الأحد، 1 مايو 2016

أختام*-عادل كامل





















أختام*


عادل كامل
[10] البيت ـ المدينة ـ المدافن


     مهما بدت لي الفضاءات بلا حافات، فانا لم استبعد قدرتي على الحلم، إلا تحت سقف محاط بالجدران، وثمة باب، ونوافذ، وبالجوار، علب وصناديق ومدافن يسكنها شركائي في المشي خلف من سبقهم في المشي، في المصير: من نبات، وبشر، وحيوان، وأشياء، وأسلحة، ودخان، وما لا يحصى من الإشعاعات التي خلفتها الحروب، ومصادر التلوث الأخرى. إن المغارة التي سكنها أسلافي، كالأهرامات في مصر، وكالزقورات في سومر، كانت تتضمن مبادئ واحدة: الحماية.
     لكنني اكتشف، كلما تقدم العمر في ّ، أنني  عار ٍ، ومعزول، ومحاصر بانتهاكات تبدأ بالهواء، والضوء، والضوضاء، والمداهمات، والشكوك، والتصادمات، مما يجعل الغايات ـ مهما بدت رصينة ـ مجاورة لعدمها. فانا رأيت ملاين الذين ذهبوا، كما رحلت مليارات الكائنات، لم يخلفوا سوى غبار لم تعد الريح ـ ولا مياه المحيطات ـ على دفنه. أنني محاصر بذرات لا مرئية تكّونت وتراكمت وجعلت المأوى، والسكن، والزقاق، والمدينة، والقارة، والأرض، مكانا ً لا يصلح حتى للموت!
     إنها ليست استغاثة رمزية، مشفرة، بل لأن الإنسان الأول الذي صنع (ختمه) الشبيه بمنحوتات جايكوماتي أو لوحات روفائيل أو رسومات غويا أو منحوتات منعم فرات، كانوا يمتلكون رهافة ـ أحاسيس ـ بالغة الرقة. إنها ليست رخوة أو سلبية، أو علامة وهن، أو شرود مرضي، بل كانت دعوى للإبقاء على توازنات استثنائية بين العدم ـ وبقاءها، وبين تجددها.
     تلك التي سكنت الختم، مازالت تفصح عن لا وعي الصانع النائي: كضرب من محاولات الطيران خارج دخان وضوضاء وأسواق ومعسكرات وحروب وأشلاء وخرائب عالمنا. إدامة جبروت اقل الكيانات مشاهدة: القلب!
     بهذا الهاجس كانت النافذة، الباب، الزقاق، الجدران، ونماذجي البشرية، محاولة لترميم الحلم وقد غدا يأخذ طريقه إلى الخفاء. إن التأويل، لا يفضي إلى مساومة، لكني لست بحاجة إلى آخر ـ ضمن مكان وزمان وتاريخ وملغزات ـ لا تعمل إلا على انتزاع ما غدا خارج سلطتي: الحلم.  فانا تركت حريتي تعمل كي لا أجد من يعمل على انتزاعها مني. هل أنا في عالم لا يستحق الدفن، كي لا أصوّر هذه الأبعاد في أشكال مستمدة من الزقاق/ ومن نسوة تحولن إلى نباتات، ومخلوقات أخرى إلى فطريات، ومن أحلام لا وجود لها إلا عبر رصد الفراغات، للذهاب بحثا ً عن بقع تسكن المجهول: هذه الوجوه الخالية إلا من موتها، جرجرتني إليها، كي أجد نفسي، مثلها، لا اسمح لأصابعي إلا بأقل الحركات: الحفر فوق خامات اعتني بمنحها حياتها النائية. فانا ـ مثلها ـ اجهل لماذا لا استطيع أن اكف عن النظر، والشم، والإصغاء، إلى عالم فرغّ حتى من مرور زواله، في ما يسمى تصوّرات، وحضارة.
     أليس الختم ـ بمعنى الفن ـ ذريعة لرؤية لم ابلغ ذروتها إلا وأنا أدشن مقدماتها: الباب، ووجه صديق دفن في الرمال، والهة ركنت في المتحف، ومقدسات لا توجد إلا في الكتب، ونداءات حيوات تحتضر قبل ولادتها، وغوايات احكم صنعها، كي أجد أن ما تبقى لديّ، من الوهم أو من الأمل ينسج منديله، أو كفنه، من حولي، كأني في عيد، أو في جنازة، وأنا أتأمل حبيبات الزمن، شاردة هي الأخرى، حيث أجد من يخفيني، في أختامي، كي أعيد دورة البذرة: دورة البراءة وقد كونتها مراراتها، وقسوتها. حتى تكاد أن تكون شبيهة بمصير أيوب أو العادل المعاقب في سومر، لكن قبل خمسة آلاف عام، فهل أنا هو الختم، أم الختم ذاته غدا يحمل علامة هذا الذي كونته العناصر ذاتها، التي كونت صانعي أسلحة الموت، وناسجي خطابات أمراء الحروب، وتجار الأسواق، وغاسلي الأموال، ومهندسي سجوننا، ومشيدي جدرانها، وصانعي مفاتيحها، بدءا ً من غرفتي إلى نيويورك، ولندن، وطوكيو، وباقي الأختام الزاخرة بلغز كثافتها المعدة للزوال، أم علي ّ أن لا أعود للبحث على عصا تدلني على آخر امشي خلف ظله فحسب، بل أن لا ادع أيا ً كان أن يتتبع ظلي، ويمشي خلف غبار عويل مصمّت، تتشتت فيه رقصات ذعر، وابتسامات موجزة، لقلب لم يفقد أجنحته، أو لأصابع مازالت مشفرة بذكرى الطيران.  أين هو من لا وجود له كي اغويه بلحظة الصفر: أن أقول له بروحي أن لا يدع الصمت يوحدنا، كما وحدتنا البغضاء، بأختام أصابع كنا منحناها هذا الضياء، بل الشروع بسفر كانت خاتمته، قد شيعته، قبل أن تتكون مقدماته، وقبل أن احتفل بصناعة أختامي في نهاية المطاف!
[11] موت الفن ام رؤيته مدمرا ً؟
     اذا كان (هيغل) قد لمّح، في كتابة (فلسفة الحق)،  إلى إشكالية تحول الروحي إلى تاريخ، وتحول طقوس العبادة إلى وظيفة، واللامادي إلى (سلعة)، معلنا ً عن موت: الفن، فان التقنيات، وهي تتوغل بالكشف عن عوالم ـ وأبعاد ـ بدت، لزمن قريب، ضربا ً من اليوتوبيا، فان تراكمات المعرفة، والعلمية منها تحديدا ً، لا في دحض الفلسفات، والثوابت، بل في اكتشاف مستحدثات تكاد تغادر مقدماتها. فإننا ـ  وقد كتب (توفلر) كتابة (صدمة المستقبل) في سبعينيات القرن الماضي ـ في كل ثانية، نلحظ مشهدا ً، وعالما ً، لم يكن وجوده قائما ً حتى في المخيال.
     يا له من أسى يدب بصمت ـ لكن بعناد ـ نحو الداخل؛ في الخلايا كما في نبضات القلب، وومضاته، ويسكن بجوار طاقة الحياة، وبرنامجها الذي لن ـ ولم ـ يسمح بدحضه أو التخلي عنه. فكنت اسأل نفسي ـ وهو عمل آلي للدماغ في اشتغالاته الملغزة ـ اذا ما كنت لا اصنع إلا علامات تفصلني عن جسدي، وعن مدينتي، وعن من أحب، فلِم َـ كالنمل البشري ـ لم ْ انحز إلى رؤية جمعية لا افسد فيها سكينتي؟ هل ثمة إيذاء شفاف استبدلته كمعاقبة للأخر نحو النفس، مما جعلني أبدو بنظر أكثر زملائي (مذعورا ً/ وخائفا ً) ـ وهم في الغالب يتسترون على خفايا طالما جعلتني ازداد فرحا ً بالعزلة، وليس هذا الذي يجهل لماذا مكث يشاركهم عفن أهدافهم المحملة بنوايا الصياد وقسوته؟ لم يكن الانشغال خارج المتاجرة بالفن، ولعا ً ذاتيا ً، أو أخلاقيا ً فحسب، بل توقا ً للحفر في هذا الذي ـ كلما توغلت فيه ـ لا أراه إلا مجهولا ً، أو لا وجود له. إن نموذجا ً كـ (ق ـ س)، ومنذ تسعينيات القرن الماضي، أسهم بحرف الفن العراقي ـ وتلك كانت كلمات إسماعيل فتاح ومحمد محمد مهر الدين ود.علاء بشير ومحمد غني حكمت ـ ودفعه نحو نهايته، عبر تسريبـ وخلع، وتهريب أفضل أعمال روادنا، جعلني ازداد عنادا ً بعدم الخوض في نزاع محبط النتائج. فانا لم أفق من تحول الفن إلى سلعة، بالمعنى ألتدميري، إلا بعد أن سلبني ـ هو إلى جانب زملاء آخرين ـ خلاصة جيل الرواد، ووضعني عند حافة الخراب. صحيح انه شيّد سكنا ً بشطارته التجارية، لكنه لم يفلح بسلب ذلك الذي تأسست عليه أعظم الأرواح براءة. ذكرت هذا المثال في سياق انحسار مساحة الفن، بعد هجرة مئات الفنانين، وتخلي الآخرين عن المشاركة في احتفالات الأقنعة، والمكاسب المحكومة بالنسيان، والتندر، لان لغز أختام سومر وأكد، ومن قبلها الدمى والقلائد ورسومات المغارات، مكثت ـ في عالم موت الفن وموت الإنسان ـ خارج عمل السوق، وخارج وهم حريات التجارة، وسلطة البنوك، والشركات عابرة الروح ـ وليس عابرة القارات ـ عندما يكون الفنان قد حسب للدورات عملها، وعودتها، حلقة في سلسلة مترابطة، مع جذورها.  فمن يتذكر تبرع ببيع رموز عرف كيف يحولها إلى (دراهم/ أو دولارات)، ويدرب الآخرين، على استنساخ تجارب أجنبية، من اجل الربح! لكن تجربة فائق حسن ـ وان هربوا الكثير من روائعه ـ لن تزول من الذاكرة، لأنها ببساطة ستستعاد طالما يستعيد الفنان بصره، وأصابعه، وقلبه، بدل أن يخضع لمغريات الربح، والتجارة.
    هل ستكون أختامي محض إجابات لأسئلة خارج منطق شراسة السوق...؟ وماذا افعل بها، وهي تتراكم، وأنا لم اعد بحاجة إلى لص يسرقني، أو يساومني عليها، سوى أن أتمسك بإجابة خالصة: ليس لدي الوقت، ولا الرغبة، لمعرفة من هذا الذي لا وجود له، وقد سكنني، وصرت أجد نفسي أتكّون، في كل ختم، تاركا ً مسافة اللاحافات، والدنيا، وأنا أغلق باب داري، كي لا ادفن في الأرض التي أنا فيها، أشلاء عناصر لكائنات ذات مخالب، وأنياب، ولدغات، ووشايات، حد خساسة الواشي، والمنتمي إلى زمر مصاصي الدماء ... سوى أن أحول (ختمي) إلى ذات الحجارة التي كانت توضع فوق قلب الميت، الذي كف أن يكون صيادا ً، أو ضحية.  حجارة تتوحد بمصير مازال الرهان عليه قائما ً، لان الميت ـ في مصائر الذين سيموتون ـ يمتد عبر علاماتهم: عبر دورات مهمتها إدامة: التداول، ومنح الاستهلاك غوايته الأبدية!
[12] المكان ـ المخفي مرئيا ً
     ما ـ هو ـ المكان، قبل أن أتعثر في تحديد ما اذا كان هو: الرحم، أم هو الزمن متجمدا ً، لبرهة، أم هو حدود المساحة، المجاورة لمساحة، في إطار: لا حافات له، أم ـ هو ـ: نفيه؟  لأن المكان، في الأصل، اشترط النسبية في القياس، أم ـ هو ـ: القبر، أم هو: موضع الاختفاء، التواري، التستر، كي يغدو حصنا ً، (قلعة)، متحفا ً، جمجمة، كهفا ً، أم شيئا ً شبيها ً بالقاصة: للتراكم، والحفظ، ورمزا ً لديمومة الشغل، ومنح الغد قدرة الامتداد بماضيه، والانفصال عنه في حدود استحالة بتر السلسلة أو قطعها..؟
     الختم ـ منذ كان للمكان هويته، بيولوجيا ً، أو مكانا ً مختارا ً، أو مستحدثا ًـ أداة عمل ـ وثمرته. فهو يتضمن الخاتمة بمقدماتها. فهو شبيه بالحرف، لغة، وهو علاقة تتضمن مشفراتها، ببوح مكتوم، غير معلن، إلا الذي يصعب نطقه، أو ـ هو ـ إعلانه، كي يمارس ديمومة النموذج بديمومة صانعه.
     فانا ـ منذ راحت أصابعي تلهو ـ وبعد عقود، لا أجد تعريفا ً للختم، لا يتضمن إضافة، حد الدحض.
     ففي عالم تتسع المسافات فيه بين المقدمة ـ في العلم أو في الجريمة أو في الثراء ـ وبين من مازال يفتقد شروط حياة سكان المغارات، بين من غادر (الحرية) وبين من يجهلها، بين استحالة أن يفكر، وبين من وثب خارج آليات التفكير، بين الصفر ـ في التكرار ـ وبين الباحث عن الجوهر، ليس فلسفيا ً، أو نظريا ً أو علميا ً فحسب، بل بالتخلي عن المسلمات: أدوات الاتصال، وعاداتها، ومثنوية التضاد، نحو أبعاد ـ ربما ـ تسمح لعر ما بعد: عصر الختم/ الهوية/ العنف/ وهو عصر المجهريات ذاته الذي يرجع إلى مخلوقات السواحل بعد أن تكونت شروطها: شروط المكان ـ فيما سيبقى لغز الزمن ـ خارج حدود أدوات التعريف.
     الختم المعاصر، عمل، عبر الأسواق، كبضائع، وحولت الصانع نفسه ـ بعد موت الإنسان وموت اللغة وموت الفن ..الخ ـ إلى علامة للتداول. فغدا الختم يعمل خارج الاغتراب القديم. هل استطعت أن أصل إلى مقاربة لتحديد مفهوم: حداثة؟ كي أضع فاصلا ً بين عمل: اليد/ الفكر، وعمل: الفكر/ الثقافات وهي تتوغل في المجهول؟ حداثة ـ وما بعدها/ وعولمة ونقيضها ـ وحداثة ارتداد، في عالم لم يغادر عصره (الجرثومي)، بل ازداد تشبثا ً بترك الاشتباك بعيدا ً عن معايير الأخلاق، وذهب ابعد من استخدامه لأقنعتها. فالختم ـ الأثر ـ لهذا الاشتباك، يحكي ما دوّنه (ماني) و (شوبنهاور) عن: دمج الحرية بقيودها، من الوجود إلى العدم، ومن بكتريا السواحل إلى الرأسمالي الذي يتحكم بحرية الأسواق، والمباشرة بعصر يكاد ينفصل عن ماضيه القريب. فالعالم لم يعد مجموعة مساحات تسكنها مجموعات بشرية، تحمل غايات مشتركة، بل على العكس ـ غدا عالما ً يعمل بحسابات اللا مرئيات. فالأختام تحكي نهاية مأزق، وفاتحة وعود يستطيع فيلسوف كبرنرادرسل ـ أن يرى لها مستقبلا ً منغلقا ً. والأمر لن يختلف في حقول الفلسفة، والفيزياء، والأخلاق. وذلك لأن أي تعريف ـ لا يعّرف ـ إلا بضده. إنها الحلقة ذاتها التي كونت صانع أقدم الأختام: المغارة، والنقش فوق عظام الموتى، وصناعة الدمى، والقلائد، والخرز. انه السحر الذي مارس لذته، ورمزيته، ومشفراته، منذ البدء وصولا ً إلى عمليات إعادة بناء كيانات مغايرة لهذا التراكم. فالمعاني ـ الماهيات/ الجواهر ـ لا علاقة لها بعلامات التداول، لا في اللغة، ولا في الرياضيات. فالوجود في الأصل، لا يقع في المرئي، مما سيمنح تراكمات السحر وثبة يصعب تخيل نهايتها ـ مادامت مقدماتها قد منحت العشوائية حدها الأقصى: حريات بلا حافات.
     هو ذا ختمي يتكون باستحالة وضع معنى أخير له. انه شبيه بهذه الحروف تنسج دربا ً لا اعرف اهو الذي يقودني، أم أنا ـ هو ـ الذي أتعثر في متاهاته؟ فأنا ليس لديّ العمر ـ مهما امتد/ ومهما بلغ ـ للعثور على ارتواء عدا ترك العالم يجاورني بانتظار دورته تكتمل بزمنها. فهل أنا مشيت، أم حوّمت، أو لم اخف وثبات حيوان هارب من مفترسيه، أم بنظام الكترون قيد بعمله في حدود الذرة، والأرض، والمجموعة الشمسية، والمجرة، وبالأكوان ...؟ من ذا لديه، حتى لو تمتع بزمن أول الخلق حتى نهايته ـ إجابة لا تجد من يدحضها! ألست، في النهاية، لا انسج إلا عمل اليد/ الرأس، فوق هذه المناديل، أو فوق هذه الأكفان، أو أضعها في النار، أو اتركها تتحول إلى أثير، والى لا مرئيات، أختاما ً وجدت كي تغويني ـ تغوينا ـ بزمن زوالها، كي ننشغل بها، وفي أعماقنا يتوارى هذا الذي طالما تقدمنا، وأحيانا ً، لا نعرف ـ لا أعرف ـ كيف حررنا من قيودنا، ولكن ـ بحسب الحواس/ والعقل ـ قيدنا بما سنكون عليه، وبما يريد ـ هو ـ لا بما نريد، إلا بتوارينا في ممراته، وطرقه، ومخفياته في نهاية المطاف!


* التجربة الشخصية في تحولاتها، ومتغيراتها: الفن بوصفه يعمل ضد الوهم ـ والغياب. وقد سبق أن نشر الجزء السابع في (سومريننت).



ليست هناك تعليقات: