زوال وقصص قصيرة أخرى
عادل كامل
[1] زوال
ـ سيدي...، لم تعد هناك حشرة، ولم يعد هناك طيرا ً...، ولم تعد هناك دابة، ولم يعد هناك من يزحف أو يسبح أو يغوص...، ولم يعد هناك أيا ً من المفترسات ولا من البرمائيات، لا من ذات القرن الواحد ولا ذات القرون المزدوجة ...، خارج سيطرتنا!
قال المسؤول الأول المتحكم بالمصائر لقائده، بانتظار الرد. الآخر الصامت أشار لحرسه بحركة لا مرئية بانتهاء اللقاء، فتم جرجرته، من غير صخب، وإرساله إلى المجهول.
ـ الآخر.
نطق القائد الذي كان منشغلا ً بتأمل الحد الفاصل بين السماء والأرض.
دخل الآخر، وآذن له القائد بالكلام:
ـ سيدي...، لم نبق، لدى إناث البحر، ولا لدى إناث البر...، لم نبق جنينا ً لدى إناث المفترسات، ولا الزواحف ...، لم نبق كل من تكّون، وكل من هو قيد التكون، بعد حسابات بالغة الرهافة، الشفافية، والدقة بمراقبة كل من لم يتكون بعد....
سكت بسبب ابتسامة القائد، فآذن له بالمتابعة:
ـ سيدي...، لم يعد لأي جنين، في أي رحم، داخل حديقتنا، وخارجها، إلا وغدا مراقبا ً، مراقبة تامة: متى تكون، كيف تكون...، وكل ما يحمله من ملغزات، ومشفرات، ومن نزوات محتملة، وغير محتملة...، فقد درسنا اللا متوقع كأساس لذروة علومنا المستحدثة...، وصرنا نحدد ذلك بسلاسة ونعومة ورقة متناهية...، فقد درسنا كل الأزمنة التي مهدت لوجوده، من ثم تحديد ساعة مغادرته الظلمات...، والخروج بما سينطق به...، بل وبأعماله قبل أن يشرع القيام بها، وشخصنا نواياه ومنها التي يجهلها هو ذاته....، كما اعددنا اللا احتمالات واللا متوقعات في سياق أوامرك العليا، ووفق منهجكم الخالد ....، سيدي!
بحبور لا إسراف فيه، هز القائد رأسه، وسأله:
ـ تحدثت عن اللا متوقع...، فهل تتوقع أن تكون المعارضة محتملة لدى الأجنة التي لم تتضافر عوامل نشأتها بعد...؟
ـ نعم، سيدي، فقد درسنا النظام اللا متوقع بوصفه غير متوقع لاستحداث كل ما سيتم استحداثه ...، ثم رحنا نراقب التراكمات وتحولاتها،، أي درسنا المخفيات وما تعلنه، المحذوف والظاهر، وكل ما سينشأ عن ذلك....، من تداخلات، وانصهار، ومركبات لا متوقعة تعزز مسارات ديمومتها ما دامت وجدت بحكم استحالة غير ذلك.... فعملنا على استحداث برمجة تلقائية ذات أبعاد لا نهائية فائقة المدى تعمل بقانون اللا متوقع بوصفه مرسخا ً لحضوره بقدراته على الغياب.... وقد غدا برنامجنا تحت السيطرة...، والمراقبة ...، فليس ثمة احتمالات قط أن يتكون أي جنين في أي رحم من الأرحام إلا وفق هذا القانون، سيدي!
أومأ القائد لحرسه أن يعاد إلى حفرته، من غير أذى، متمتما ً بصوت نشوان:
ـ لم يبقوا لي شيئا ً اخترعه، وأتكلم فيه...، العلماء الأوغاد، عدا ...أن أبقى اعرف انه لم يعد هناك شيئا ً بالإمكان معرفته، بعد أن اخترعوا كل ما أراه ينتهي بالاندثار، والزوال!
[2] صدق
بعد أن بلغت الأزمات ذروتها، سأل الأب أفراد عائلته:
ـ ماذا نفعل...؟
رد الجد الهرم بصوت واهن:
ـ إذا كنا نتعذب بسبب تلوث المياه، فان الهرب والبحث عن بلاد فيها مياه صالحة للشرب سيقودنا إلى الموت! وإذا كنا تآلفنا مع الظلمات فان العثور على ارض تشرق فيها الشمس ستكون سببا ً لهلاكنا....، وإذا كنا تكيفنا مع قانون الذئاب فان العثور على حديقة لا ذئاب فيها سيدفعنا إلى الجنون، والى الانتحار..، وإذ كان الظلم، يا أحفادي، ويا أحفاد أحفادي، قد منحنا قدرة المقاومة بصمت، فان الحرية التي سنحصل عليها لن تكون إلا سببا ً بزوالنا!
قال الأب، وهو الزعيم الشاب للقطيع:
ـ شكرا ً لك أيها الجد العظيم...، فقد آن لك أن ترحل!
فقال الجد حالا ً:
ـ أنا لن اهرب معكم بحثا ً عن ملاذ .
فقال الأب بصوت حاد:
ـ نعم...، لن تهرب معنا، لأنك سترحل إلى المكان الذي جئت منه!
ـ آه .....، الم اقل لكم أن القليل من الصدق خير من الأبدية حتى لو كانت وحدها لا تكذب!
[3] رحمة
ـ سيدي، لم نبق أحدا ً طلب الرحمة إلا ورحمناه.
ـ جيد...، وماذا عن الآخرين الذين لم يطلبوا الرحمة؟
ـ كنا نرسلهم، سيدي، بأفواه مغلقة...!
ـ وماذا عن سواهم؟
ـ سيدي، كنا نرسل فاقدي الأنوف أولا ً، ثم فاقدي البصر ثانيا ً، ثم فاقدي اللمس، ثم فاقدي الذيول، في البدء...، ثم فاقدي الرؤوس...، أخيرا ً..
ـ وماذا عن هؤلاء الأشرار....؟
ـ سيدي، لم يبق شرير إلا وطلب العفو...، وطلب الغفران، فكنا ـ بحسب أوامرك ـ نسرع في الاستجابة، من غير إبطاء أو تأخر...، بل كنا، يا سيدي، حتى من لا يطلب شيئا ً نلبي أوامرك حالا ً ...، قبل أن يفكر بطلب الرحمة، أو العفو!
[4] لحظة تفكير
تساءل الذئب، من داخل قفصه، بصوت مسموع:
ـ أحيانا ً ...، أكاد أفطس من الضحك..، فانا الآن اجهل تماماً: هل نحن نراقب الخراف، والماعز، والجاموس، والبعران، والنعاج من وراء القضبان، أم هم الذين يراقبوننا...؟
رد احد الخرفان:
ـ يا صديقي...، أنا لم يعد يشغلني هذا السؤال...، لأنني صرت أتساءل، بعد أن أدركت عبث الأسئلة، ولا معناها، بل ولا جدواها: من هذا الذي صار يراقبنا جميعا ً؟
ضحك الذئب:
ـ ها أنت ترغمني أن أقول: هل هناك تسلية ما، أم كأن الأمر وجد للأسباب ذاتها لو كانت غائبة؟
ـ ها أنت، أيها الذئب، أصبحت تفكر...، فوضعوك في القفص! أما نحن النعاج، الخراف، الجاموس، الماعز، والحملان، فها أنت ترانا أحرار...، طلقاء، ومن غير قيود!
رد الذئب ضاحكا ً:
ـ أنا اعتقد حد الإيمان بأننا لو فكرنا لفقدنا رؤوسنا أيضا ً!
ـ ها أنا أسألك: هل هم يفكرون فيك، أم أنت هو من يفكر فيهم؟
ـ لا احد يفكر نيابة عن الآخر...، فالسفينة عندما تغرق...، تجعل أكثر الطالبين للنجاة أسرعهم إلى الهلاك!
ـ آ...، ها أنت تفكر بحدود فضاء قفصك! أما نحن النعاج، نحن الماعز، نحن الجاموس، نحن البعران، نحن الخراف....، فلا يسمح لنا الموت حتى بلحظة تفكير!
[5] خلود
مكث الكلب يخاطب نفسه وهو يترنح:
ـ الجرذ الذي لا تقدر على سحقه كن عبدا ً له كي لا يعترض على صمتك!
فقفز جرذ اسود أمامه وقال له ساخرا ً:
ـ أنا أيضا ً كنت أقول: الهر الذي لا تستطيع أن تفلت منه اذهب وقدم أولادك وزوجتك وأمك وجدتك نذورا ً له! فالعبد لن يصبح حرا ً إلا بالمزيد من العبودية!
ـ وماذا فعلت أنت؟
ـ بحثت عن الأولاد فلم أجد سواك!
ـ سيدي...، أنا كنت اقصد: إذا كنت لا تستطيع الهرب من العدو...، والتخلص من شره...، فاذهب إليه وقل له: آن لك أن تنتصر نصرا ً مؤزرا ً! فالقضية، يا سيدي الجرذ، في الأصل: باطلة. فما دمت لا تستطيع أن تحافظ حتى على خسائرك، فهل لنصرهم معنى ماداموا لم ينتصروا إلا على بهائم لم يشغلها إلا كيف يحصلوا على الخلود، والأبدية!
[6] مكاسب
ـ لم يبق لدى شيء اخسره ...، لا يوجد هواء صالح للتنفس، ولا ماء صالح للشرب، لا تراب للزرع، ولا علف أتلهى به...، لا حفرة احتمي بها، ولا شق يخلصني...، حتى الموت تركني وصار يسخر مني...، فماذا افعل...؟
رفع رأسه وراقب المكان لعله يسمع صوتا ً يأتيه من وراء كثبان الرمال...، وعندما سمع صدى صوته ظن انه تلقى صوتا ً يواسيه...، فقال بمسرة مكتومة:
ـ فلن أعاقب إذا ً...، إن لم أكن نجوت...، فانا لم اشرب ماء ً صالحا ً، ولا تنفست هواء ً نقيا ً، ولا افترست نعجة أو تحرشت بحمل ...، فانا لم أجد أرنبا ً ولم اعثر حتى على طير ميت....، وعندما حاولت أن أحصي خسائري وجدت إنني لم اخسر شيئا ً يذكر...، لأن ربحي بلغ ذروته، فانا لم أجد شيئا ً اعتدي عليه، فانا لم اعتد على الماء، ولا على الهواء، ولا على التراب، ولا حتى على هذه الرمال! ومع ذلك اسمعهم يقولون: يا للكنوز التي اغتنمها، ويا للمجد الذي حصلت عليه!
[7] مفارقة
تمتم مع نفسه، بعد أن قرر الانسحاب والعودة إلى داخل حفرته، بصوت مكتوم:
ـ عندما تصبح الحياة أكثر قسوة من الموت، يتوارى الأخير، ويختفي، حتى تظن أن وجوده وهما ً....، وعندما تجده، مصادفة، تكتشف انك رحت تتشبث أن تكون القسوة مضاعفة، حتى لو لم تكن هناك حياة تذكر!
[8] مأزق
ـ أكل هذا يحدث من اجل أن يبقى الخرتيت سيدا ً علينا ...، ومن اجل أن يبقى الخنزير أميرا ً، ويتحكم الضبع بمصائرنا ....؟
أجابت الغزال رفيقتها الحائرة، وهما يراقبان المشهد عن قرب:
ـ ولكن ماذا عن أفعال هؤلاء الأشرار...، فأنا أسألك ِ: أكل هذا الدمار، والتنكيل، والهدم، ومحونا من الوجود من اجل مكاسب، هم يعرفون إنها لن تدوم طويلا ً...؟
شرد ذهن الغزال لحظة، وتساءلت:
ـ الغريب إننا لم نعد نفكر إلا بزوالهم، ولم نعد نفكر بخلاصنا...؟
فردت غاضبة:
ـ يا حمارة! حتى لو نجونا من الخراتيت، ومن الخنازير، ومن الضباع...، وحتى لو نجونا من هؤلاء الأشرار البشر، بأفعالهم المروعة...، فهل سننجو من الموت بحثا ً عن سلام لا وجود له؟
[9] منطق
ـ أصبحت لا تخاف أن تموت...؟
ـ يا حمار....، لقد أصبحت لا أخاف أن أعيش!
[10] توبة
شاهد الديك ابن أوى يعد العدة لأداء فريضة الحج، فلم يصدق، فسأله:
ـ آمل..، سيدي، انك ـ بعد العودة ـ ستتوب؟
لم يدع ابن أوى الديك يكمل عبارته، فامسك به من عنقه:
ـ لو لم تنطق بهذا الكلام لكنت تبت! فما الذي أنطقك؟
ـ قبل أن تفترسني، وتذهب لطلب الغفران، والتوبة، سأخبرك ... لو سمحت لي بالنطق...!
ـ يا شاطر...، أنا لم أصبح أثما ً إلا بسبب غباؤكم...، ولكني لم أصبح عالما ً حقيقيا ً إلا وأنا أتذوق مرارة التوبة، بعد تذوق حلاوة هذه الخطيئة!
[11] خلاص
ـ أيها الحمل الغريب...، لماذا أصبحت تفرط في مدح الذئاب...، والتغني بأمجادها، والرقص لبطولاتها...، حتى انك لم تعد تخشى أن تفترسك، وتهلك؟
ـ أيها العزيز....، يا صديقي الذئب...، إنها ستفعل ذلك، حتى لو صمت!
ـ لكن ألا تخشى أن ينكشف سرك عند القطيع، وتصبح خائنا ً!
ـ يا صديقي... أنا لن اكف عن المدح، والثناء، حتى أراها ميتة أمامي! فانا مازلت اخترع لها المزيد من المدائح، والمزيد من الأناشيد! أما صحبي فلن يجدوني كي يعرفوا كم كانوا هم السبب بهذا كله، قبل أن أصبح وحيدا ً بين هذه المخالب، وأصبح معزولا ً بين هذه الذئاب!
ـ ولكنك ستموت قبلها؟
ـ أنا ... يا صديقي الذئب، سأموت بعد أن أراها ارتوت حد الثمالة من مدائحي، لأنني لن اخسر شيئا ً عدا هذه الأوهام، فلِم َ لا تدعني أموت وأنا اجهل متى ولدت، كي اعرف متى أموت؟ فلا الذئاب ستشبع منا، ولا نحن لدينا ممرا ً آخر للخلاص! فما الحياة سوى هذا الفاصل ولن يدوم أكثر من زمن زواله! فهل أنا هو من سن سنن هذه الخطيئة، كي تتهمني بالعار؟ ثم متى كانت الخيانة وصمة عار...، وأنت ترى الدنيا أمست حديقة عامرة بالذئاب، والضباع، والخنازير؟
[12] لا تتعجل
ـ ليسقط الإمبراطور ...، ليسقط الغول الطاغية...، !
جرجره رفيقه بقوة ليمنعه من الهتاف، والصراخ، خشية أن تسمعه كلاب الحراسة، المنتشرة في إرجاء الغابة....، فسأله:
ـ ماذا تفعل..، هل جننت...، ألا تخشى أن تهلك وأنت تهتف بسقوط زعيمنا الخالد؟
قرب رأسه منه، وهمس بحذر:
ـ هو... طلب ... مني ذلك!
ـ الزعيم الخالد هو من طلب منك أن تهتف بسقوطه! رباه ...، ماذا تقول؟
لم يدعه يكمل كلامه، متابعا ً:
ـ كي اجمع اكبر عدد من المتمردين، المعارضين، والمستضعفين ..، كي اجمع الثائرين، والمقاومين، والشرفاء...!
فصرخ في وجهه:
ـ ها أنت أصبحت تعمل لصالح الطاغية ...، أيها الخائن؟
ـ لا... لا تتعجل...، مع أن جميع البهائم خلق على عجل...، فانا نفسي كنت أؤمن باستحالة سقوطه...، وزوال إمبراطوريته، حتى لو كانت دولته من تبن، أو من ورق...، أو من عبيد! فهل سمعت أن أرنبا ً ـ مثلي ـ يقدر على هدم عرش هذه الإمبراطورية التي يتزعمها هذا الغول الخالد، الذي لا يموت.....؟
وأضاف بصوت خفيض:
ـ ثم إنني ـ للحق ـ كنت اعمل على كشف من فقد قوته، وفقد كرامته، وصار خرقة، كي يرى الرب...، الجليل نفسه، مصائر أبناءه العميان وهم يذهبون إلى المجهول!
[13] أنا وأنت
ـ تقول لي...؛ الحرب عمياء، وهي لم تترك لنا شيئا ً لم تدمره، وترسله إلى المجهول...، فماذا عملت لو كانت مبصرة؟
ـ لو كنت امتلك الإجابة، يا صديقي، لصغت أسئلة لم يسبقها زوالها قبل أن تسألها أنت، وقبل أن استمع إليها أنا، فأنت تعرف أنا لا اعرف هل الحرب عمياء حقا ً، أم إنها ـ في الغالب ـ مبصرة بإفراط، ولا احد أعمى إلا أنا وأنت؟
[14] غبار
قال القرد لرفيقته وهما يراقبان ـ عبر شاشة الحديقة ـ مشاهد الحرب:
ـ كأنني لا أرى بشرا ً يتحاربون، ويتصارعون، بل مجموعة آلات صماء تدمر بعضها البعض الآخر، بهدوء، بنعومة، وشفافية!
رد الآخر:
ـ لو لم يفعلوا ذلك، يا رفيقتي، فالأرض ستكتظ بهم، وتغدو غير صالحة للسكن !
ـ آ ...، كأنك وجدت مبررا ً لديمومة الحرب، وليس لنهايتها؟
ـ اقتربي مني، أيتها العزيزة...
وأضاف هامسا ً:
ـ إن لم يفعلوا ذلك...، فالمصانع ستغلق أبوابها، لأن الحرب ليست اختراعا ً تم استحداثه اليوم..، بل هي، في الأصل، من اخترع هذه الدمى وهذه المجسمات وهذه الكتل التي يسمونها بشرا ً ....، لتتسلى بما تفعل، لأنها تجني المزيد من الإرباح!
تساءلت بذعر:
ـ ما الربح...، وقد تحولت الحياة إلى غيوم رمادية تملأ الفضاء والى غبار بارد، والى أثير لا لون له!
ـ اذهبي واسألي من صنع هذا الشر.....، أما الأشرار، فهم، مثلي ومثلك، ضحايا أبرياء!
ـ ها أنت، يا رفيقي الغالي، تدافع عن الأشرار أيضا ً، بعد أن بررت سفك الدماء، وهدر الأرواح، وتخريب الممتلكات؟
ـ يا رفيقتي الطيبة، الم ْ نمض حياتنا نلوذ بحثا ً عن مكان آمن لا أشرار فيه، وكلما ظننا إننا عثرنا على ضالتنا، ونجونا، لا نكتشف إلا وقد طوقنا من الجهات كلها، وسدت علينا الأبواب، وأغلقت علينا النوافذ، والمنافذ....، فبعد أن عثرنا على هذه الحديقة، ووضعونا في هذا القفص..، في هذا المكان النائي...، وضعوا لنا هذه الشاشة وقالوا لنا: تفرجوا...، وتمتعوا بما يحدث في العالم!
ـ ولكني لا أريد أن اعرف....، فانا لم اعد احتمل رؤية هذه المجازر، وهذا الخراب.
رد بابتسامة ساخرة:
ـ أنا أيضا ً كلما حاولت الهرب من هذا الصخب أجد أني وقعت في صخب اشد وأقوى، فانا مهما حاولت تجنب التفكير أجد أنني ازداد تفكيرا ً...!
ـ والحل...؟
ـ فكري، أيتها الغالية، وكأنك لم تولدي ...
ـ تقصد ... أفكر وكأنني مت، وغبت عن الحياة برمتها؟
ـ دعك ِ من هذه التصورات، والأمثلة العقيمة، وعيشي كما يتحرك الغبار من مكان إلى آخر فهو غير مسؤول عن وظائفه! عيشي كالدخان فهو لا يولد ولا يموت...، لأنه يمر عبر هذه الدروب، والفضاءات، والفراغات...، لا يكل ولا يتعب ولا يصيبه الإعياء!
ـ ها أنت تدعوني إلى الخمول، بل والى الموت... بعد أن بررت وجود الحرب، ووجدت سببا ً يسبق وجود الأشرار...، وها أنت لا تعترض على الغبار ...أيضا ً؟
ـ رفيقتي...، لو كنت اقدر على الاعتراض...، لكنت صهرتك بروحي ومت، بدل أن تشغليني بضوضاء اجهل متى تخلصنا من هذه الحديقة، بل ومن هذا الوجود!
[15] غبار الحرية
ـ هذا الذي يسقط علينا، من السماء، ليس مطرا ً، والعاصفة ليست من تراب...، إن هذا الذي ينهال علينا، سيدي، لا يشبه حتى الحجارة...، فالحديقة تهدمت أسوارها، وطمرت حفرها، وخربت أقفاصها، والدخان الأسود ازداد توهجا ً وصار بلون الفجر!
ـ اسكت، اسكت، هذه هي الحرية!
ـ ألا ترى النار لم تبق حجرا ً، ولا ممرا ً، ولا سارية، ولا شجرا ً، ولا مرتفعا ً...إلا وحولته إلى غبار...
ـ اخرس! الم اقل لك هذه هي الحرية!
ـ آه....، فهمت، سيدي فهمت: فها نحن نعود إلى المكان الذي خرجنا منه...، بأمان وسلام وهدوء وشفافية ...
ـ نعم....، لأن الموت هو ذروة الحياة، مثلما الصمت هو أعلى الأصوات، وهذا الدخان المتوهج ما هو إلا مفتاح الخلاص وقفله.
ـ لكنني، سيدي، لا اقدر على التصفيق، والهتاف، والرقص...ابتهاجا ً بالتحرير!
ـ اسكت، فحتى لو صفقت، أو رقصت، أو هتفت، فلا احد يسمعك....
ـ لكني سأصرخ...، فانا أتوجع!
ـ لا تفعل، لا تفعل، لأن الحرب لن تنتهي إلا بعد تلاشى أصواتنا، وتكف قلوبنا عن الخفقان!
[16] مصائر
قبل أن تبتلع الأفعى الفأر الذي صادفها، سألها بذعر:
ـ لماذا تفعلين هذا ..؟
فقالت من غير تفكير:
ـ لِم َ اعترضت طريقي، وأنا خرجت ابحث عن الطعام من شدة الجوع..
فقال :
ـ وأنا أيضا ً خرجت ابحث عن الطعام لصغاري..
بعد فترة صمت وجيزة، سألها:
ـ إذا أنت تبتلعيني بسبب الجوع؟
ـ لا! بل لأنك اعترضت طريقي!
ـ آ ...، كنت أظن انك تفعلين هذا بسبب الجوع، مثل صغاري، سيموتون من الجوع لو لم اذهب واجلب لهم الطعام.
رق قلب الأفعى، وسألته:
ـ أتعدني انك ستعود لو أطلقت سراحك؟
ـ أعدك...، طبعا ً.
هرول مسرعا ً، اختفى، وراحت تنتظره فترة من الزمن، حيث عاد الفأر، فلم تصدق، فقالت له بهدوء:
ـ الآن...، قررت أن لا افترسك مادمت كنت صادقا ً معي.
تسمر الفأر في مكانه وقال:
ـ ولكنني عندما ذهبت إليهم، لم أجدهم...، فالأفاعي الأخرى لم تترك أحدا ً..!
[17] إصغاء
سأل الخنزير جده المسن، عندما رآه منشغلا ً بالبحث عن الديدان:
ـ هل حقا ً عليك أن تمضي حياتك كلها لا تبحث إلا عن الفضلات، والحشرات، كي تصبح، في نهاية المطاف، طعاما ً في بطون أصحاب هذه المزرعة ...؟
ضحك الجد، وأجاب:
ـ ولكن عليك أن تعرف إن هؤلاء السادة، أصحاب هذه المزرعة، ليس باستطاعتهم الهرب من الديدان أبدا ً!
ـ كأنك، يا جدي، تتحدث عن قصة كتبت قبل أن نؤدي أدوارنا فيها؟!
فطس الخنزير الجد من الضحك:
ـ وهل هناك قصة...، تروى، جديرة بالإصغاء؟
[18] حكمة
اضرب الحمار عن تناول الطعام، ولم يعد يقوى على الوقوف...، فخاطبه حمار سمين:
ـ لن تنجو....، فان لم يرسلوا لحمك إلى الذئاب، أو إلى السباع، لن تنجوا من الكلاب السائبة.
رفع الحمار رأسه بصعوبة، وقال:
ـ أنا أفضل أن يذهب لحمي إلى الديدان!
صدم الحمار السمين، برده، وسأله:
ـ هل هذه هي خلاصة حكمتك؟
أجاب بصوت واهن:
ـ لو كانت لدى حكمة، أيها الحمار السمين، لعرفت كيف اطردها من رأسي، وأموت كأنني حصلت على الخلود!
[19] اختيار
ـ هيا ...، أسرع، دعنا نهرب، فالطوفان سيجرفنا ويرسلنا إلى الجحيم...؟
ـ دعنا نموت، هنا، بدل أن ننجو بانتظار أن نلقى حتفنا في مكان آخر!
ـ آ ...، انك تجدف، أيها المتشائم، وهذا ضد الشريعة؟
ـ آ ..، صحيح، ولكن اخبرني: هل تستطيع أن تفلت منها، حتى لو منحتك حرية الاختيار بين أن تفطس غرقا ً، أو تهلك عطشا ً في الصحراء؟!
[20] خوف
بعد أن انتشر خبر استيلاء الذئاب على قطعان المواشي، والإسطبلات، والزرائب، كان ثمة حمل يسأل أمه، من وراء الدغل:
ـ أراك غير خائفة من الموت؟
قربت رأسها منه، وردت بلامبالاة:
ـ لا! لأنني الآن أدركت كيف لم اشعر بالخوف طوال حياتي من الذئاب، فلماذا أخاف منها ونحن لم نخلق إلا للموت!
6/5/2016
Az4445363@gmail.com
عادل كامل
[1] زوال
ـ سيدي...، لم تعد هناك حشرة، ولم يعد هناك طيرا ً...، ولم تعد هناك دابة، ولم يعد هناك من يزحف أو يسبح أو يغوص...، ولم يعد هناك أيا ً من المفترسات ولا من البرمائيات، لا من ذات القرن الواحد ولا ذات القرون المزدوجة ...، خارج سيطرتنا!
قال المسؤول الأول المتحكم بالمصائر لقائده، بانتظار الرد. الآخر الصامت أشار لحرسه بحركة لا مرئية بانتهاء اللقاء، فتم جرجرته، من غير صخب، وإرساله إلى المجهول.
ـ الآخر.
نطق القائد الذي كان منشغلا ً بتأمل الحد الفاصل بين السماء والأرض.
دخل الآخر، وآذن له القائد بالكلام:
ـ سيدي...، لم نبق، لدى إناث البحر، ولا لدى إناث البر...، لم نبق جنينا ً لدى إناث المفترسات، ولا الزواحف ...، لم نبق كل من تكّون، وكل من هو قيد التكون، بعد حسابات بالغة الرهافة، الشفافية، والدقة بمراقبة كل من لم يتكون بعد....
سكت بسبب ابتسامة القائد، فآذن له بالمتابعة:
ـ سيدي...، لم يعد لأي جنين، في أي رحم، داخل حديقتنا، وخارجها، إلا وغدا مراقبا ً، مراقبة تامة: متى تكون، كيف تكون...، وكل ما يحمله من ملغزات، ومشفرات، ومن نزوات محتملة، وغير محتملة...، فقد درسنا اللا متوقع كأساس لذروة علومنا المستحدثة...، وصرنا نحدد ذلك بسلاسة ونعومة ورقة متناهية...، فقد درسنا كل الأزمنة التي مهدت لوجوده، من ثم تحديد ساعة مغادرته الظلمات...، والخروج بما سينطق به...، بل وبأعماله قبل أن يشرع القيام بها، وشخصنا نواياه ومنها التي يجهلها هو ذاته....، كما اعددنا اللا احتمالات واللا متوقعات في سياق أوامرك العليا، ووفق منهجكم الخالد ....، سيدي!
بحبور لا إسراف فيه، هز القائد رأسه، وسأله:
ـ تحدثت عن اللا متوقع...، فهل تتوقع أن تكون المعارضة محتملة لدى الأجنة التي لم تتضافر عوامل نشأتها بعد...؟
ـ نعم، سيدي، فقد درسنا النظام اللا متوقع بوصفه غير متوقع لاستحداث كل ما سيتم استحداثه ...، ثم رحنا نراقب التراكمات وتحولاتها،، أي درسنا المخفيات وما تعلنه، المحذوف والظاهر، وكل ما سينشأ عن ذلك....، من تداخلات، وانصهار، ومركبات لا متوقعة تعزز مسارات ديمومتها ما دامت وجدت بحكم استحالة غير ذلك.... فعملنا على استحداث برمجة تلقائية ذات أبعاد لا نهائية فائقة المدى تعمل بقانون اللا متوقع بوصفه مرسخا ً لحضوره بقدراته على الغياب.... وقد غدا برنامجنا تحت السيطرة...، والمراقبة ...، فليس ثمة احتمالات قط أن يتكون أي جنين في أي رحم من الأرحام إلا وفق هذا القانون، سيدي!
أومأ القائد لحرسه أن يعاد إلى حفرته، من غير أذى، متمتما ً بصوت نشوان:
ـ لم يبقوا لي شيئا ً اخترعه، وأتكلم فيه...، العلماء الأوغاد، عدا ...أن أبقى اعرف انه لم يعد هناك شيئا ً بالإمكان معرفته، بعد أن اخترعوا كل ما أراه ينتهي بالاندثار، والزوال!
[2] صدق
بعد أن بلغت الأزمات ذروتها، سأل الأب أفراد عائلته:
ـ ماذا نفعل...؟
رد الجد الهرم بصوت واهن:
ـ إذا كنا نتعذب بسبب تلوث المياه، فان الهرب والبحث عن بلاد فيها مياه صالحة للشرب سيقودنا إلى الموت! وإذا كنا تآلفنا مع الظلمات فان العثور على ارض تشرق فيها الشمس ستكون سببا ً لهلاكنا....، وإذا كنا تكيفنا مع قانون الذئاب فان العثور على حديقة لا ذئاب فيها سيدفعنا إلى الجنون، والى الانتحار..، وإذ كان الظلم، يا أحفادي، ويا أحفاد أحفادي، قد منحنا قدرة المقاومة بصمت، فان الحرية التي سنحصل عليها لن تكون إلا سببا ً بزوالنا!
قال الأب، وهو الزعيم الشاب للقطيع:
ـ شكرا ً لك أيها الجد العظيم...، فقد آن لك أن ترحل!
فقال الجد حالا ً:
ـ أنا لن اهرب معكم بحثا ً عن ملاذ .
فقال الأب بصوت حاد:
ـ نعم...، لن تهرب معنا، لأنك سترحل إلى المكان الذي جئت منه!
ـ آه .....، الم اقل لكم أن القليل من الصدق خير من الأبدية حتى لو كانت وحدها لا تكذب!
[3] رحمة
ـ سيدي، لم نبق أحدا ً طلب الرحمة إلا ورحمناه.
ـ جيد...، وماذا عن الآخرين الذين لم يطلبوا الرحمة؟
ـ كنا نرسلهم، سيدي، بأفواه مغلقة...!
ـ وماذا عن سواهم؟
ـ سيدي، كنا نرسل فاقدي الأنوف أولا ً، ثم فاقدي البصر ثانيا ً، ثم فاقدي اللمس، ثم فاقدي الذيول، في البدء...، ثم فاقدي الرؤوس...، أخيرا ً..
ـ وماذا عن هؤلاء الأشرار....؟
ـ سيدي، لم يبق شرير إلا وطلب العفو...، وطلب الغفران، فكنا ـ بحسب أوامرك ـ نسرع في الاستجابة، من غير إبطاء أو تأخر...، بل كنا، يا سيدي، حتى من لا يطلب شيئا ً نلبي أوامرك حالا ً ...، قبل أن يفكر بطلب الرحمة، أو العفو!
[4] لحظة تفكير
تساءل الذئب، من داخل قفصه، بصوت مسموع:
ـ أحيانا ً ...، أكاد أفطس من الضحك..، فانا الآن اجهل تماماً: هل نحن نراقب الخراف، والماعز، والجاموس، والبعران، والنعاج من وراء القضبان، أم هم الذين يراقبوننا...؟
رد احد الخرفان:
ـ يا صديقي...، أنا لم يعد يشغلني هذا السؤال...، لأنني صرت أتساءل، بعد أن أدركت عبث الأسئلة، ولا معناها، بل ولا جدواها: من هذا الذي صار يراقبنا جميعا ً؟
ضحك الذئب:
ـ ها أنت ترغمني أن أقول: هل هناك تسلية ما، أم كأن الأمر وجد للأسباب ذاتها لو كانت غائبة؟
ـ ها أنت، أيها الذئب، أصبحت تفكر...، فوضعوك في القفص! أما نحن النعاج، الخراف، الجاموس، الماعز، والحملان، فها أنت ترانا أحرار...، طلقاء، ومن غير قيود!
رد الذئب ضاحكا ً:
ـ أنا اعتقد حد الإيمان بأننا لو فكرنا لفقدنا رؤوسنا أيضا ً!
ـ ها أنا أسألك: هل هم يفكرون فيك، أم أنت هو من يفكر فيهم؟
ـ لا احد يفكر نيابة عن الآخر...، فالسفينة عندما تغرق...، تجعل أكثر الطالبين للنجاة أسرعهم إلى الهلاك!
ـ آ...، ها أنت تفكر بحدود فضاء قفصك! أما نحن النعاج، نحن الماعز، نحن الجاموس، نحن البعران، نحن الخراف....، فلا يسمح لنا الموت حتى بلحظة تفكير!
[5] خلود
مكث الكلب يخاطب نفسه وهو يترنح:
ـ الجرذ الذي لا تقدر على سحقه كن عبدا ً له كي لا يعترض على صمتك!
فقفز جرذ اسود أمامه وقال له ساخرا ً:
ـ أنا أيضا ً كنت أقول: الهر الذي لا تستطيع أن تفلت منه اذهب وقدم أولادك وزوجتك وأمك وجدتك نذورا ً له! فالعبد لن يصبح حرا ً إلا بالمزيد من العبودية!
ـ وماذا فعلت أنت؟
ـ بحثت عن الأولاد فلم أجد سواك!
ـ سيدي...، أنا كنت اقصد: إذا كنت لا تستطيع الهرب من العدو...، والتخلص من شره...، فاذهب إليه وقل له: آن لك أن تنتصر نصرا ً مؤزرا ً! فالقضية، يا سيدي الجرذ، في الأصل: باطلة. فما دمت لا تستطيع أن تحافظ حتى على خسائرك، فهل لنصرهم معنى ماداموا لم ينتصروا إلا على بهائم لم يشغلها إلا كيف يحصلوا على الخلود، والأبدية!
[6] مكاسب
ـ لم يبق لدى شيء اخسره ...، لا يوجد هواء صالح للتنفس، ولا ماء صالح للشرب، لا تراب للزرع، ولا علف أتلهى به...، لا حفرة احتمي بها، ولا شق يخلصني...، حتى الموت تركني وصار يسخر مني...، فماذا افعل...؟
رفع رأسه وراقب المكان لعله يسمع صوتا ً يأتيه من وراء كثبان الرمال...، وعندما سمع صدى صوته ظن انه تلقى صوتا ً يواسيه...، فقال بمسرة مكتومة:
ـ فلن أعاقب إذا ً...، إن لم أكن نجوت...، فانا لم اشرب ماء ً صالحا ً، ولا تنفست هواء ً نقيا ً، ولا افترست نعجة أو تحرشت بحمل ...، فانا لم أجد أرنبا ً ولم اعثر حتى على طير ميت....، وعندما حاولت أن أحصي خسائري وجدت إنني لم اخسر شيئا ً يذكر...، لأن ربحي بلغ ذروته، فانا لم أجد شيئا ً اعتدي عليه، فانا لم اعتد على الماء، ولا على الهواء، ولا على التراب، ولا حتى على هذه الرمال! ومع ذلك اسمعهم يقولون: يا للكنوز التي اغتنمها، ويا للمجد الذي حصلت عليه!
[7] مفارقة
تمتم مع نفسه، بعد أن قرر الانسحاب والعودة إلى داخل حفرته، بصوت مكتوم:
ـ عندما تصبح الحياة أكثر قسوة من الموت، يتوارى الأخير، ويختفي، حتى تظن أن وجوده وهما ً....، وعندما تجده، مصادفة، تكتشف انك رحت تتشبث أن تكون القسوة مضاعفة، حتى لو لم تكن هناك حياة تذكر!
[8] مأزق
ـ أكل هذا يحدث من اجل أن يبقى الخرتيت سيدا ً علينا ...، ومن اجل أن يبقى الخنزير أميرا ً، ويتحكم الضبع بمصائرنا ....؟
أجابت الغزال رفيقتها الحائرة، وهما يراقبان المشهد عن قرب:
ـ ولكن ماذا عن أفعال هؤلاء الأشرار...، فأنا أسألك ِ: أكل هذا الدمار، والتنكيل، والهدم، ومحونا من الوجود من اجل مكاسب، هم يعرفون إنها لن تدوم طويلا ً...؟
شرد ذهن الغزال لحظة، وتساءلت:
ـ الغريب إننا لم نعد نفكر إلا بزوالهم، ولم نعد نفكر بخلاصنا...؟
فردت غاضبة:
ـ يا حمارة! حتى لو نجونا من الخراتيت، ومن الخنازير، ومن الضباع...، وحتى لو نجونا من هؤلاء الأشرار البشر، بأفعالهم المروعة...، فهل سننجو من الموت بحثا ً عن سلام لا وجود له؟
[9] منطق
ـ أصبحت لا تخاف أن تموت...؟
ـ يا حمار....، لقد أصبحت لا أخاف أن أعيش!
[10] توبة
شاهد الديك ابن أوى يعد العدة لأداء فريضة الحج، فلم يصدق، فسأله:
ـ آمل..، سيدي، انك ـ بعد العودة ـ ستتوب؟
لم يدع ابن أوى الديك يكمل عبارته، فامسك به من عنقه:
ـ لو لم تنطق بهذا الكلام لكنت تبت! فما الذي أنطقك؟
ـ قبل أن تفترسني، وتذهب لطلب الغفران، والتوبة، سأخبرك ... لو سمحت لي بالنطق...!
ـ يا شاطر...، أنا لم أصبح أثما ً إلا بسبب غباؤكم...، ولكني لم أصبح عالما ً حقيقيا ً إلا وأنا أتذوق مرارة التوبة، بعد تذوق حلاوة هذه الخطيئة!
[11] خلاص
ـ أيها الحمل الغريب...، لماذا أصبحت تفرط في مدح الذئاب...، والتغني بأمجادها، والرقص لبطولاتها...، حتى انك لم تعد تخشى أن تفترسك، وتهلك؟
ـ أيها العزيز....، يا صديقي الذئب...، إنها ستفعل ذلك، حتى لو صمت!
ـ لكن ألا تخشى أن ينكشف سرك عند القطيع، وتصبح خائنا ً!
ـ يا صديقي... أنا لن اكف عن المدح، والثناء، حتى أراها ميتة أمامي! فانا مازلت اخترع لها المزيد من المدائح، والمزيد من الأناشيد! أما صحبي فلن يجدوني كي يعرفوا كم كانوا هم السبب بهذا كله، قبل أن أصبح وحيدا ً بين هذه المخالب، وأصبح معزولا ً بين هذه الذئاب!
ـ ولكنك ستموت قبلها؟
ـ أنا ... يا صديقي الذئب، سأموت بعد أن أراها ارتوت حد الثمالة من مدائحي، لأنني لن اخسر شيئا ً عدا هذه الأوهام، فلِم َ لا تدعني أموت وأنا اجهل متى ولدت، كي اعرف متى أموت؟ فلا الذئاب ستشبع منا، ولا نحن لدينا ممرا ً آخر للخلاص! فما الحياة سوى هذا الفاصل ولن يدوم أكثر من زمن زواله! فهل أنا هو من سن سنن هذه الخطيئة، كي تتهمني بالعار؟ ثم متى كانت الخيانة وصمة عار...، وأنت ترى الدنيا أمست حديقة عامرة بالذئاب، والضباع، والخنازير؟
[12] لا تتعجل
ـ ليسقط الإمبراطور ...، ليسقط الغول الطاغية...، !
جرجره رفيقه بقوة ليمنعه من الهتاف، والصراخ، خشية أن تسمعه كلاب الحراسة، المنتشرة في إرجاء الغابة....، فسأله:
ـ ماذا تفعل..، هل جننت...، ألا تخشى أن تهلك وأنت تهتف بسقوط زعيمنا الخالد؟
قرب رأسه منه، وهمس بحذر:
ـ هو... طلب ... مني ذلك!
ـ الزعيم الخالد هو من طلب منك أن تهتف بسقوطه! رباه ...، ماذا تقول؟
لم يدعه يكمل كلامه، متابعا ً:
ـ كي اجمع اكبر عدد من المتمردين، المعارضين، والمستضعفين ..، كي اجمع الثائرين، والمقاومين، والشرفاء...!
فصرخ في وجهه:
ـ ها أنت أصبحت تعمل لصالح الطاغية ...، أيها الخائن؟
ـ لا... لا تتعجل...، مع أن جميع البهائم خلق على عجل...، فانا نفسي كنت أؤمن باستحالة سقوطه...، وزوال إمبراطوريته، حتى لو كانت دولته من تبن، أو من ورق...، أو من عبيد! فهل سمعت أن أرنبا ً ـ مثلي ـ يقدر على هدم عرش هذه الإمبراطورية التي يتزعمها هذا الغول الخالد، الذي لا يموت.....؟
وأضاف بصوت خفيض:
ـ ثم إنني ـ للحق ـ كنت اعمل على كشف من فقد قوته، وفقد كرامته، وصار خرقة، كي يرى الرب...، الجليل نفسه، مصائر أبناءه العميان وهم يذهبون إلى المجهول!
[13] أنا وأنت
ـ تقول لي...؛ الحرب عمياء، وهي لم تترك لنا شيئا ً لم تدمره، وترسله إلى المجهول...، فماذا عملت لو كانت مبصرة؟
ـ لو كنت امتلك الإجابة، يا صديقي، لصغت أسئلة لم يسبقها زوالها قبل أن تسألها أنت، وقبل أن استمع إليها أنا، فأنت تعرف أنا لا اعرف هل الحرب عمياء حقا ً، أم إنها ـ في الغالب ـ مبصرة بإفراط، ولا احد أعمى إلا أنا وأنت؟
[14] غبار
قال القرد لرفيقته وهما يراقبان ـ عبر شاشة الحديقة ـ مشاهد الحرب:
ـ كأنني لا أرى بشرا ً يتحاربون، ويتصارعون، بل مجموعة آلات صماء تدمر بعضها البعض الآخر، بهدوء، بنعومة، وشفافية!
رد الآخر:
ـ لو لم يفعلوا ذلك، يا رفيقتي، فالأرض ستكتظ بهم، وتغدو غير صالحة للسكن !
ـ آ ...، كأنك وجدت مبررا ً لديمومة الحرب، وليس لنهايتها؟
ـ اقتربي مني، أيتها العزيزة...
وأضاف هامسا ً:
ـ إن لم يفعلوا ذلك...، فالمصانع ستغلق أبوابها، لأن الحرب ليست اختراعا ً تم استحداثه اليوم..، بل هي، في الأصل، من اخترع هذه الدمى وهذه المجسمات وهذه الكتل التي يسمونها بشرا ً ....، لتتسلى بما تفعل، لأنها تجني المزيد من الإرباح!
تساءلت بذعر:
ـ ما الربح...، وقد تحولت الحياة إلى غيوم رمادية تملأ الفضاء والى غبار بارد، والى أثير لا لون له!
ـ اذهبي واسألي من صنع هذا الشر.....، أما الأشرار، فهم، مثلي ومثلك، ضحايا أبرياء!
ـ ها أنت، يا رفيقي الغالي، تدافع عن الأشرار أيضا ً، بعد أن بررت سفك الدماء، وهدر الأرواح، وتخريب الممتلكات؟
ـ يا رفيقتي الطيبة، الم ْ نمض حياتنا نلوذ بحثا ً عن مكان آمن لا أشرار فيه، وكلما ظننا إننا عثرنا على ضالتنا، ونجونا، لا نكتشف إلا وقد طوقنا من الجهات كلها، وسدت علينا الأبواب، وأغلقت علينا النوافذ، والمنافذ....، فبعد أن عثرنا على هذه الحديقة، ووضعونا في هذا القفص..، في هذا المكان النائي...، وضعوا لنا هذه الشاشة وقالوا لنا: تفرجوا...، وتمتعوا بما يحدث في العالم!
ـ ولكني لا أريد أن اعرف....، فانا لم اعد احتمل رؤية هذه المجازر، وهذا الخراب.
رد بابتسامة ساخرة:
ـ أنا أيضا ً كلما حاولت الهرب من هذا الصخب أجد أني وقعت في صخب اشد وأقوى، فانا مهما حاولت تجنب التفكير أجد أنني ازداد تفكيرا ً...!
ـ والحل...؟
ـ فكري، أيتها الغالية، وكأنك لم تولدي ...
ـ تقصد ... أفكر وكأنني مت، وغبت عن الحياة برمتها؟
ـ دعك ِ من هذه التصورات، والأمثلة العقيمة، وعيشي كما يتحرك الغبار من مكان إلى آخر فهو غير مسؤول عن وظائفه! عيشي كالدخان فهو لا يولد ولا يموت...، لأنه يمر عبر هذه الدروب، والفضاءات، والفراغات...، لا يكل ولا يتعب ولا يصيبه الإعياء!
ـ ها أنت تدعوني إلى الخمول، بل والى الموت... بعد أن بررت وجود الحرب، ووجدت سببا ً يسبق وجود الأشرار...، وها أنت لا تعترض على الغبار ...أيضا ً؟
ـ رفيقتي...، لو كنت اقدر على الاعتراض...، لكنت صهرتك بروحي ومت، بدل أن تشغليني بضوضاء اجهل متى تخلصنا من هذه الحديقة، بل ومن هذا الوجود!
[15] غبار الحرية
ـ هذا الذي يسقط علينا، من السماء، ليس مطرا ً، والعاصفة ليست من تراب...، إن هذا الذي ينهال علينا، سيدي، لا يشبه حتى الحجارة...، فالحديقة تهدمت أسوارها، وطمرت حفرها، وخربت أقفاصها، والدخان الأسود ازداد توهجا ً وصار بلون الفجر!
ـ اسكت، اسكت، هذه هي الحرية!
ـ ألا ترى النار لم تبق حجرا ً، ولا ممرا ً، ولا سارية، ولا شجرا ً، ولا مرتفعا ً...إلا وحولته إلى غبار...
ـ اخرس! الم اقل لك هذه هي الحرية!
ـ آه....، فهمت، سيدي فهمت: فها نحن نعود إلى المكان الذي خرجنا منه...، بأمان وسلام وهدوء وشفافية ...
ـ نعم....، لأن الموت هو ذروة الحياة، مثلما الصمت هو أعلى الأصوات، وهذا الدخان المتوهج ما هو إلا مفتاح الخلاص وقفله.
ـ لكنني، سيدي، لا اقدر على التصفيق، والهتاف، والرقص...ابتهاجا ً بالتحرير!
ـ اسكت، فحتى لو صفقت، أو رقصت، أو هتفت، فلا احد يسمعك....
ـ لكني سأصرخ...، فانا أتوجع!
ـ لا تفعل، لا تفعل، لأن الحرب لن تنتهي إلا بعد تلاشى أصواتنا، وتكف قلوبنا عن الخفقان!
[16] مصائر
قبل أن تبتلع الأفعى الفأر الذي صادفها، سألها بذعر:
ـ لماذا تفعلين هذا ..؟
فقالت من غير تفكير:
ـ لِم َ اعترضت طريقي، وأنا خرجت ابحث عن الطعام من شدة الجوع..
فقال :
ـ وأنا أيضا ً خرجت ابحث عن الطعام لصغاري..
بعد فترة صمت وجيزة، سألها:
ـ إذا أنت تبتلعيني بسبب الجوع؟
ـ لا! بل لأنك اعترضت طريقي!
ـ آ ...، كنت أظن انك تفعلين هذا بسبب الجوع، مثل صغاري، سيموتون من الجوع لو لم اذهب واجلب لهم الطعام.
رق قلب الأفعى، وسألته:
ـ أتعدني انك ستعود لو أطلقت سراحك؟
ـ أعدك...، طبعا ً.
هرول مسرعا ً، اختفى، وراحت تنتظره فترة من الزمن، حيث عاد الفأر، فلم تصدق، فقالت له بهدوء:
ـ الآن...، قررت أن لا افترسك مادمت كنت صادقا ً معي.
تسمر الفأر في مكانه وقال:
ـ ولكنني عندما ذهبت إليهم، لم أجدهم...، فالأفاعي الأخرى لم تترك أحدا ً..!
[17] إصغاء
سأل الخنزير جده المسن، عندما رآه منشغلا ً بالبحث عن الديدان:
ـ هل حقا ً عليك أن تمضي حياتك كلها لا تبحث إلا عن الفضلات، والحشرات، كي تصبح، في نهاية المطاف، طعاما ً في بطون أصحاب هذه المزرعة ...؟
ضحك الجد، وأجاب:
ـ ولكن عليك أن تعرف إن هؤلاء السادة، أصحاب هذه المزرعة، ليس باستطاعتهم الهرب من الديدان أبدا ً!
ـ كأنك، يا جدي، تتحدث عن قصة كتبت قبل أن نؤدي أدوارنا فيها؟!
فطس الخنزير الجد من الضحك:
ـ وهل هناك قصة...، تروى، جديرة بالإصغاء؟
[18] حكمة
اضرب الحمار عن تناول الطعام، ولم يعد يقوى على الوقوف...، فخاطبه حمار سمين:
ـ لن تنجو....، فان لم يرسلوا لحمك إلى الذئاب، أو إلى السباع، لن تنجوا من الكلاب السائبة.
رفع الحمار رأسه بصعوبة، وقال:
ـ أنا أفضل أن يذهب لحمي إلى الديدان!
صدم الحمار السمين، برده، وسأله:
ـ هل هذه هي خلاصة حكمتك؟
أجاب بصوت واهن:
ـ لو كانت لدى حكمة، أيها الحمار السمين، لعرفت كيف اطردها من رأسي، وأموت كأنني حصلت على الخلود!
[19] اختيار
ـ هيا ...، أسرع، دعنا نهرب، فالطوفان سيجرفنا ويرسلنا إلى الجحيم...؟
ـ دعنا نموت، هنا، بدل أن ننجو بانتظار أن نلقى حتفنا في مكان آخر!
ـ آ ...، انك تجدف، أيها المتشائم، وهذا ضد الشريعة؟
ـ آ ..، صحيح، ولكن اخبرني: هل تستطيع أن تفلت منها، حتى لو منحتك حرية الاختيار بين أن تفطس غرقا ً، أو تهلك عطشا ً في الصحراء؟!
[20] خوف
بعد أن انتشر خبر استيلاء الذئاب على قطعان المواشي، والإسطبلات، والزرائب، كان ثمة حمل يسأل أمه، من وراء الدغل:
ـ أراك غير خائفة من الموت؟
قربت رأسها منه، وردت بلامبالاة:
ـ لا! لأنني الآن أدركت كيف لم اشعر بالخوف طوال حياتي من الذئاب، فلماذا أخاف منها ونحن لم نخلق إلا للموت!
6/5/2016
Az4445363@gmail.com
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق