الأحد، 14 فبراير 2016

أختام*-عادل كامل

















أختام*


عادل كامل

[11] من الصخرة إلى الرأس: الدائرة ـ مثلثا ً
     قبل أن تأخذ السلطة علاماتها، كان الرمح، رأسه، قيد الاختبار. انه أداة الحفر عند الجسد: الرأس/ المثلث، عدا الأصل المحور عن الدائرة/ الصخرة/ القلب/ الكرة/ وقبضة اليد. انه ليس تحولا ً عفويا ً، جرى بمحض المصادفة، من الصخرة إلى المثلث، بل كان تدوينا ً لحقبة زمنية تحولت فيها أدوات الدفاع إلى أدوات: غزو. فالصخرة صقلت، كي تأخذ شكل الناب، نموذجا ً لرأس الشوكة، المنقار، فالعين في أصلها أداة استطلاع، وليست أداة قتل. على إنها ستبقى مزدوجة الأداء، كي تحافظ على مرونتها، وغايتها، ولغزها في الأخير.
    فما الذي حدث، وكأن سيناريو الموجودات يحدث ببرمجة لن تقبل الميلان: إن الأصابع راحت تصنع ـ إن لم اقل تجد كما كان يعثر ما يكل أنجلو على تماثيله مخبأة داخل الخامات ـ المثلث في الصخرة، وتستخرجه، حادا ً، كأنياب الذئب أو التمساح، ليؤدي الدور نفسه: دحر الآخر، كي تصبح الطريدة ضحية، وكي تتوارى في المثلث قواه الخفية.
   هكذا أصبحت السلطة هرما ً في مواجهة لا نهائية الصحراء، ولا نهائية الموت، وهكذا تحول القتل إلى: سلطة. فالهندسة عدلت العشوائية، ورأس الرمح، كالهرم، كلاهما ممر لعبور اللغز، تحديا ًبانتظار الذروة.

   ها أنا أعيد نحت المثلث، ولكن بمعنى أن المثلث يشهد دفنه، في مأوى مقيد، فهل استعرت ـ ضمنا ً ـ آليات عمل البذرة: لا يكمن لغز بعثها إلا بعد الدفن؟
    ولكن المثلث سيؤدي دور الصوت الجمعي، عندما يصيح هرما ً: لأن السلطة لم تعد رمزا ً للميت المبجل، الفرعون، كحاصل خبرات مركبة للطب، الفلسفة، الهندسة، والثروات، والقوة فحسب، بل تحديا ً للموت: علامة اكتملت بقصد تجاوز مفهوم سلاسل التحديات، كي يعادل الخلود نقيضه، باستحالة الفناء، ولكن بديمومة غير قابلة للدحض.
    ومع إن الهرم امتلك مقومات السلطة ومكوناتها، إلا أن الآخر ـ اللا ـ كل الذي بدا موتا ً أو فضاء ً أو زمنا ً ـ لن يدعه يتمتع إلا بمظهر المرور، مادام، في النهاية، يدخل في صميم عدمه.
   يا لرأس الرمح، الذي سكن الصخرة، أكان وسيلة لغاية، أم كان غاية استخدمت للمرور...، وقد أفضى إلى صناعة حكاية لم تدم أكثر من ديمومة صانعها، وقد سكن زوالها...؟
   أيا ً كان هذا الاختراع، وأسبابه، كالدواة قتل (من حافات أوراق النباتات الحادة إلى أسنان الذئاب، والى أسنان السلاحف، والجرذان، والبشر)، بوصفه رمزا ً للسلطة الهرمية، من الرأس إلى القاعدة، فانه سيعيد أداة الحفر، وهي أداة الكتابة أيضا ً، لإعادة دفن الملغز، داخل أشكاله، وعلاماته، من غير إضافات ذات شأن عدا التي تغذي ذهابه ابعد من حضوره الوجيز.


[12] فجوة
     كيف أستطيع أن أصل إلى نهاية أنا نفسي اعرف إنها بلا حافات...، بمعنى: ما القوة التي سمحت لي ـ وقد تحولت حجرتي إلى حبة رمل/ وإن عدد المجرات التي أراها اليوم هي أضعاف أضعاف حبات الرمال في سواحل محيطاتنا ـ أن أقع في غواية ما، واصدق ـ حتى لبرهة ـ إنها اللامبالاة الأجمل؟!
    هو ذا المشهد يكتمل: انك أما مع النهار ضد الليل، أو مع الليل ضد النهار، وليس لديك قدرة أخيار احدهما أو دحضه....؟ فانا أسير منفاي ـ مثلما الشكل أسير دوافعه وعناصره ـ وعندما لا امتلك إلا غواية اختيار هذا المنفى، وليس سواه، فان الاختيار ـ ذاته ـ ليس أخيارا ً، فأي سراب أغواني، ومنح أصابعي أن ترى ما لا يراه القلب، بعد أن تحولت الكلمات إلى حجابات، والى جدران معزولة داخل منفاها؟
   لقد أمضيت حياتي ابحث عن ملاذ...! فهل حقا ً أصبحت اصدق نفسي، بالسكن أم بالمتاهات...؟
[13] الفراغ ممتدا ً
   هناك مسافة ما (فجوة) بين ظهور الكلام ـ الكتابة، ونهايتهما: فجوة الكلام/ الكتابة التي اقترنت بالإنسان المخلوق الأرقى في الحفاظ على الجهد المبذول خارج وعيه ـ ووعيه طبعا ً، بمحاولة الحفاظ على كل ما يراه يذهب، مثلما ولد: منفيا ً وزائلا ً معا ً..؟ هذا هو ما أطلق عليه بالتاريخ، تصنيفاته، بحسب أدوات الإنتاج، ومنها: التصوّرات، المثل، الأفكار، والأنظمة الاجتماعية/ الثقافية، بمختلف صنوفها ـ وأشكالها.
    وها أنا أصل إلى الذروة: إنني لا امتلك حتى الحد الأدنى في دحض مثل هذا الاختيار، لكائن اشتبك في عراك مع الخارج، بحثا ً عن مأوى، لا امتلك حتى نفي قدري على النفي، فكيف أغري ـ اغوي ـ اخدع ـ إنني املك واحد بالمليار من الصدق؟
    وها أنا أصدع، اخدش، أشوش، مثل هذه القناعة، ومثل هذا الوهم، فأدرك إن هذه الحقبة لا تمتلك معيارا ً للحكم، وإن النسبية، برمتها، لا تختلف عن السراب، لكن الماء، في الأصل، تتوارى فيه أللغاز كلها، النائية إلا عبر وهمنا بالوصول إليها. لأن المشتغل في تفكيك الكتابة ـ الكلام،  لا يجد لغزا ً ما غير خاضع للتفكيك، كي تكون الخاتمة: إن شيئا ً ما وثب من حقبة ما قبل التاريخ ـ إلى حقبة ما بعده!
     يا لها من غواية اخترعت ممنوعاتها: تابواتها: ممنوع الموت، لكن ثمة مبررات لا تحصى للقتل. إنها حقبة الكتابة القائمة على إرادة لم يخترعها أحدا ً، بل استحدثها، وهي حقبة، قياسا ً بزمن الديناصورات أو السلاحف أو الحيتان أو الفيروسات، تعد، لحظة عبور من المجهول إلى ما هو ابعد منه.
   فما ـ هو ـ شأني بحياة أخرى لا علاقة لها بوجودي ـ بهذا الوعي ـ عندما لا امتلك إلا هذا الوهم: أما أن لا اقتل، وأما أن اقتل...؟!
     هل ثمة حضارة لا نجد في أسسها براءة لم تنتهك؟ أقول حضارة ـ وكان علي ّ أن أجد كلمة أخرى ـ  لأنها، تنتمي إلى الكتابة، تميزا ً، عن الأجناس ذاتها التي مصائرها قائمة على ديمومة كل هذا الذي لا ديمومة له.
    لم ْ نولد كي نؤسس حضارة، تلك قناعة فرويد، ولكن ماذا عن تاريخ التطور، عبر السياق ذاته، كي نرى، على نحو أدق، ما خلفته المعتقدات من مبررات لسفك الدماء، وبصياغة أقنعة تؤدي دوري الغواية/ التمويه، والخداع...؟
     ربما لا براءة لأحد إلا للذي لا وجود له في الأصل، وهذا ـ بحد ذاته ـ اعتراف  يؤكد استحالة وجود براءة أصلا ً! فعندما يغيب المعيار، ما معنى الحكم؟
    فهل استطيع التقدم في فراغ مشغول بمثل هذا العدم الممتد، وأنا كيان لغوي بين أنظمة لغوية بالكاد بدأت أفك الغاز دويها، وتصادماتها، السابقة على وجود (مجرتنا) و (مجموعتنا الشمسية) و (كوكبنا الأزرق)، وكياني ـ هذا الأقل من حبة رمل ـ في نهاية المطاف؟

[14] القلم
    على إن أداة الكتابة السومرية، كجزء لا يتجزأ من بنية الكتابة المسمارية، قبل 5 آلاف سنة، ترجعنا إلى عصور المغارات، وربما، بحسب الآثار الأقدم، إلى عصور أقدم. . فالقلم هو الأداة الأقدم لمشروع الانتقال من عصر الاقتصاد البري إلى عصر النار. وثبة دخلت فيها المعادن عنصرا ً للمشروع الذي مازالت تتوارى (غائياته)، إن كانت شبيهة بحدود تاريخ نوعنا، أو كلية، بما يخص الكل ـ باتجاه: استحالة تحديد غائياته.
   على إن أداة الكتابة ليست هبة؛ بل هي حصيلة اشتباك بالأيدي، وبالجسد، ضد الخطر المنظور، وصولا ً للعثور على مناطق اقل تعرضا للأذى، والتلف، والزوال: مناطق محصنة، لا مرئية، قائمة وراء الجدران، وكاتمة لأقدم فعاليات السر، والأسرار.
    كانت أداة الصيد، عمليا ً، قد استبدلت الطريدة بالإشارة، والصورة ـ بعناصرها الأولى: الخط/اللون ـ لبناء برنامجه السحري. فالفعل ليس مسليا ً إلا بحدود منحاه التوليدي: الهيمنة. فالرسومات الأولى ليست مشروعا ً فنيا ً، أو تعبيريا ً، أو جماليا ً إلا بوصفها تحديا ً للآخر، في مشروع الصراع ضد الغياب. فالجانب العملي حتم أن يذهب ابعد من الانتصار، على الضواري، وعنف الطبيعة، وضمنا ً، الجماعات البشرية في عراكها من اجل الموارد، والأرض.
   فتلك الأدوات الحادة، التي حفرت فوق العظام، والخامات الأخرى، وصولا ً إلى الطين، كانت شبيهة بالمسمار: رأس الحربة، الرمح، السكين...؛ أداة استبدلت تخصصها من القتل إلى النقش.   فهل تضمن ذلك خروجا ً عن الأصل، أم إخفاء ً له؟
    فإذا كانت تراتبية الأنظمة الجمعية، من القاعدة إلى القمة، لم تتغير إلا عبر أشكالها التمويهية (الأيديولوجية والافتراضية)، فان الكتابة لم تصر فنا ً مستقلا ً أو معزولا ً عن هذا البناء، بتعددية عوامل ديمومته، كصراع محكوم بزمن دورته، تاريخه، وليس نتيجة التصوّرات، الاحتمالات، والبناءات الشكلية.
   فهل ثمة كتابة من اجل الكتابة، تذهب ابعد من اقترانها بفلسفة: أبدية التحولات، لكنها واقعيا ً ليست خالصة. لأن الأشكال ليست قبلية حسب، بل لأنها تولد بنفيها. ولأن النسبية تدلنا على الاختلاف، فإنها لن تصبح مطلقا ً.
     فانا لا اعرف، ليس عدم معرفتي، بل أن أتوغل ـ كلما تعلمت وتقدمت في المعرفة ـ إن الذي اجهله وحده خارج أدواتي. فانا محكوم بعدم المعرفة، وما أنتجه ليس إلا درجة لن تقودني، بعملي الحثيث، إلا بما ينقلني من كائن أصله ينحدر من العفن، المجهريات، والاميبا ..الخ، ونظامه مازال مشفرا ً بالزواحف، والثدييات، فان كلماتي، ضمنا ً، تحجب عني رؤية هذا الذي أسعى لمعرفته. وحتى موتي، في هذا السياق، لن يستقل بذاته، ليس لأنه جزء من كل، بل لأن احتفاظي بهذا التوتر، علامة له.
    هكذا، ببساطة ستكون النقطة أول الدرب. وسيكون الألف، بتراكم النقاط، معيارا ً لباقي الحروف.

    فهل تخفي الكلمات، بنقاطها، حكاية الكائن الحي، وموته، أم أن هذا الذي لم يدمر، منذ تكون خلايا الخلق الأولى، يتحدث عن استجابة لتحديات شكلت لا إرادته المقّيدة بالكل، وليس بهذا الذي لا علاقة له بالتصورات ـ وعلاماتها، إن كانت مجسمات أو رسومات أو حروف أو فخار ....؟
   تحثنا العلوم؛ من الكيمياء إلى الفيزياء النووية، وتحثنا العلوم المثابرة على تحديد: اللا متوقع ـ والمكتشف توا ً، وعلوم البحث في اللا مرئيات، إلى عصر نهاية: الكتابة، ولكن ليس إلى عصر نهاية الحياة. ذلك لأن تطور الأدوات، يهدم الثوابت، مهما بدت محمية بنظامها الهرمي (ثروات/ أسلحة/ أيديولوجيات) فلا احد يمتلك قدرة ماذا سيقال عنا، مثلما لا نمتلك قدرة تحديد لغز نظام الخلية، ومعناها بمعزل عن نسبية أدواتنا، ومعاييرنا، في نهاية المطاف.
    فالأدوات البكر للنقش، الحفر، الحز، لم تغادر مشروعها بالحفاظ على كل ما نراه ينحدر، مع ماضيه، عندما استطيع أن أشاهد، ما لا يحصى من المجرات، وأنا لا امتلك إلا أن أغذي فضولي باليات أنظمتها. ألا  تتشكل لحظة التفّكر، والأمل في مشاهدة هذا الكل المرئي، بما يخفي من امتدادات، دحضا ً لقيود تاريخنا المشترك؛ من المجهريات إلى الزواحف، ومن الثدييات إلى قشرة أدمغتنا، برفقة باقي المكونات الحية، وإنها، في الأصل، لم تمنحنا إلا هذا الذي كلما توغلنا في مدياته ازداد جاذبية، وليس عجزا ً أو وهنا ً، في تنفيذه؟

[15]  اللا شعور ـ الوسط ـ الانجذاب
   على إن رأس الرمح، بين أدوات الصيد الأخرى، شبيه برأس الهرم، فوق الأرض، أو فوق الورقة، كلاهما لا يغادران حدودهما. إنما كل منهما هو جزء من الكل. فالسلطة لا تمتلك هويتها إلا بنظامها المكون من أجزاء، من الشكل إلى لا متناهياته. يضاف إليهما ـ مع آليات نظام المركز ـ سلطة الوسط، لدى الأنثى، في نوعنا.
    ثمة إشارة قد تكون صائبة: إن الاتصال الجنسي، وجها لوجه، غدا تحولاً،  كطفرة في الممارسة، بعد حقبة طويلة مبنية على الامتطاء.  فالنوع ـ هنا ـ يعدل مشروع المداهمة، نحو: التودد ـ الألفة: العناق.
     إنها حقبة وجيزة  ومازالت غير مستقلة عن نظامنا القديم، قدم تكون الخلايا الأولى، قبل ملياري سنة، في الأقل، مع ذلك ليس ثمة ذروة، بل صيرورة، وسلسلة من التحولات.
      ألا يأخذ الوسط معناه بصفته: سلطة..؟ سلطة امتداد ـ وديمومة، يتطابق فيها الشكل مع وظيفته، عبر الوسط كأعلى أخفى ذروته،  فيه، وكأسفل بلغ الوسط، فهو سلطة ستحافظ على وجودها، في مواجهة الاختراق. إلا  إنها سلطة غواية، وإثم.  فالمثلث لم يعد يثير فزعا ً، هنا، كي يكمل عمله كقناص يتتبع انجاز آليات عمله: لفت النظر، بشكله، برائحته، أو بملمسه، أو ربما بما يمثله من باثات، من ثم يؤدي دوره في مشروع: الإخصاب.
    ولعل دفاعات الأنثى، وإحساسها بالخطر، لا يكمن في الرأس، بل في الوسط، مما يتطلب ـ بلا شعور ـ آليات اتخاذ موقف الدفاع. وحتى عند اشتداد الرغبة، كجزء من إرادة حفظ النوع، فان الأنثى لا تبذر بمشروعها إلا لصالح لا وعيها ـ وهدم سلطتها ـ من اجل ديمومة نوعها.
   فها هو ذا: المثلث، وقد أخفى مقاصده، كما أخفاها الهرم، والسهم، كي يمارس طقسا ً للإرادة، إن كانت عمياء، أو أكثر إبصارا ً، أو خارج فعل المعنى ـ القلم والكتابة ـ كمسمار يؤدي دور الذكر فوق الورقة ـ أو في الأرض، أو في الجسد.
تأملات أثناء العمل ـ وقد سبق أن نشرت حلقات من التجربة تحت عنوان: اختما معاصرة.

ليست هناك تعليقات: