أختام *
الختم الثاني
عادل كامل
[1] من الظلمات إلى النور
بين أن اترك أصابعي ترسم أشكالا ً لا واعية، أو غير مقصودة، وبين أن اصف العملية لأجل التدوين، إجراء شبيه بأول من رسم المثلث، أو الدائرة، وبين من كان يجد تبريرا ً ـ وتأويلا ً لهما. ثمة مسافة مزدوجة بين التنظير والتطبيق، وهي المسافة التي تتقلص ـ حد التلاشي ـ في التنفيذ، وتتسع في حالة الكتابة، حد التجريد، واللا حافات ـ أو اللا موضوع في نهاية المطاف.
هل كانت أصابعي تؤدي ما كان يدور في راسي ـ أو في كياني ـ من الأصابع إلى المخ، أم أن هناك انحيازا ً للحواس، أو للعقل في سيادة أسلوب أو موضوع محدد في التجربة؟
عندما وجدت نفسي ابتعد عن لون الخامة، وملمسها الطبيعي، وجدت بصري ينبهر بالألوان، فكنت امتلئ بنشوة شبيهة بنشوة طفل اكتشف أن الأرض لن تخذله بما تمنحه من عناية سأجدها ليست رمزية فحسب، بل وجمالية!
وإذا كنت حريصا ً بعدم الخلط بين النادر والتقليدي، وبين الفردي والجمعي، فان للألوان دورا ً مغايرا ً للتخطيط أو للتكوين، وحتى للمعاني. ففي سنوات الجدب العاطفي كانت الألوان لا تشكل جسرا ً ولا علاقة ولا لغة مع الآخرين، وكأنني كنت اعترف ضمنا ً بالعمى اللوني، مما جعلني أكرس سنوات لكتابة (الأوثان) بعد (عند جذر الوردة)، وبعد (ألفية الولد الخجول)، وهي تجارب لا تخفي ذلك اليباب بموت الإنسان، وليس بموت الفن أو موت الفلسفة حسب. ولم يكن هذا اكتشافا ً نظريا ً أو نقديا ً، بل جاء بفعل التجربة ذاتها.
فعندما يشتغل البصر، تكف الأصابع عن تباهيها بدورها. إنها تغدو زوائد كأرجل خنفساء كافكا بعد أن انقلبت ووجدت نفسها في مأزق: لا تعرف ماذا تعمل. على أن أصابعي كانت ترقص ـ إنها تؤدي الدور الذي أومأ إليه بوذا ، وجدنا للرقص. بمعنى أنني ـ هنا ـ رحت استبعد أي اهتمام بالمخالب، وبالدفاعات، والمضمرات العدوانية. فالسلام مع العالم غدا دربا ً متحدا ً مع غاياته. فأنا لا أريد أن أصل إلى نهاية الطريق ـ لا لأنه في الأصل لانهاية له، وإنما لأن الحركة ذاتها تمتلك لغز غايتها في السلام الروحي ـ بل أنا حررت ذاتي من الغاية عدا أنها سكنت الدرب. هذا المشترك بين الخامة والمقدمة سمح للألوان أن تعيد للأختام ـ النصوص المضادة للأثر ولكن السالكة دربه ـ بحجة إنسان لم يعد يجد في عالمه إلا تأملات كائن محكوم بسجن لا أبواب له ولا منافذ. فيا لها من لذّة ملغزة دمجت البصري، المرئي، بما هو ابعد منه، ابعد من رؤية ذرات ذات أطوال تتجاور باختلافها وتنوعها نحو مفهوم للروحي عبر اللذّة.
هل ثمة علاقة ـ صلة ـ ما تسمح للقلب أن يضطرب، أم ذكرى ما تتجدد ـ وتجدد ـ، لبرهة من الزمن، عمل الومضات؟ لا امتلك إجابة دقيقة، وأمينة، مع نفسي، بقدر انشغالي بحركات طفل ـ هو حفيدي ـ راح يذكرني بان العالم مازال حاضرا ً وزاخرا ً بالعطور والصخب.
وجدت بصري يعيد ـ بعد أن كانت الأختام علامات حرصت أن لا أنهكها بالمشفرات ـ معالجة الخامات بألوان طالما غذت سنوات طفولتي: الوان بعدد الذرات، وليس بعدد الأشكال! فالعالم ـ إن كان خارجيا ً أو داخليا ً ـ لم يعد مجموعة قوانين صارمة ومحكمة حد أنها دمجت النهايات بمقدماتها.
على أنني لم أتوقف عن متابعة كتابة فصول رواية استذكر فيها سنوات ما قبل عام 1980، عام الحرب. لكني توقفت لشهرين في الأقل عن الكتابة بسبب زميل كلفني بعمل وجدت نفسي أنجزه بلذة مرة ، وفي الأيام ذاتها (نيسان 2011) كان علي ّ أن أقدم نموذجا ً تخطيطيا ً لنصب كي احصل على مبلغ يساوي راتبي التقاعدي لخمسة أعوام، لكني ـ بدل ذلك ـ وبعد أن تحررت من تكليف زميلي لأيام خلت ستطول ـ انشغلت ـ ليلا ً بمتابعة الدوريات الأوروبية: الاسبانية/ الانكليزية تحديدا ً ـ ثم نهارا ً: أن لا أميز أكانت الألوان هي التي أعادت لي بصري، أم بصري هو الذي سمح لي أن أجد في الألوان عملا ً شبيها ً برسامي الكهوف وهم يؤدون أعمالا ً لم تبلغ نهايتها، في موت الحواس، أو في محوها، أو في جعلها تعمل بلون واحد.
كم استغرقت كي اعرف أن المسؤولية التضامنية بين البشر ـ في عالمنا برمته ـ وحدها تخفي عملا ً ما في حياة لن تبلغ نهايتها، لكني عمليا ً كنت دمجت النهايات بالأمل، والمشهد الكلي بأدق ما تراه الأصابع، لبصر لم يكل عن نسج تجمعت فيه العناصر ذاتها التي ـ أحيانا ً ـ تبدو خارج الرؤيا، والرؤية ـ وخارج مدى حركة الأصابع ـ ونبضات القلب.
كانت للألوان، داخل جدران غرفة مكتظة بالكتب، والصحف، والصور، رائحة طفل ـ هو حفيدي علي زيد ـ تغويني بالحفر في مدافن قلب لم يعمل دائما ً بالمثل السومري: ما من امرأة ولدت ابنا ً بريئا ً قط! ذلك لأنني لم اقلب ـ ولم اعدل ـ المثل بل رحت أوازنه بمضاداته. فالموت ذاته لم يعد إلا لغزا ً تتكون عبره الصيرورات ـ لكنني لم أقع في الغواية، ولم أهلهل لها، ففي الحكاية ذاتها التباساتها، ماضيها ومستقبلها: آثامها/ جدلها/ مفاتيحها/ انغلاقاتها مما جعلها تمتلك قدرة الامتداد، واستكمال دورتها. فانا مادمت لم اقدر على اختيار الموت، لم اختر الحياة كي ارتقي بها إلى النذالة، والعدوانية، والخساسة، بل رحت أعالجها كحقيقة علي ّ أن اترك كياني برمته أن يجاورها، نحو السكن فيها، ومعها، بصياغة ألوان تعيد للأعمى ـ الذي هو أنا ـ دربا ً سمح لي أن أوازن بين اللا وجود ـ والمرئيات، عبر ألوان تتحدث عن شهادة أعمى يمشي من الظلمات إلى النور، ومن العتمة إلى الفناء.
[2] ضد السلعة
الحقيقة الأقل إثارة للجدل ـ ولكنها الأكثر التباسا ً ـ أن الزمن يكمل دورته: إنه لن يرتد. وبمعنى ما كنت أتخيل ـ وأنا في المناطق النائية التي وجدت سكني فيها ـ مشهد اللا زمن: اللا مشهد، فازداد سكينة طالما أحسست أنني جزء من مديات تتخللها ومضات، وتصادماتـ وإشعاعات،فاستنجد بما فعله أسلافي: صناعة دفاعات! فثمة (عدو) ما يهدد اقتلاع كياني، جعلني اكتشف ـ ببساطة ـ أن المفتاح الذي امسك بدورته في القفل هو جزء من كياني ذاته! فلا أجد لذّة توازي عدم إهمالها تشاطرني الشرود: انه ليس الاكتشاف، وليس البحث، إنما هو هذا الذي لا امسك فيه وقد راح يتكوم فيّ، يتناثر مجتمعا ً في أقاصي هذا الشرود. وبمعنى ما فالمشكلة ليست فنية خالصة، أو لها علاقة بلغزها المشفر، والجمالي فحسب، بل بالمراقبة والاستئناف أيضا ً.
ما معنى أن انشغل بعمل أنا ـ هو ـ أول العارفين انه ليس سلاحا ً للدفاع لا عن الجسد، ولا عن النفس. فانا هنا ابلغ ذروة المصالحة. بمعنى ما أنني اكتشف ـ كأسلافي في تدشين الأعمال الشبيهة بالفن ـ أنني احتمي بما اصنعه: مجسمات بدت لي أنها تشبهني، لا كمرآة، بل كأجزاء متناثرة تعمل بنبضات القلب، وبلغز ومضات الوعي، وكأن الإدراك غدا شريكا ً مع الأصابع ومع باقي الحواس في هذه الرؤية ـ والرؤيا. فاكتشف فجوة ثانية تفصلني عن نفسي: ما هذا الوعي الذي غدا سكننا ً ـ وليس له منفذا ً، وليس له خاتمة؟
انه ـ من غير مقدمات ـ أصبح آلية لا سريالية، بل منطقية لكائن مخلوع، وليس مرميا ً أو منفيا ً في الوجود. فانا لا انتمي إلى ارض أو إلى نبات أو إلى قبيلة، بل أصبحت جزءا ً من الكل، بعد أن تحول العمل إلى شاهد علي ّ: فانا لم اربح شيئا ً ، مثلما لم ْ أعد أفكر في الخسارات. فما أنجزه يتجمع من حولي، منه إلي ّ، ومني إليه، ليمنحني رغبة مضادة لترك العمل، أو الانشغال بالصفر، أو بالفراغات. فلم يعد الختم مرآة، ولكنه سمح لي بانشغالات بصرية تخص ما هو قيد الانجاز، وليس بما أنجز، أو كان منجزا ً سلفا ً. أنني أكاد امتلك نظام خلية الخلق البكر: انتظام الومضات، من العوامل المكونة لها، وصولا ً إلى العمل الذاتي الآلي كاستحداث لذات تعلمت المكر، لكن من غير انشغال بالخديعة؛ بالربح أو بالخسارة، أو بما سيقال.
هل صاغ الصانع الأول مثلثاته، خرزه، إشاراته، دماه، خطوطه ومستطيلاته لأنه وجد حريته تنذره بالهزيمة، وبالموت، فجعل منها ـ كما فعل النحل/النمل/ والطير ـ معماره المقنن برهافات وتقانات بالغة الانضباط ـ كي أعيد، في سياق هذا اللاوعي ـ نهايات تحولت إلى غواية، وكلمات، لا امتلك إلا أن اشرع في صياغة مقدماتها، كأنها الضرورة سكنت ألتوق، وكأنه ألتوق وقد قيد بالضرورات....؟!
• تأملات أثناء العمل ـ وقد سبق أن نشرت حلقات من التجربة تحت عنوان: اختما معاصرة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق