا بحثا ً عن التشخيص، أو العقار، بل عن: السم! لأن الديمومة، بحسب مقدماتها، تتستر على مكرها، وتمويهاتها، غشها، فهي حاصل حصاد خسائر قائمة على مكاسب من تحولت الميتافيزيقا عندهم إلى يقين، وراحوا يجدون ألف ألف عذر لديمومة كلمات، لا ديمومة لها، إلا في ما لا يمكن تعديله، وقبل هذا: أن تحوله إلى يقين لا يدحض، والى: قتل مشّرع، والى: إرهاب بنيوي مغزول بغزل شفاف، وخالص!
[7] تساؤلات
هل حقا ً، بعيدا ً عن نفسي ـ عنها تماما ً ـ، وبعيدا ً عن آليات عمل اللاوعي في الوعي، وتداخل اللاشعور بما تخفيه التصورات، عبر اللغة، أسعى الذهاب إلى ما لم اعرفه ـ أدركه ـ وليس الذي غدا من المسلمات أو الثوابت، ليس للذي تمت معرفته ـ كما يخيّل إلي ّ وأنا أتأرجح بين الظنون وما تنتجه الافتراضات ـ هو الذي أريد أن اذهب ابعد منه: ليس أن أعيد قراءة أيهما اخترع الآخر: الإنسان للأسطورة، أو الأسطورة للإنسان، وليس أن أتجول في المسافة بينهما، الواقع للوعي، أم الوعي للواقع، أو الفجوات ما بينهما، الموت للحياة، والحياة للموت، أو للرحلة بينهما، الظلام للنور، أو النور لاكتشاف لا حافات الظلمات ....الخ، بل ذلك الذي كلما بدا قريبا ً استحال نائيا ً، ولكن ليس عدما ً، بل شيئا ً ما يحدث في الدماغ: لغز إشعاعات، ومضات، فاستعيد قدرة تحمل المتاهة، وليس وحشة الدرب، كي ارتوي بهذا: اللا ـ كل، بأكثر أجزاءه قدرة على التوازن في المناورة، والغوايات، والتظاهر، والاكتفاء حد الاستغناء عن البوح ـ والاعتراف ـ ومحاكمات الذات ـ وجلدها.
هل ـ هو ـ إعادة تحمل الصدمة: الرج، أداة القتل بأدق أشكالها جمالا ً وظيفيا ً، المثلث، والآخر، الرمز الأنثوي للغواية: الإنجاب والقبول بالمقاومة، حد القول: من ليس معي فهو عدوي! المثلث، بين أن يكون رأس رمح، وقذيفة، وبين أن يكون مدخلا ً لأكثر المصانع سرية، وقدرة على المواجهة، يتحول إلى ديالكتيك أعمى شارد في استبصاراته بالعلاقة بين: المنفى والمنفي.
فالسلطة ليست حرة إلا في إدراكها إنها قدرا ً وحيدا ً ـ كنظرية المؤامرة تماما ً ـ لا اختيارات لديها عدا الذي يتم نسجع، وتنفيذه ببالغ المهارة، الحذق، والإتقان.
فالمثلث، هنا، سلطة في مواجهة المعرفة. سلطة وجدت نفسها تقاوم عدمها.
وها أنا أعيد قراءة هذا التراكم: أي معرفة أريد لها أن تكون جديرة بهذا العناء، حد الاستسلام للموت...، وأنا اكتشف أن (المنفي) لا يتمتع بالبراءة. فأعيد كلمات المثل السومري: ما من امرأة ولدت ابنا ً بريئا ً قط. فالمثلث لم يعد من صنع (دماغي) ـ وعيي ـ ليس لوجود مثلثات سبقتنا في الوجود حسب، بل لأن الهندسة، بدمجها للرياضيات ـ وحسابات التوازن ـ قد شملتني بعمل قوى أكاد لا امتلك إلا الاعتراف بحرية غياب أي اختيار لدي ّ فيها.
إنها ليست تعبيرية محض، بأي شكل من أشكالها، وليست رمزية، ولا ذات دلالة بحدود ما تريد أن توصله، وإنما هي تقدم في اللا معرفة ـ عبر هذه الحدود.
إنها إشكالية تحّل عددا ً من تعقيداتها، لتخترع الباقي: ديمومة كل ما لا يغدو شكلا ً، لكن عير الأشكال، مثلما يحقق الموت وجوده عبر ثنائية الوليد ـ الميت، والميت الوليد.
فهل الثنائية بذاتها شبيهة بقفل لا مفتاح له، وبمفتاح لا يمتلك قفلا ً...؟ كي أدرك إن (المثلث) إن كان أداة قتل، أو عضوا ً مزدوج العمل بين اللذّة والإنتاج، ليس إلا تحقق اللا ـ كل، عبر أجزاءه، حيث لي ّ أن أقاوم موتي، كي يحقق الموت غايته، بعد أن أصبح خارج أدوات البحث: لا في الصور، ولا في اللغة، ولا في الحياة، فالموجودات كلها ملك الناس، إنما لا احد ما باستطاعته أن يأخذ منها شيئا ً. ليس لأنها زائلة قبل وجودها، بل لأنها موجودة في زوالها تحديدا ً.
إنها تماما ً كالمصادفة تبرهن، بوجودها، عن اللا كل وقد استبعد أية مصادفة ـ وأية حرية ـ بمعنى إرادة ـ في الذهاب وراء المسافات، وعلاماتها، وإلا هل ثمة ـ منذ تكونت أولى أجزاء الخلايا الحية ـ جدارة أو أهمية تساوي ما بذل من جهد، عناء، أم إن الإنسان بانتظار العبور إلى المعنى، كان واجبا ً عليه دفع الثمن، لتذوق هذا الذي حضوره لم يكتمل إلا بغيابه؟
• تأملات أثناء العمل ـ وقد سبق أن نشرت حلقات من التجربة تحت عنوان: اختما معاصرة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق