الثلاثاء، 31 مايو 2016

هل الصور عالمية؟ - ندى الشبوط



هل الصور عالمية؟


ندى الشبوط


يتوقف تفسير الأعمال الفنية على مجموعة من العوامل المرتبطة بتاريخ ومجتمع وثقافة الأعمال ومفسّريها. حتى في عصر يهيمن عليه القطاع المرئي، تبقى الترجمة والتفسير من الأدوات الأساسية، مع أن التعقيدات تلازمهما لا محالة. إننا ندرك حتماً أن معنى الصورة مبني - وأن الكلمة تشكل جزءاً من هذا البناء. وفي حالة الفن الحديث والمعاصر المنتج في الشرق الأوسط، تزداد العلاقة بين المرئي واللفظي تعقيداً بفعل مجموعة من العوامل التي تعيق حالياً النهوض بالمعرفة في هذا المجال.
أولاً، لا بدّ من التوقف عند مسألة المصطلحات المستخدمة لتحديد الفن المنتج في المنطقة. وقد أظهرت الجلسة المكرسة لـ "تحديد منطقة الشرق الأوسط" في مؤتمر "الفن المعاصر في الشرق الأوسط" الذي عقد في تايت في أوائل العام 2009 الطبيعة الحرجة والحساسة للقضايا المطروحة في ما قد يبدو في سياق آخر مشكلة تسميات بسيطة. الواقع أن عدداً كبيراً ممن يعملون في الميدان يجدون أنفسهم باستمرار مضطرين لتبرير وتفسير كل ما يستخدمونه من مصطلحات في غياب أي توافق في الآراء حول هذه المسألة.
إن المصطلح الجغرافي السياسي "الشرق الأوسط" مضلل بطبيعة الحال على الصعيد المعرفي، بما أنه يندرج ضمن ثنائية مبنية متناقضة العناصر تضم الشرق والغرب. وعلاوة على ذلك، يظن البعض أنه كفيل بالترويج لخطاب العدائية. فكيف يمكن للمصطلح أن يمثل ثقافة المنطقة كما يُطلَب دائماً من فنه بحيادية تامة؟ مع أن الخطاب المعاصر يدعو إلى قبول الاختلاف والاحتفال به في الشرق الأوسط كما في أماكن أخرى، يبدو أنه لا مفر من "تجوْهُر" المنطقة، بما يكتنزه الوعي الغربي من تراث خيالي ما زال مقنعاً. وفي وسائل الإعلام الغربية، غالباً ما يصوَّر الشرق الأوسط على أنه كتلة جامدة أصولها متجذّرة في عقائد إسلام "عدواني". وبالتالي، تفيد وجهة النظر الإيجابية للمعرض أو الحدث الثقافي بأن "الشرق الأوسط لا يدل فقط على الرعب والإرهاب". ومن شأن تصريح مماثل أن يُدرج الأعمال الفنية والأحداث فوراً ضمن عالم يبتعد عن الجمالية.

على المستوى المحلي، يشكك الفنانون في المنطقة باستمرار في صحة العلامات الجماعية. فما هي الصفات المشتركة بين الدول العربية وإيران وتركيا وإسرائيل؟ يعدّ السؤال بالطبع مشحوناً لضمّه إسرائيل. وإذا كان من الممكن التسليم ببعض القواسم المشتركة بين البلدان الناطقة باللغة العربية، وتقبّل فكرة أن يكون لتركيا وإيران تاريخ طويل مشترك مع الدول العربية وثقافات متقاطعة ومتداخلة معها، فكيف يمكن تبرير إدراج إسرائيل - مع تاريخها الحديث المرتبط على نحو وثيق بالقوى الغربية؟
إن مصطلح "الفن الإسلامي" المستخدم أحياناً كمصطلح بديل مرفوض بوجه عام بسبب دلالاته السابقة للحداثة. وعادةً ما تجمع البلدان الناطقة باللغة العربية (باستثناء تركيا وإيران وإسرائيل) تحت عنوان "العالم العربي"، ما قد يبرر بدوره استخدام مصطلح "الفن العربي". شخصياً، أرى أن المصطلح صالح لأنه يعترف بالجذور التاريخية واللغوية والثقافية المشتركة بين الدول من دون تقليص الاختلافات بينها. إلا أن عدة فنانين عرب يقبلون بهذه التسمية على مضض لأنهم يفضّلون تسليط الضوء على خصوصيات ثقافتهم الخاصة، ويرفضون صلات المصطلح بالإيديولوجية الناصرية للعروبة.
في النهاية، لا يوجد - في الوقت الراهن، على الأقل - اتفاق حول المصطلح المناسب للإنتاج المرئي للمنطقة. ولعل غياب الاتفاق هذا يطرح مشكلة اليوم في كل المناطق الجغرافية في عصر يسيطر عليه هاجس التصنيف ولكنه يرفض، على الأقل على صعيد الخطاب، مفهوم "التجوْهُر". والواقع أن هذه المشكلة تبدو مضخّمة في اللغة الإنكليزية. ففي الدول العربية، تشغل الفنانين اهتمامات أخرى ويشعرون بالدهشة من الانشغال الغربي بهذه القضية. بنظرهم، إنهم فنانون عراقيون وفلسطينيون ولبنانيون، وعرب أيضاً. إلا أن هذا لا ينفي أهمية الموضوع كما لا يقصره على قضية لسانيات. وإنما يدرج النقاش ضمن الخطاب الأوروبي - الأمريكي، لا سيما أن المعاني المرتبطة بالمصطلحات بُنيَت إلى حد بعيد خارج العالم العربي بأي حال.
بعيداً عن مسألة المصطلحات المشحونة، تطرح التفسيرات الثقافية مزيداً من الإشكاليات عبر استخدام جدلية أوروبية – أمريكية مر عليها الزمن هي جدلية التقاليد مقابل الحداثة في نقاشات الفن المعاصر في الشرق الأوسط. وللتخفيف من وطأة الشعور بالذنب بسبب استبعاد أجزاء واسعة من العالم، بما في ذلك منطقة الشرق الأوسط، من الخطابات حول الحداثة، اقترحت حقبة ما بعد الحداثة فكرة "عناصر الحداثة البديلة" طارحةً التعددية مكان المفهوم الثابت والموحد للحداثة. ولكن الناقد والمنظّر الأدبي الأمريكي فريدريك جايمسون اعتبر أن هذا المفهوم يهمل واحداً من الجوانب الأساسية للحداثة يكمن في "الرأسمالية العالمية". [1] وفضلاً عن ذلك، يبدو أن مصطلح "عناصر الحداثة البديلة" يسعى إلى أن يغفر للحداثة عدائيتها. [2] إلا أن توضيح الفرق من خلال هذا المفهوم لا يساهم في إعفاء الحداثة من عدائيتها وحسب، بل يسمح أيضاً باعتبار هذا الفرق على أنه مفهوم مستقل مكتفٍ بذاته، بما أنه يقارَن باستمرار بحداثة غربية عليا. وفي أفضل الأحوال، تحاول الجملة تفسير سبب اتباع بعض التطورات في الشرق الأوسط مساراً مختلفاً عن ذلك المعتمد في الغرب.
تصدر غالبية الكتابات عن الفن في الشرق الأوسط عن أوروبا والولايات المتحدة. من حيث المبدأ - وفي عصر العولمة والتواصل السلس – لا تطرح هذه المسألة أي مشكلة. إلا أن هذه الكتابة الانتقادية المتواجدة خارج المراكز المحلية للإنتاج غالباً ما تكون بعيدة عن التطور التاريخي للفن الذي تصفه. وقليلة هي الدراسات الجامعية التي تتناول الفن الحديث فيما يتوفّر عدد متزايد باستمرار من كتيّبات المعارض الناتجة من ارتفاع عدد المعارض المعاصرة لفنون الشرق الأوسط. وقد عزز الانتقال من فترة الخفاء إلى فترة الاحتفال بكل ما يتعلق بالشرق الأوسط الشعور بالانقطاع مع اعتبار الإنتاج المعاصر على أنه ظاهرة جديدة ومستقلة. ويتردد صدى مسار الإخراج من السياق هذا في نزوح مراكز التفسير عن المنطقة بحد ذاتها إلى خارجها، وهو اتجاه ازداد مع الجالية وتنقلات عدة فنانين معاصرين. وقريباً، قد يثبت الفن في الشرق الأوسط أنه مرتبط من بعيد فقط بالمنطقة.
إن هذا الوضع يؤثر بطبيعة الحال في الإدراك المحلي للإنتاج المرئي المعاصر وتلقيه. وإذا كان معنى الأعمال الفنية مبنياً وفقاً لمنهجيات ومصطلحات ونظريات وخطابات أوروبية - أمريكية، فكيف يمكنه التفاوض أيضاً على الوقائع المحلية السائدة في منطقة الشرق الأوسط؟ وكيف يمكن ترجمة المعرفة المنتجة حول هذا الفن بطرق يسهل فهمها محلياً؟ [3]
تميل الفوارق بين العالمي والمحلي إلى أن تزداد أهمية بفعل المعارض الموضوعية التي تحظى برعاية فنية في الحلقة الأوروبية – الأمريكية يقدّمها قيّمين فنّيين غير محليين مدربين في مجال الفن في العالم الغربي، وقد انتهى بهم المطاف أيضاً ينتجون معظم ما كتب حول هذا الموضوع. ولا يخفى أن غالبية مواضيع المعارض تنتمي إلى ما أسميه بالاستشراق الجديد - شرق أوسط جديد شيّد في الغرب رداً على الاستشراق التقليدي، سواء كرد فعل أو تصويب. وبطبيعة الحال، ترافق تنامي الاهتمام بهذا الموضوع بعدد متزايد من المبادرات الساعية إلى بناء التفاهم. بيد أن معايير معيّنة لا تزال تتحكم بالميدان ومن المرتقب أن تستمر في صياغة المساعي في السنوات المقبلة (مثلما فرضت بعض مظاهر الاستشراق التقليدي نفسها في النقاشات الحديثة على رغم عمل إدوارد سعيد البارز). وتبقى الفجوة قائمة بين القيّمين الفنيّين والعلماء في هذا المجال فيما يمتلك القيّمون النفوذ الأكبر لصياغة الخطاب المطروح.
في النهاية، لا بدّ من الإشارة إلى أن نزوح مراكز إنتاج المعرفة قد أثّر في تطور تعليم الفن وتاريخه في المنطقة. وبصفتي أستاذة مقيمة في أمريكا، أواجه دائماً مشكلة نقص الموارد المتاحة الكفيلة بالمساعدة في تدريس فنون المنطقة. ولا شك في أن هذه المشكلة أسوأ بكثير في العالم العربي حيث يتوفّر عدد قليل من الموارد المتاحة ومعظمها باللغة الإنكليزية أو الفرنسية. إلا أن بعض المبادرات المؤسسية حول العالم العربي كما الأبحاث الجديدة والتفكير الحرج الذي يتسلّح به عدد متزايد من العلماء الشباب تدل على توجهات مبتكرة ممكنة للنهوض بالمستقبل في هذا المجال.
ملاحظات:
1. فريديريك جايمسون، عصرنة فريدة، لندن، 2002، ص. 12.
2. راجع سلافوي زيزك، ""الثورة الناعمة" المستمرة"، كريتيكال إنكوايري، العدد 30، رقم 2، 2003 – 2004،http://criticalinquiry.uchicago.edu/issues/v30/30n2.Zizek.html
3. يبدو النقص الحالي في المصطلحات الموحدة في اللغة العربية جلياً في نسخ المصطلحات الغربية بالحرف العربي بدلاً من ترجمتها. وعلى سبيل المثال، لا يزال المقابل العربي لمصطلح "curator" قيد النقاش لأنه يجدر بترجمة جذره إلى اللغة العربية أن تجد مبررها في المراجع

ليست هناك تعليقات: