الأحد، 28 فبراير 2016

مجمع القشلة والسراي: حقل تجارب لهواة الترميم!- د. إحسان فتحي




مجمع القشلة والسراي: حقل تجارب لهواة الترميم!

د. إحسان فتحي

   قبل أيام رأيت صورا تبين عمليات هدم كبيرة أمام وجوار قصر الوالي في سراي بغداد!  حقا أدهشني الأمر لأنني كنت اعتقد بان هذا المجمع الهام يخضع لحماية الدولة الصارمة ولا يمكن المس به فهو محرم من محرمات التراث الوطني. إن هذا المجمع الذي يشمل مباني القشلة وبرجها، ومبنى السراي الحكومي ببواته الرائعة، وقصر الوالي، ومبنى رئاسة الوزراء، ومباني أخرى، يعتبر احد أهم المواقع التراثية في بغداد والعراق على الإطلاق. كما ان طول واجهة مبنى القشلة (المقر العسكري لفرق المشاة العثماني) يبلغ حوالي 200 متر مما يجعلها اطول بناية في تاريخ العراق المعاصر، الا ان تغلبت عليها بناية مجلس الوزراء التي شيدت في 1980 وبلغ طولها 215 متر، وبعد توسعة القصر الملكي – الجمهوري في كرادة مريم في التسعينات اصبح طوله 335 متر بعد ان كان 150 متر.
والملاحظ ان هذا المجمع الهام، الذي شيد بين الاعوام 1861 و1870، قد تعرض إلى اهمال شديد في الفترتين الملكية والجمهورية والى عدد من اجراءات الهدم والتغييرالجاهلة التي ادت الى خسارة كبيرة في معالمه الاصلية. فعلى سبيل المثال، فأن القصورالعثمانية التي كانت تطل على نهر دجلة بعدد من اجمل الشناشيل البغدادية قد هدمت تماما ولم يتبق منها سوى قصرالوالي الذي سلم من ايادي الجهلة لحسن الحظ، لكن واجهته الاجرية الحالية لاتمت بأي صلة للاصل. كما هدم الجزء الغربي من بناية "المشيرية" المطلة على دجلة دون سبب، وغيرالدرجان المؤديان الى الطابق العلوي للقشلة دون مبرر، ورمم الطابق العلوي بجسور حديدية (شيلمان) مؤخرا وهذا يخالف ابسط مبادىء الترميم. وان بوابة السراي (وليس القشلة) المقببة، والتي اعتبرها شخصيا احد درر بغداد المعمارية، قد جرى "ترميمها" بشكل خاطىء سابقا ومؤخرا وطابقها العلوي يختلف كثيرا عن الاصل كما تظهر ذلك الصورالقديمة. وحتى برج الساعة فقد تم تغيير الجزء العلوي منها تماما.
كان هذا المجمع بمثابة خلية النحل المزدحمة بالعاملين والمراجعين وموظفي الدولة الكبار ورجال الشرطة والجنود، معتمرين الازياء المختلفة بعماماتهم الملونة وفينهم القرمزية وسداراتهم السوداء...صراخ الباعة... رائحة التراب والقداح... كانت فيه العديد من الدوائر الحكومية كمجلس الوزراء، والمتحف العراقي، ومطبعة الحكومة، ووزارت المعارف والداخلية والعدلية، ومحكمة الاستئناف، ومديرية الشرطة العامة، ومركز شرطة السراي الشهير. كان هذا المجمع ينبض بالحياة والحيوية وكان جزءا لايتجزء من نسيج الرصافة ومحلة جديد حسن باشا تحديدا. الذي ميز ووحد العمارة البغدادية واعطاها هذا الطابع الجميل والمؤثر بصريا وروحيا هو هذه الاجرة (الطابوقة) الذهبية اللون التي كانت هي المادة الاساسية الام والابسط والتي شكلت اساس الابداع الانشائي والمعماري منذ الحضارة السومرية قبل اكثر من 5000 سنة.
وعليه، فان مثل هذا المجمع التراثي يجب ان لايتعرض الى تجارب الهواة من "المرممين" ومن كل هب ودب، ومن المقاولين الذين يجهلون ابسط مبادىء الصيانة العلمية. انا حقا اطرح هنا سؤالا بسيطا واساسيا:  من هو في الحقيقة المسؤول "النهائي" عن هذا المجمع؟  هل هي محافظة بغداد؟ ام امانة العاصمة؟ ام هيئة الاثار ةالتراث؟ هل هناك مسؤول سري يتحكم بمصير الاف المباني التراثية؟  وهل فرغ العراق من متخصصين في ترميم المباني التاريخية؟ وما هو دور اقسام الاثار في العراق والتي تخرج عشرات الاثاريين كل عام؟
ان وضع المواقع الاثارية والمباني التاريخية والمناطق التراثية هو في حالة يرثى لها وكلها مهدد بالسرقة أو التشويه والتغييرأو الهدم بسبب هذا الجهل العجيب. ان الاغلبية الساحقة من الجوامع والحسينيات والكنائس التاريخية قد تم اعادة بناؤها بشكل جديد تماما وهذه خسارة كبرى تتحملها جهات الأوقاف المختلفة. ان هذا ان العراق، بفضل هولاء المسؤولين، قد استحق بحق لقب "المدمر الأول لتراثه في العالم". لقد كتبنا وصرخنا مئات المرات عن مبان مهددة يجب معالجتها فورا ولم يحصل، ولا مرة واحدة، ان اجاب علينا اي مسؤول في الاثار او الدولة، او تم اتخاذ اي اجراء وقائي. لقد كتبت عن تخطيط مناطق بغداد القديمة والمدن العراقية الاخرى دون جدوى، عن هدم الكاظمية بحجة تطويرها، عن مبان مهددة عديدة مثل قبة السهروردي، وخان الزرور، والميدان، وشارع الرشيد، وحمام الباشا، والاعظمية، وعن هدم البيوت التراثية، وتغليف المباني بالالكوبوند الملون الصارخ، وعن إهمال المدرسة المستنصرية، وجامع مرجان الذي تحول إلى مكب قمامة، وعشرات الحالات الأخرى!
يبدو إن الامر صعب جدا، فنحن امام جدار هائل من اللا مبالين والجهلة، لا يهمهم أي شيء!  هم ابعد مايتصوره المرء عن الاحترافية والمنهجية العلمية...هم حقا في كوكب اخر تماما...فيبدو ان المعركة خاسرة اصلا.. طالما ان استمروا في التحكم في مصير تراثنا...ويبقى أن اقول بأن كل ما قلناه او نقوله الان هو تسجيل وتوثيق لهذه المأساة الكبرى للاجيال القادمة.

معماري متخصص بالحفاظ على التراث



ليست هناك تعليقات: