الاثنين، 9 مايو 2016

أختام*-عادل كامل
















أختام*
عادل كامل
[13] العولمة: المحدود بلا حافات

     ما العولمة، إن لم يتم الحفر في مقدماتها، قبل أن تعلن عن اشتباك مضاف، في هذه المرة، اشد عنفا ً، وهو يؤسس نفيه.
     في الأختام البكر، عند مواقد النار، وفي المدافن، وعبر الرموز التي لم ْ تمح من الذاكرة، صنع أسلافنا عولمتهم ـ بعيدا ًعن فعاليات الزحف، والاستيلاء، والهيمنة. ففي آثار لا تحصى، في مواقع متباعدة في المسافات والأزمنة، كانت الأصابع تحفر ـ تنقش/ تدوّن/ تؤسس ـ استحالة انتصار الإنسان، لكن بفعل الخسائر المسيطر عليها. فلقد عادل الموت بالولادة، وعادل الفزع بالمغامرة، والانغلاق بالحلم. لقد جعل من أختامه كتابا ً مشفرا ً دمج فيه خاتمة حضوره بمقدمات قيد التدشين.
   فبين ما خبأه إنسان المغارات في فرنسا، أو في المكسيك، وفي غابات أفريقا، وصحارى ليبيا، والمغرب العربي، أو عند الأنهار العظيمة كالفرات والنيل ودجلة في حضارة النهرين، أو في مصر، وفي غابات الجزيرة العربية، وفي مملكات اليمن، والبحرين (دليمون)، وفلسطين، وجبال لبنان، وسهول سورية، وبراكين الأردن، وعلى امتداد مساحات شاسعة في الهند، والصين، و ...الخ لا نجد مسافات في التعبير. انه الهاجس ذاته لدي ّ رواد الحداثة، منذ دورر، وكرفاجو، ومايكل انجيلو، ورامبرانت، ورودان، وغويا، ودوميه، وروسو، وفان كوخ، وهنري مور، وجايكومتي، وحمود مختار، وجواد سليم، وجبران خليل جبران، وأسماء لن تغيب عن ذاكرة متتبعي الومضات الاستثنائية.
     ثمة، بوضوح، ينكشف ما في اللغز: عولمة لم تعّرف بهوية بديلة تحتمها وسائل ما بعد عصر الصناعة، والدخول في عصر الاتصالات السريع، كي تتجه التعددية، والتنوع، إلى ضرب من: المكان العالمي. ففي يوم غير بعيد عن فاتحة الألفية الثالثة، سنجد إجابة لا تقول: أنا من الهند، أو من قرية في شمال القوقاز، أو من سكان مدينة حالمة في الصين، بل تسمع: أنا من سكان كوكب اسمه الأرض!
     ذلك اللغز حفر عميقا ً في الأختام التي توزعت بين وادي الرافدين والمكسيك، وبين الصين ومصر، وبين المنجمد الشمالي وصحارى ليبيا والمغرب العربي: علامات سابقة على الاتصالات، والغزو، وسيادة ثقافة على ثقافة أخرى، عندما تبلورت سماتها بخطوط تحكي علاقة ما قبل ـ الزمن ـ عبر اليومي، وعلامات الاضطراب، والنشوة، والفزع، والانتصار بأشكال تتجمع الآن في متحف كبير اسمه: الذاكرة البشرية. أليست الشراكة وحدتهم، وليست العزلة، وجمعتهم أحلامهم ولم تفرقهم حروبهم الدامية، ولملمهم الحلم ولم يفرقهم عصاب العنف المستحدث، والمتراكم بتراكم الثروات ومكر الخطاب، ذلك لان الروح التي سكنت الإنسان لم تنحرف باستبدالها بمشاعر الكراهية ـ وبمناهجها الغامضة ـ بل حافظت على متابعة التقدم في سواحل لم تدشن، وفي مدن لم تر، وفنون لم تنجز. هذا السلام المشترك بين شديدي الرهافة، والمتوحدين في تأمل جماليات الكون، وأنهاره، وغاباته، ووديانه، وبواديه، ولغاته، وفنونه، برهن انه كان جذرا ً لكل ما هو مشترك ـ لم يكن يسعى إلى المحو ـ بل إلى الزهو بأرض يسكنها من هو أكثر صفاء ً، ومعرفة انه لن يرغب إلا بالمزيد منها، للجميع، وليس ضدهم.
     عولمة أولى شبيهة برأس المال ألبدئي، مثل كهف تجمعت فيه ومضات المجرات، والنيران المتوهجة بالأطياف..الخ تبصر بالذي لم يتكون بعد، وليس بالذي  تم الاستحواذ عليه، بتدمير الآخر، أو جعله ممحوا ً، شبحا ً، وهما ً، وإنما بما تكونه خلايا ارق الأحاسيس، وأكثرها إدهاشا ً، في القلب!
     ليست أختامي علامات خيالية، بل هي: أنا مغذاة برفيف مرور أطياف أسلافي، وأنا أصغي إلى أصوات من ستكون أناشيدهم شاملة على هذا المشترك: من لا وجود له إلا عبر حضوره الذي لامس حواسنا، وعقولنا، فكونته الأصابع.
     أختام شبيهة بخرز وحزوز ودمى وتعويذات تشترك في بناء تصوّرات للمودة، واستكمال المرور، في هذا السفر. فهي لم تصنع للبيع، كسلع، بلا ولا حتى للمباهاة. لأنها، ببساطة، تحاول إخفاء أنها مادة قابلة للتداول. فأنا أدرك تماما ً أن ليس لدي ّ الرغبة بالحصول على كل ما تركته يغادر ويزول: المجد!  ففي الزوال، زوالات تراكمت حتى برهنت أنها ستنبثق نافية أنها كانت فائضة، بل وكأنها ـ في اللغز ـ لن تتردد عن ولائها الدائم: صيرورتها الأبدية.
     هل ثمة حكمة، لا أنثوية تنتمي إلى سلوك المستحوذين، التدميريين، ستبرهن أن ديمومة لغز أول من منح العدم حضوره، هو من سيعدل مسارات عولمة (المحو) نحو: إنسان تتهذب صفاته طالما ترك الرحلة لا تتعثر، أو تصدعها الصدمات..؟!


* التجربة الشخصية في تحولاتها، ومتغيراتها: الفن بوصفه يعمل ضد الوهم ـ والغياب. وقد سبق أن نشر الجزء السابع في (سومريننت).



ليست هناك تعليقات: