السبت، 13 فبراير 2016

إنجاز إبداعي .. يستدعي حضوراً مؤثراً-حميد سعيد

إنجاز إبداعي .. يستدعي حضوراً مؤثراً


حميد سعيد


يعود الشاعر محفوظ داود سلمان،  في مجموعته الشعرية " خمارة بلقيس " إلى الشعر كما ينبغي أن تكون العودة في بهائها، وبها يُعيدُ إلى الشعر بعض بهاءٍ ، ضاع في متاهات لا حدود لها، حتى صارت قراءة قصيدة تنتسب إلى جوهر الشعر وتتوفر على مقوماته ، لا تتحقق إلا في استثناءات نادرة .
كانت بدايات الشاعر في بواكيره، قد لفتت إلى قصيدته الأنظار ، أو هذا ما كان مني وأنا أتابع بداياته، بشغف حقيقي، وأنتظر منه ، إضافة إبداعية إلى القصيدة الجديدة، في مخاضاتها وتعدد توجهاتها وسعة أمدائها وكثرة أصواتها وضجيجها .
غير أن الفتى البصري الحيي ، غاب طويلا ، وكاد صوته أن يضيع ، وربما أنا الذي ضيعه إلى حين، في ما كنا فيه من مشاغل وانفعالات ذاتية ، وقضايا لطالما أبعدتنا عما كان ينبغي أن لا نبتعد عنه.
في السنين الأخيرة ، يفاجئني محفوظ داود سلمان ، بقصائد ، أقرأها، فلا تفارقني، وأُعيد قراءتها فأتوقف عند ما يختار من موضوعات، تتمثل قضايا وجودية ، في محيط شعري ، يتوزع بين موضوع من دون شعر، وبين ما يعده أصحابه شعراً، من دون موضوع .
غير أنه، في ما قرأت له من قصائد في السنين الأخيرة ، ومنها ما ضمته مجموعته الشعرية " خمارة بلقيس " لا تأخذ أهميتها وشعريتها ، من موضوعاتها وإنما من مقوماتها الإبداعية ، فكرية وجمالية .
فهي ، تُغْني شعرية الموضوع ، بلغة شعرية متوازنة ، لا افتعال فيها ولا تمحل ولا تهافت، تكاد تحقق فرادتها، بُنىً ومعجماً، ولا تذهب بعيداً عن معاصرتها ، فإذا قلنا : إن للغة هذه القصائد ، ومن ثمَ لغة الشاعر محفوظ داود سلمان، خصوصيتها في ما تتوفر عليه من خصائص ومواصفات ، فليس في هذا القول ما يخرجه عن موضوعيته .
إن لغة هذه القصائد بقدر ما تمتلك شخصيتها، فإنها تكرس شخصية القصيدة ، ولا تتحقق هذه الشخصية بمعزل عن الإيقاع الداخلي للبنى اللغوية ، وبقراءة جادة ، يمكن أن نكتشف إن إيقاعات القصيدة، داخلية أكثر مما هي إيقاعات خارجية، فالتزام الشاعر في قصيدته ، بالتفعيلات العروضية ، لا يجعل منها مجرد إيقاعات خارجية، بل تدرك كإيقاعات داخلية ، تتكامل مع الفكر واللغة .
ومما تتميز به قصائد " خمارة بلقيس " كثافة التناص ، حيث إن التناص فيها، ينفتح على الشعر قديمه ومعاصره، حتى يكاد يشمل مساحة واسعة ومتشعبة ، ونجد هذا التناص في  مصادر عربية وأجنبية ، ويتمثل أشخاصاً وأحداثاً ورموزاً، ويتداخل التثاقف مع هذا التناص، من خلال مصادر ثقافية كثيرة هي الأخرى، وهذه المصادر تاريخية واجتماعية ، دينية وملحمية وأسطورية، غير أن التناص والتثاقف ، لا يثقلان النص الشعري ، عند الشاعر محفوظ داود سلمان، في قصائد " خمارة بلقيس " ولا يظهران على السطح منه، كما تظهر الملصقات على سطح لوحة تشكيلية، أو كما يظهر التضمين على سطح قصيدة ما، اتكأ شاعرها، على تضمين أبيات من الشعر أو مقاطع لشاعر آخر.
بل تتكامل داخل النص ، كما هو الحال حين ينمو كيان حي، شجرة مثلاً، فتكون القصيدة أكثر ثراءً في شعريتها وأكثر استقطاباً في التلقي، أعمق في مضمونها وأجمل في شكلها.
وهي في كل ، ما حاولت التوقف عنده من سماتها، والإشارة إليه، تتوحد هذه السمات من خلال ما تعبر عنه من موقف، ليس طارئاً ولا شعارياً، بل هو موقف جمالي ووجودي في آن واحد، وهذا ما يكرس الفرق بين الإبداع وضده ، ليس في الشعر حسب، بل في جميع أجناس الكتابة وأنواع الإبداع .
إن كل ما ذكرته آنفاً، ليس سوى قراءة ، لم أحاول خلالها التخفف من إعجابي بالنص المقروء، حتى لو تركت انطباعا ً لدى آخرين، بأنها قراءة متعاطفة، وليس من قراءة صادقة، تخشى التعاطف مع بهاء النص المقروء.
وقد يفصح مثل هذا الانطباع عن ملامح قراءة نقدية أخرى، أو قراءات نقدية أخرى، تختلف كلاً أو بعضاً، مع ما ذهبت إليه في قراءتي هذه، أو تتناقض معها، ومثل هذه القراءة أو القراءات لا تنتقص من أهمية النص المقروء ، بل تكتشفه، فالنصوص الإبداعية هي التي تجعل فضاء القراءات أكثر سعة، وهي التي تهيئ المجال ، لفعل عدد من القراءات، حتى في اختلافها.
إن ما أنجزه الشاعر في قصائده هذه، ليس من مبالغة ، حين يقال عنه، إنه إنجاز إبداعي مهم ، وليس من الوهم أن نتوقع له حضوراً مؤثراً، على صعيدي قراءات التلقي وقراءات النقد .


**

ليست هناك تعليقات: