في تجربة أنوار الماشطة التشكيلية
جمالية النص الفني ومشفراته
عادل كامل
إذا كان التناص، في احد أنساقه، يدحض مفهوم: الأثر فوق الأثر، فانه، في الوقت ذاته، لا ينفيه ـ ولا يهدمه. فليس هو محض ديمومة، إلا بوصفه قطيعة؛ فهو بنية ـ مهما سعت نحو مظاهر استقلالها ـ تحافظ على مخيال تتراكم عبره مصادره، ومرجعياته المستعادة. انه حلقة لا مرئية للمرئيات تارة، وحلقة مرئية للمخفيات تارة ثانية.
والرسامة أنوار الماشطة، وهي تعيد بناء عناصرها التشكيلية وفق أسس الرسم، لا تنتهك مفهوم التناص، ولا مفهوم الرسم، بل تعيد له موقعه في الثقافة العراقية الراهنة، إن كانت بصرية، أو لغوية، أو رمزية. فهي ليست رسامة حسب، بل تسمح للمتلقي باستخدام أدوات المعرفة في القراءة، ومنها الحفر في مكونات تجربتها الجمالية.
إن الرسامة تنبت، تشيّد، وتنسج ـ بوعيهاـ ديمومة الحفر في النظام ذاته لتاريخ الرسم العام، بما يمتلكه من أصول سابقة على الكتابة ـ والتدوّين. فالمعنى لا يخدش البصر، أو يعمل ضده، أو يتجاوزه، كما إن عناصرها الفنية لا تتخلى عن محركاتها النائية، وغير المباشرة، فثمة تجانس يجعل الأشكال تستحدث نظامها، لكن ليس بالهدم، بل بالحفاظ على المعادل المستتر بينهما، بين المعنى اللا وعي للوعي، والمعنى المختار بالحفر في الأعماق، وفي المناطق المخبأة.
ولأن التأويل لن يسمح غالبا ً إلا بالمزيد من تفكيك (المعنى) فانه لن يمارس الدحض بما يعلنه الرسم من حضور، بل يرسخ، يثبت، ينصص، مفهوم إن الفن يستحدث ديمومته، وفي زمن انحسار (الثقافة) داخل جحيم المتغيرات العراقية، وتحولاتها.
فالصدمات المعاشة لا تتوارى، ولا تنسحب، ولكنها لن تصبح مركزا ً أو عائقا ً على حساب تقاليد الرسم، وأنساقه الجمالية.
أنوار الماشطة، هنا، لا تستعرض مهاراتها، أو رغبتها بالتلوين وانحيازها للألوان، أو باستثمار باقي العناصر، كالخط، أو الملمس، أو الحركة، بل توظفها لحرية التعبير، وعفويته، ومقاصده، غالبا ً، بما يسمح للهاجس الجمالي أن يشكل بناءات فنية باستبعاد (الصوت) لصالح النص الفني؛ التأمل لصالح التجريب، بالحفاظ على نزعتها الشخصية في التوازن بين مرجعيتها، والمستحدث الفني. فالمسافة بين (التخبط/ أو مغامرة البحث) وبين (الرسم/ كنظام) ليست إلا مسافة بين (المكونات) والحصيلة، بوصفها تعلن عن حضورها، وليس عن غيابها. فتحرير (النص الفني) بما يمتلكه من دوافع سمح للفنانة بهذا الانعتاق: فالبذرة أو أصولها المشفرة، في الرسم العراقي ـ منذ نيازي مولوي وجواد سليم وعلي النجار وإسماعيل فتاح ..الخ ـ لا تعلن عن نظامها العنيد حسب، بل تمده بأبعاد ما انفكت تتراكم ـ بمعنى تتواصل: تحديات تلخصها بالفن في مواجهة الانتهاكات ـ والرداءة؛ وبحضور الرسم إزاء الاستنساخ، والارتداد.
فالدائرة تكاد تلملم، تجّمع، توّحد، نصوصها الفنية ضمن سلسلة مترابطة ًفي مساحة تستعرض مخفياتها الدفينة، المحورة، والمشفرة، فيها: تكبرّها، حيث اللا مرئيات تعلن عن مركزها، ليغدو المحيط، شبيها ً بنظام النجم، وبنظام الجنين. فثمة متابعة حثيثة تجعلها تعيد تصوير، رصد، التقاط، آليات نظام الموت بوصفه قهرا ً للغياب، وتجعل منه أن يؤدي دوره كنظام: ولادة ـ وتجدد. فالغياب يراوغ البصر، وهو لا يخفي أن علاماته تتضمن مخفياته، وهي تترك البصري يمتلك عفويته، وأحيانا ً لعبه، ولكن بقدر كبير من تجنب العشوائية، والمصادفات.
إن الرسامة لا تنتج (إعلانات) ولا (تصميمات)، كما إنها لا تقذف برسوماتها سلعا ً في سوق الفن، ومهرجاناته السلعية، الاستعراضية، لجذب الأنظار، للصالح البضائع، مع إنها لا تخفي مدى تشبعها بالصدمات، وما شاهدته من آثار الخسران، والتلف، بل تمسك بما في (لغز) البذرة من آليات عمل لا تجعل من (التعبير) قفلا ً، أو ذروة، أو خاتمة، بل: مغادرة، لاستكمال ما هو قيد التتابع، والاكتمال. فالفنانة لا تمحو ـ بمعنى تختزن ـ تجارب من سبقوها، في الرسم العراقي ـ كتجربتي ارداش كاكافيان أو محمد علي شاكر مثلا ً، ولكنها سمحت لهويتها الخاصة ـ وجودها المعاصر إزاء التحولات والاندثار ـ أن تتكون، كما تتكون (وحدات النسيج)، كحاصل جمع، صهر، ترابط، وليس خاتمة أو ذروة. فالتشتت يكف ليغدو شبيها ً بعمل أسلافها النساجين العراقيين: استخدام امهر للغزل بمغزل القلب، وليس بالأصابع حسب.
فهل ثمة جنسانية تحدد هذه الهوية، أم إنها تعبر من المحدود إلى العام، ومن الأحادية إلى الحوار، ومن التزمت إلى الانفتاح..؟ رسوماتها تكتم ما يستحق القراءة: فالبذرة تمتلك اللغز، مع إنها تعلنه، إلا إنها لا تنحاز إلى طرف على حساب الآخر، فالنص الفني يبتكر توازناته، وهي ذاتها تقترح قراءتها، لأن البصري لا يعلن عن أشكاله، ورموزه، ونواياه، بل يتضمنها لمساحات قيد المجهول، وإلا لكانت مصغرات آلهة الأم قد فقدت ديناميتها، ومكثت شاخصة بولائها لمفهوم الخصب، وليس الذهاب به ابعد من علاماته، خارج الانحياز، والوظيفة المباشرة، لتلك الأشكال. فالانحياز يتهدم لصالح ديالكتيك العلاقات وتشابكاتها، وبما تتضمنه الأسس البنائية من معالجات لا واعية لنظام البذرة، كانفتاح لا يقبل أن يكون التناص تكرارا ً، أو استنساخا ً، إلا بحدود مغامرة الاكتشاف، وما يتضمنه الرسم من دينامية عابرة للجنسانية ـ بمعنى الأحادية ـ، بما تمتلك من عناد، هو ذاته عناد البذرة: لا تموت إلا كي تنبثق، ولا تغيب، إلا لتجدد قدراتها الفريدة على الانبثاق، والتجدد.
على إن هذا كله سيبقى مهددا ً، ما لم تشكل هذه التجربة الفنية، تحديا ً، ليس للرسامة، بل للرسم، فقد كان فائق حسن لا يبدي دهشته عند بواكير التجارب، بل بما تمتلكه من ديمومة.
* سيرة
أستاذه في كلية الفنون الجميلة/ جامعة بابل وفنانة تشكيلية.أستاذه لمادة التخطيط والألوان في قسم التربية الفنية والتخطيط في قسم التصميم والإنشاء التصويري لقسم التربية الفنية.مقررة قسما لتربية الفنية سابقا.اهتمامات بالنشاطات الثقافية والتشكيلية ومشارك في عدد من المهرجانات والمعارض الثقافية والفنية داخل وخارج القطر/ معرض قاعة الق ـ بغداد ـ 2015 .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق