الأحد، 7 فبراير 2016

أختام*- عادل كامل
















أختام*


عادل كامل
[8] أسئلة
    هل ثمة أسئلة يستحيل صياغتها بالكلمات، ونقلها من مواقعها النائية، إلى الآخر: عبر الكلمات، أو عبر أية لغة، حتى لو كانت تجريدا ً خالصا ً: موسيقا، أو مشفرات لونية، رمزية، أو متعددة الأبعاد، مركبة، مختزلة، محورة، أو مقنعّة بأسلوب يحافظ على ديناميتها الداخلية، بنيتها، كي يبقى على علاقة مع الآخر: ظل الذات، أو المجتمع، أو التاريخ، أو في مواجهة الميتافيزيقا...؟
    بالأحرى، هل ثمة أسئلة تنبثق من غير إجابات (كحفنة رماد لكائنات حية أكملت دورتها في الطبيعة/ الوجود)، بمعنى هل ثمة لا أسئلة، بل امتدادات، لأن ما يحدث للفنان، يحدث للأشجار، أو للطير، أو للقتلة...؟
   على إن الإجابات، هي الأخرى، تخلو من الإثارة، إن لم تكن تتضمن أسئلتها...، بل تخلو إلا من الامتداد ذاته لتلك اللا أسئلة،  بعد تحول الحركة العشوائية، إلى حركة، خارج نطاق الحواس، والحدوس، والمراصد، والمختبرات...؟ مثل فواصل الصمت، في الأصوات: درجات. كالحرارة في ذروتها، تحت درجة الانجماد، أو فوق درجة الغليان.
    ذلك لأن غياب المعيار، في النهاية، يقابل وجود معايير (الهرم): رمز أي اله قديم يأمر رعاياه بالنذور ـ والطاعة، وهي التي تذهب إلى أقدم من برمج نظام (الهرم): سلطة ما أن تهرم، حتى تجد من يعيد إليها قوتها، باستبدال الأقنعة، لكن بالحفاظ على:  اللا ـ سؤال، تحت هيمنة إجابات بعدد الأتباع.
    فما الذي كان يدور في رأس النحات منعم فرات، وهو يحدق في عالم لا تتوازن فيه الإجابات بأسئلتها، ولا الأسئلة بإجاباتها...؟
     أسئلة لا تبلغ نهايتها: اللا معنى، لأن النحات صاغ منها موقفه إزاء الاستحالات.
   وها أنا لا أجد دربا ً يقود إلى خاتمة، فالمقدمات تجرجر نهاياتها وتعبر، لتتشكل المقدمات مرة ثانية، إلى ما لانهاية، ضمن عمل استحالة تكامل الأجزاء. فالمثلث يمتلك تعددية بتعددية حتميات تكونه، لكنها جميعا ً تحكي ما لا يروى، لأن الدوافع ذاتها سابقة على تشكلها، مثلما ستتوارى، عبر أشكالها، مع احتفاظها بكينونتها، بحسب رؤيتي لها أنا المحدود ـ إزاء هذا الذي لا استطيع التعرف عليه بأدواتي ـ لا بالفن، ولا بالكلمات.


[9] خلايا

    عندما تصبح الحياة، بمعناها الكلي، مثل من يقوم بقراءة كوكب تحول إلى حفنة من رماد! كتلة  غير منتظمة اجتمعت فيها الأزمنة، وكل جزء من أجزائها يحكي نهاية ما تجمعت كي تصبح علامة، مع أشياء ماثلة: مجرات ونجوم. فما المعنى المستخلص، لدى الدماغ/ الذات، وهي في الأخير، لا ترى أكثر من توقها لمعرفة هذا الماضي الغائب، المنسحب إلى الخلف، إلى ما لانهاية...؟
    إنها صدمة الاندماج، وديمومته. على أن رهافة هؤلاء الذين تمتعوا بقدرات تنظيمية في صياغة جسور مع هذا الممتد، المتحرك، والمخفي، لم ْ يمنحهم إلا قدرات شبيهة بهذا القليل من الرماد: التحولات، من الاندثار إلى الانبثاق، ومن الأخير إلى الاختفاء، لكنها التي تخفي قانونها. ففي يوم ما لن يكون لأعظم الاكتشافات إلا هامشا ً ثانويا ً إزاء اللا ـ كل، بما يمتلكه من دحض للأبعاد ـ والحدود.
    ها أنا لا استطيع ضبط عمل خلايا دماغي، وهي بعدد نجوم المجرة، ولها صلات ما، بالمجرات غير المكتشفة بعد، وليس باستطاعتي إلا أن أروض دوافعي واجعلها متجانسة مع هذا اللا ـ كل.
    فاكتشف، ببساطة، إن ما أستعيده، لا يذهب ابعد من اندثاره، فالدماغ لا يعمل بإرادتي، لا بحرية مائلة، ولا بعقلانية مروضة، بل عبر باثات تجعل الرماد، بين بين، لونا ً بلا حافات. فعملي ينتظم بالعلل، إنما اكتشف إن هذا كله خارج السيطرة.
   هل للفن هذا المعنى، كي يواصل الذهاب ابعد من مداه.....، أم اللا ـ كل، وقد غدا جزءا ً، لا يمكن عزله عن لاحافاته، وقد تحول إلى ختم: حدود، حافات، لها خصائصها...؟
    كان شاكر حسن يتحايل باللغة كي يمجد كيانا ً، في الأصل، يقع خارج مدى الأدوات. فكنت اعترف له ـ عندما كان الهواء يختلط بالدخان، وعندما كان العقل يتعرض للصدمات ـ بأننا لا نصنع فجوات، بعد أن انشغل الإنسان للاف السنين بصناعة الجسور. نحن، بدخول العالم في أتون العولمة، نتكيف مع عمل البذرة، بالدفن.  إننا لا نضع إلا كل ما يعرقل تخطينا نحو الخلاص. على إن ثوابته لم تصمد، ففي عالم يتعرض إلى التفكيك، نجد رهافته تؤدي دورها في رسوماته، ولعبه، بنشوة أربكت حياته، لكنها ساعدته على الاندماج.
   فهل باستطاعتي أن احمي هذا (اللغز): الدماغ، ولا ادعه يقودني، حيث لا أريد، وإنما أراه، ككتلة رماد استحالت إلى أثير....؟
     انه اللا شكل الذي تتحرر فيه الأشكال، من قيودها، كما يحرر الموت، الموتى، من المبرمجات: انه اللا كل يعيد إلينا غيابنا ـ وحضورنا، ولكن من ذا يستطيع أن يلمح هذا المرور....، والمعنى لا يستطيع أن يجد سكنه حتى في الكلمات؟


[10] ديمومة
  احد الدادائيين صرخ: كلنا دادا. ولكن ليس بمعنى كل الطرق تقود إلى روما، وليس بمعنى إن الضد يظهر ضده، وليس بمعنى يقود إلى التجانس، بفعل الوحدة، بل لأن اللا معنى؛ اللا معنى الخالص، لا يمكن أن يكتمل، إلا عبر هذا الحضور. ذلك لأن شرط الضرورة، شرط آليات ترابط العلل، المغاير لمفهوم: العلة من غير علة، والذي يجعل الصفر سابقا ً على العدد...، يدحض الحرية، ويدحض الديالكتيك، شرط إدراك استحالة استبعاده.  وإلا لكانت الدادا قد تحولت إلى أيديولوجيا، والى: قناع. إنها، عمليا ً، ضد ذلك. ولكنها أيضا ً تمتلك أسباب غيابها.
      هو ذا المنفى السابق، في وجوده، المسرح كالموت وحده يعرف ماذا يفعل، بما ينزله الموت، وكأنه اللغة سابقة حروفها، وكلماتها، أي معناها.
    ولكن المنطق الدادائي، في عمقه، يقترن بالجحيم. مع ان الأخير، لا يليق بالحكماء، فكيف يُنسب إلى الآلهة؟ فالتضاد يبزغ، ويستعيد الجدل ديناميته، فيتم وأد الدادا، كي تحافظ على ديمومتها: اللا معنى الخالص وقد فقد مبرراته، لأن العقاب، في الأرض، وفي الجحيم، هو ثمرة سابقة على النظام الهرمي، وسابقة على إرادة الحياة، ونظريات التطور.
    كل ما حاولته الدادا، ليس الصلح، بل قهر القانون، ولهذا  كانت ذروتها مؤجلة. فالدادائي ولد بجينات لم يساوم عليها، كي يستبدل سلطة بسلطة، ولم يهادن، لأجل سلام يتآخى فيه الذئب مع الحمل، والصياد مع الضحية. انه الفعل الذي رأى فداحة تاريخ عليه أن يطوى، ويمحى من نظام الوراثة. لكن أي حلم هذا من غير سلالة ورثت تحول المستحيلات إلى حكم، لأن الأخير، في الأصل، سيغدو كاتما ً للصدمات ذاتها التي سمحت للنظام الهرمي أن يمتد، وأن لا تكون له نهاية.
     ها هو الدادائي الجديد، أي كل فعل يحفر في  نظام اللا معنى ـ ولكن ليس هو العبث ـ يدّب، ليكتشف إن المواجهة وحدها لها مبرراتها في الطرق على قانون الهرم. لكن الموجودات من غير مركز شبيهة بقاعدة لا رأس لها، كي يكتمل المعنى، مرة أخرى، بصدمة المستحيلات.
    هو ذا المنفى يدجن المنفيين، وهو ذا اللا شكل يغدو: مثلثا ً. فالمنفي، بكل أفعاله، لا يمتد إلا في الأرض ذاتها، ولا ينتج إلا أشباحه. كتلك التي أفقدته صوابه. إنما النهايات، هنا، علامات مرور، وليست تزكيات أو استراحة أو مجدا ً. انه الدادائي الذي تعلم أن يقاوم الوهم العام، ولا يدع بصره، أو أصابعه، أو عقله، أو قلبه، أن يتعلق بالشوائب، بعد أن توحد بما فقده منذ غدا كيانه فاتحة للمستحيل.

* تأملات أثناء العمل ـ وقد سبق أن نشرت حلقات من التجربة تحت عنوان:  أختام معاصرة.

ليست هناك تعليقات: