بحث هذه المدونة الإلكترونية

مرات مشاهدة الصفحة في الشهر الماضي

الخميس، 16 أبريل 2015

خواطر ظبية عند بوابة الجحيم-عادل كامل

قصة قصيرة


خواطر ظبية عند بوابة الجحيم




عادل كامل
    قالوا انه استحدث من العدم، وقالوا انه استورد من كوكب أخر غير كوكب الأرض، وانه لا ينتمي إلى المجموعة الشمسية، وقالوا انه هو الذي صنع نفسه، وهو الذي اخترعها، وقالوا انه ليس إلا وهما ً، وقيل انه ليس إلا مخلوقا ً افتراضيا ً، بحدود ما يدور في الخيال الجمعي، أو عبر الأساطير، ولكن أكثر الوقائع تشير إلى أن حجمه، وتكوينه، هيأته، لا مثيل لها مع مخلوقات القارات التي مازالت تشتهر بالإشكال ذاتها، أو الشبيهة به، كالتماسيح، والخراتيت، والديناصورات، والزواحف الأخرى. وقد أثارت هذه الأقاويل لغطا ً حول نشأته، وما قبلها، بحجة عدم وجود حياة أصلا ً بإمكانها أن تذهب ابعد مما هي عليه، أو بسبب إشاعات أصبحت مدعمة بالوثائق تؤكد إن أموالا ً كبيرة أنفقت من اجل اقتنائه، وتربيته، والعناية به حتى لم تعد للإشاعات قيمة تذكر، أو اثر للتداول حول هيبته، ومكانته، وموقعه بين كائنات الحديقة.
     أتراه فكر بالضجة التي أحدثها، وجعلت منه أكثر شهرة من الجميع، ومتميزا ً بالرعاية، والعناية الاستثنائية، وقد غدا مشهورا ً، وعلما ً نادرا ً، خارج نطاق الحديقة، حد استحالة مقارنته بالمخلوقات الأخرى، كالأسود، والنمور، والتماسيح، والحيتان والزرافات، والماموثات، والثيران الوحشية، وأفراس المستنقعات، والأفاعي ذات الأبواق، والحيتان الحلزونية، والسحالي المتعددة الرؤوس والطيور البرمائية.... الخ...، دار بخلد الظبية، وهي تجلس القرفصاء، مكورة جسدها النحيل، داخل فمه الكبير:
ـ فأنت، يا سيدي، لا تنوي ابتلاعي...؟
    ذلك لأنها فكرت انه لا ينوي تعذيبها أيضا ً، قبل أن يغلق فمه، رغم انه هدأ من روعها، ملوحا ً لها بأنه قد يمزقها، ويقطعها إلى أجزاء، قبل أن يسحقها، ويطحنها، كي يبتلعها دفعة واحدة. فكادت تصرخ، وتستغيث، لولا إن قواها كانت قد خارت، ولم تعد تتمكن إلا من محاولة استرضائه، ليرحمها، ويعفو، ويغفر لها، ويتركها في حال سبيلها، فتمتم بمرح لا إسراف فيه:
ـ هذا ما كنت أود سماعه منك ِ، أيتها النحيلة كثمرة يانعة!
ردت بصوت مذعور:
ـ دعنا الآن من الكمين الذي أوقعتني فيه...، ودعنا من غفلتي، ودعنا لا نتحدث عن انتشار الخبر، الذي يسيء إلى سمعتك، وشخصك...، فانا سأعترف بأنني انأ التي اختارت الجلوس في هذا الفم الجبار...، سأعترف، عبر وساءل الإعلام كافة، مباشرة، من غير رتوش، أو تملق...، بأنني كنت أقوم بنزهة، للمتعة، والاسترخاء، والاكتشاف....
فقال لها بالصوت المرح نفسه:
ـ لا مجال للمزيد من المناورة...، فأنت الآن جزء من أجزاء ثروتي!
اعترضت وهي ترتجف:
ـ سيدي الشبيه بالديناصورات التي تحدت إبادتها، وامتد زمن مجدها حتى يومنا هذا...
  تململ، فاهتز جسدها، بعد أن حرك فكه الأسفل، وتمايلت، وكادت تسقط بعيدا ً عن حافة فمه:
ـ لا تفعل هذا أرجوك.
أجاب:
ـ أنا لا أشبه أحدا ً، أنا أشبه نفسي! بالأحرى نفسي وحدها هي التي تشبهني!
ـ آ ....، اجل، هذا صحيح، بحسب احدث النظريات، فأنت لا تشبه أحدا ً!
ـ بل أشبه نفسي ونفسي تشبهني!
ـ صحيح فانك لا تختلف عن نفسك، ولا نفسك تختلف عنك!
ـ  هل هذا يعني إنني هبطت من كوكب يقال إنني لا أساوي فيه حجم فار من فئران هذه الحديقة، ولا ذبابة من ذبابها.....؟
ـ من قال هذا أيها الكائن الذي لا يختلف عن نفسه، ولا تختلف نفسه عنه؟
ـ المواقع الاجتماعية، والشبكات العنكبوتية، والإعلام الحر، الشفاف، والمستقل...؟
ـ ماذا تقول..؟
ـ آ ...، الإعلام الشفاف ....، جميل، خاصة بغياب سواه، لأن الإعلام الشفاف استطاع أن يصنع مني شبحا ً! والآن يعنيني معرفة من عمل على تشويه سمعتي، فهل أنا فأر، أم أنا ذبابة لا عمل لها سوى الطنين؟
ـ لا...، هذا هو رأي الإعلام غير المقيد، الطليق، الأبيض، المستقيم، أما انأ فمازلت أتنزه في المدخل....
   أجاب بتذمر:
ـ سأغلق بوابة الفردوس!
ـ أرجوك، لا تفعل هذا...، فانا لم استمتع بحياتي بعد...، بل أنا حديثة الولادة، ولم أر شيئا ً من الدنيا ..
ـ حسنا ً...، هذا اعتراض مقبول، إن لم يكن لطيفا ً، فالمرونة ستفضي بتوازنات نافعة لنا جميعا ً!
ـ لنا؟
ـ لك ِ أيتها الظبية الناعمة، النحيلة من غير تعجرف، والهيفاء من غير تعنت...، يا صاحبة هذين العينين الساحرتين....، لك ِ ولي ... أنا، أنا الذي لا يشبهني احد والذي لا أشبه أحدا ً!
   وسألها بعد لحظة صمت:
ـ الم يصفوني بأنني خرتيت العصر، ووحيده، وقالوا أن صفاتي تجاوزت صفات الديناصورات المنحدرة من الماضي السحيق....، وإنني أؤسس تاريخي من غير تاريخ؟
ـ سيدي، لكثرة صفاتك، وألقابك، وأسماؤك، وعلاماتك التي انتشرت، وذاعت، أصبحت أعظم منها، فهي لا تشبهك إلا لأنها نشأت منك...، فأنت أعظم منها جميعا ً! بل حتى لو رصت ورصفت وجمعت فإنها لا تساوي شيئا ًمما أنت عليه!
ـ ماذا تقصدين بهذا الكلام...؟
ـ سيدي، تستطيع أن تتأكد بنفسك...؟
ـ أنك تطلبين مني أن أغادر البحر؟
ـ لا...، بل أن تشاهد بنفسك ما تبثه الفضائيات، وشبكات التواصل، والإعلام المستقل، النزيه...؟
ـ لا تتندري علي ّ، فانا لست هزأة؟
ـ سيدي، أنا اقبع في باب الفردوس، في فمك المبجل، فهل ثمة مجال للمناورة، أو التندر؟
ـ جيد.
ـ فعندما تصغي إلى حديث يدور بين أي اثنين، من سكان حديقتنا الخالدة، فانك ستعلم انه يدور حولك! فاسمك أصبح خارج الأسماء، مثلما أفعالك خارج الأفعال! لأنك أصبحت خارج التاريخ ما دام الأخير مصيره إلى زوال!
ـ انتبهي....، يا ظبية شاردة الذهن...، فانا لست مغفلا ً...، وأنا لست بحاجة إلى إطراء، أو غواية، أو إلى مدائح.
ـ ليست هذه دعابة، ولا دعاية معادية، بل حقيقة ذهبت ابعد من الحقيقة ذاتها..!
ـ فانا أسطورة إذا ً...؟
ـ ليس أسطورة تماما ً  إلا لأنك ذهبت ابعد منها. لأن الأساطير، سيدي، ما أن تبلغ ذروتها، حتى تسقط لتتهشم، وتندثر، كأنها تماثيل صنعت من الصلصال، وليس من المعادن الصلدة!
     هز رأسه، فارتجت، وتمايلت، حتى بدت إنها ترقص، لأنها بدت له مثل باقة ورد:
ـ آسف...!
ـ كم أنت رقيق، سيدي، الرمز؟
ـ الرمز؟
ـ آسفة ...، هذه هفوة صنعها الإعلام الطليق، وصاغتها الإرادات الحرة، حيث ذهبت بالأسطورة إلى ذروتها..!
ـ ولكن لماذا الأسف....، مادمنا لا نمتلك الكثير في مواجهة النهاية؟
ـ إلا أنت، سيدي، لا نهاية لنهايتك!
ـ كفى، فانا لشدة يقيني قد اصدق، وقد يتسلل إلي ّ الشك، مادام الأخير لا يثبت اليقين بل يزعزعه!
     تجمدت، مصغية إلى صمته. فاخبرها انه لم ينصب كمينا ً لها، لأنها لا تساوي إلا قشة، أو حبة دخن، وانه لم يكن بانتظار أن يعتدي عليها...، فقالت له بالذبذبات إنها هي التي أكدت استحالة حصول العدوان أو الاعتداء:
ـ فانا عندما خرجت في فجر هذا اليوم البارد، ذهبت إلى المحيط، لإقامة الصلاة، وتقديم النذور والقرابين ...
ـ تابعي، فانا بك أبصر البحر..ن وبك أرى السماء!
ـ ثم لمحت بوابة تدعوني للدخول..، فسألت كبير الحراس...، بيت من هذا..؟ فقال: هذا هو بيته!
ـ لم يذكر اسمي؟
ـ سيدي، الم أخبرك باستحالة أن ندعوك بالأسد، أو بالنمر، أو بالدب، أو بالتمساح، أو بالفهد، أو حتى بالثعلب؟
ـ لماذا هذا الاستثناء ؟
    شرد ذهنه، فردت بصوت متلعثم:
ـ هذه قضية لا علاقة لها بما نحن فيه، سيدي، دعني ..
ورفع صوته:
ـ فالبرهان يقام عادة على المعادلة كي تكون صحيحة، مثل الأدلة التي ترافق التحقيق في الإجراءات، ومادمت، يا صاحب العظمة، عبرت إلى الضفة الأبعد ...، فهل يصح لأحدنا أن يفعل ذلك. فما معنى أن يحتفل بك البعوض، ويمجدك البرغوث، وتهتف لك الجرذان والقنافذ ..، وهل لخوار الماشية والدواب والزواحف والمنقرضات معنى في إعلاء شأنك، وأنت أعلى من أن تكون عاليا ً؟
ـ انتبهي ...، هذه كيانات لها حصانتها، فلا تشوشي علي ّ...، فانا اعرف ماذا اعمل!
ـ بل قصدت الزواحف كافة، والثدييات، وأصحاب القشور العليا..، من القرود إلى النمل البشري.
ـ اسمعي، مع إنني استمتع بنعومة صوتك ..، وعطر نبضات جسدك، ورقة إشعاعات قلبك، إلا إنني مازلت أكن بالغ المودة حتى للحمير!
ـ ولماذا الحمير...، سيدي!
ـ أنا أيضا ً لا اعرف ...، مع أن وحيد القرن هو الأجدر بهذا المنصب..!
ـ ولماذا وحيد القرن..؟
ـ آ ....، هذا سؤال مهذب: لأن ظاهرة القرون، أو النتواءات، أو الزوائد، أو هذا الذي يستخدم للدفاع عن النفس، أو للمباهاة ...، تحول إلى ما يشبه اليقين. فراح كل من يلمس أعلى رأسه يعتقد انه انأ من أرسله لينفذ أوامري ...، فطغى وتجبر وتكبر...، حتى إن البعض عمل على إزاحتي، أو استبدالي بخرقة، أو بعلامة من علامات الزوال!
ـ وحيد ...، وحيد.
ـ ولهذا أمرت كبير الأطباء، ومنذ زمان، أن يستأصل القرن الأوحد، والأحادي، والواحدي، غير المزدوج، وغير المتعدد الاستخدامات ..، وغير المركب، من اجل حياة بيضاء خالية من القرون!
ـ خالية من القرون، أم خالية من القرن الواحد ..، مع إنني ظبية، وليس غزالا ً...، أنثى ولست ذكرا ً، مع إنني لست متحيزة لأي منهما، لكنني لست خنثا، فانا لست على الحياد؟!
ـ فضلت إزاحتها، بل اقتلاعها، واجتثاثها من اجل أن يأخذ التمييز مجالا ً مهذبا ً يسري على الجميع؛ من النمل المراوغ إلى بنات أوى الماكرات! لأن جدي الأعظم تنبأ بمن يأتي ويحقق المسرة، والسلام.
ـ جميل.
     وسألت الظبية نفسها: أهذه نهاية الحكاية أم فاتحتها؟
فقال لها:
ـ وهل تتمكن الطائرة من الهبوط من غير مدرج...؟
ـ ولا تتمكن من الإقلاع من غير مدرج أيضا ً...، مع إن طائرات اليوم تتمتع بمدارج ذاتية! أي، كي لا أربكك، من غير مدارج.
ـ أنا استحدثت المقدمة كي نذهب ابعد منها، من غير صدمات، وتقاطعات...، فأنت الآن لا تمتلكين التصوّر الكامل للمشهد: هل أوقعتك في كمين كي افترسك أم ....؟
     صرحت غاضبة:
ـ كلا، كلا، كلا...، سيدي!
ـ إذا ً....، كيف حدث الأمر؟
ـ وأنا ذاهبة إلى البحر للاستحمام، والتطهر، وتقديم النذور...، رأيت بوابة الفردوس تدعوني.....، فهرولت، حتى لم اعد أتذكر أن هناك بوابة أخرى كبوابة المحرقة أو كأبواب الجحيم!
ـ لا يخلو صوتك من غواية!
ـ سيدي، أنا لا أساوي حجم ذبابة، أو فأر...، أو حتى كيان ضفدعة؟
ـ آ ....، لكن لا تشتمي هذه المخلوقات الظريفة، فالأخيرة تنق، طوال الليل والنهار، نقيقا ً كأن لا عمل لها غير التزاوج، والتناسل، والغناء، شبيه بالثيران لا عمل لها غير النز....، والعصافير غير الوثب!
ـ سيدي، نحن في حديقة موقرة، نموذجية، دستورية...، ولسنا في مرقص، أو ملهى، أو في كلجية؟
ـ لا فارق...، دعينا من العلة الأولى!
ـ آ .....، ما أرهفك، حتى ظننت انك تناور!
ـ أنا...، ومع من...؟
ـ لأنك، سيدي، لوحّت لي بذلك...؟
ـ عدنا إلى: من بدأ ...؛ الأقوى أم الأضعف...؟
ـ سيدي، لا احد...، فكلاهما استدرجا إلى المسرح...، لأن الضعيف أبدا ً لا يستطيع أن يقدر مقدار ضعفه، لهذا يظن دائما ً انه هو المنتصر، كي يسحق خصمه...، لكنه سرعان ما يدرك أن عليه تذوق مرارات الهزيمة وويلاتها، إزاء عدم تقديره لقوة العدو!
ـ العدو...؟
ـ هكذا بدأت الحكاية...، بالعداوة، والكراهية، والخصام...، لنرثها ...، ونمضي بها بعيدا ً في الخراب. لأنها موروثات غير قابلة للاستئصال، والاجتثاث، على خلاف البراءة، مثلا ً! لأن أصحاب الرؤوس الخاوية وحدهم يقدرون على تحقيق المكاسب، على حساب العلماء!
ـ أنت ِ حقا ً ظبية إذا ً...؟
ـ ليس لدي ّ قرن!
ـ جميل...، والآن آن لك الإصغاء إلي ّ بعمق....، لأن مصيرك بين فكي ّ!
ـ مع إنني كنت امتلك هذه القدرة...، إلا إنني استطيع قراءة ما تتوخى فرضه علي ّ؟
ـ أنا لا افرض، ولا أمر....، ولا اصدر قرارات، بل آمل أن تنفذي الأمر من غير كراهية، أو إرغام، أو تهديد، أو عداوة!
ـ سيدي...، وعلى من تعتدي...، فانا ساذجة، وبريئة، فانا انتمي إلى أكثر الفصائل أناقة، وخفة، ونعومة!
ـ آ ...، لو أخبرتك ماذا فعلت بي أيتها الساحرة...، فقد كان جمالك يرقد في ّ كما ترقد الحمم في أعماق البركان!
ـ ها أنت تناور؟
ـ إذا ً فأنت هي الغواية....؟
ـ تقصد ... ثمرتها؟
ـ وقد آن لنا أن نعقد صلحا ً...، فلا أنا اعتدي عليك، ولا أنت تلمسين الجمر الخامد في روحي!
ـ دعني إذا ً أجد حديقة أخرى اذهب إليها....، فالحديقة لم تعد صالحة لسكني فيها!
ـ هكذا ...، ببساطة، ادعك تفلتين وكأن شيئا ً لم يحدث؟
ـ اخبرني بماذا تضمر...؟    
     ارتج جسدها وهي تتأمل أسنانه الأمامية، وخلفها برزت سلسلة من الأنياب، امتدت بعيدا ً في العمق: بوابة النعيم، باب الفردوس! دار بخلدها، فقال لها:
ـ سأسمح لك ِ بالعودة...، وكأنك هربتي مني، وما أن تصلين إلى جناحك، وتلتقين مع صحبك، يكون لك حق التشهير بي...!
صاحت:
ـ أنا لا اعرف الكذب! فعندما ألقيت القبض علي ّ، وطلبت مني أن اعترف...، أخبرتك: أنا لا اعرف شيئا ً...، وقلت لك بوضوح: افعل ما شئت...، وها أنت تفصح عن...
ـ حسنا ً...
    لمحت الأسنان تقترب منها، وثمة أخرى من الأعلى تطبق عليها. غاب وعيها، لبرهة، لترى إنها محاصرة برؤوس حادة تحاصرها.
     وسمعته يتمتم مع نفسه:
ـ هل اقطعها إلى قطع، أم ادعها تخمد وتهمد وتصعد روحها إلى الغيوم، أم ابتلعها وهي مازالت تتنفس وتحلم بالفرار...، أم ماذا افعل...؟
     لتسمعه يخاطبها:
ـ  أنا لم اعتد عليك...، فانا لم أغادر مستنقعي...
ـ آ...، نعم، أنا اعتديت عليك...، لأنني اقتربت منك، فابتلعتنني...، أليس هذا هو قصدك؟
ـ لا!
ـ لا تدعني أغادر فأنجو ...، ولا تبتلعني فأموت...، فماذا تريد مني..؟
ـ أريدك ِ أن تعودي إلى جناح الغزلان، وتتحدثين عن الحقيقة؟
ـ سأفعل..، سأقول إنني رأيت بوابة الفردوس حسب!
ـ جيد...، ولكن ماذا لو سألوك: لماذا هربتي من الفردوس...، فماذا ستقولين...؟
    لم تجد الإجابة، رغم انه سحب أسنانه حتى اختفت، وصارت تجلس فوق بساط رقيق، ناعم الملمس، وقد وجدت من يناولها حزمة من العشب، بدت لها طرية، وآخر يقدم لها الماء بإناء من فخار...، فدار رأسها: ماذا يحدث لي، وأين أنا؟   ربما يكون قد ابتلعني، وأنا الآن استيقظ في العالم الآخر؟
     كرر السؤال عليها، فقالت مع نفسها: أم ربما أنا مازلت في مغارتي، مع أفراد عائلتي، بجوار الزرائب، والجحور، والحظائر....، مع الماشية، والدواب، والقطيع ....، ترعى طليقة في البرية، فلا ذئاب ولا ضباع ولا كلاب؟
ـ لا تحلمي...! فالحلم شبيه بمن يرى الذي لا وجود له! انه يمنحك متعة الأفيون التي تفضي إلى الخمول، والسبات، والموت!
ـ أأحلم ....، سيدي أنا لا احلم!
ـ إذا ً لا تترددي في اتخاذ القرار الصائب...، فمن لا يفعل ذلك لا يجني سوى الخسران، والندم. وأنا لا أريد لك إلا الاستمتاع بعمرك الجميل!
ـ لن افعل ...، لن افعل، سيدي، لن أتردد.
ـ ولا تخافي من الخوف، فالأخير يسلبك صحتك، واستقرارك، ويشوش عليه رؤيتك!
ـ لن افعل، سيدي، لن أخاف، وهل هناك أسباب للخوف، وأنا اعمل بمعية هذا العملاق، سيدي!
ـ ولا تدعي الظنون تنهشك....، لتورثك السقم، وفقدان الشهية، وسهر الليالي.
ـ لن افعل، لن افعل سيدي...، فالشك يزعزع اليقين.
ـ والآن...، ماذا ستقولين لصحبك، أبناء جلدتك...، شعبك الطيب الغاطس في الوحل...؟
ـ آ ...، أيها الزعيم الخالد....، سأقول لهم: أنا لن افعل ذلك من أجل حياتكم الفانية..!
ـ وماذا لو سألوك: من اجل ماذا تفعلين؟
ـ سأقول أنا افعل ذلك من اجل أن يدخلوا جميعا ً الفردوس، فلا وحل ولا مستنقعات، لا حفر ولا ثقوب، لا عثرات ولا قهر، لا ظلمات ولا علل....، ففي الفردوس تنعدم المنغصات، وتغيب الذنوب، فلا كد، لا عمل، ولا جوع، ولا أمراض! ففي الفردوس ستتذوقون لذّة الرفاهية، ونعيم الهواء الشفاف! فهيا أيها القطيع تعالوا معي للخلاص من القحط، والضيم، من الفقر والخوف، من الذل والاستبداد!
أجاب بصوت هادئ، وقور:
ـ كنت اعرف انك، أيتها الظبية الجميلة، لن تهدري فرصة عفوي، وسماحتي، ومرونتي، وحلمي معك!
ـ لا...، كيف افعل ذلك...، وأنت لم تسمح لي إلا برؤية باب الفردوس...، فماذا هناك، في الداخل، وفي الأعماق...؟
  أجاب بتوتر، بصوت لا يخلو من التوتر:
ـ أتتندرين...؟
ـ وهل امتلك قدرة التندر...، هل أبقيتها لي، كي اعرف ماذا أقول؟
ـ ما ـ هو ـ قصدك أيتها الماكرة....، إذا ً...؟
ـ دعني أجد قليلا ً من الهواء، كي امسك بصوتي، فانا اختنق. دعني أرى الضوء كي لا يغيب عقلي، دعني استيقظ كي لا اذهب بعيدا ً في الوهم!
    لكنها لم تعد تسمع صوته، إلا بعد أن أفاقت، وسألت نفسها: أين أنا...؟
فسمعته يخاطبها:
ـ أنت في الباب...، في المدخل...!
ـ آ ....، أنا مازلت على قيد الحياة، أي أنا لم أمت، ولم اصعد إلى الأعالي، ولم انزل إلى العالم الذي لم يرجع منه احد...؟
ـ يا مجنونة! أنا سأطلق سراحك، وأعتقك، كي تكوني حرة من الأحرار.....!
ـ أتفعل ذلك حقا ً، ومن غير ثمن...؟
ـ سأفعل ذلك من غير ثمن...، فانا لا اكذب أيضا ً!
ـ آ ....، كلانا لا يعرف التمويه، ولا يعرف الغش، لا يزور ولا يرائي، لا يمارس الخديعة ويتجنب الأفعال الخسيسة، ، لا يخون ولا يفسق....، لأننا بالأحرى لا نقدر على ارتكاب الذنوب، والمعاصي، والآثام.  آ ...، ما أشجعك، وأكثرك نبلا ً، ما أجملك وأكملك صورة، وما أعظمك رقة، ورحمة، وعدلا ً!
وأضافت بصوت أعلى:
ـ ولكن هل أدركت كم كنت صادقة...، ليس معك، بل مع نفسي؟
ـ هذا وحده لا اشك فيه...، مع إنني بحاجة إلى برهان ملموس يستدعي الإثبات! فالأعمال ليس بالنوايا، بل بالأفعال!
ـ وهل ظبية، مثلي، هي التي تأتيك بالبرهان...، ثم كيف تريد مني أن اصدق انك على صواب، وانك من الصادقين؟
ـ عدنا إلى العداوة الأولى...، عدنا إلى الجرثومة!
     فقالت بصوت لا يخلو من الخوف ومن الغضب أيضا ً:
ـ أصغ إلي ّ جيدا ً: لا أنت عدوي...، ولا أنا عدوتك، لا أنت تكرهني ولا أنا أكرهك...، لا أنت تبغضني ولا أنا أبغضك....، لكن، يا سيدي، لا أنت تتركني اذهب طليقة، ولا أنا ساجد حديقة خارج سلطتك! فعندما تريثت في ابتلاعي، وافتراسي، وقتلي، تريثت بحجة إنني اعتديت على مستنقعك، في هذه الحديقة، فانك كنت تفكر أن اعمل لصالح أهلي، وصحبي، وأبناء عمومتي، مع إنني اعرف انك لن تؤذيني، بل ستهبني كل ما حلمت به، طوال حياتي، عدا أن أكون صادقة، أمينة، مخلصة، وفية، مع أهلي، وشعبي الطيب المسكين!  فهل حقا ً لنصرك علي ّ معنى.....، وهل لعدم خيانتي بطولة، أم إنها الحقيقة التي لا أنت تستطيع التخلي عنها، ولا أنا استطيع تجنب مضارها....؟ فأنت خلقت مفترسا ً، متوحشا ً، وأنا ليس لدي ّ إلا مسافة الهرب، والهزيمة ....، فان هربت اليوم، منك، فأين سأذهب منك غدا ً...؟ إنها الحكاية التي نرويها قبل أن تتكون في الحناجر، لأنها سابقة علينا، وليس من المؤكد، حتى لو دخلنا في فردوسك، أيها السيد العظيم، لا نجد من يطردنا منه، كي ندخل بوابة المحرقة، ونحرق، نشوى، ثم يذر رمادنا، مرة بعد أخرى، مع الريح!
ـ آ .....، لو كنت اعرف من أغواني بصيدك، ومن أوقعك في كميني....، لما فعلتها أبدا ً...! فانا نفسي لم أكن ارغب أن أؤذي من لم يؤذني، عدا إنني اعرف إنني لست المذنب الوحيد....،  فهل حقا ً كنت ِ تجهلين البراكين التي ما انفكت تتكون داخل هذا الجحيم....؟!
14/4/2015

ليست هناك تعليقات: