تشكيل
.التعبيرية بين الانفعالية وحركة الجسد في أعمال اياد
-مؤيد داود البصام
شكل النحت العراقي قراءات متعددة خلال مسيرته في العصر الحاضر وفترة التأسيس الحديثة، فعمره بمقدار ظهور الأعمال النحتية ذات النهج الواقعي، وبتقنية أكاديمية في الثلاثينيات والأربعينيات من القرن الماضي، ثم عندما بدا خط الشروع للفنان العراقي في تقديم أعماله التي استندت فلسفتها إلى أغلب أعمال الفنان الرافديني لتستقي منه خطابها، ويعد نصب الحرية الانجاز الذي أكد طموح الفنان العراقي لإيجاد معادل موضوعي بين الماضي والحاضر، ومحاولة أيجاد الصيغة التي تجعله يضع فلسفة للربط بين الأصالة والحداثة، حتى لتضيع عليه فرصة ما يحدث من تطورات ومتغيرات في عالم الثقافة عامة والفن خاصة، وأن يبقي جذوره على اتصال بتاريخه وماضيه وحاضره،ولكن هذه المسالة جاءت مع زحمة الإعمال التي خضعت لمنهج التجريب (إذا وضعنا التجريب كمنهج افتراضي ، لان المنهج يفرض قواعد، والتجريب قواعده في داخل العمل المنجز خصوصا وليس عموما) فاتخذت الأجيال ما بعد الرواد الأوائل طريقا يبتعد حينا ويقترب أكثر الأحيان مما بناه الرواد، في أسلوبهم بين الواقعية والواقعية التعبيرية، ويعتبر ما وضعه جواد سليم النموذج في نصبه (نصب الحرية في ساحة التحرير) وإعمال أخرى له ولفنانين آخرين، العمود الفقري للنقلة الشكلية والمضمونية لفن النحت العراقي الحديث، أو الثورة في الشكل والاستمرار بالنظر لأهمية الموضوع في العمل، ومن هنا نجد أنفسنا مضطرين لمعاينة المنجز من خلال منظور قدرة التجريب لدى الفنانين ما بعد فترة الرواد على تقديم ما يؤسس بما يوازي ما وضعه الأوائل، وأيضا تأثيراتهم على الأجيال اللاحقة، والنحات إياد حامد لا يختلف في التقييم عن ملاحظة ما أوردناه أعلاه في أعماله من حيث الشكل أو المضمون، وهذا لا يعتبر انتقاصا او ثلمة فيما يقدمه من منجز، فهو يمتلك النضج الفني في بناء طريقه لإيجاد ذاته، والانطلاق بفلسفة تجعله، يتقدم ولا يمحو خطواته التي تركها خلفه، بما تحمله من بصمات توضح تأثير أساتذته على أعماله أو تأثيرات المدارس والفنانين في العالم، من دون أن يخضع بنائية أعماله إلى الاستنساخ.
البناء الفكري وروحية العمل
يعمل النحات إياد على الرؤية المتسقة التي توحد بين الذات والموضوع، والتي تجمع جيله والاجيال التي سبقته في الرؤية لصراع الإنسان مع الحياة، أو صراع الأضداد، من فكرة (أن الشر قوة تفرض وجودها أكثر من قوة الخير)، في عالم يرتكز في بنائيته على مفهوم استغلال الأخ لأخيه والقوي يأكل الضعيف، أن هو أدركها من خلال منابعه الذاتية، أو من خلال أساتذته الذين درس على أيديهم، او الذين درس أساتذته على أيديهم، من أمن وعمل ضمن هذه المفاهيم، وكلهم عمالقة فيما قدموه من منجز على الرغم من قصر الفترة الزمنية في انجازهم الفني، او الفترة الزمنية التي تفصلهم عن نحاتي الزمن الحاضر، فكلهم يخضع للزمن الحديث، فما زال عبق ذكرياتهم لمن رافقهم او زاملهم موجودة على قيد الحياة، مما يعني أن المؤثرات مستمرة، حتى وأن لم تتضح بصورة مباشرة على أعمال الجيل الحالي، وهو ما يدركه إياد، ولا ينكره على الرغم من جهده الذي يعمل عليه لبناء الذات المستقلة، التي تعي أهمية التعبير الذي لازم النحت، كونه جزء من فهم الفنان لطبيعة مجتمعه وانفعاله في المشاركة للواقع الذي يعيش فيه، ومدى تأثير الحدث على العمل الفني، ومن هنا فان الرواد ومن جاء بعدهم، لم ينتزعوا وجودهم من الواقع الذي تقتات رؤاهم عليه، ولم يتخلوا عن اللحاق بركب التطورات التي صاحبت العمل الفني والأدبي والفكري، ولكن كيف يمكن لهذه الإحالات النفسية والفكرية، أن تتحول إلى واقع ملموس عبر جمالية الصورة، نحتا ورسما، واستمرار الارتباط بالجذر، أن أحد اختيارات الارتباط في إعمال النحات إياد، هي المنحوتات التي يغلب عليها طابع المصغرات، فن اللقي (المصغرات)، في الفنون الرافدينية، وهو ما نجده في أعمال فنانين عراقيين آخرين، على سبيل المثال وليس الحصر ولكن لكونه ممن يشتغل عليها بكثافة وبرؤية جمالية فيها توهج الواقع مع الفنتازيا، الفنان محمود العجمي، وكما لدى العجمي هذا المزج بين الواقع والحلم وتضخيم الواقع لابراز قيم جمالية غير مرئية، واتساع ساحة الرؤية في هضمه الفن الرافديني برؤيا معاصرة، وابراز الكثافة التعبيرية التي كان يحررها الفنان الرافديني للتاثير على المشاهد، كذلك نجد في أعمال إياد أعطاء مساحة واسعة للواقعية في إعماله ودمج الرؤية الواقعية بالحلمية، وفسح المجال للرؤية التعبيرية في أن تضخ بكثافة من خلال مضامينه، وهذه المصغرات البرونزية التي قدمها في المعارض التي أشترك مع الآخرين او انفرد بعرضها في معرضه الخاص، هي استمرار للتواصل بمنجز الفنان العراقي القديم، ولهذا نجد أن اللمسة الأكاديمية تأخذ أبعادها في أعماله، بناء على الحرفية التي أكتسبها في مداومته على تنمية الخبرة والصقل، ومن خلال البناء الصحيح لتطوير إمكانياته الأكاديمية .
التأسيس الفني وفلسفة العمل
أن أعمال النحات إياد يغلب عليها طابع الانفعال، والحركة العنيفة المصاحبة للشخوص (figures)، جدران تقف حائلا ً بين الإنسان وانطلاقته، لكنه يسعي للانفلات منها وكسر القيود التي تكبله،بالحركة الدافعة، أنها الدهشة وكأنها لحظة استفاقة يسعي للخلاص منها، وهنا تأكيد على الجسد وحركة الأجزاء والعضلات، ولأجل أن يجعل المتلقي مستعدا لتقبل الفكرة يترك الجسد عاريا لإبراز حركة العضلة في الجسد وبناءها الأكاديمي، ولتوضيح الأبعاد التعبيرية بين التقنية والخطاب، فهو يبحث في أغلب أعماله، عن مشكلات الإنسان المعاصر، ولإيجاد الصلة الانطباعية بين مدركاته المعرفية وبناءه العملي، يلجأ إلى تحديد السمات، من خلال قربها من الواقع، ويضع الشخص (figure) ضمن أبعاد رياضية، بين المربع والمستطيل، حتى يتيح للفراغ والكتلة حرية صياغة الفضاء الذي يؤطر العمل، أن تعدد الإعمال التي تبرز فيها حركة الجسد المأسور وهو يحاول فك أسر نفسه، تحيلنا إلى مجمل الصراع الذي يكابده الإنسان بمفرده، أمام عالم واسع لايفهم منه الذي يحدث، أن في أعماله حالة الإنسان وكأنه يستفيق من حلم مزعج، فيجد أنه واقع، مما يضعه في لحظة من العزلة والارتباك، و يتوضح هذا في تخطيطا ته التي يمكن التعرف عليها من خلال الشكل الهندسي الذي يتبعه في تخطيط العمل، وكيف يتعامل مع الفكرة لأجل التطبيق ضمن الرؤية التعبيرية، وتبيان القوى الضاغطة التي هي خارج إمكانياته، بين الخطوط المستقيمة الصلدة وبين الإشكال الهندسية، لرصد حالة التعبير بين الوجه وحركة الجسد، عبر التشكيل الرياضي وحصره في المربع والمستطيل عند التنفيذ، وإلغاء بعض الخطوط، محاولة لفهم الكتلة بمقدار تعبيرها من الداخل، وليس شكلها الخارجي، كما في أعمال رودان الذي يتحدث عن تمظهرها، مثالها (تمثال بلزاك) لاشك أن المضامين بشكلها العام التي يشتغل عليها إياد هي في محصلتها النهائية متقاربة في البحث عن مشكلات الإنسان الأساسية، عدم قدرة الفرد على فهم هذه الآلة الجبارة التي تسحقه كل يوم، أينما حل وأرتحل، أنها نفس الفلسفة التي أنطلق منها جياكومتي قبل عدة عقود، بعد أهوال الحرب، في ترقيق شخوصه للوصول إلى حالة الكشف عن المعاناة، المعاناة الداخلية التي تسحق الإنسان من الداخل، وليس له إلا الاستكانة لعدم قدرته على فعل شئ ما، حتي يتحول الكائن البشري إلى شبح انه بحث ضمن الحقيقة وليس في حل مشكلة الحقيقة، كما في أعمال رضا حداد وإسماعيل الترك وآخرين .
الاسم: بنائية الأعمال عند النحات إياد، تستقي مرجعياتها من عدة مراجع بإبعادها المحلية والعالمية، ولكنه يصوغ خطابه عبر محاولته فهم ذاته، ووجودها وكيفية فهمه لهذه الذات والتعبير عنها، من دون أن تنفلت خارج واقعها ولتجد أرضية تقف عليها، أن الطريق طويل أمام شاب مثل النحات إياد حامد، والزاد قليل، لتحديد أبعاد الرؤيا لديه، ولكن هذا ليمنع أن نقول، إذا استمر علي هذا النهج في البحث والاستقصاء، فانه سيصل ويحقق ما يصبو إليه ، إما إذا أخذه الهوس بتحقيق النجاحات الآنية، بعدم الاستمرار في البحث والتقصي، ورفد ما يملكه من خزين معرفي، فسوف يقع في نفس ما وقع فيه الكثيرون، النسخ والإعادة والتكرار.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق